شرف العلم الإلهي
قال فخر الدين الشيخ محمد بن عمر الرّازي رضي الله عنه:"
اعلم، أن شرف العلم إنما يظهر من وجوه:
الوجه الأول من الوجوه المُوجبة للشرف:
شرف الأمر المبحوث عنه في ذلك العلم، وذلك في هذا العلم: هو < ذات الله تعالى وصفاته >، وهو أشرف الموجودات على الإطلاق؛ ويدلّ عليه وجوه:
الأول: إنه غني عن الفاعل والقابل، وغيره محتاج إليه.
والثاني: إنه فرد على الإطلاق، فهو غني عن الجزء المقوّم.
والثالث: إن الواجب لذاته ليس إلا هو، وكل ما سواه فهو ممكن لذاته محتاج إلى المؤثّر، فيلزم أن كلّ ما سواه فهو محتاج إليه، وهو غني عن كلّ ما سواه، فوجب أن يكون هو أشرف الموجودات.
والرابع: إنه ثبت أن الممكن كما أنه محتاج إلى المؤثر حال حدوثه، فهو محتاج إليه أيضاً حال بقائه، وكلّ ما سواه فهو محتاج إليه في جميع أوقاته، سواء كان ذلك حال الحدوث أو حال البقاء، وكما أنه محتاج إليه في جانب الوجود ففي جانب العدم أيضاً كذلك؛ لما ثبت: أن الممكن ليس معدوما لذاته، بل علّة العدم عدم العلة، فثبت بما ذكرنا: أن الحقّ أشرف من غيره بحسب هذه الاعتبارات.
والخامس: هو أن الوجود أشرف من العدم، والواجب لذاته لا يقبل العدم البتّة؛ فهو موجود لذاته، وبوجوده يحصل الوجود لكل موجود، بل وجوده كالمنافي للعدم، وأما كل ما سواه فإنه ممكن لذاته، والممكن لذاته إذا نُظِر إليه من حيث هو هو وجد غير موجود، وكل ما سواه فإنه إذا اعتبر من حيث هو هو لم يكن موجودا، وهو سبحانه إذا اعتبر من حيث هو هو فهو الموجود.
فلهذا المعنى قلنا: إنه حقّ، وما سواه باطل، بل الحقّ: أنه لا يليق لفظ < الحقّ > إلا له، ولا يليق وصف الاعتقاد بأنه الحقّ إلا باعتقاد وجوده، وأن كل ما سواه فهو الفناء المحض، والهلاك المحض، كما قال في الكتاب الإلهي: { كلّ شيء هالك إلا وجهه }[القصص:88].
فثبت بهذه الاعتبارات: أنه تعالى أشرف الموجودات وأكملها، بل إنه تعالى أشرف وأكمل من أن يُقاس هو إلى غيره؛ فإنه أشرف وأكمل منه.
فكلما كان المعلوم أشرف، كان العلم به أشرف، ولما كان أن أشرف المعلومات.
الوجه الثاني في بيان شرف هذا العلم، وشدة الحاجة إليه وكمال الانتفاع به:
أشرف العلوم بحسب هذا الوجه: هو العلم الإلهي؛ وذلك: لأن الأمر المقصود بالذات: هو الفوز بالسعادة والخلاص من الشقاوة.
والسعادات: إما جسمانيّة، وإما روحانية.
وقد دلت الدلائل الفلسفية والمعالم الحقيقيّة على أن السعادات الجسمانية: خسيسة، وأقل ما فيها: أن الحيوانات الخسيسة تشارك الإنسان فيها، بل الاستقراء يدلّ على أن تلك الحيوانات الخسيسة أقوى وأكمل في جانب تلك اللذات من الإنسان.
وأيضاً: فالحدس والاستقراء يدلان على أن الخوض في جلب تلك اللذات يجذب النفس من أعالي عالم الأرواح المقدّسة إلى أسافل عالم البهيميّة.
وأيضاً: فهذه اللذات سريعة الانقضاء والانقراض، واللذات الروحانية آمنة من الزوال، مصونة من الفناء.
وأيضاً: فالاستكثار من اللذات الجسمانية مشهود عليه بفطرة جميع الخلق أنه خسيس؛ فإن الإنسان الذي يكون كل أوقاته مصروفا إلى الأكل والوِقاع يكون محكوماً عليه عند كل أحدٍ بخساسة الذّات ودناءة الهِمّة، وعلى أنه بهيمة محضة. وأما الإنسان الذي يُعتقد فيه التقليل من هذه الأحوال فإن طبع كل عاقل يحمله على تعظيمه والاعتراف له بعلو الدرجة وكمال المنقبة، ولذلك فإن طبع كل عاقل يحمله على تعظيمه والاعتراف له بعلو الدرجة وكمال المنقبة، ولذلك فإن العوام من الخلق إذا اعتقدوا في إنسان قلة الرغبة في الأكل والشرب والنكاح اعتقدوا فيه كونه مستوجبا للتعظيم والخدمة وعدّوا أنفسهم بالنسبة إليه كالعبيد إلى الأرباب، وكل ذلك يدلّ على أن هذه السعادات الجسمانية خسيسة نازلة.
فأما السعادات الروحانيّة: فإنها باقية دائمة عالية شريفة تجذب النفس من حضيض البهيميّة إلى أوج الملكيّة، ومن ظلمات عالم الأجسام إلى أعالي عوالم المقدّسات المطهّرات.
فلهذه البراهين القاهرة قال في الكتاب الإلهي: { والباقيات الصالحات خيرٌ عند ربك ثواباً }[الكهف]، وقال صاحب الوحي والشريعة حكاية عن ربّ العزّة تعالى: { أنا جليس من ذكرني }.
فقد ظهر بما ذكرناه: أن السعادات الروحانيّة أفضل من السعادات الجسمانية، ولا شك أن رأس السعادات الروحانيّة ورئيسها وزبدتها وخلاصتها: معرفة المبدأ الأول، ومعرفة صفات جلاله ونعوت كماله وكبريائه.
وأيضاً: قد دلت الشواهد النبويّة والمعالم الحكمية على أن الجهل بهذا الباب يوجب العذاب الدائم والخسار المطلق، وأن الفوز بهذه المعرفة يوجب السعادة الأبديّة والسيادة السّرمديّة.
فوجب أن يكون هذا العلم رأس جميع العلوم ورئيسها، وأشرف أقسامها وأجلها.
والوجه الثالث في بيان شرف هذا العلم:
إن الإنسان الكامل يجد من نفسه أنه كلما كان استغراق روحه في هذه المعارف أكمل، وكان خوضه فيها أعظم، وانجذابه إليها أتم، وانقطاعه عما سواها أوفى، كان ابتهاجه بذاته أفضل، وقوة روحه أكمل، وفرحة بذاته أوفى. وكلما كان الأمر بالعكس كانت الأحوال الروحانية والآثار النفسانية بالعكس مما ذكرناه.
وكل ذلك يدل على أن كل السعادات مربوطة بهذه العلة، وكل الكمالات والخيرات طالعة من هذا الأفق، كما قال في الكتاب الإلهي: { ألا بذكر الله تطمئن القلوب }[الرعد:28].
الوجه الرابع:
إن المصالح المعتبرة: إما مصالح المعاش، أو مصالح المعاد.
أما مصالح المعاش: فلا تنتظم إلا بمعرفة المبدأ والمعاد؛ وذلك لأنه لولا استقرار الشرائع الحقّة لزال النظام واختلت المصالح وحصل الهرج ولم يأمن أحد على روحه ومحبوبه.
وأما مصالح المعاد: فلا يتم شيء منها إلا بمعرفة الله تعالى وبمعرفة ملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وذلك لا يحصل إلا بهذا العلم.
فظهر بهذا المباحث التي قرّرناها: أن مبدأ الخيرات ومطلع السعادات، ومنبع الكرامات: هو هذا العلم، فمن أحاط به على ما ينبغي كان في آخر مراتب الإنسانيّة، وأول مراتب الملكيّة. "انتهى [المطالب العالية: 1/13-15]
قال فخر الدين الشيخ محمد بن عمر الرّازي رضي الله عنه:"
اعلم، أن شرف العلم إنما يظهر من وجوه:
الوجه الأول من الوجوه المُوجبة للشرف:
شرف الأمر المبحوث عنه في ذلك العلم، وذلك في هذا العلم: هو < ذات الله تعالى وصفاته >، وهو أشرف الموجودات على الإطلاق؛ ويدلّ عليه وجوه:
الأول: إنه غني عن الفاعل والقابل، وغيره محتاج إليه.
والثاني: إنه فرد على الإطلاق، فهو غني عن الجزء المقوّم.
والثالث: إن الواجب لذاته ليس إلا هو، وكل ما سواه فهو ممكن لذاته محتاج إلى المؤثّر، فيلزم أن كلّ ما سواه فهو محتاج إليه، وهو غني عن كلّ ما سواه، فوجب أن يكون هو أشرف الموجودات.
والرابع: إنه ثبت أن الممكن كما أنه محتاج إلى المؤثر حال حدوثه، فهو محتاج إليه أيضاً حال بقائه، وكلّ ما سواه فهو محتاج إليه في جميع أوقاته، سواء كان ذلك حال الحدوث أو حال البقاء، وكما أنه محتاج إليه في جانب الوجود ففي جانب العدم أيضاً كذلك؛ لما ثبت: أن الممكن ليس معدوما لذاته، بل علّة العدم عدم العلة، فثبت بما ذكرنا: أن الحقّ أشرف من غيره بحسب هذه الاعتبارات.
والخامس: هو أن الوجود أشرف من العدم، والواجب لذاته لا يقبل العدم البتّة؛ فهو موجود لذاته، وبوجوده يحصل الوجود لكل موجود، بل وجوده كالمنافي للعدم، وأما كل ما سواه فإنه ممكن لذاته، والممكن لذاته إذا نُظِر إليه من حيث هو هو وجد غير موجود، وكل ما سواه فإنه إذا اعتبر من حيث هو هو لم يكن موجودا، وهو سبحانه إذا اعتبر من حيث هو هو فهو الموجود.
فلهذا المعنى قلنا: إنه حقّ، وما سواه باطل، بل الحقّ: أنه لا يليق لفظ < الحقّ > إلا له، ولا يليق وصف الاعتقاد بأنه الحقّ إلا باعتقاد وجوده، وأن كل ما سواه فهو الفناء المحض، والهلاك المحض، كما قال في الكتاب الإلهي: { كلّ شيء هالك إلا وجهه }[القصص:88].
فثبت بهذه الاعتبارات: أنه تعالى أشرف الموجودات وأكملها، بل إنه تعالى أشرف وأكمل من أن يُقاس هو إلى غيره؛ فإنه أشرف وأكمل منه.
فكلما كان المعلوم أشرف، كان العلم به أشرف، ولما كان أن أشرف المعلومات.
الوجه الثاني في بيان شرف هذا العلم، وشدة الحاجة إليه وكمال الانتفاع به:
أشرف العلوم بحسب هذا الوجه: هو العلم الإلهي؛ وذلك: لأن الأمر المقصود بالذات: هو الفوز بالسعادة والخلاص من الشقاوة.
والسعادات: إما جسمانيّة، وإما روحانية.
وقد دلت الدلائل الفلسفية والمعالم الحقيقيّة على أن السعادات الجسمانية: خسيسة، وأقل ما فيها: أن الحيوانات الخسيسة تشارك الإنسان فيها، بل الاستقراء يدلّ على أن تلك الحيوانات الخسيسة أقوى وأكمل في جانب تلك اللذات من الإنسان.
وأيضاً: فالحدس والاستقراء يدلان على أن الخوض في جلب تلك اللذات يجذب النفس من أعالي عالم الأرواح المقدّسة إلى أسافل عالم البهيميّة.
وأيضاً: فهذه اللذات سريعة الانقضاء والانقراض، واللذات الروحانية آمنة من الزوال، مصونة من الفناء.
وأيضاً: فالاستكثار من اللذات الجسمانية مشهود عليه بفطرة جميع الخلق أنه خسيس؛ فإن الإنسان الذي يكون كل أوقاته مصروفا إلى الأكل والوِقاع يكون محكوماً عليه عند كل أحدٍ بخساسة الذّات ودناءة الهِمّة، وعلى أنه بهيمة محضة. وأما الإنسان الذي يُعتقد فيه التقليل من هذه الأحوال فإن طبع كل عاقل يحمله على تعظيمه والاعتراف له بعلو الدرجة وكمال المنقبة، ولذلك فإن طبع كل عاقل يحمله على تعظيمه والاعتراف له بعلو الدرجة وكمال المنقبة، ولذلك فإن العوام من الخلق إذا اعتقدوا في إنسان قلة الرغبة في الأكل والشرب والنكاح اعتقدوا فيه كونه مستوجبا للتعظيم والخدمة وعدّوا أنفسهم بالنسبة إليه كالعبيد إلى الأرباب، وكل ذلك يدلّ على أن هذه السعادات الجسمانية خسيسة نازلة.
فأما السعادات الروحانيّة: فإنها باقية دائمة عالية شريفة تجذب النفس من حضيض البهيميّة إلى أوج الملكيّة، ومن ظلمات عالم الأجسام إلى أعالي عوالم المقدّسات المطهّرات.
فلهذه البراهين القاهرة قال في الكتاب الإلهي: { والباقيات الصالحات خيرٌ عند ربك ثواباً }[الكهف]، وقال صاحب الوحي والشريعة حكاية عن ربّ العزّة تعالى: { أنا جليس من ذكرني }.
فقد ظهر بما ذكرناه: أن السعادات الروحانيّة أفضل من السعادات الجسمانية، ولا شك أن رأس السعادات الروحانيّة ورئيسها وزبدتها وخلاصتها: معرفة المبدأ الأول، ومعرفة صفات جلاله ونعوت كماله وكبريائه.
وأيضاً: قد دلت الشواهد النبويّة والمعالم الحكمية على أن الجهل بهذا الباب يوجب العذاب الدائم والخسار المطلق، وأن الفوز بهذه المعرفة يوجب السعادة الأبديّة والسيادة السّرمديّة.
فوجب أن يكون هذا العلم رأس جميع العلوم ورئيسها، وأشرف أقسامها وأجلها.
والوجه الثالث في بيان شرف هذا العلم:
إن الإنسان الكامل يجد من نفسه أنه كلما كان استغراق روحه في هذه المعارف أكمل، وكان خوضه فيها أعظم، وانجذابه إليها أتم، وانقطاعه عما سواها أوفى، كان ابتهاجه بذاته أفضل، وقوة روحه أكمل، وفرحة بذاته أوفى. وكلما كان الأمر بالعكس كانت الأحوال الروحانية والآثار النفسانية بالعكس مما ذكرناه.
وكل ذلك يدل على أن كل السعادات مربوطة بهذه العلة، وكل الكمالات والخيرات طالعة من هذا الأفق، كما قال في الكتاب الإلهي: { ألا بذكر الله تطمئن القلوب }[الرعد:28].
الوجه الرابع:
إن المصالح المعتبرة: إما مصالح المعاش، أو مصالح المعاد.
أما مصالح المعاش: فلا تنتظم إلا بمعرفة المبدأ والمعاد؛ وذلك لأنه لولا استقرار الشرائع الحقّة لزال النظام واختلت المصالح وحصل الهرج ولم يأمن أحد على روحه ومحبوبه.
وأما مصالح المعاد: فلا يتم شيء منها إلا بمعرفة الله تعالى وبمعرفة ملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وذلك لا يحصل إلا بهذا العلم.
فظهر بهذا المباحث التي قرّرناها: أن مبدأ الخيرات ومطلع السعادات، ومنبع الكرامات: هو هذا العلم، فمن أحاط به على ما ينبغي كان في آخر مراتب الإنسانيّة، وأول مراتب الملكيّة. "انتهى [المطالب العالية: 1/13-15]
أمس في 20:03 من طرف Admin
» كتاب: مطالع اليقين في مدح الإمام المبين للشيخ عبد الله البيضاوي
أمس في 20:02 من طرف Admin
» كتاب: الفتوحات القدسية في شرح قصيدة في حال السلوك عند الصوفية ـ الشيخ أبي بكر التباني
أمس في 19:42 من طرف Admin
» كتاب: الكلمات التي تتداولها الصوفية للشيخ الأكبر مع تعليق على بعض ألفاظه من تأويل شطح الكمل للشعراني
أمس في 19:39 من طرف Admin
» كتاب: قاموس العاشقين في أخبار السيد حسين برهان الدين ـ الشيخ عبد المنعم العاني
أمس في 19:37 من طرف Admin
» كتاب: نُسخة الأكوان في معرفة الإنسان ويليه رسائل أخرى ـ الشّيخ محيي الدين بن عربي
أمس في 19:34 من طرف Admin
» كتاب: كشف الواردات لطالب الكمالات للشيخ عبد الله السيماوي
أمس في 19:31 من طرف Admin
» كتاب: رسالة الساير الحائر الواجد إلى الساتر الواحد الماجد ( مجموع رسائل الشيخ نجم الدين الكبري )
أمس في 19:28 من طرف Admin
» كتاب: رسالة إلى الهائم الخائف من لومة اللائم ( مجموع رسائل الشيخ نجم الدين الكبري )
أمس في 19:26 من طرف Admin
» كتاب: التعرف إلى حقيقة التصوف للشيخين الجليلين أحمد العلاوي عبد الواحد ابن عاشر
أمس في 19:24 من طرف Admin
» كتاب: مجالس التذكير في تهذيب الروح و تربية الضمير للشيخ عدّة بن تونس
أمس في 19:21 من طرف Admin
» كتاب غنية المريد في شرح مسائل التوحيد للشيخ عبد الرحمن باش تارزي القسنطيني الجزائري
أمس في 19:19 من طرف Admin
» كتاب: القوانين للشيخ أبي المواهب جمال الدين الشاذلي ابن زغدان التونسي المصري
أمس في 19:17 من طرف Admin
» كتاب: مراتب الوجود المتعددة ـ الشيخ عبد الواحد يحيى
أمس في 19:14 من طرف Admin
» كتاب: جامع الأصول في الأولياء و دليل السالكين إلى الله تعالى ـ للسيد أحمد النّقشبندي الخالدي
أمس في 19:12 من طرف Admin