كتاب بدء الوحي:
.باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وقول الله- عز وجل-: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده} [النساء: 163].
فيه عمر بن الخطاب: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه».
قال سيدنا ومولانا الفقيه- رضي الله عنه-: إن قلت: ما موقع حديث عمر من الترجمة، وأين هو من بدء الوحي؟
قلت: أشكل هذا قديماً على الناس فحمله بعضهم على قصد الخطبة والمقدمة للكتاب، لا على مطابقة الترجمة، وقيل فيه غير هذا. والذي وقع لي أنه قصده- والله أعلم- أن الحديث اشتمل على أن من هاجر إلى الله وحده، والنبي صلى الله عليه وسلم كان مقدمة النبوة في حقه هجرته إلى الله، وإلى الخلوة بمناجاته، والتقرب إليه بعباداته في غار حراء، فلما ألهمه الله صدق الهجرة إليه، وطلب وجد وجد، فهجرته إليه كانت بدء فضله عليه باصطفائه وإنزال الوحي عليه، مضافاً إلى التأييد الإلهي والتوفيق الرباني الذي هو الأصل والمبدأ والمرجع والموئل. وليس على معنى ما ردّه أهل السنة على من اعتقد أن النبوة مكتسبة، بل على معنى أن النبوة ومقدماتها ومتمماتها، كلٌّ فضل من عند الله، فهو الذي ألهم السؤال وأعطي السؤل، وعلق الأمل وبلغ المأمول، فله الفضل أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً- سبحانه وتعالى-. ولم يذكر البخاري في هذا الحديث: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله». وهو أمس بالمقصود الذي نبهنا عليه. وذكر هذه الزيادة في الحديث في كتاب الإيمان، وكأنه استغنى عنها بقوله: «فهجرته إلى ما هاجر إليه» فأفهم ذلك أن كل ما هاجر إلى شيء فهجرته إليه فدخل في عمومه الهجرة إلى الله. ومن عادته أن يترك الاستدلال بالظاهر الجلي، ويعدل إلى الرمز الخفي. وسيأتي له أمثال ذلك.
.كتاب الإيمان:
.باب الدين يسر:
وقوله صلى الله عليه وسلم: «أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة».
فيه أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسدّدوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة».
قال- رضي الله عنه-: إن قال قائل: أين موضع أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة، من الحديث الذي ذكره في الباب؟
قيل له: إن لفظ الترجمة في الحديث لم يوافق شرط البخاري، فلما وافقه حديث الباب بمعناه، نبه عليه في الترجمة، يعني أنه إن فات صحة لفظه، فمعناه صحيح بهذا الحديث الذي ذكره مسنداً. ومقصوده من الترجمة وحديثها التنبيه على أن الدين يقع على الأعمال، لأن الذي يتصف باليسر والشدة، إنما هي الأعمال دون التصديق. وقد فسّر الأعمال في الحديث بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة. وكنى بهذه الفعلات عن الأعمال في هذه الأوقات، كقوله: {أقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل} [هود: 114]. وقال: «شيء من الدلجة» ولم يقل: والدلجة لثقل عمل الليل، فندب إلى حظّ منه، وإن قلّ، أو لأن الدلجة سير الليل كله، وليس القيام المحثوث عليه مستوعباً لليل، وإنما هو أخذ منه على اختلافهم في القدر المأخوذ، والله أعلم.
.باب حسن إسلام المرء:
فيه أبو سعيد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أسلم المرء فحسن إسلامه، يكفر الله عنه كلّ سيئة كان زلفها، وكان بعد ذلك القصاص: الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبع مائة ضعف، والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنها».
فيه أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أحسن أحدكم إسلامه، فكل حسنة يعملها كتبت له بعشر أمثالها، إلى سبع مائة ضعف. وكل سيئة يعملها تكتب له بمثلها».
إن قال قائل: كيف موقع هذه الترجمة من زيادة الإسلام ونقصانه؟
قيل: لما أثبت للإسلام صفة الحسن، وهي زائدة عليه، دلّ على اختلاف أحواله. وإنما تختلف الأحوال بالنسبة إلى الإعمال، وأما التوحيد فواحد.
.باب أحبّ الدين إلى الله أدومه:
فيه عائشة رضي الله عنها: إن النبي- صلى الله عليه وسلم دخل عليها، وعندها امرأة، قال من هذه؟ قالت: فلانة- تذكر من صلاتها- قال: «مه عليكم بما تطيقون، فوالله لا يملّ الله حتى تملوا». وكان أحبّ الدين إليه ما دام عليه صاحبه.
قال: سيدنا الفقيه- رضي الله عنه:- إن قال قائل: كيف موقعها من زيادة الإيمان ونقصانه؟.
قلنا: لأن الذي يتصف بالدوام والترك، إنما هو العمل. وأما الإيمان فلو تركه لكفر، دلّ على أن العمل الدائم هو الذي يطلق عليه أنه أحبّ الدين إلى الله عز وجل، وإذا كان هو الدين كان هو الإسلام لقوله: {إن الدين عند الله الإسلام} [آل عمران: 19].
.باب زيادة الإيمان ونقصانه:
وقوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} [المائدة: 3]. فإذا ترك شيئاً من الكمال فهو ناقص.
فيه أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن بُرّة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن ذرة من خير».
وفيه عمر: إن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً. قال أي آية؟ قال: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} [المائدة: 3] وذكر الحديث.
قال سيدنا الفقيه- رضي الله عنه-: في الآية تصريح بإكمال الدين، وتصوّر إكماله يقتضي تصوّرّ نقصانه. ولا يحمل على التوحيد، لأنه كان كاملاً قبل نزول هذه الآية. وأما الحديث فوجه دلالته أنه فاوت بين الإيمان القائم بالقلب، ولو كان هو التصديق خاصة لكان واحداً.
.باب الزكاة من الإسلام:
وقوله: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصَّلاةَ ويؤتُوا الزَّكاةَ وذَلك ديْنُ القَيّمَة} [البيّنة: 5].
فيه طلحة بن عبيد الله: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد، ثائر الرأس يسمع دويُّ صوته ولا يفقه ما يقول، حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإسلام. فقال: «خمس صلوات في اليوم والليلة، وصيام رمضان، والزكاة». فقال: هل عليّ غيرها؟ قال: «لا إلا أن تطوع». فأدبر الرجل يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص. قال: «أفلح إن صدق».
قال سيدنا الفقيه- رضي الله عنه-: موضع الاستشهاد قوله: {وذلك دين القيّمَة}. إشارة إلى أن الصلاة والزكاة، دل أنهما من الدين، والدين الإسلام.
.باب خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر:
وقال إبراهيم التيمي: ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذباً.
وقال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل.
ويذكر عن الحسن: ما خافه إلا مؤمن، وما أمنه إلا منافق، وما يحذر من الإصرار على التقاتل والعصيان من غير توبة، لقوله عز وجل: {ولم يصرُّوْا على ما فعلوا وهم يعلمون} [آل عمران: 135].
فيه زبيد: سألت أبا وائل عن المرجئة فقال حدثني عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر».
وفيه عبادة: أن النبي صلى الله عليه وسلم، خرج يخبر بليلة القدر فتلاحى رجلان فرفعت.
قال الفقيه- رضي الله عنه-: انتقل من الرد على القدرية إلى الرد على المرجئة، وهما ضدان: القدرية تكفّر بالذنب، والمرجئة تهدر الذنب بالكلية. والذي ساقه في الترجمة صحيح في الردّ عليهم.
.باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة ولكل امرئ ما نوى:
فدخل فيه الإيمان، والوضوء، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والأحكام.
وقال الله تعالى: {وقل كل يعمل على شاكلته} [الإسراء: 84]على نيته.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ولكن جهاد ونية».
فيه عمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الأعمال بالنية ولكل امرئ ما نوى، فمن كان هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه».
وفيه أبو مسعود: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أنفق الرجل على أهله- وهو يحتسبها- فهو له صدقة».
وفيه سعد: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى ما تجعل في في امرأتك».
وقال الفقيه- رضي الله عنه-: المرجئة تزعم أن المعتبر الإيمان باللسان، ولا حظ للقلب فيه، فردّ عليهم باعتبار نية القلب في الأعمال مطلقاً فدخل الإيمان وغيره من العبادات.
.باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة لله، ولرسوله ولأئمة المسلمين، وعامتهم»:
وقوله عز وجل: {إذا نصحوا لله ورسوله} [التوبة: 91].
فيه جرير: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم.
وفيه: أن جريراً قام يوم مات المغيرة بن شعبة فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: عليكم باتقاء الله وحده لا شريك له، والوقار، والسكينة، حتى يأتيكم أمير. فإنما يأتيكم الآن. ثم قال: استعفوا لأميركم، فإنه كان يحب العفو. ثم قال: أما بعد! فإني أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: أبايعك على الإسلام، فشرط عليّ: «والنصح لكل مسلم». وربّ هذه البنية إني ناصح، ثم استغفر ونزل.
قال الفقيه- رضي الله عنه-: جاء حديث بلفظ الترجمة (الدين النصيحة)، ولم يدخله البخاري إنما أدخل معناه في الحديث الذي أورده.
ووجه المطابقة أنه صلى الله عليه وسلم بايعهم على الإسلام وعلى النصيحة، كما بايعهم على الإسلام دلّ أنها معتبرة بعد الإسلام، خلافاً للمرجئة، إذ لا تعتبر عندهم سوى الإسلام، ولا يضّر الإخلال بما عداه. وظن الشارح أن مقصود البخاري الرد على من زعم أن الإسلام التوحيد، ولا يدخل فيه الأعمال، وهم القدرية، وهو ظاهر في العكس، لأنه لما بايعه على الإسلام، قال له: «وعلى النصيحة». فلو دخلت في الإسلام لما استأنف لها بيعة. والله أعلم.
.كتاب العلم:
.باب الاغتباط في العلم والحكمة:
وقال عمر- رضي الله عنه-: تفقهوا قبل أن تسودوا.
وقال أبو عبدالله البخاري: وبعد أن تسودوا.
فيه ابن مسعود: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنين، رجل آتاه الله مالاً، فسلّطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة، فهو يقضي بها ويعلّمها».
قال الفقيه- رضي الله عنه-: وجه مطابقة قول عمر- رضي الله عنه- للترجمة أنه جعل السيادة من ثمرات العلم، وأوصى الطالب باغتنام الزيادة قبل بلوغ درجة السيادة. وذلك يحقق استحقاق العلم، لأنه يغتبط به صاحبه، لأنه سبب سيادته.
.باب ما ذكر في ذهاب موسى في البحر إلى الخضر:
وقوله: {هل أبتعك على أن تعلمن مما علمت رشداً} [الكهف: 66].
فيه ابن عباس: إنه تمارى هو والحرّ بن قيس في صاحب موسى صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس: هو خضر. فمرّ بهما أبيّ بن كعب، فدعاه ابن عباس، فقال: إني تماريت أنا صاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل موسى عليه السلام السبيل إلى لقيه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «بينما موسى في ملأ من بني إسرائيل، جاءه رجلّ فقال له: هل تعلم أحداً أعلم منكّ؟ فقال موسى: لا، فأوحى الله إلى موسى، بلى! عبدنا خضر، فسأل موسى السبيل إليه، فجعل الله له الحوت آية. وقيل له: إذا فقدت الحوت فارجع فإنك ستلقاه». وذكر الحديث.
قال الفقيه وفقه الله: موقع قوله: «في البحر» من الترجمة، التنبيه على شرف التعليم، حتى جاز في طلبه المخاطرة بركوب البحر، وركبه الأنبياء في طلبه، بخلاف طلب الدنيا في البحر فقد كرهه بعضهم، واستثقله الكل، ووجه مطابقته للقصة: إن موسى عليه السلام قال للخضر: هل أتبعك على أن تعلمن فاتبعه ليتعلم منه في البحر حال ركوبهما السفينة، وفي البر حال سيرهما في البر، بعد النزول.
.باب فضل من عَلِمَ وعَلَّمَ:
فيه أبو موسى: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكان منها نقيةٌ قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادبُ أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ. فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعني ما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به». وقال إسحاق قيلت الماء مكان قبلت.
قلت: رضي الله عنك! إن قال قائل: ما موقع فضل العلم والتعلم من الحديث؟ وإنما هو تمثيل للحالين. قيل له: قد شبة صاحب العلم في نفعه للخلق بالغيث، وشبه متحمل العلم في ذكائه بالأرض الطيبة المنبتة. وناهيك بهما فضلا.
.باب رفع العلم، وظهور الجهل:
وقال ربيعة: لا ينبغي لأحد عنده شيء من العلم أن يضيع نفسه فيه أنس: قال لأحدثكم حديثا لا يحدثكم أحد بعدي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن من أشراط الساعة أن يقل العلم، ويظهر الجهل، ويظهر الزنا، وتكثر النساء، ويقل الرجال حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد».
قال الفقيه- رضي الله عنه- إن قلت ما وجه مطابقة قول ربيعة لرفع العلم؟.
قلت: وجهها أن صاحب الفهم إذا ضيع نفسه فلم يتعلم، أفضى إلى رفع العلم، لأن البليد لا يقبل العلم، فهو عنه مرتفع. فلو لم يتعلم الفهم لارتفع العلم عنه أيضا، فيرتفع عموماً، وذلك من الأشراط التي لا تقارن في الوجود إلاَّ شرار الخلق. فعلى الناس أن يتوقوها ما أمكن.
.باب فضل العلم:
فيه ابن عمر- رضي الله عنه-: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بينا أنا نائم، أوتيت بقدح لبن، فشربت حتى إنيّ لا أرى الريَّ يخرج من أظفاري. ثم أعطيتُ فضلي عمر بن الخطاب». قالوا: فما أوّلته يا رسول الله! قال: «العلم».
قال الفقيه- رضي الله عنه-: إن قلت: ما وجه الفضيلة في الحديث؟
قلت: لأنه عبر عن العلم بأنه فضلة النبي صلى الله عليه وسلم، ونصيب مما آتاه الله. وناهيك له فضلاً، إنه جزء من النبوّة.
.باب السمر في العلم:
فيه ابن عمر- رضي الله عنه-: صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم العشاء في آخر حياته، فلما سلم قام فقال: «أرأيتكم هذه، فإن رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد».
وفيه ابن عباس: بتُّ في بيت خالتي ميمونة بنت الحارث- زوج النبي صلى الله عليه وسلم وكان النبي صلى الله عليه وسلم عندها في ليلتها، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم العشاء، ثم جاء إلى منزله فصلى أربع ركعات، ثم صلى ركعتين، ثم نام، ثم قام، ثم قال: نام الغليم- أو كلمة تشبهها- ثم قام، فقمت عن يساره، فجعلني عن يمينه، فصلى خمس ركعات، ثم صلى ركعتين، ثم نام حتى سمعت غطيطه أو خطيطه. قال إن قيل: أين السمر في حديث ابن عباس؟ ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن نفسه، أنه تكلم تلك الليلة، إلا قوله صلى الله عليه وسلم: «نام الغليم» أو نحوه، وهذا ليس بسمر. قيل: يحتمل أنه يريد هذه الكلمة فيثبت بها أصل السمر. ويحتمل أن يريد ارتقاب ابن عباس لأحواله صلى الله عليه وسلم، ويتبعه. ولا فرق بين التعلم من الحديث والتعلم من الفعل. فقد سهر ابن عباس ليلته في طلب العلم، وتلقيه من الفعل والتعلم مع السهر، هو معنى السمر. والغاية التي كره لها السمر إنما هي السهر خوف التفريط في صلاة الصبح، فإذا كان سمر العلم، فهو في طاعة الله فلا بأس. والله أعلم.
.باب ما يستحب للعالم إذا سئل أي الناس أعلم أن يكل العلم إلى الله عز وجل:
فيه ابن عباس: عن أبيّ بن كعب قال: قام موسى عليه السلام خطيباً في بني إسرائيل فسئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا أعلم. فعتب الله عليه إذ لم يردَّ العلم إليه، فأوحى الله إليه أن عبداً من عبادي بمجمع البحرين، هو أعلم منك. قال: يا ربّ وكيف به؟ فقيل له: احمل حوتاً في مكتل فإذا فقدته فهو ثم. فانطلق معه فتاه يوشع بن النون، وحملا حوتاً في مكتل حتى كانا عند الصخرة، وضعا رءوسهما فناما. فانسل الحوت من المكتل فاتخذ سبيله في البحر سربا. وذكر الحديث.
قال الفقيه- وفقه الله-: ظنّ الشارح أن المقصود من الحديث التنبيه على أن الصواب من موسى كان ترك الجواب، وأن يقول: لا أعلم. وليس كذلك، بل ردّ العلم إلى الله متعين أجاب أو لم يجب. فإن أجاب، قال: الأمر كذا، والله أعلم. وإن لم يجب قال: الله أعلم.
ومن هنا تأدّب المفتون في أجوبتهم بقوله: والله أعلم. فلعل موسى لو قال: أنا، والله أعلم، لكان صواباً. وإنما وقعت المؤاخذة باقتصاره على قوله: أنا أعلم. فتأمله.
.باب من سأل وهو قائم عالماً جالساً:
فيه أبو موسى: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ما القتال في سبيل الله؟ فإن أحدنا يقاتل غضباً، ويقاتل حمية. فرفع إليه رأسه- قال: وما رفعه إليه إلا أنه كان قائماً- فقال: «من قاتل أن تكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله».
قال الفقيه- رضي الله عنه-: إن قيل: ما موقع الترجمة من الفقه؟.
قلت: موقعها التنبيه على أن مثل هذا مستثنى من قوله: «من أحبّ أن يتمثل له الناس قياماً، فليتبوأ مقعده من النار». فنبه بهذا الحديث على أن مثل هذه الهيئة مع سلامة النفس مشروعة. والله أعلم.
.باب من أجاب السائل أكثر مما سأله:
فيه ابن عمر: إن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم ما يلبس المحرم؟ فقال: «لا يلبس القميص، ولا العمامة، ولا السراويل، ولا البرنس، ولا ثوباً مسه الزعفران، ولا الورس. فإن لم يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما حتى يكونا تحت الكعبين».
قال الفقيه- وفقه الله تعالى-: رحمة الله على البخاري أنّه أمعن في استنباط جواهر الحديث التي خفيت على الكثير. وموقع هذه الترجمة من الفوائد، التنبيه على أن مطابقة الجواب للسؤال حتى لا يكون الجواب عاماً، والسؤال خاصاً، غير لازم، فيوجب ذلك حمل اللفظ العام الوارد على سبب خاص على عمومه، لا على خصوص السبب، لأنه جواب وزيادة فائدة. وهو المذهب الصحيح في القاعدة.
ويؤخذ منه أيضاً: أن المفتى إذا سئل عن واقعة، واحتمل عنده أن يكون السائل يتذرع بجوابه إلى أن يعديه إلى غير محل السؤال، وجب عليه أن يفصّل جوابه، وأن يزيده بياناً، وأن يذكر مع الوقعة ما يتوقع التباسه بها. ولا يعّد ذلك تعدياً بل تحرياً. وكثير من القاصرين يدفع بما لا ينفع، ويأتي بالجواب أبتر تسرعاً، لا تورعاً. والزيادة في الحديث بقوله: «فإن لم يجد النعلين» إلى آخره. والله أعلم.
.كتاب الوضوء:
.باب لا تقبل صلاة بغير طهور:
فيه أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ». قيل: ما الحدث يا أبا هريرة؟ قال: فساء أو ضراط.
قلت:- رضي الله عنك-! إن قلت: لم ترجم على العموم، وحديث أبي هريرة في المحدث في الصلاة، ولهذا قال: فساء أو ضراط، لأنه غالب ما يسبق في الصلاة، لا البول والغائط؟ قلت: نبّه بذلك على التسوية بين الحدث في الصلاة، والحدث في غيرها، لئلا يتخيل الفرق كما فرق بعضهم بين أن يشك في الحدث في الصلاة فيتمادى، ويلغي الشك، وبين شكّه في غير الصلاة فيتوضأ ويعتبر الشك. والله أعلم.
.باب التماس الوضوء إذا حانت الصلاة:
وقالت عائشة رضي الله عنها: حضرت الصبح، والتمس الماء فلم يوجد فنزل التيمم.
فيه أنس: رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم، وحانت صلاة العصر، فالتمس الناس الوضوء. فلم يجدوه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الإناء يده، وأمر الناس أن يتوضئوا منه. قال، فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه حتى توضئوا من عند آخرهم.
قلت: رضي الله عنك- موقع الترجمة من الفقه، التنبيه على أن الوضوء لا يجب قبل الوقت.
.باب الرجل يوضئ صاحبه:
فيه ابن عباس: عن أسامة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أفاض من عرفة عدل إلى الشعب، فقضى حاجته. قال أسامة: فجعلت أصب عليه، ويتوضأ. فقلت: يا رسول الله أتصلي؟ قال: «المصلى أمامك».
وفيه المغيرة: أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، وأنه ذهب لحاجة له، وأن المغيرة جعل يصب عليه وهو يتوضأ، فغسل وجهه ويديه، ومسح برأسه، ومسح على الخفين.
قلت:- رضي الله عنك-: قاس البخاري توضئة الغير له على صبّه عليه، لاجتماعهما في معنى الإعانة على أداء الطاعة. والله أعلم.
.باب استعمال فضل وضوء الناس:
أمر جرير بن عبدالله أهله أن يتوضئوا بفضل سواكه فيه أبو جحيفة: خرج النبي صلى الله عليه وسلم بالهاجرة فأتى بوضوء فتوضأ فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه، فيتمسحون به.
وقال أبو موسى: دعا النبي صلى الله عليه وسلم بقدح فيه ماء، فغسل يديه ووجهه، ومج فيه. ثم قال لهما: «اشربا منه، وافرغا على وجوهكما، ونحوركما».
وفيه محمود بن الربيع: إن النبي صلى الله عليه وسلم مجّ في وجهه- وهو غلام- من بئرهم.
وفيه المسور: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ يقتتلون على وضوئه.
وفيه السائب: ذهبت بي خالتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إن ابن أختي وقع، فمسح رأسي، ودعا لي بالبركة، ثم توضأ فشربت من وضوئه. الحديث.
قلت:- رضي الله عنك-! إن قيل: ترجم على استعمال فضل الوضوء ثم ذكر حديث السواك والمجة فما وجهه؟
قلت: مقصوده: الردّ على من زعم أن الماء المستعمل في الوضوء لا يتطهر به، لأنه ماء الخطايا، فبين أن ذلك لو كان صحيحاً وأن الخطايا تحدث في عين الماء شيئاً ينافي الاستعمال لكان نجساً، لأن النجس المبعد، والخطايا يجب إبعادها شرعاً. ومع ذلك فيجوز استعماله لغير الطهارة، كالتبرك والتعوذ ونحوه. هذا إن احتجوا بأنه ماء الخطايا. وإن احتجوا بأنه مضاف فهو مضاف إلى طاهر لم يتغير به، لأنه الريق الذي يخالطه عند المضمضة مثلاً، طاهر بدليل حديث السواك والمجة. وكذلك ماء لعله يخالطه من غبرات الأعضاء بطريق الأولى لأنها موهومة لا محققة. والله أعلم.
.باب الوضوء من النوم، ومن لم ير من النعسة والنعستين، والخفقة وضوءاً:
فيه عائشة رضي الله عنها: إن رسول الله قال: إذا نعس أحدكم، وهو يصلي، فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإن أحدكم إذا صلى- وهو ناعس- لا يدري لعله يستغفر فيسبَّ نفسه.
وفيه أنس: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا نعس أحدكم في الصلاة، فلينم حتى يعلم ما يقول.
قال سيدنا الفقيه- وفقه الله-: إن قلت: كيف مخرج الترجمة من الحديث، ومضمونها أن لا يتوضأ من النعاس الخفيف، ومضمون الحديث النهي عن الصلاة مع النعاس؟.
قلت: إما أن يكون يلقاها من مفهوم تعليل النهي عن الصلاة حينئذ، بذهاب العقل المؤدي إلى أن يعكس الأمر، يريد أن يدعو فيسبّ نفسه، دلّ أنه لم يبلغ هذا المبلغ صلى به.
وإما أن يكون تلقّاها من كونه إذا بدأ به النعاس- وهو في النافلة- اقتصر على إتمام ما هو فيه، ولم يستأنف أخرى، فتماديه على ما كان فيه يدلّ على أن النعاس اليسير لا ينافي الصلاة. وليس بصريح في الحديث بل يحتمل قطع الصلاة التي هو فيها، ويحتمل النهي عن استئناف شيء آخر والأول أظهر.
.باب الوضوء من غير حدث:
فيه أنس: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة.
قلت: كيف كنتم تصنعون؟ قال: يجزئ أحدنا الوضوء ما لم يحدث.
وفيه سويد بن النعمان: إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العصر يوم حنين، ثم صلى المغرب، ولم يتوضأ.
قلت:- رضي الله عنك- ساق حديث سويد عقيب الحديث الأوّل، لينبّه على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ بالأفضل في تجديد الوضوء من غير حدث، لا أنه واجب عليه بدليل حديث سويد.
.باب ما يقع من النجاسات في السمن والماء:
وقال الزهري: لا بأس بالماء ما لم يغيره لون، أو طعم، أو ريح.
وقال حماد: لا بأس بريش الميتة.
وقال الزهري: في عظام الموتى نحو الفيل وغيره: أدركت ناساً من سلف العلماء يمتشطون بها، ويدهنون فيها، ولا يرون بها بأساً.
وقال ابن سيرين وإبراهيم: لا بأس بتجارة العاج.
فيه ميمونة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرة سقطت في سمن، فقال: «ألقوها وما حولها، وكلوا سمنكم».
وفيه أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل كلم يكلمه المسلم في سبيل الله، يكون يوم القيامة كهيئتها، إذ طعنت، تفجر دماً: اللون لون الدم، والعرف عرف المسك».
قلت:- رضي الله عنك- مقصوده في الترجمة أن المعتبر في النجاسات الصفات، فلما كان ريش الميتة لا يتغير بتغيرها، لأنه لا تحله الحياة طهر، وكذلك العظام، وكذلك الماء إذا خالطه نجاسة ولم يتغير، وكذلك السمن البعيد عن موقع الفأرة إذا لم يتغير. ووجه الاستدلال بحديث دم الشهداء أنه لمّا تغيرت صفته إلى صفة طاهر وهو المسك، بطل حكم النجاسة فيه، على أن القيامة ليست دار أعمال، ولا أحكام. وإنما لما عظم الدم لحيلولة صفته إلى صفة ما هو مستطاب معظم في العادة، علمنا أن المعتبر الصفات، لا الذوات. والله أعلم.
.باب لا يبول في الماء الدائم:
فيه أبو هريرة: قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «نحن الآخرون السابقون» وبإسناده قال: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل فيه». قلت:- رضي الله عنك- إن قلت كيف طابق قوله:- نحن الآخرون السابقون مقصود الترجمة؟ وهل ذلك لما قيل: إن هماماً راويه روى جملة أحاديث عن أبي هريرة، استفتحها له أبو هريرة بحديث: «نحن الآخرون السابقون» فصار همام مهما حدث عن أبي هريرة ذكر الجملة من أولها واتبعه البخاري في ذلك، أو تظهر مطابقة معنوية؟.
قلت: تمكن المطابقة، وتحقيقها: أن السر في اجتماع التأخر في الوجود، والسبق في البعث لهذه الأمة أن الدنيا مثلها للمؤمن مثل السجن. وقد أدخل الله فيه الأولين والآخرون على ترتيب. فمقتضى ذلك أن الآخر في الدخول أوّل في الخروج، كالوعاء إذا ملأته بأشياء وضع بعضها فوق بعض، ثم استخرجتها، فإنما يخرج أولاً ما أدخلته آخراً. فهذا هو السر في كون هذه الأمة آخراً في الوجود الأول، أوّلاً في الوجود الثاني. ولها في ذلك من المصلحة: قلة بقائها في سجن الدنيا، وفي أطباق البلى بما خصها الله به من قصر الأعمار، ومن السبق إلى المعاد. فإذا فهمت هذه الحقيقة تصور الفطن معناها عاماً، فكيف يليق بلبيب أن يعمد إلى أن يتطهر من النجاسة، ومما هو أيسر منها، من الغبرات والقترات، فيبول في ماء راكد ثم يتوضأ منه. فأوّل ما يلاقيه بوله الذي عزم على التطهير منه، فهو عكس للحقائق وإخلال بالمقاصد، لا يتعاطاه أريب ولا يفعله لبيب. والله أعلم؟ والحق واحد، وإن تباعد ما بين طرقه. وسيأتي للبخاري ذكر حديث: «نحن الآخرون السابقون» في قوله: «الإمام جنة يتقى به ويقاتل من ورائه». أي هو أول في إسناد الهمم والعزائم إلى وجوده. وهو آخر في صورة وقوفه، فلا ينبغي لأجناده إذا قاتلوا بين يديه، أن يظنوا أنهم حموه، بل هو حماهم، وصان بتدبيره حماهم، فهو وإن كان خلف الصف، إلا أنه في الحقيقة جنة أما الصف وحق للإمام أن يكون محله في الحقيقة الأمام. والله أعلم.
.باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وقول الله- عز وجل-: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده} [النساء: 163].
فيه عمر بن الخطاب: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه».
قال سيدنا ومولانا الفقيه- رضي الله عنه-: إن قلت: ما موقع حديث عمر من الترجمة، وأين هو من بدء الوحي؟
قلت: أشكل هذا قديماً على الناس فحمله بعضهم على قصد الخطبة والمقدمة للكتاب، لا على مطابقة الترجمة، وقيل فيه غير هذا. والذي وقع لي أنه قصده- والله أعلم- أن الحديث اشتمل على أن من هاجر إلى الله وحده، والنبي صلى الله عليه وسلم كان مقدمة النبوة في حقه هجرته إلى الله، وإلى الخلوة بمناجاته، والتقرب إليه بعباداته في غار حراء، فلما ألهمه الله صدق الهجرة إليه، وطلب وجد وجد، فهجرته إليه كانت بدء فضله عليه باصطفائه وإنزال الوحي عليه، مضافاً إلى التأييد الإلهي والتوفيق الرباني الذي هو الأصل والمبدأ والمرجع والموئل. وليس على معنى ما ردّه أهل السنة على من اعتقد أن النبوة مكتسبة، بل على معنى أن النبوة ومقدماتها ومتمماتها، كلٌّ فضل من عند الله، فهو الذي ألهم السؤال وأعطي السؤل، وعلق الأمل وبلغ المأمول، فله الفضل أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً- سبحانه وتعالى-. ولم يذكر البخاري في هذا الحديث: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله». وهو أمس بالمقصود الذي نبهنا عليه. وذكر هذه الزيادة في الحديث في كتاب الإيمان، وكأنه استغنى عنها بقوله: «فهجرته إلى ما هاجر إليه» فأفهم ذلك أن كل ما هاجر إلى شيء فهجرته إليه فدخل في عمومه الهجرة إلى الله. ومن عادته أن يترك الاستدلال بالظاهر الجلي، ويعدل إلى الرمز الخفي. وسيأتي له أمثال ذلك.
.كتاب الإيمان:
.باب الدين يسر:
وقوله صلى الله عليه وسلم: «أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة».
فيه أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسدّدوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة».
قال- رضي الله عنه-: إن قال قائل: أين موضع أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة، من الحديث الذي ذكره في الباب؟
قيل له: إن لفظ الترجمة في الحديث لم يوافق شرط البخاري، فلما وافقه حديث الباب بمعناه، نبه عليه في الترجمة، يعني أنه إن فات صحة لفظه، فمعناه صحيح بهذا الحديث الذي ذكره مسنداً. ومقصوده من الترجمة وحديثها التنبيه على أن الدين يقع على الأعمال، لأن الذي يتصف باليسر والشدة، إنما هي الأعمال دون التصديق. وقد فسّر الأعمال في الحديث بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة. وكنى بهذه الفعلات عن الأعمال في هذه الأوقات، كقوله: {أقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل} [هود: 114]. وقال: «شيء من الدلجة» ولم يقل: والدلجة لثقل عمل الليل، فندب إلى حظّ منه، وإن قلّ، أو لأن الدلجة سير الليل كله، وليس القيام المحثوث عليه مستوعباً لليل، وإنما هو أخذ منه على اختلافهم في القدر المأخوذ، والله أعلم.
.باب حسن إسلام المرء:
فيه أبو سعيد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أسلم المرء فحسن إسلامه، يكفر الله عنه كلّ سيئة كان زلفها، وكان بعد ذلك القصاص: الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبع مائة ضعف، والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنها».
فيه أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أحسن أحدكم إسلامه، فكل حسنة يعملها كتبت له بعشر أمثالها، إلى سبع مائة ضعف. وكل سيئة يعملها تكتب له بمثلها».
إن قال قائل: كيف موقع هذه الترجمة من زيادة الإسلام ونقصانه؟
قيل: لما أثبت للإسلام صفة الحسن، وهي زائدة عليه، دلّ على اختلاف أحواله. وإنما تختلف الأحوال بالنسبة إلى الإعمال، وأما التوحيد فواحد.
.باب أحبّ الدين إلى الله أدومه:
فيه عائشة رضي الله عنها: إن النبي- صلى الله عليه وسلم دخل عليها، وعندها امرأة، قال من هذه؟ قالت: فلانة- تذكر من صلاتها- قال: «مه عليكم بما تطيقون، فوالله لا يملّ الله حتى تملوا». وكان أحبّ الدين إليه ما دام عليه صاحبه.
قال: سيدنا الفقيه- رضي الله عنه:- إن قال قائل: كيف موقعها من زيادة الإيمان ونقصانه؟.
قلنا: لأن الذي يتصف بالدوام والترك، إنما هو العمل. وأما الإيمان فلو تركه لكفر، دلّ على أن العمل الدائم هو الذي يطلق عليه أنه أحبّ الدين إلى الله عز وجل، وإذا كان هو الدين كان هو الإسلام لقوله: {إن الدين عند الله الإسلام} [آل عمران: 19].
.باب زيادة الإيمان ونقصانه:
وقوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} [المائدة: 3]. فإذا ترك شيئاً من الكمال فهو ناقص.
فيه أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن بُرّة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن ذرة من خير».
وفيه عمر: إن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً. قال أي آية؟ قال: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} [المائدة: 3] وذكر الحديث.
قال سيدنا الفقيه- رضي الله عنه-: في الآية تصريح بإكمال الدين، وتصوّر إكماله يقتضي تصوّرّ نقصانه. ولا يحمل على التوحيد، لأنه كان كاملاً قبل نزول هذه الآية. وأما الحديث فوجه دلالته أنه فاوت بين الإيمان القائم بالقلب، ولو كان هو التصديق خاصة لكان واحداً.
.باب الزكاة من الإسلام:
وقوله: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصَّلاةَ ويؤتُوا الزَّكاةَ وذَلك ديْنُ القَيّمَة} [البيّنة: 5].
فيه طلحة بن عبيد الله: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد، ثائر الرأس يسمع دويُّ صوته ولا يفقه ما يقول، حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإسلام. فقال: «خمس صلوات في اليوم والليلة، وصيام رمضان، والزكاة». فقال: هل عليّ غيرها؟ قال: «لا إلا أن تطوع». فأدبر الرجل يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص. قال: «أفلح إن صدق».
قال سيدنا الفقيه- رضي الله عنه-: موضع الاستشهاد قوله: {وذلك دين القيّمَة}. إشارة إلى أن الصلاة والزكاة، دل أنهما من الدين، والدين الإسلام.
.باب خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر:
وقال إبراهيم التيمي: ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذباً.
وقال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل.
ويذكر عن الحسن: ما خافه إلا مؤمن، وما أمنه إلا منافق، وما يحذر من الإصرار على التقاتل والعصيان من غير توبة، لقوله عز وجل: {ولم يصرُّوْا على ما فعلوا وهم يعلمون} [آل عمران: 135].
فيه زبيد: سألت أبا وائل عن المرجئة فقال حدثني عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر».
وفيه عبادة: أن النبي صلى الله عليه وسلم، خرج يخبر بليلة القدر فتلاحى رجلان فرفعت.
قال الفقيه- رضي الله عنه-: انتقل من الرد على القدرية إلى الرد على المرجئة، وهما ضدان: القدرية تكفّر بالذنب، والمرجئة تهدر الذنب بالكلية. والذي ساقه في الترجمة صحيح في الردّ عليهم.
.باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة ولكل امرئ ما نوى:
فدخل فيه الإيمان، والوضوء، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والأحكام.
وقال الله تعالى: {وقل كل يعمل على شاكلته} [الإسراء: 84]على نيته.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ولكن جهاد ونية».
فيه عمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الأعمال بالنية ولكل امرئ ما نوى، فمن كان هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه».
وفيه أبو مسعود: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أنفق الرجل على أهله- وهو يحتسبها- فهو له صدقة».
وفيه سعد: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى ما تجعل في في امرأتك».
وقال الفقيه- رضي الله عنه-: المرجئة تزعم أن المعتبر الإيمان باللسان، ولا حظ للقلب فيه، فردّ عليهم باعتبار نية القلب في الأعمال مطلقاً فدخل الإيمان وغيره من العبادات.
.باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة لله، ولرسوله ولأئمة المسلمين، وعامتهم»:
وقوله عز وجل: {إذا نصحوا لله ورسوله} [التوبة: 91].
فيه جرير: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم.
وفيه: أن جريراً قام يوم مات المغيرة بن شعبة فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: عليكم باتقاء الله وحده لا شريك له، والوقار، والسكينة، حتى يأتيكم أمير. فإنما يأتيكم الآن. ثم قال: استعفوا لأميركم، فإنه كان يحب العفو. ثم قال: أما بعد! فإني أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: أبايعك على الإسلام، فشرط عليّ: «والنصح لكل مسلم». وربّ هذه البنية إني ناصح، ثم استغفر ونزل.
قال الفقيه- رضي الله عنه-: جاء حديث بلفظ الترجمة (الدين النصيحة)، ولم يدخله البخاري إنما أدخل معناه في الحديث الذي أورده.
ووجه المطابقة أنه صلى الله عليه وسلم بايعهم على الإسلام وعلى النصيحة، كما بايعهم على الإسلام دلّ أنها معتبرة بعد الإسلام، خلافاً للمرجئة، إذ لا تعتبر عندهم سوى الإسلام، ولا يضّر الإخلال بما عداه. وظن الشارح أن مقصود البخاري الرد على من زعم أن الإسلام التوحيد، ولا يدخل فيه الأعمال، وهم القدرية، وهو ظاهر في العكس، لأنه لما بايعه على الإسلام، قال له: «وعلى النصيحة». فلو دخلت في الإسلام لما استأنف لها بيعة. والله أعلم.
.كتاب العلم:
.باب الاغتباط في العلم والحكمة:
وقال عمر- رضي الله عنه-: تفقهوا قبل أن تسودوا.
وقال أبو عبدالله البخاري: وبعد أن تسودوا.
فيه ابن مسعود: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنين، رجل آتاه الله مالاً، فسلّطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة، فهو يقضي بها ويعلّمها».
قال الفقيه- رضي الله عنه-: وجه مطابقة قول عمر- رضي الله عنه- للترجمة أنه جعل السيادة من ثمرات العلم، وأوصى الطالب باغتنام الزيادة قبل بلوغ درجة السيادة. وذلك يحقق استحقاق العلم، لأنه يغتبط به صاحبه، لأنه سبب سيادته.
.باب ما ذكر في ذهاب موسى في البحر إلى الخضر:
وقوله: {هل أبتعك على أن تعلمن مما علمت رشداً} [الكهف: 66].
فيه ابن عباس: إنه تمارى هو والحرّ بن قيس في صاحب موسى صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس: هو خضر. فمرّ بهما أبيّ بن كعب، فدعاه ابن عباس، فقال: إني تماريت أنا صاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل موسى عليه السلام السبيل إلى لقيه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «بينما موسى في ملأ من بني إسرائيل، جاءه رجلّ فقال له: هل تعلم أحداً أعلم منكّ؟ فقال موسى: لا، فأوحى الله إلى موسى، بلى! عبدنا خضر، فسأل موسى السبيل إليه، فجعل الله له الحوت آية. وقيل له: إذا فقدت الحوت فارجع فإنك ستلقاه». وذكر الحديث.
قال الفقيه وفقه الله: موقع قوله: «في البحر» من الترجمة، التنبيه على شرف التعليم، حتى جاز في طلبه المخاطرة بركوب البحر، وركبه الأنبياء في طلبه، بخلاف طلب الدنيا في البحر فقد كرهه بعضهم، واستثقله الكل، ووجه مطابقته للقصة: إن موسى عليه السلام قال للخضر: هل أتبعك على أن تعلمن فاتبعه ليتعلم منه في البحر حال ركوبهما السفينة، وفي البر حال سيرهما في البر، بعد النزول.
.باب فضل من عَلِمَ وعَلَّمَ:
فيه أبو موسى: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكان منها نقيةٌ قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادبُ أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ. فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعني ما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به». وقال إسحاق قيلت الماء مكان قبلت.
قلت: رضي الله عنك! إن قال قائل: ما موقع فضل العلم والتعلم من الحديث؟ وإنما هو تمثيل للحالين. قيل له: قد شبة صاحب العلم في نفعه للخلق بالغيث، وشبه متحمل العلم في ذكائه بالأرض الطيبة المنبتة. وناهيك بهما فضلا.
.باب رفع العلم، وظهور الجهل:
وقال ربيعة: لا ينبغي لأحد عنده شيء من العلم أن يضيع نفسه فيه أنس: قال لأحدثكم حديثا لا يحدثكم أحد بعدي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن من أشراط الساعة أن يقل العلم، ويظهر الجهل، ويظهر الزنا، وتكثر النساء، ويقل الرجال حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد».
قال الفقيه- رضي الله عنه- إن قلت ما وجه مطابقة قول ربيعة لرفع العلم؟.
قلت: وجهها أن صاحب الفهم إذا ضيع نفسه فلم يتعلم، أفضى إلى رفع العلم، لأن البليد لا يقبل العلم، فهو عنه مرتفع. فلو لم يتعلم الفهم لارتفع العلم عنه أيضا، فيرتفع عموماً، وذلك من الأشراط التي لا تقارن في الوجود إلاَّ شرار الخلق. فعلى الناس أن يتوقوها ما أمكن.
.باب فضل العلم:
فيه ابن عمر- رضي الله عنه-: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بينا أنا نائم، أوتيت بقدح لبن، فشربت حتى إنيّ لا أرى الريَّ يخرج من أظفاري. ثم أعطيتُ فضلي عمر بن الخطاب». قالوا: فما أوّلته يا رسول الله! قال: «العلم».
قال الفقيه- رضي الله عنه-: إن قلت: ما وجه الفضيلة في الحديث؟
قلت: لأنه عبر عن العلم بأنه فضلة النبي صلى الله عليه وسلم، ونصيب مما آتاه الله. وناهيك له فضلاً، إنه جزء من النبوّة.
.باب السمر في العلم:
فيه ابن عمر- رضي الله عنه-: صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم العشاء في آخر حياته، فلما سلم قام فقال: «أرأيتكم هذه، فإن رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد».
وفيه ابن عباس: بتُّ في بيت خالتي ميمونة بنت الحارث- زوج النبي صلى الله عليه وسلم وكان النبي صلى الله عليه وسلم عندها في ليلتها، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم العشاء، ثم جاء إلى منزله فصلى أربع ركعات، ثم صلى ركعتين، ثم نام، ثم قام، ثم قال: نام الغليم- أو كلمة تشبهها- ثم قام، فقمت عن يساره، فجعلني عن يمينه، فصلى خمس ركعات، ثم صلى ركعتين، ثم نام حتى سمعت غطيطه أو خطيطه. قال إن قيل: أين السمر في حديث ابن عباس؟ ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن نفسه، أنه تكلم تلك الليلة، إلا قوله صلى الله عليه وسلم: «نام الغليم» أو نحوه، وهذا ليس بسمر. قيل: يحتمل أنه يريد هذه الكلمة فيثبت بها أصل السمر. ويحتمل أن يريد ارتقاب ابن عباس لأحواله صلى الله عليه وسلم، ويتبعه. ولا فرق بين التعلم من الحديث والتعلم من الفعل. فقد سهر ابن عباس ليلته في طلب العلم، وتلقيه من الفعل والتعلم مع السهر، هو معنى السمر. والغاية التي كره لها السمر إنما هي السهر خوف التفريط في صلاة الصبح، فإذا كان سمر العلم، فهو في طاعة الله فلا بأس. والله أعلم.
.باب ما يستحب للعالم إذا سئل أي الناس أعلم أن يكل العلم إلى الله عز وجل:
فيه ابن عباس: عن أبيّ بن كعب قال: قام موسى عليه السلام خطيباً في بني إسرائيل فسئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا أعلم. فعتب الله عليه إذ لم يردَّ العلم إليه، فأوحى الله إليه أن عبداً من عبادي بمجمع البحرين، هو أعلم منك. قال: يا ربّ وكيف به؟ فقيل له: احمل حوتاً في مكتل فإذا فقدته فهو ثم. فانطلق معه فتاه يوشع بن النون، وحملا حوتاً في مكتل حتى كانا عند الصخرة، وضعا رءوسهما فناما. فانسل الحوت من المكتل فاتخذ سبيله في البحر سربا. وذكر الحديث.
قال الفقيه- وفقه الله-: ظنّ الشارح أن المقصود من الحديث التنبيه على أن الصواب من موسى كان ترك الجواب، وأن يقول: لا أعلم. وليس كذلك، بل ردّ العلم إلى الله متعين أجاب أو لم يجب. فإن أجاب، قال: الأمر كذا، والله أعلم. وإن لم يجب قال: الله أعلم.
ومن هنا تأدّب المفتون في أجوبتهم بقوله: والله أعلم. فلعل موسى لو قال: أنا، والله أعلم، لكان صواباً. وإنما وقعت المؤاخذة باقتصاره على قوله: أنا أعلم. فتأمله.
.باب من سأل وهو قائم عالماً جالساً:
فيه أبو موسى: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ما القتال في سبيل الله؟ فإن أحدنا يقاتل غضباً، ويقاتل حمية. فرفع إليه رأسه- قال: وما رفعه إليه إلا أنه كان قائماً- فقال: «من قاتل أن تكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله».
قال الفقيه- رضي الله عنه-: إن قيل: ما موقع الترجمة من الفقه؟.
قلت: موقعها التنبيه على أن مثل هذا مستثنى من قوله: «من أحبّ أن يتمثل له الناس قياماً، فليتبوأ مقعده من النار». فنبه بهذا الحديث على أن مثل هذه الهيئة مع سلامة النفس مشروعة. والله أعلم.
.باب من أجاب السائل أكثر مما سأله:
فيه ابن عمر: إن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم ما يلبس المحرم؟ فقال: «لا يلبس القميص، ولا العمامة، ولا السراويل، ولا البرنس، ولا ثوباً مسه الزعفران، ولا الورس. فإن لم يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما حتى يكونا تحت الكعبين».
قال الفقيه- وفقه الله تعالى-: رحمة الله على البخاري أنّه أمعن في استنباط جواهر الحديث التي خفيت على الكثير. وموقع هذه الترجمة من الفوائد، التنبيه على أن مطابقة الجواب للسؤال حتى لا يكون الجواب عاماً، والسؤال خاصاً، غير لازم، فيوجب ذلك حمل اللفظ العام الوارد على سبب خاص على عمومه، لا على خصوص السبب، لأنه جواب وزيادة فائدة. وهو المذهب الصحيح في القاعدة.
ويؤخذ منه أيضاً: أن المفتى إذا سئل عن واقعة، واحتمل عنده أن يكون السائل يتذرع بجوابه إلى أن يعديه إلى غير محل السؤال، وجب عليه أن يفصّل جوابه، وأن يزيده بياناً، وأن يذكر مع الوقعة ما يتوقع التباسه بها. ولا يعّد ذلك تعدياً بل تحرياً. وكثير من القاصرين يدفع بما لا ينفع، ويأتي بالجواب أبتر تسرعاً، لا تورعاً. والزيادة في الحديث بقوله: «فإن لم يجد النعلين» إلى آخره. والله أعلم.
.كتاب الوضوء:
.باب لا تقبل صلاة بغير طهور:
فيه أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ». قيل: ما الحدث يا أبا هريرة؟ قال: فساء أو ضراط.
قلت:- رضي الله عنك-! إن قلت: لم ترجم على العموم، وحديث أبي هريرة في المحدث في الصلاة، ولهذا قال: فساء أو ضراط، لأنه غالب ما يسبق في الصلاة، لا البول والغائط؟ قلت: نبّه بذلك على التسوية بين الحدث في الصلاة، والحدث في غيرها، لئلا يتخيل الفرق كما فرق بعضهم بين أن يشك في الحدث في الصلاة فيتمادى، ويلغي الشك، وبين شكّه في غير الصلاة فيتوضأ ويعتبر الشك. والله أعلم.
.باب التماس الوضوء إذا حانت الصلاة:
وقالت عائشة رضي الله عنها: حضرت الصبح، والتمس الماء فلم يوجد فنزل التيمم.
فيه أنس: رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم، وحانت صلاة العصر، فالتمس الناس الوضوء. فلم يجدوه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الإناء يده، وأمر الناس أن يتوضئوا منه. قال، فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه حتى توضئوا من عند آخرهم.
قلت: رضي الله عنك- موقع الترجمة من الفقه، التنبيه على أن الوضوء لا يجب قبل الوقت.
.باب الرجل يوضئ صاحبه:
فيه ابن عباس: عن أسامة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أفاض من عرفة عدل إلى الشعب، فقضى حاجته. قال أسامة: فجعلت أصب عليه، ويتوضأ. فقلت: يا رسول الله أتصلي؟ قال: «المصلى أمامك».
وفيه المغيرة: أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، وأنه ذهب لحاجة له، وأن المغيرة جعل يصب عليه وهو يتوضأ، فغسل وجهه ويديه، ومسح برأسه، ومسح على الخفين.
قلت:- رضي الله عنك-: قاس البخاري توضئة الغير له على صبّه عليه، لاجتماعهما في معنى الإعانة على أداء الطاعة. والله أعلم.
.باب استعمال فضل وضوء الناس:
أمر جرير بن عبدالله أهله أن يتوضئوا بفضل سواكه فيه أبو جحيفة: خرج النبي صلى الله عليه وسلم بالهاجرة فأتى بوضوء فتوضأ فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه، فيتمسحون به.
وقال أبو موسى: دعا النبي صلى الله عليه وسلم بقدح فيه ماء، فغسل يديه ووجهه، ومج فيه. ثم قال لهما: «اشربا منه، وافرغا على وجوهكما، ونحوركما».
وفيه محمود بن الربيع: إن النبي صلى الله عليه وسلم مجّ في وجهه- وهو غلام- من بئرهم.
وفيه المسور: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ يقتتلون على وضوئه.
وفيه السائب: ذهبت بي خالتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إن ابن أختي وقع، فمسح رأسي، ودعا لي بالبركة، ثم توضأ فشربت من وضوئه. الحديث.
قلت:- رضي الله عنك-! إن قيل: ترجم على استعمال فضل الوضوء ثم ذكر حديث السواك والمجة فما وجهه؟
قلت: مقصوده: الردّ على من زعم أن الماء المستعمل في الوضوء لا يتطهر به، لأنه ماء الخطايا، فبين أن ذلك لو كان صحيحاً وأن الخطايا تحدث في عين الماء شيئاً ينافي الاستعمال لكان نجساً، لأن النجس المبعد، والخطايا يجب إبعادها شرعاً. ومع ذلك فيجوز استعماله لغير الطهارة، كالتبرك والتعوذ ونحوه. هذا إن احتجوا بأنه ماء الخطايا. وإن احتجوا بأنه مضاف فهو مضاف إلى طاهر لم يتغير به، لأنه الريق الذي يخالطه عند المضمضة مثلاً، طاهر بدليل حديث السواك والمجة. وكذلك ماء لعله يخالطه من غبرات الأعضاء بطريق الأولى لأنها موهومة لا محققة. والله أعلم.
.باب الوضوء من النوم، ومن لم ير من النعسة والنعستين، والخفقة وضوءاً:
فيه عائشة رضي الله عنها: إن رسول الله قال: إذا نعس أحدكم، وهو يصلي، فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإن أحدكم إذا صلى- وهو ناعس- لا يدري لعله يستغفر فيسبَّ نفسه.
وفيه أنس: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا نعس أحدكم في الصلاة، فلينم حتى يعلم ما يقول.
قال سيدنا الفقيه- وفقه الله-: إن قلت: كيف مخرج الترجمة من الحديث، ومضمونها أن لا يتوضأ من النعاس الخفيف، ومضمون الحديث النهي عن الصلاة مع النعاس؟.
قلت: إما أن يكون يلقاها من مفهوم تعليل النهي عن الصلاة حينئذ، بذهاب العقل المؤدي إلى أن يعكس الأمر، يريد أن يدعو فيسبّ نفسه، دلّ أنه لم يبلغ هذا المبلغ صلى به.
وإما أن يكون تلقّاها من كونه إذا بدأ به النعاس- وهو في النافلة- اقتصر على إتمام ما هو فيه، ولم يستأنف أخرى، فتماديه على ما كان فيه يدلّ على أن النعاس اليسير لا ينافي الصلاة. وليس بصريح في الحديث بل يحتمل قطع الصلاة التي هو فيها، ويحتمل النهي عن استئناف شيء آخر والأول أظهر.
.باب الوضوء من غير حدث:
فيه أنس: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة.
قلت: كيف كنتم تصنعون؟ قال: يجزئ أحدنا الوضوء ما لم يحدث.
وفيه سويد بن النعمان: إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العصر يوم حنين، ثم صلى المغرب، ولم يتوضأ.
قلت:- رضي الله عنك- ساق حديث سويد عقيب الحديث الأوّل، لينبّه على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ بالأفضل في تجديد الوضوء من غير حدث، لا أنه واجب عليه بدليل حديث سويد.
.باب ما يقع من النجاسات في السمن والماء:
وقال الزهري: لا بأس بالماء ما لم يغيره لون، أو طعم، أو ريح.
وقال حماد: لا بأس بريش الميتة.
وقال الزهري: في عظام الموتى نحو الفيل وغيره: أدركت ناساً من سلف العلماء يمتشطون بها، ويدهنون فيها، ولا يرون بها بأساً.
وقال ابن سيرين وإبراهيم: لا بأس بتجارة العاج.
فيه ميمونة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرة سقطت في سمن، فقال: «ألقوها وما حولها، وكلوا سمنكم».
وفيه أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل كلم يكلمه المسلم في سبيل الله، يكون يوم القيامة كهيئتها، إذ طعنت، تفجر دماً: اللون لون الدم، والعرف عرف المسك».
قلت:- رضي الله عنك- مقصوده في الترجمة أن المعتبر في النجاسات الصفات، فلما كان ريش الميتة لا يتغير بتغيرها، لأنه لا تحله الحياة طهر، وكذلك العظام، وكذلك الماء إذا خالطه نجاسة ولم يتغير، وكذلك السمن البعيد عن موقع الفأرة إذا لم يتغير. ووجه الاستدلال بحديث دم الشهداء أنه لمّا تغيرت صفته إلى صفة طاهر وهو المسك، بطل حكم النجاسة فيه، على أن القيامة ليست دار أعمال، ولا أحكام. وإنما لما عظم الدم لحيلولة صفته إلى صفة ما هو مستطاب معظم في العادة، علمنا أن المعتبر الصفات، لا الذوات. والله أعلم.
.باب لا يبول في الماء الدائم:
فيه أبو هريرة: قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «نحن الآخرون السابقون» وبإسناده قال: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل فيه». قلت:- رضي الله عنك- إن قلت كيف طابق قوله:- نحن الآخرون السابقون مقصود الترجمة؟ وهل ذلك لما قيل: إن هماماً راويه روى جملة أحاديث عن أبي هريرة، استفتحها له أبو هريرة بحديث: «نحن الآخرون السابقون» فصار همام مهما حدث عن أبي هريرة ذكر الجملة من أولها واتبعه البخاري في ذلك، أو تظهر مطابقة معنوية؟.
قلت: تمكن المطابقة، وتحقيقها: أن السر في اجتماع التأخر في الوجود، والسبق في البعث لهذه الأمة أن الدنيا مثلها للمؤمن مثل السجن. وقد أدخل الله فيه الأولين والآخرون على ترتيب. فمقتضى ذلك أن الآخر في الدخول أوّل في الخروج، كالوعاء إذا ملأته بأشياء وضع بعضها فوق بعض، ثم استخرجتها، فإنما يخرج أولاً ما أدخلته آخراً. فهذا هو السر في كون هذه الأمة آخراً في الوجود الأول، أوّلاً في الوجود الثاني. ولها في ذلك من المصلحة: قلة بقائها في سجن الدنيا، وفي أطباق البلى بما خصها الله به من قصر الأعمار، ومن السبق إلى المعاد. فإذا فهمت هذه الحقيقة تصور الفطن معناها عاماً، فكيف يليق بلبيب أن يعمد إلى أن يتطهر من النجاسة، ومما هو أيسر منها، من الغبرات والقترات، فيبول في ماء راكد ثم يتوضأ منه. فأوّل ما يلاقيه بوله الذي عزم على التطهير منه، فهو عكس للحقائق وإخلال بالمقاصد، لا يتعاطاه أريب ولا يفعله لبيب. والله أعلم؟ والحق واحد، وإن تباعد ما بين طرقه. وسيأتي للبخاري ذكر حديث: «نحن الآخرون السابقون» في قوله: «الإمام جنة يتقى به ويقاتل من ورائه». أي هو أول في إسناد الهمم والعزائم إلى وجوده. وهو آخر في صورة وقوفه، فلا ينبغي لأجناده إذا قاتلوا بين يديه، أن يظنوا أنهم حموه، بل هو حماهم، وصان بتدبيره حماهم، فهو وإن كان خلف الصف، إلا أنه في الحقيقة جنة أما الصف وحق للإمام أن يكون محله في الحقيقة الأمام. والله أعلم.
25/11/2024, 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
25/11/2024, 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
25/11/2024, 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
25/11/2024, 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
25/11/2024, 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
25/11/2024, 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin