الماء بين الخرافة والكرامة من خلال بعض النصوص التاريخية بالمغرب ـ فاطمة الزهراء الدبياني
فاطمة الزهراء الدبياني
مقدمة:
حديثنا عن الماء يدفعنا لا محالة لتبيان أهمية هذه المادة كعنصر حياتي حيث "احتل الماء في الحضارة والتراث الإسلاميين مكانة عظيمة، وتبدو مكانته هذه بجلاء من خلال اهتمام القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة بهذا السائل المبارك باعتباره أصل الحياة كلها"[1] مصداقا لقوله تعالى " وَجَعَلْنَاْ مِنَ المَاْءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاْ يُؤْمِنُوْنَ "[2]، وتكفينا هذه الآية الكريمة للدلالة على أهمية الماء في حياتنا، حتى لا نبالغ إن قلنا إن الله عز وجل جعل منه السر الدفين لكل شيء حي على هذه الكرة الأرضية وباختفائه تختفي الحياة.
وارتبط الماء بحياة البشر ارتباطا وثيقا سواء أكانوا أفرادا، قبائل أو حتى شعوبا وأمم، وهذا يرجح ما للماء من أهمية كونية، وقد تجاوزت مساهمته في الحياة حدود الاستعمال اليومي وما يرتبط به من أمور العبادات والحاجات اليومية من شرب، وطهارة ووضوء ليتجلى في خوارق وكرامات وخرافات تضمنت مجموعة من الدلالات الرمزية ذات الأبعاد الاجتماعية والخلفيات التربوية والدينية، ولعل ذلك مرده إلى أن الإنسان لم يعرف أصل الماء في الوقت الذي أدرك أهميته الكبيرة وحاجته الماسة والمستمرة إليه فأحاطه بهالة من التقديس وصنع حوله كما من القصص والاعتقادات.
وحتى لا اسقط في النمطية، ارتأيت البحث في تفسير بعض الخرافات والقصص الصوفية المترسخة في ذهنية الإنسان المغربي، مما ورد في بعض نصوص كتب التاريخ الإخبارية وما احتفظت به ذاكرة المغاربة من قصص ومقولات شفهية تناقلتها الأجيال واحتفظت ببعضها العادة وإن درست منها الأيام جزءا كبيرا من القيمة الرمزية والاعتقاد المنحرف بخوارق الطبيعة وتجسد الآلهة وتمثل القوى الغيبية.
وتأتي محاولتي في هذا العرض في إطار بحث عن عناصر التركيبة الخرافية والقصصية المشكلة حول الماء، في محاولة لتبيان أبعادها الاجتماعية وأصول بعضها الدينية، معتمدين على قراءة بعض النصوص التاريخية مما جادت به علينا بعض كتب التاريخ والمناقب وذاكرة الأجيال، وعلى هذا الأساس جاء تصميم عرضي وفق المحاور الكبرى الآتية:
المحور الأول: الماء في الذهنية المغربية
المحور الثاني: الماء والخرافة من خلال نصوص وطقوس
المحور الثالث: الماء و"الكرامة" من خلال بعض القصص
لكن قبل الولوج إلى الموضوع أسجل بداية، أن البحث في تاريخ الذهنية المغربية بحر لا ساحل له، وما محاولتي هذه إلا شِرْبَةٌ[3] من هذا البحر.
المحور الأول: الماء في الذهنية المغربية
يعتبر البحث في قضايا التاريخ الذهني بالمغرب من بين المواضيع الجديدة على حقل البحث التاريخي وهو ما جعلها تكتسي من الصعوبة الشيء الكثير، لما للأمر من حداثة الطرح والحاجة الكبيرة إلى التحليل والتخيل والتفسير وبالتالي ضرورة الإطلاع والانفتاح على مختلف المعارف العلمية، فما هي الذهنية؟ وما هي علاقتها بالماء؟ وكيف تمثل الماء في ذهن الإنسان المغربي؟
1. تعريف الذهنية:
الذهن: الفهم والعقل، والذهن أيضا حفظ القلب، والجمع أذهان، "تقول اجعل ذهنك إلى كذا وكذا، وذَهنْتُ عن كذا فهمت عنه، ويقال ذهنني عن كذا وأذْهنني واستذهنني أي أنساني وألهاني عن الذِّكر، وذاهنني فَذَهَنْتُه: فاطنني فكنت أجود منه ذِهْنًا"[4]، فللذهنية إذن حسب التعريف اللغوي علاقة بالعقل وإعماله وبالتالي بما يرتبط به من تفطن وتأمل وتفكير.
2. الماء وذهنية المجتمع:
تعود أهمية الماء إلى ضرورته لاستمرار الحياة، فهو أصلها ومنشؤها بالسند القرآني[5]، قال تعالى: "وجعلنا من الماء كل شيء حي"[6]، وهو كذلك "عرش الحياة"[7]، والمقصود هنا قوله تعالى " وكان عرشه على الماء"[8]، فالماء شريان الحياة وبدونه لا نستطيع العيش، وما انعكاس أهميته في النص القرآني، حيث ذكر في سياقات مختلفة من حين تشكل السحب إلى النزول على شكل غيث وعذاب[9] إلى التمثيل به كنموذج للإحياء والإنماء، إلا تعبير صريح على ما أودعه فيه الخالق سبحانه وتعالى من أسرار قد لا ندركها جميعا، وقد لا يكفي العلم الحديث بالرغم مما وصل إليه من تقدم علمي من سبر جميع أغواره. ولعل في هذه الأهمية البالغة للماء وأسراره الدفينة ما دفع الإنسان منذ الأزل غلى ربطه بهالة من القدسية والخرافة وتصويره على خلفية من الخيال والإكبار، فكان أن ألهه البعض وربطه البعض بقوى الغيب من آلهة المطر والخصب، كما رأى فيه آخرون وجها لغضب الآلهة وأداة للعقاب، وبالتأكيد فلم يخرج المغاربة عن هذا الإطار وهذا النمط من التفكير فكان أن وجد الماء طريقا إلى تفكيرهم في الكون وتصورهم للطبيعة والخلق.
3. تمثل المغاربة للماء:
ترجع جذور بعض من العادات والتقاليد المغربية المرتبطة بالماء، لفترات ضاربة في القدم فطقوس مثل "تاغنجا" التي تجعل المطر مرتبطا بقوى إلهية مجسدة في سيد المطر أو إله الخصب، وعلى أية حال فقد شكل مثل هذا الاعتقاد إلى جانب الحضور المستمر للماء في جل أنشطة الإنسان المغربي اليومية مجالا لتداول عدد من الخرافات والقصص والمقولات التي تعكس وبجلاء ذهنية إنسان تأثر بمحيطه الطبيعي وأثر فيه.
تشكل إذن ذهنية الإنسان المغربي في ارتباطها بالماء، خزانا لمجموعة من المعتقدات والأفكار التي تمزج بين المعقول والخرافي، مُجَسِّدَةً تَمَثُلاً جماعيا للماء، إذ أن "الذهنية تشترط وجود ذات اجتماعية مستعدة لتمثل مشكلة الماء واسْتِيطَانِهَا والتَّطَبُّعِ بها، لكي تتحول هذه الأخيرة (مشكلة الماء) إلى خطاب وسلطة رمزيين وإطار دَلاَلِي رَاسِمَةً بذلك الحدود أمام الفرد والمجتمع للاندماج وتحقيق الهوية"[10]، فالإرث الذهني إذن انتقل من تخيل فلسفي للماء إلى خطاب وسلطة تبرزان هوية المجتمع أو الجماعة المنشأة له هدفهما خلق جسر لإدماج الفرد ضمن المجتمع وإخضاعه لسلطة الجماعة ومتخيلها الخاص بالماء.
يحضر الماء في المتخيل الشعبي في مناسبة الطعام كأكثر الأنشطة اليومية التصاقا بالإنسان، بوضوح في استحضاره كضرورة لازمة له فنجد مثلا القول المأثور "الطَّعَامْ بْلاَ مَا، مِنْ قلَِّةْ الفْهَامَة"ـ وهي دعوة صريحة لضرورة تواجده صحبة الطعام، بل إنه ارتبط باللباقة وأدب الضيافة، ومن الأقوال المتداولة في علاقة بالماء كذلك نذكر قولهم (المغاربة) "وكْسرْتِي ومَايَا ولاَ حْدِيثْ قْفَايَا"[11] أي أن الطعام والماء خير من حديث غير مفيد، لا يتوقف ارتباط الأقوال المغربية بالماء عند هذا الحد بل نجده حاضرا كذلك ضمن أدعيتهم بالخير للغير، فنجد مثلا قولهم " الله يْجَعْلكْ كِي المَا تخرج منَّكْ كُلْ نعْمَة"[12]، وهذا دعاء يبرز مدى إدراك الإنسان المغربي للماء وضرورته في الحياة.
من جهة أخرى فإن حديثنا عن المجتمع المغربي يجرنا حتما إلى الحديث عن الدين الإسلامي الحنيف والذي شكل الماء "رأسمال رمزي فيه"[13]، إذ يعتبر أحد أهم أنساق ثقافته وهويته، ومن هنا كان لفعل النظافة والسعي الدائم نحو التطهر مبرره في المتخيل المغربي للماء، وهو من هذا المنطلق أداة للتخلص من الذنوب، فكان أن ارتبط حضوره في دعاء البدء في الصلاة "اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد"[14]، وهو عماد الوضوء الذي يسبق الصلاة، وغسل الميت المقبل على المحاسبة في القبر، فالماء هو الذي "يرد الفرد من ذلك الوضع الاستثنائي إلى الحياة العادية أي أنه يرده إلى المجتمع وبذلك يعود التوازن إلى العلاقات التي تربطه بالآخرين"[15]، ومن جهة أخرى يحضر الماء كأداة للتبرك والتداوي، وهو ما سأقف على بعض منه بحول الله في القادم من النقاط.
يسعفنا القول إذن أن الهالة المحاطة بالماء راجعة بالأساس إلى استخداماته المتعددة في مختلف الشعائر والطقوس الدينية، وكذا في أنشطة الحياة اليومية الاجتماعية والاقتصادية.
المحور الثاني:الماء والخرافة من خلال نصوص وطقوس
يعتبر البحث في الجانب الخرافي لكل وعي بشري أحد المفاتيح الأولى لفهم تفكيره ووعيه، فقد شكلت هذه الأخيرة إحدى الملاجئ الرئيسية للإنسان في بحثه عن تفسير لبعض المظاهر الطبيعية التي يصعب عليه فهمها أول الأمر، فهي جزء إذن من الأسطورة وحلقة أساسية في تطور الفكر البشري، فما هي الخرافة؟ وما هي بعض معالمها في التفكير المغربي المرتبط بالماء؟
1. تعريف الخرافة:
لغة: "الخَرْفُ بالتحريك فساد العقل من الكبر وقد خَرف الرجل بالكسر يَخْرَفُ خِرَفا فهو خَرْفٌ: فسد عقله من الكبر، والأنثى خَرِفه وأخْرفه الهرمُ"[16]
اصطلاحا: تعرف الخرافة اصطلاحا على أنها "الحديث المستملح من الكذب"[17]، ويقال حديث خرافة و"ذكر الكلبي في قولهم حديث خرافة أن خرافة من بني عذرة أو من جهينة اختطفه الجن ثم رجع إلى قومه فكان يحدث بأحاديث مما رأى يعجب منها الناس فكذبوه فجرى على ألسن الناس "[18]، فالخرافة إذن حديث لا يستند إلى منطق العقل البشري، ويخالف المعقول بل ويقرب الكذب، إن لم يكن كذبا حقا.
2. بعض الخرافات المائية بالمغرب:
ترتبط بالذهنية المغربية في علاقتها بالماء عدد من القصص والروايات الخرافية نجد من ضمنها ما دونه بعض المؤرخين المغاربة من نصوص، والتي سأسعى من خلال هذه النقطة للوقوف عليها، في شكل مواضيع متتابعة مقرونة ببعض التفسير.
خرافة الطلاسم السحرية:
يتحدث الحسن الوزان، في مؤلفه "وصف إفريقيا"، عن طلاسم وضعها بعض ملوك المغرب ممن حكم مدينة مراكش عند إنشائه للقنوات الجالبة للماء للمدينة، حيث قال: "ويؤكدون أن ماء نهر اغمات يصل إلى مراكش، يؤخذ بالقرب من اغمات ويتابع جريانه في قنوات تحت الأرض، وقد أمر عدد من الملوك بالبحث لمعرفة من أين يأتي هذا الماء إلى مراكش، فدخل بعض الأشخاص إلى القناة من النقطة التي يصل إليها الماء وفي أيديهم مشاعل يستضيئون بها، ولما قطعوا بعض المسافة في القناة أحسوا بهبوب ريح شديدة أطفأت مشاعلهم وهلا من القوة ما خيل إليهم أنه لا عهد لهم بمثلها، وتعرضوا أكثر من مرة لخطر عدم إمكان الرجوع إلى الوراء، لأنه بالإضافة إلى ذلك كان مجرى الماء مسدودا بكثل حجرية ضخمة ينكسر عليها الماء ليمر من هذه الجهة وتلك، وأخيرا وجدوا حفرا عميقة جدا حتى إنهم اضطروا إلى ترك محاولتهم، ولم يجسر أحد بعد ذلك على استئناف هذا العمل"[19]، لحدود هذه النقطة يقدم الوزان لنا وصفا لمحاولة من بعض الملوك لغاية معرفية قد تفيد البحث عن مصدر مياه المدينة وربما كان ذلك لأسباب أمنية تهدف إلى توظيف الماء في الضغط على ساكنتها في حالات التمرد أو الحرب، غير أن الجانب الخرافي للرواية سيتبدى من خلال الأتي من كلام الوزان حين أراد أن يقدم تبريرا للحادث فكتب "يقول المؤرخون أن الملك الذي أسس مراكش توقع بفضل معطيات بعض المنجمين أنه سيخوض معارك كثيرة، فأنجز بواسطة الفن السحري جميع هذه العوائق الطارئة في تلك القناة، حتى لا يعرف أي عدو من أين يأتي الماء إلى المدينة فلا يستطيع أن يقطعه عنها"[20].
ارتبط إذن إنشاء قنوات جلب الماء لمدينة مراكش (الخطارات)، حسب الوزان ببعض الإجراءات والطقوس السحرية[21] التي تضمن أمن مياهها في حالة الحرب، وهو ارتباط يتعلق بخوف ساكنتها من استغلال الماء في الضغط عليهم وإخضاع إرادتهم في حالات الحرب، وهذا ربما يبرر نشر أو اختراع مثل هذه القصص لإرهاب الأعداء من التعرض لمياه المدينة، فهو هاجس أمني حولته ساكنة المدينة على ما يبدو إلى خرافة تربط أمن قنوات مياه مراكش بالطلاسم السحرية.
ويتجلى الجانب الذهني في هذه الرواية بتداولها على لسان من سماهم الوزان بالمؤرخين، وهو ما يقوم على ما يبدو بين العامة من الناس بالمدينة.
الماء والعرافة[22]:
جاء في كتاب وصف إفريقيا للحسن الوزان في معرض حديثه عن بعض العرافين من أهل فاس وكيفية استخدامهم للماء في إيهام الناس بالتبصر وكشف الغيب، فيقول: " ويضم الصنف الثاني العرافين الذين يجعلون الماء في قدر لَـمَّاع، ويرمون فيه قطرة زيت فيصير شفافا، ويزعم العرافون أنهم يرون فيه كما يرون في المرآة جماعة من الشياطين القادمين بعضهم خلف بعض، كأنهم كتائب جيش تعسكر وتضرب الخيام، ويسلك بعض هؤلاء الشياطين طريق البحر وبعضهم طريق البر، وعندما يرى العراف أنهم قد استراحوا يطلب منهم ما يود معرفته فيجيبونه بإشارات باليد أو العين"[23].
فالحديث في هذا النص كما سبقت الإشارة يخص بعض العرفاء من مدينة فاس، ممن يمتهنون الخداع والمكر، واستغلال سذاجة عقول بعض أهل زمانهم، وما يهمنا هنا هو استخدام هؤلاء العرافين للماء كأسلوب للبحث في الغيب.ة إيحائية لخرافة الإبصار
يحضر الماء من خلال هذه القصة إذن كمادة نقية صافية تزداد صفاءا بإضافة قطرة زيت بها ما يشكل بقعة صافية، توهم بانفتاح بصيرة العراف على عوالم الغيب ورؤية الجن، فيبلغونه بأمور الغيب، وهو مكمن الكذب في هذه الحيلة إذ لا يختص بعلم الغيب غير الله تعالى، مصداقا لقوله عز وجل " قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) "[24]
وإذا كانت مثل هذه الحيل تنطلي على عدد ممن يعتقدون في السحر والسحرة، فإن ذلك على ما يبدو لم يكن ليقنع الوزان وإلا فما كان ليكشف الأمر ويصفه بالزعم "ويزعم العرافون..."، غير أن إيراده ضمن وصفه للمدينة دليل على تفشيه واعتقاد البعض فيه.
خرافة وساطة الموتى في استنزال المطر:
أورد علي بن أبي زرع الفاسي، في معرض حديثه عن قيام السلطان المريني "أبي سعيد" بأداء صلاة الاستسقاء بعد موجة القحط التي عرفتها البلاد سنة 711هـ، ما يلي: "فخرج ماشيا على قدميه لإقامة سنة الاستسقاء وذلك يوم الأربعاء الرابع والعشرين من شعبان من السنة المذكورة وتقدمت أمامه الصلحاء والفقهاء والقراء يدعون الله تعالى وقدم بين يدي نجواه صدقات وفرق أموالا وفي يوم السبت بعده خرج بجنده إلى قبر الشيخ أبي يعقوب الأشقر بجبل الكندوسين فدعا هناك ورحم الله تعالى عباده وغات أرضه وبلاده"[25].
يحمل النص في طياته بعض طقوس سنة الاستسقاء أخذا على سنة خير البرية صلى الله عليه وسلم، وهي صلاة نافلة تقام طلبا لنزول المطر وقطع الجفاف، غير أن في النص كذلك ملامح بعض الممارسات التي تم إحياءها مع مرور الزمن كاستدعاء بركة الموتى من الصلحاء، وهو ما يتضح في قول ابن أبي زرع "وفي يوم السبت بعده خرج في جنده إلى قبر الشيخ أبي يعقوب الأشقر... فدعا هناك ورحم الله تعالى عباده وغات أرضه وبلاده"، وهذه إشارة واضحة على ما يبدو إلى أن المغاربة كانوا يلجؤون إلى أكثر من طقس وممارسة طلبا لاستنزال المطر، والتي تتقدمها صلاة الاستسقاء بعد وصول الإسلام للمغرب غير أن ذلك لم يحدث قطيعة مع ما كان من طقوس خرافية مثل "تاغنجا" والتي ألحقت بها عدد من المتغيرات لتتلاءم مع الدين الإسلامي الحنيف، إضافة إلى ممارسات أخرى أحدثت بعد مجيء الإسلام واستغلال لنصوصه والتي نجد من أبرزها طلب بركة الصلحاء ودعواتهم المستجابة للتوسل للباري عز وجل لإنزال المطر.
طقس تاغنجا:
لعل طقس "تاغنجا" يعتبر من أقدم الطقوس الخرافية المرتبطة باستنزال المطر في المغرب، و"تاغنجا" اسم لدمية على شكل عروس تلف بقطع من الثوب، وتربط بقصبة طويلة يحملها "طفل صغير" ويلتف حوله النسوة والأطفال، وإذا كانت جذور الخرافة لا تخفى في هذا الطقس الشعبي فإن حفظ الذاكرة الشعبية له، واستمرار ممارسته بل وتشجيع ذلك تحت دعوى "حماية التراث" لَيُعَد من معالم الرسوخ والاندماج الذي حظي بهما هذا الطقس في البيئة المغربية، وإذا كان هذا الأخير بقدر انتشاره في ربوع المغرب يعرف اختلافات في صيغة الأهازيج المرافقة له، فإن توقف زملائي الطلبة عند بعضها في مناسبات سابقة يجعلني أنحو صوب الوقوف عند ممارسة هذا الطقس داخل مجال مختلف عن سابقيه وهو مجال الرحامنة[26] مستعينة برواية شفهية لسيدة من المنطقة[27]، حيث تقول:" يقوم الناس أثناء فترة الجفاف وندرة المياه باللجوء لطقس "تاغنجا" طلبا للغيث، فيعمدون إلى وضع قصبتين مختلفتي الطول على هيئة متعامدة، تم يلبسون القصبة الطويلة منهما ملابس تقليدية مغربية "تكشيطة"، لتظهر القصبة الأخرى على هيئة يدين، ثم توضع حزمة من "النعناع والحبق" أعلى القصبة الطويلة، وتحملها إحدى نسوة القرية ويتجمهر حولها باقي النسوة والأطفال الصغار، ويجلن القرية مرددات الأهازيج الآتية:
"تغنجا يا مو الرجا طلبي سيدك راه جا
تغنجا يا لبنات راه الصية[28] راه مشات"[29]
وفي أثناء طوافهن يقمن بجمع التبرعات من منازل القبيلة، والتي تتشكل في أغلبها من مواد غذائية على حسب استطاعة كل واحد ومقدرته، ويجمع حاصل هذه التبرعات لإنجاز ما يسمى بالمعروف الممثل في طبق من "العصيدة"، والذي يجتمع لأكله كل سكان القرية رجالا ونساء وأطفال".
"
إذن فبقدر ما يحمل هذا الطقس من الممارسات الخرافية، والاعتقادات الغيبية فإنه على ما يبدو يحفل ببعض الآثار الإسلامية الواضحة المعالم، فخروج النساء والصبية دليل على تقديمهم للاستشفاع من الله عز وجل للنظر إلى حالهم، كما أن عملية جمع التبرعات يوازيها عملية التصدق في سبيل الله... فهي إذن طقس خرافي بغطاء شعبي وتأويل ديني.
التنبؤ بالموت باستخدام الماء:
يقول مجهول الاستبصار في عجائب الأمصار، متحدثا عن بعض معتقدات برابرة جبل بني وارتين، حيث كتب يقول:"وموضع وادي فاس بوادي سبو على 3 أميال من المدينة وهذا الوادي نهر عظيم من أعظم أنهار بلاد المغرب، ومنبعه من جبل في بلاد بني وارتين ورأس العين في بئر غامضة يعاب الدخول فيها وهي دهسة عظيمة لا يدرك لها قعر وللبربر المجاورين لذلك الموضع تجارب منها أن المريض إذا أرادوا أن يعلموا هل هو يستريح أو يموت حملوه لرأس العين بذلك الموضع المهول، فيغطسونه فيه حتى يقرب أن يطفى، ثم يخرجونه فإن خرج على فمه دم فيستبشرون بحياته وإن لم يخرج من فمه دم أيقنوا بهلاكه، وهذا عندهم متعارف لا ينكر"[30].
حضور الماء بالنص إذن مرتبط باعتقاد خرافي، يتمثل في قدرة مياه بئر رأس العين في تحديد مصير المريض هل يواصل الحياة أم أنه ميت من مرضه ذاك، وهذا ما يخالف روح الشرع الإسلامي في كون الغيب من أمر الله واختصاصه عز وجل بتحديد الأعمار، قال تعالى:" {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ"[31]، وهو ما أدركه صاحب المؤلف كما يتضح من استغرابه من عدم إنكار الأمر، فقال: "وهو عندهم متعارف لا ينكر" أي أنه مما لا يجب إنكاره عليهم.
الاعتقاد في الماء يوم عاشوراء بسوس:
لقد جاء في مؤلف المعسول للمختار السوسي، عن كيفية إحياء سكان إيليغ ليوم عاشوراء ما يلي:"واعتاد سكان إيليغ أن يبخروا منازلهم صبيحة يوم عاشوراء دفعا لتأثير الجن، كما يتم استقاء الماء من الآبار ظنا أنها تستمد ماءها من بئر زمزم في ذلك الوقت، فيرش بذلك الماء جميع زوايا الدار تبركا"[32] للماء إذن بإيليغ يوم عاشوراء مكانة هامة فهو طارد الجن من البيوت وتحل به بركة ماء زمزم فهو إذن مبارك، وهي اعتقادات على ما يبدو لا تخلو من طابع الخرافة، وجو الاحتفاء بهذا اليوم وما يرافقه من بدع ومنكرات، مما لا يمت للدين بصلة بل لا يوجد له أصل إلا في بعض طقوس وعادات بقايا الأساطير والديانات السابقة، والتي منها رش الماء كتعبير على الفرح لنجاة نبي الله موسى عليه السلام من فرعون وملائه، والتي حورت للدلالة على طرد النحس والأرواح الشريرة، وفي هذا الصدد يقول عبد الفتاح الفاتحي:"وترتبط احتفالات يوم عاشوراء بالمغرب بعملية رش الماء، وهي عادة وتقليد عميق في الثقافة المغربية، يرتبط بعملية الغمر والغطس في الصباح الباكر ليوم عاشوراء؛ يقوم به المغاربة لطرد النحس والأرواح الشريرة، ويعتبرون أن عوم الصغار في صباح اليوم الباكر من عاشوراء ييسر نموهم بعيدا عن الأرواح الشريرة"[33]، وقد انتشر مثل هذا الطقس في مناطق أخرى بالمغرب، كما هو الحال في بعض قرى الرحامنة حيث "تلجأ ربات البيوت مع إعلان صلاة الفجر لرش كل محتويات البيت من قطيع الماشية وحبوب وغيرها، وتشمل العملية كذلك رش الأبناء، حيث يعتقد في كون نشاطه ذلك اليوم دليل نشاط وبركة تحل به طيلة العام"[34].
وبالنظر لعدم وجود سند ديني شرعي لعملية الرش هذه ولهذا التفاؤل والاعتقاد الغيبي في هذا اليوم وفي الماء، فإن الجزء الخرافي بها وحضور طقوسه الوثنية يبدو أمرا واضحا وحقيقة ساطعة، فبالرجوع إلى ديننا الحنيف وما ثبت عن رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام، وسنة صحابته الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين الأربعة ولا غيرهم، ولا روي عن أهل الكتب المعتمدة في ذلك شيء من ذلك عن الرسول صلى الله عليه وسلم[35].
ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم غير الصيام في هذا اليوم، فقد روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنه، أنه قال: " لما قدم النبي الله صلى الله عليه وسلم المدينة وجد اليهود يصومون عاشوراء، فسئلوا عن ذلك، فقالوا: هذا اليوم الذي أظفر الله فيه موسى وبني إسرائيل على فرعون، ونحن نصومه تعظيما له. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نحن أولى بموسى منكم، ثم أمر بصومه "[36]، وبناءا عليه فكل ما نجد من بدع تقام احتفاء بهذا اليوم تدخل في باب الخرافات والبدع غير المؤسسة على الدين، وبالتالي يسعنا القول عنها أنها ضرب من الخيال.
يمكن القول بأن مجموعة من الطقوس والممارسات الشعبية المرتبطة بالماء في المغرب، والتي ما يزال العديد منها مستشريا في بعض العقول والأذهان، بل ويسعى البعض تحت عدة مسميات الحفاظ عليها ودعمها لغاية في نفس يعقوب، لا يعدو أن يكون أثرا لترسبات ذهنية غدت مع الزمن طقوسا شعبية تسمح في جزء من بناها وأنساقها المعرفية للباحث في التاريخ الذهني من فهم الشخصية المغربية، غير أن انحرافها عن أساس ديننا الحنيف وهدي رسولنا الكريم وسنة خلفائه الراشدين، يجعلنا ندرك مغزى قوله صلى الله عليه وسلم:"إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة"[37]، فالبدع طريق للضلال والعياذ بالله، وفي الختم لا أجد قولا أنهي به هذا الفصل أفضل من قوله سبحانه و تعالى: "فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا "[38]
المحور الثالث: الماء والكرامة من خلال بعض القصص
خص الله سبحانه وتعالى رسله بالمعجزات[39] فهي أمر يجريه على يدي أنبيائه والغرض منها إثبات صدق نبوتهم وأنهم رسل من عنده عز وجل، كعدم إحراق النار لسيدنا إبراهيم عليه السلام، وتحول عصا سيدنا موسى لحية تسعى، ومعجزة نبوغ الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن أنس بن مالك قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحانت صلاة العصر والتمس الناس الوضوء فلم يجدوه فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده في ذلك الإناء فأمر الناس أن يتوضئوا منه. فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه صلى الله عليه وسلم، فتوضأ الناس حتى توضئوا من عند آخرهم"[40]، فهي من أعظم دلائل النبوة على ما يؤتيه الله أنبياءه – عليهم السلام- من معجزات تخرق العادات وتعطل نواميس الكون وسننه ويعجز عن إدراكها البشر؛ وذلك تأييدا لهذا الذي أكرمه الله بالنبوة أو الرسالة، وتكريما له وشاهدا وبرهانا على صدق ما جاء به من البينات والهدى[41].
وكما وجدت المعجزات مع الرسل والأنبياء فإنه قد ظهرت الكرامات والتي خُصَّ بها الأولياء، كمن من الله عليهم، والأولياء هم أهل الإيمان والتقوى الذين يخشون الله تعالى في جميع شؤونهم، فيلزمون أوامره ويجتنبون نواهيه، ويقفون عند حدوده، وقد توقف القرآن الكريم عند وصف هؤلاء الصفوة من الخلق بما لا يترك مجالا للتطفل والانتحال، قال تعالى " ألا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) "[42].
فالكرامة إذن أمر يجريه الله على يد أوليائه، ويكون على خلاف ما اعتاد عليه من سنن الكون وقوانينه كرزق مريم ثمرا، وحملها من غير أن يمسسها بشر[43]، قال تعالى في سورة مريم: " وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا، فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا " [44]، ومن الكرامات المشهورة كذلك نجد قدرة الخَضِرْ عليه السلام في كشف الغيب، قال تعالى: " وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ۚ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا"[45]...، وفي تاريخنا الإسلامي تحفل لنا المصادر التاريخية وكتب المناقب بعدد من القصص والحكايات عن ما يراه الناس من أحوال المتصوفة، من الزاهدين والورعين وصلحاء المجتمع، وإذا كان التصوف سنة نبوية وعملا مشروعا في الدين فعن ما عرفه هذا الفعل من انتحال وترامي من قبل عدد من المنتحلين والراغبين في السلطة أو لأغراض دينية، جعل من حقل التصوف أقرب إلى حقل ألغام بما فيه من الخوارق والقصص المبنية على اعتقادات جهل العامة من أفراد المجتمع وخضوع مطلق لأهواء المبتدعين، فكان أن تنبه العلماء من أبناء الأمة الإسلامية لهذا المعطى فأصدروا فتاوى تتصدى لمثل هذه الخرافات والقصص التي لا تستند إلى أساس شرعي[46].
لم يخرج التاريخ المغربي عن مثل هذا الانحراف لمسلك التصوف[47]، فظهرت العديد من الطرق والحركات الصوفية، وترعرعت داخل البيئة المغربية التي وجدت فيها مجالا خصبا للنمو والترعرع[48]، وفي حين أني لن أقف عند هذا الأمر خلال هذا العرض، لما قد يتسبب فيه ذلك من ابتعاد عن الموضوع فإني أرى الوقوف عند عدد من القصص[49] والحكايات المرتبطة بأشخاص ممن وصفوا بالولاية والكرامة، مما ارتبط منها بشكل خاص بالماء[50]، وهي عموما مأخوذة أساسا من مؤلف " التشوف إلى رجال التصوف" للتادلي.
فاطمة الزهراء الدبياني
مقدمة:
حديثنا عن الماء يدفعنا لا محالة لتبيان أهمية هذه المادة كعنصر حياتي حيث "احتل الماء في الحضارة والتراث الإسلاميين مكانة عظيمة، وتبدو مكانته هذه بجلاء من خلال اهتمام القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة بهذا السائل المبارك باعتباره أصل الحياة كلها"[1] مصداقا لقوله تعالى " وَجَعَلْنَاْ مِنَ المَاْءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاْ يُؤْمِنُوْنَ "[2]، وتكفينا هذه الآية الكريمة للدلالة على أهمية الماء في حياتنا، حتى لا نبالغ إن قلنا إن الله عز وجل جعل منه السر الدفين لكل شيء حي على هذه الكرة الأرضية وباختفائه تختفي الحياة.
وارتبط الماء بحياة البشر ارتباطا وثيقا سواء أكانوا أفرادا، قبائل أو حتى شعوبا وأمم، وهذا يرجح ما للماء من أهمية كونية، وقد تجاوزت مساهمته في الحياة حدود الاستعمال اليومي وما يرتبط به من أمور العبادات والحاجات اليومية من شرب، وطهارة ووضوء ليتجلى في خوارق وكرامات وخرافات تضمنت مجموعة من الدلالات الرمزية ذات الأبعاد الاجتماعية والخلفيات التربوية والدينية، ولعل ذلك مرده إلى أن الإنسان لم يعرف أصل الماء في الوقت الذي أدرك أهميته الكبيرة وحاجته الماسة والمستمرة إليه فأحاطه بهالة من التقديس وصنع حوله كما من القصص والاعتقادات.
وحتى لا اسقط في النمطية، ارتأيت البحث في تفسير بعض الخرافات والقصص الصوفية المترسخة في ذهنية الإنسان المغربي، مما ورد في بعض نصوص كتب التاريخ الإخبارية وما احتفظت به ذاكرة المغاربة من قصص ومقولات شفهية تناقلتها الأجيال واحتفظت ببعضها العادة وإن درست منها الأيام جزءا كبيرا من القيمة الرمزية والاعتقاد المنحرف بخوارق الطبيعة وتجسد الآلهة وتمثل القوى الغيبية.
وتأتي محاولتي في هذا العرض في إطار بحث عن عناصر التركيبة الخرافية والقصصية المشكلة حول الماء، في محاولة لتبيان أبعادها الاجتماعية وأصول بعضها الدينية، معتمدين على قراءة بعض النصوص التاريخية مما جادت به علينا بعض كتب التاريخ والمناقب وذاكرة الأجيال، وعلى هذا الأساس جاء تصميم عرضي وفق المحاور الكبرى الآتية:
المحور الأول: الماء في الذهنية المغربية
المحور الثاني: الماء والخرافة من خلال نصوص وطقوس
المحور الثالث: الماء و"الكرامة" من خلال بعض القصص
لكن قبل الولوج إلى الموضوع أسجل بداية، أن البحث في تاريخ الذهنية المغربية بحر لا ساحل له، وما محاولتي هذه إلا شِرْبَةٌ[3] من هذا البحر.
المحور الأول: الماء في الذهنية المغربية
يعتبر البحث في قضايا التاريخ الذهني بالمغرب من بين المواضيع الجديدة على حقل البحث التاريخي وهو ما جعلها تكتسي من الصعوبة الشيء الكثير، لما للأمر من حداثة الطرح والحاجة الكبيرة إلى التحليل والتخيل والتفسير وبالتالي ضرورة الإطلاع والانفتاح على مختلف المعارف العلمية، فما هي الذهنية؟ وما هي علاقتها بالماء؟ وكيف تمثل الماء في ذهن الإنسان المغربي؟
1. تعريف الذهنية:
الذهن: الفهم والعقل، والذهن أيضا حفظ القلب، والجمع أذهان، "تقول اجعل ذهنك إلى كذا وكذا، وذَهنْتُ عن كذا فهمت عنه، ويقال ذهنني عن كذا وأذْهنني واستذهنني أي أنساني وألهاني عن الذِّكر، وذاهنني فَذَهَنْتُه: فاطنني فكنت أجود منه ذِهْنًا"[4]، فللذهنية إذن حسب التعريف اللغوي علاقة بالعقل وإعماله وبالتالي بما يرتبط به من تفطن وتأمل وتفكير.
2. الماء وذهنية المجتمع:
تعود أهمية الماء إلى ضرورته لاستمرار الحياة، فهو أصلها ومنشؤها بالسند القرآني[5]، قال تعالى: "وجعلنا من الماء كل شيء حي"[6]، وهو كذلك "عرش الحياة"[7]، والمقصود هنا قوله تعالى " وكان عرشه على الماء"[8]، فالماء شريان الحياة وبدونه لا نستطيع العيش، وما انعكاس أهميته في النص القرآني، حيث ذكر في سياقات مختلفة من حين تشكل السحب إلى النزول على شكل غيث وعذاب[9] إلى التمثيل به كنموذج للإحياء والإنماء، إلا تعبير صريح على ما أودعه فيه الخالق سبحانه وتعالى من أسرار قد لا ندركها جميعا، وقد لا يكفي العلم الحديث بالرغم مما وصل إليه من تقدم علمي من سبر جميع أغواره. ولعل في هذه الأهمية البالغة للماء وأسراره الدفينة ما دفع الإنسان منذ الأزل غلى ربطه بهالة من القدسية والخرافة وتصويره على خلفية من الخيال والإكبار، فكان أن ألهه البعض وربطه البعض بقوى الغيب من آلهة المطر والخصب، كما رأى فيه آخرون وجها لغضب الآلهة وأداة للعقاب، وبالتأكيد فلم يخرج المغاربة عن هذا الإطار وهذا النمط من التفكير فكان أن وجد الماء طريقا إلى تفكيرهم في الكون وتصورهم للطبيعة والخلق.
3. تمثل المغاربة للماء:
ترجع جذور بعض من العادات والتقاليد المغربية المرتبطة بالماء، لفترات ضاربة في القدم فطقوس مثل "تاغنجا" التي تجعل المطر مرتبطا بقوى إلهية مجسدة في سيد المطر أو إله الخصب، وعلى أية حال فقد شكل مثل هذا الاعتقاد إلى جانب الحضور المستمر للماء في جل أنشطة الإنسان المغربي اليومية مجالا لتداول عدد من الخرافات والقصص والمقولات التي تعكس وبجلاء ذهنية إنسان تأثر بمحيطه الطبيعي وأثر فيه.
تشكل إذن ذهنية الإنسان المغربي في ارتباطها بالماء، خزانا لمجموعة من المعتقدات والأفكار التي تمزج بين المعقول والخرافي، مُجَسِّدَةً تَمَثُلاً جماعيا للماء، إذ أن "الذهنية تشترط وجود ذات اجتماعية مستعدة لتمثل مشكلة الماء واسْتِيطَانِهَا والتَّطَبُّعِ بها، لكي تتحول هذه الأخيرة (مشكلة الماء) إلى خطاب وسلطة رمزيين وإطار دَلاَلِي رَاسِمَةً بذلك الحدود أمام الفرد والمجتمع للاندماج وتحقيق الهوية"[10]، فالإرث الذهني إذن انتقل من تخيل فلسفي للماء إلى خطاب وسلطة تبرزان هوية المجتمع أو الجماعة المنشأة له هدفهما خلق جسر لإدماج الفرد ضمن المجتمع وإخضاعه لسلطة الجماعة ومتخيلها الخاص بالماء.
يحضر الماء في المتخيل الشعبي في مناسبة الطعام كأكثر الأنشطة اليومية التصاقا بالإنسان، بوضوح في استحضاره كضرورة لازمة له فنجد مثلا القول المأثور "الطَّعَامْ بْلاَ مَا، مِنْ قلَِّةْ الفْهَامَة"ـ وهي دعوة صريحة لضرورة تواجده صحبة الطعام، بل إنه ارتبط باللباقة وأدب الضيافة، ومن الأقوال المتداولة في علاقة بالماء كذلك نذكر قولهم (المغاربة) "وكْسرْتِي ومَايَا ولاَ حْدِيثْ قْفَايَا"[11] أي أن الطعام والماء خير من حديث غير مفيد، لا يتوقف ارتباط الأقوال المغربية بالماء عند هذا الحد بل نجده حاضرا كذلك ضمن أدعيتهم بالخير للغير، فنجد مثلا قولهم " الله يْجَعْلكْ كِي المَا تخرج منَّكْ كُلْ نعْمَة"[12]، وهذا دعاء يبرز مدى إدراك الإنسان المغربي للماء وضرورته في الحياة.
من جهة أخرى فإن حديثنا عن المجتمع المغربي يجرنا حتما إلى الحديث عن الدين الإسلامي الحنيف والذي شكل الماء "رأسمال رمزي فيه"[13]، إذ يعتبر أحد أهم أنساق ثقافته وهويته، ومن هنا كان لفعل النظافة والسعي الدائم نحو التطهر مبرره في المتخيل المغربي للماء، وهو من هذا المنطلق أداة للتخلص من الذنوب، فكان أن ارتبط حضوره في دعاء البدء في الصلاة "اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد"[14]، وهو عماد الوضوء الذي يسبق الصلاة، وغسل الميت المقبل على المحاسبة في القبر، فالماء هو الذي "يرد الفرد من ذلك الوضع الاستثنائي إلى الحياة العادية أي أنه يرده إلى المجتمع وبذلك يعود التوازن إلى العلاقات التي تربطه بالآخرين"[15]، ومن جهة أخرى يحضر الماء كأداة للتبرك والتداوي، وهو ما سأقف على بعض منه بحول الله في القادم من النقاط.
يسعفنا القول إذن أن الهالة المحاطة بالماء راجعة بالأساس إلى استخداماته المتعددة في مختلف الشعائر والطقوس الدينية، وكذا في أنشطة الحياة اليومية الاجتماعية والاقتصادية.
المحور الثاني:الماء والخرافة من خلال نصوص وطقوس
يعتبر البحث في الجانب الخرافي لكل وعي بشري أحد المفاتيح الأولى لفهم تفكيره ووعيه، فقد شكلت هذه الأخيرة إحدى الملاجئ الرئيسية للإنسان في بحثه عن تفسير لبعض المظاهر الطبيعية التي يصعب عليه فهمها أول الأمر، فهي جزء إذن من الأسطورة وحلقة أساسية في تطور الفكر البشري، فما هي الخرافة؟ وما هي بعض معالمها في التفكير المغربي المرتبط بالماء؟
1. تعريف الخرافة:
لغة: "الخَرْفُ بالتحريك فساد العقل من الكبر وقد خَرف الرجل بالكسر يَخْرَفُ خِرَفا فهو خَرْفٌ: فسد عقله من الكبر، والأنثى خَرِفه وأخْرفه الهرمُ"[16]
اصطلاحا: تعرف الخرافة اصطلاحا على أنها "الحديث المستملح من الكذب"[17]، ويقال حديث خرافة و"ذكر الكلبي في قولهم حديث خرافة أن خرافة من بني عذرة أو من جهينة اختطفه الجن ثم رجع إلى قومه فكان يحدث بأحاديث مما رأى يعجب منها الناس فكذبوه فجرى على ألسن الناس "[18]، فالخرافة إذن حديث لا يستند إلى منطق العقل البشري، ويخالف المعقول بل ويقرب الكذب، إن لم يكن كذبا حقا.
2. بعض الخرافات المائية بالمغرب:
ترتبط بالذهنية المغربية في علاقتها بالماء عدد من القصص والروايات الخرافية نجد من ضمنها ما دونه بعض المؤرخين المغاربة من نصوص، والتي سأسعى من خلال هذه النقطة للوقوف عليها، في شكل مواضيع متتابعة مقرونة ببعض التفسير.
خرافة الطلاسم السحرية:
يتحدث الحسن الوزان، في مؤلفه "وصف إفريقيا"، عن طلاسم وضعها بعض ملوك المغرب ممن حكم مدينة مراكش عند إنشائه للقنوات الجالبة للماء للمدينة، حيث قال: "ويؤكدون أن ماء نهر اغمات يصل إلى مراكش، يؤخذ بالقرب من اغمات ويتابع جريانه في قنوات تحت الأرض، وقد أمر عدد من الملوك بالبحث لمعرفة من أين يأتي هذا الماء إلى مراكش، فدخل بعض الأشخاص إلى القناة من النقطة التي يصل إليها الماء وفي أيديهم مشاعل يستضيئون بها، ولما قطعوا بعض المسافة في القناة أحسوا بهبوب ريح شديدة أطفأت مشاعلهم وهلا من القوة ما خيل إليهم أنه لا عهد لهم بمثلها، وتعرضوا أكثر من مرة لخطر عدم إمكان الرجوع إلى الوراء، لأنه بالإضافة إلى ذلك كان مجرى الماء مسدودا بكثل حجرية ضخمة ينكسر عليها الماء ليمر من هذه الجهة وتلك، وأخيرا وجدوا حفرا عميقة جدا حتى إنهم اضطروا إلى ترك محاولتهم، ولم يجسر أحد بعد ذلك على استئناف هذا العمل"[19]، لحدود هذه النقطة يقدم الوزان لنا وصفا لمحاولة من بعض الملوك لغاية معرفية قد تفيد البحث عن مصدر مياه المدينة وربما كان ذلك لأسباب أمنية تهدف إلى توظيف الماء في الضغط على ساكنتها في حالات التمرد أو الحرب، غير أن الجانب الخرافي للرواية سيتبدى من خلال الأتي من كلام الوزان حين أراد أن يقدم تبريرا للحادث فكتب "يقول المؤرخون أن الملك الذي أسس مراكش توقع بفضل معطيات بعض المنجمين أنه سيخوض معارك كثيرة، فأنجز بواسطة الفن السحري جميع هذه العوائق الطارئة في تلك القناة، حتى لا يعرف أي عدو من أين يأتي الماء إلى المدينة فلا يستطيع أن يقطعه عنها"[20].
ارتبط إذن إنشاء قنوات جلب الماء لمدينة مراكش (الخطارات)، حسب الوزان ببعض الإجراءات والطقوس السحرية[21] التي تضمن أمن مياهها في حالة الحرب، وهو ارتباط يتعلق بخوف ساكنتها من استغلال الماء في الضغط عليهم وإخضاع إرادتهم في حالات الحرب، وهذا ربما يبرر نشر أو اختراع مثل هذه القصص لإرهاب الأعداء من التعرض لمياه المدينة، فهو هاجس أمني حولته ساكنة المدينة على ما يبدو إلى خرافة تربط أمن قنوات مياه مراكش بالطلاسم السحرية.
ويتجلى الجانب الذهني في هذه الرواية بتداولها على لسان من سماهم الوزان بالمؤرخين، وهو ما يقوم على ما يبدو بين العامة من الناس بالمدينة.
الماء والعرافة[22]:
جاء في كتاب وصف إفريقيا للحسن الوزان في معرض حديثه عن بعض العرافين من أهل فاس وكيفية استخدامهم للماء في إيهام الناس بالتبصر وكشف الغيب، فيقول: " ويضم الصنف الثاني العرافين الذين يجعلون الماء في قدر لَـمَّاع، ويرمون فيه قطرة زيت فيصير شفافا، ويزعم العرافون أنهم يرون فيه كما يرون في المرآة جماعة من الشياطين القادمين بعضهم خلف بعض، كأنهم كتائب جيش تعسكر وتضرب الخيام، ويسلك بعض هؤلاء الشياطين طريق البحر وبعضهم طريق البر، وعندما يرى العراف أنهم قد استراحوا يطلب منهم ما يود معرفته فيجيبونه بإشارات باليد أو العين"[23].
فالحديث في هذا النص كما سبقت الإشارة يخص بعض العرفاء من مدينة فاس، ممن يمتهنون الخداع والمكر، واستغلال سذاجة عقول بعض أهل زمانهم، وما يهمنا هنا هو استخدام هؤلاء العرافين للماء كأسلوب للبحث في الغيب.ة إيحائية لخرافة الإبصار
يحضر الماء من خلال هذه القصة إذن كمادة نقية صافية تزداد صفاءا بإضافة قطرة زيت بها ما يشكل بقعة صافية، توهم بانفتاح بصيرة العراف على عوالم الغيب ورؤية الجن، فيبلغونه بأمور الغيب، وهو مكمن الكذب في هذه الحيلة إذ لا يختص بعلم الغيب غير الله تعالى، مصداقا لقوله عز وجل " قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) "[24]
وإذا كانت مثل هذه الحيل تنطلي على عدد ممن يعتقدون في السحر والسحرة، فإن ذلك على ما يبدو لم يكن ليقنع الوزان وإلا فما كان ليكشف الأمر ويصفه بالزعم "ويزعم العرافون..."، غير أن إيراده ضمن وصفه للمدينة دليل على تفشيه واعتقاد البعض فيه.
خرافة وساطة الموتى في استنزال المطر:
أورد علي بن أبي زرع الفاسي، في معرض حديثه عن قيام السلطان المريني "أبي سعيد" بأداء صلاة الاستسقاء بعد موجة القحط التي عرفتها البلاد سنة 711هـ، ما يلي: "فخرج ماشيا على قدميه لإقامة سنة الاستسقاء وذلك يوم الأربعاء الرابع والعشرين من شعبان من السنة المذكورة وتقدمت أمامه الصلحاء والفقهاء والقراء يدعون الله تعالى وقدم بين يدي نجواه صدقات وفرق أموالا وفي يوم السبت بعده خرج بجنده إلى قبر الشيخ أبي يعقوب الأشقر بجبل الكندوسين فدعا هناك ورحم الله تعالى عباده وغات أرضه وبلاده"[25].
يحمل النص في طياته بعض طقوس سنة الاستسقاء أخذا على سنة خير البرية صلى الله عليه وسلم، وهي صلاة نافلة تقام طلبا لنزول المطر وقطع الجفاف، غير أن في النص كذلك ملامح بعض الممارسات التي تم إحياءها مع مرور الزمن كاستدعاء بركة الموتى من الصلحاء، وهو ما يتضح في قول ابن أبي زرع "وفي يوم السبت بعده خرج في جنده إلى قبر الشيخ أبي يعقوب الأشقر... فدعا هناك ورحم الله تعالى عباده وغات أرضه وبلاده"، وهذه إشارة واضحة على ما يبدو إلى أن المغاربة كانوا يلجؤون إلى أكثر من طقس وممارسة طلبا لاستنزال المطر، والتي تتقدمها صلاة الاستسقاء بعد وصول الإسلام للمغرب غير أن ذلك لم يحدث قطيعة مع ما كان من طقوس خرافية مثل "تاغنجا" والتي ألحقت بها عدد من المتغيرات لتتلاءم مع الدين الإسلامي الحنيف، إضافة إلى ممارسات أخرى أحدثت بعد مجيء الإسلام واستغلال لنصوصه والتي نجد من أبرزها طلب بركة الصلحاء ودعواتهم المستجابة للتوسل للباري عز وجل لإنزال المطر.
طقس تاغنجا:
لعل طقس "تاغنجا" يعتبر من أقدم الطقوس الخرافية المرتبطة باستنزال المطر في المغرب، و"تاغنجا" اسم لدمية على شكل عروس تلف بقطع من الثوب، وتربط بقصبة طويلة يحملها "طفل صغير" ويلتف حوله النسوة والأطفال، وإذا كانت جذور الخرافة لا تخفى في هذا الطقس الشعبي فإن حفظ الذاكرة الشعبية له، واستمرار ممارسته بل وتشجيع ذلك تحت دعوى "حماية التراث" لَيُعَد من معالم الرسوخ والاندماج الذي حظي بهما هذا الطقس في البيئة المغربية، وإذا كان هذا الأخير بقدر انتشاره في ربوع المغرب يعرف اختلافات في صيغة الأهازيج المرافقة له، فإن توقف زملائي الطلبة عند بعضها في مناسبات سابقة يجعلني أنحو صوب الوقوف عند ممارسة هذا الطقس داخل مجال مختلف عن سابقيه وهو مجال الرحامنة[26] مستعينة برواية شفهية لسيدة من المنطقة[27]، حيث تقول:" يقوم الناس أثناء فترة الجفاف وندرة المياه باللجوء لطقس "تاغنجا" طلبا للغيث، فيعمدون إلى وضع قصبتين مختلفتي الطول على هيئة متعامدة، تم يلبسون القصبة الطويلة منهما ملابس تقليدية مغربية "تكشيطة"، لتظهر القصبة الأخرى على هيئة يدين، ثم توضع حزمة من "النعناع والحبق" أعلى القصبة الطويلة، وتحملها إحدى نسوة القرية ويتجمهر حولها باقي النسوة والأطفال الصغار، ويجلن القرية مرددات الأهازيج الآتية:
"تغنجا يا مو الرجا طلبي سيدك راه جا
تغنجا يا لبنات راه الصية[28] راه مشات"[29]
وفي أثناء طوافهن يقمن بجمع التبرعات من منازل القبيلة، والتي تتشكل في أغلبها من مواد غذائية على حسب استطاعة كل واحد ومقدرته، ويجمع حاصل هذه التبرعات لإنجاز ما يسمى بالمعروف الممثل في طبق من "العصيدة"، والذي يجتمع لأكله كل سكان القرية رجالا ونساء وأطفال".
"
إذن فبقدر ما يحمل هذا الطقس من الممارسات الخرافية، والاعتقادات الغيبية فإنه على ما يبدو يحفل ببعض الآثار الإسلامية الواضحة المعالم، فخروج النساء والصبية دليل على تقديمهم للاستشفاع من الله عز وجل للنظر إلى حالهم، كما أن عملية جمع التبرعات يوازيها عملية التصدق في سبيل الله... فهي إذن طقس خرافي بغطاء شعبي وتأويل ديني.
التنبؤ بالموت باستخدام الماء:
يقول مجهول الاستبصار في عجائب الأمصار، متحدثا عن بعض معتقدات برابرة جبل بني وارتين، حيث كتب يقول:"وموضع وادي فاس بوادي سبو على 3 أميال من المدينة وهذا الوادي نهر عظيم من أعظم أنهار بلاد المغرب، ومنبعه من جبل في بلاد بني وارتين ورأس العين في بئر غامضة يعاب الدخول فيها وهي دهسة عظيمة لا يدرك لها قعر وللبربر المجاورين لذلك الموضع تجارب منها أن المريض إذا أرادوا أن يعلموا هل هو يستريح أو يموت حملوه لرأس العين بذلك الموضع المهول، فيغطسونه فيه حتى يقرب أن يطفى، ثم يخرجونه فإن خرج على فمه دم فيستبشرون بحياته وإن لم يخرج من فمه دم أيقنوا بهلاكه، وهذا عندهم متعارف لا ينكر"[30].
حضور الماء بالنص إذن مرتبط باعتقاد خرافي، يتمثل في قدرة مياه بئر رأس العين في تحديد مصير المريض هل يواصل الحياة أم أنه ميت من مرضه ذاك، وهذا ما يخالف روح الشرع الإسلامي في كون الغيب من أمر الله واختصاصه عز وجل بتحديد الأعمار، قال تعالى:" {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ"[31]، وهو ما أدركه صاحب المؤلف كما يتضح من استغرابه من عدم إنكار الأمر، فقال: "وهو عندهم متعارف لا ينكر" أي أنه مما لا يجب إنكاره عليهم.
الاعتقاد في الماء يوم عاشوراء بسوس:
لقد جاء في مؤلف المعسول للمختار السوسي، عن كيفية إحياء سكان إيليغ ليوم عاشوراء ما يلي:"واعتاد سكان إيليغ أن يبخروا منازلهم صبيحة يوم عاشوراء دفعا لتأثير الجن، كما يتم استقاء الماء من الآبار ظنا أنها تستمد ماءها من بئر زمزم في ذلك الوقت، فيرش بذلك الماء جميع زوايا الدار تبركا"[32] للماء إذن بإيليغ يوم عاشوراء مكانة هامة فهو طارد الجن من البيوت وتحل به بركة ماء زمزم فهو إذن مبارك، وهي اعتقادات على ما يبدو لا تخلو من طابع الخرافة، وجو الاحتفاء بهذا اليوم وما يرافقه من بدع ومنكرات، مما لا يمت للدين بصلة بل لا يوجد له أصل إلا في بعض طقوس وعادات بقايا الأساطير والديانات السابقة، والتي منها رش الماء كتعبير على الفرح لنجاة نبي الله موسى عليه السلام من فرعون وملائه، والتي حورت للدلالة على طرد النحس والأرواح الشريرة، وفي هذا الصدد يقول عبد الفتاح الفاتحي:"وترتبط احتفالات يوم عاشوراء بالمغرب بعملية رش الماء، وهي عادة وتقليد عميق في الثقافة المغربية، يرتبط بعملية الغمر والغطس في الصباح الباكر ليوم عاشوراء؛ يقوم به المغاربة لطرد النحس والأرواح الشريرة، ويعتبرون أن عوم الصغار في صباح اليوم الباكر من عاشوراء ييسر نموهم بعيدا عن الأرواح الشريرة"[33]، وقد انتشر مثل هذا الطقس في مناطق أخرى بالمغرب، كما هو الحال في بعض قرى الرحامنة حيث "تلجأ ربات البيوت مع إعلان صلاة الفجر لرش كل محتويات البيت من قطيع الماشية وحبوب وغيرها، وتشمل العملية كذلك رش الأبناء، حيث يعتقد في كون نشاطه ذلك اليوم دليل نشاط وبركة تحل به طيلة العام"[34].
وبالنظر لعدم وجود سند ديني شرعي لعملية الرش هذه ولهذا التفاؤل والاعتقاد الغيبي في هذا اليوم وفي الماء، فإن الجزء الخرافي بها وحضور طقوسه الوثنية يبدو أمرا واضحا وحقيقة ساطعة، فبالرجوع إلى ديننا الحنيف وما ثبت عن رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام، وسنة صحابته الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين الأربعة ولا غيرهم، ولا روي عن أهل الكتب المعتمدة في ذلك شيء من ذلك عن الرسول صلى الله عليه وسلم[35].
ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم غير الصيام في هذا اليوم، فقد روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنه، أنه قال: " لما قدم النبي الله صلى الله عليه وسلم المدينة وجد اليهود يصومون عاشوراء، فسئلوا عن ذلك، فقالوا: هذا اليوم الذي أظفر الله فيه موسى وبني إسرائيل على فرعون، ونحن نصومه تعظيما له. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نحن أولى بموسى منكم، ثم أمر بصومه "[36]، وبناءا عليه فكل ما نجد من بدع تقام احتفاء بهذا اليوم تدخل في باب الخرافات والبدع غير المؤسسة على الدين، وبالتالي يسعنا القول عنها أنها ضرب من الخيال.
يمكن القول بأن مجموعة من الطقوس والممارسات الشعبية المرتبطة بالماء في المغرب، والتي ما يزال العديد منها مستشريا في بعض العقول والأذهان، بل ويسعى البعض تحت عدة مسميات الحفاظ عليها ودعمها لغاية في نفس يعقوب، لا يعدو أن يكون أثرا لترسبات ذهنية غدت مع الزمن طقوسا شعبية تسمح في جزء من بناها وأنساقها المعرفية للباحث في التاريخ الذهني من فهم الشخصية المغربية، غير أن انحرافها عن أساس ديننا الحنيف وهدي رسولنا الكريم وسنة خلفائه الراشدين، يجعلنا ندرك مغزى قوله صلى الله عليه وسلم:"إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة"[37]، فالبدع طريق للضلال والعياذ بالله، وفي الختم لا أجد قولا أنهي به هذا الفصل أفضل من قوله سبحانه و تعالى: "فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا "[38]
المحور الثالث: الماء والكرامة من خلال بعض القصص
خص الله سبحانه وتعالى رسله بالمعجزات[39] فهي أمر يجريه على يدي أنبيائه والغرض منها إثبات صدق نبوتهم وأنهم رسل من عنده عز وجل، كعدم إحراق النار لسيدنا إبراهيم عليه السلام، وتحول عصا سيدنا موسى لحية تسعى، ومعجزة نبوغ الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن أنس بن مالك قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحانت صلاة العصر والتمس الناس الوضوء فلم يجدوه فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده في ذلك الإناء فأمر الناس أن يتوضئوا منه. فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه صلى الله عليه وسلم، فتوضأ الناس حتى توضئوا من عند آخرهم"[40]، فهي من أعظم دلائل النبوة على ما يؤتيه الله أنبياءه – عليهم السلام- من معجزات تخرق العادات وتعطل نواميس الكون وسننه ويعجز عن إدراكها البشر؛ وذلك تأييدا لهذا الذي أكرمه الله بالنبوة أو الرسالة، وتكريما له وشاهدا وبرهانا على صدق ما جاء به من البينات والهدى[41].
وكما وجدت المعجزات مع الرسل والأنبياء فإنه قد ظهرت الكرامات والتي خُصَّ بها الأولياء، كمن من الله عليهم، والأولياء هم أهل الإيمان والتقوى الذين يخشون الله تعالى في جميع شؤونهم، فيلزمون أوامره ويجتنبون نواهيه، ويقفون عند حدوده، وقد توقف القرآن الكريم عند وصف هؤلاء الصفوة من الخلق بما لا يترك مجالا للتطفل والانتحال، قال تعالى " ألا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) "[42].
فالكرامة إذن أمر يجريه الله على يد أوليائه، ويكون على خلاف ما اعتاد عليه من سنن الكون وقوانينه كرزق مريم ثمرا، وحملها من غير أن يمسسها بشر[43]، قال تعالى في سورة مريم: " وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا، فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا " [44]، ومن الكرامات المشهورة كذلك نجد قدرة الخَضِرْ عليه السلام في كشف الغيب، قال تعالى: " وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ۚ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا"[45]...، وفي تاريخنا الإسلامي تحفل لنا المصادر التاريخية وكتب المناقب بعدد من القصص والحكايات عن ما يراه الناس من أحوال المتصوفة، من الزاهدين والورعين وصلحاء المجتمع، وإذا كان التصوف سنة نبوية وعملا مشروعا في الدين فعن ما عرفه هذا الفعل من انتحال وترامي من قبل عدد من المنتحلين والراغبين في السلطة أو لأغراض دينية، جعل من حقل التصوف أقرب إلى حقل ألغام بما فيه من الخوارق والقصص المبنية على اعتقادات جهل العامة من أفراد المجتمع وخضوع مطلق لأهواء المبتدعين، فكان أن تنبه العلماء من أبناء الأمة الإسلامية لهذا المعطى فأصدروا فتاوى تتصدى لمثل هذه الخرافات والقصص التي لا تستند إلى أساس شرعي[46].
لم يخرج التاريخ المغربي عن مثل هذا الانحراف لمسلك التصوف[47]، فظهرت العديد من الطرق والحركات الصوفية، وترعرعت داخل البيئة المغربية التي وجدت فيها مجالا خصبا للنمو والترعرع[48]، وفي حين أني لن أقف عند هذا الأمر خلال هذا العرض، لما قد يتسبب فيه ذلك من ابتعاد عن الموضوع فإني أرى الوقوف عند عدد من القصص[49] والحكايات المرتبطة بأشخاص ممن وصفوا بالولاية والكرامة، مما ارتبط منها بشكل خاص بالماء[50]، وهي عموما مأخوذة أساسا من مؤلف " التشوف إلى رجال التصوف" للتادلي.
أمس في 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin