إنّ ما ورد في كتاب أعذب المناهل في الأجوبة والرسائل لسيدي الشيخ أحمد بن مصطفى العلوي قدّس الله سرّه ورضي الله عنه، وقام بجمعه سيدي الشيخ علي بن محمد الغفاري رضي الله عنه ورحمة الله عليهم أجمعين، بأنّ الدافع إلى ذلك هو لنشر تراث الأستاذ رضي الله عنه والعناية به، خوفا من الضياع وإفادة المنتسبين من الأتباع، وغيرهم من المسلمين، إذ تعكس كثيرا من مواقف الشيخ العلوي في التربية والتوجيه، ومواجهته للمشاكل المعاصرة، كما وتكشف من جهة أخرى عن سعة معارف الشيخ الدينيّة، وتفسيراته العجيبة الصحيحة لكثير من النصوص والنقول بأسلوب رصين محكم وعبارات مركزّة، وأفهام مدعمة بالبراهين والحجج للعديد من أقوال معارضيه التي تتسم بالسطحيّة أحيانا وبعدم الموضوعيّة، حيث إنّ هذه الأسئلة وأجوبتها تمثل ثروّة ثقافيّة متنوعة، جديرة بالمطالعة والدرس، وبخاصّة لأولئك الذين يبحثون عن الحقيقة للوصول إلى طريق الهداية الربانيّة الكفيلة بتحقيق النجاة في الدنيا والآخرة، ولقد أشرف على إصدار هذا الكتاب سيدي رشيد محمد الهادي مدير المطبعة العلوية الذي لم يبخل بمجهوداته الماديّة والمعنويّة جزاه الله عن الجميع كلّ الخير، وزيادة في تبسيط التبويب لهذه الأسئلة وأجوبتها، فقد تمّ تقسيمها إلى ثلاثة أنواع هي
أجوبته عن بعض المسائل القرآنيّة
سئل رضي الله عنه عن قوله تعالى فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون / البقرة آية / 152
فأجاب قائلا أمّا ذكرنا له تعالى فهو قولنا لا إله إلاّ الله، أو ما يشاكله من أسماء الله الحسنى، وهو مفهوم ضرورة لا إشكال فيه، أمّا ذكره تعالى لذاكره فهو محل الإشكال في تصوير كيفيته وأسلوبه، فكيف يكون يا ترى؟، يريد بهذا التوجيه شحذ قرائح أتباعه، ولمّا علم منهم القصور عن الخوض في المسألة، قال استلفتنا تعالى بهذه الآية الكريمة لما يخلّد ذكرنا في التاريخ، فكأنّه يقول إن أردتم أن تذكروا باحترام فيما سيأتي من الأمم والأجيال، فاذكروني، أذكركم على ألسنتهم، ومن أجل هذا ترى الذاكرين لن يزالون مذكورين على ألسنة العموم والخصوص، وذلك هو نفس ذكر الله لهم، جزاء وفاقا، لأنّ الجزاء من جنس العمل والله أعلم
سئل رضي الله عنه عن قوله تعالى حكاية عن سيدنا إبراهيم عليه السلام إذ قال ربّ أرني كيف تحيّ الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهّن إليك ثمّ اجعل على كلّ جبل منهن جزءا ثمّ ادعهن يأتينك سعيا / البقرة آية / 260، قال السائل تشعرنا هاته الآية بأنّ سيدنا إبراهيم عليه السلام كان على غير اطمئنان من وجود النشأة الأخرويّة، ونظير هذا مخلّ بمقام النبوّة
فأجابه قائلا إنّ سيدنا إبراهيم عليه السلام، كان يريد بسؤاله أن يربط منتهى إيمانه بمبدأ شهوده، وهو من السير في طريق الله عزّ وجلّ، وحقّنا أن نعتبر ذلك درسا لنا، حتى لا نقتصر على ما بأيدينا من الإيمان، وفي وسعنا أن نربطه بطرف من المشاهدة، لأنّ درجة الخبر أو الدليل لا تقوى قوّة المشاهد كيفما كان الحال، ومن ذلك قول سيدنـا موسى عليه السلام ربّ أرني انظر إليك / الأعراف آية / 142، والمحصّل مما قدمناه أنّه لا يحصل الاطمئنان في العقائد إلاّ إذا تعزّز جانبها بشيء من لوائح المشاهدة، والله أعلم
سئل رضي الله عنه عن قوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا / المائدة آية / 3
فأجاب قائلا بعد الديباجة مختصرا أراني ملزما يا حضرة الأخ بذكر أمر طالما تردّد ذكره في مكاتباتكم، كمكاتبات غيركم من بعض كتّاب العصر، وقد جئتم به في هذا الكتاب الأخير أيضا بقصد الاستدلال على محدثات المتصوّفة، وأنّها ليست من الدين في شيء، وأكبر عمدتكم في ذلك قوله تعالى الآية في هذه المسألة، تريدون بذلك أنّ ما لم يكن دينا في ذلك الحين، ليس هو بدين من بعد، وهذا شيء جميل، لو يقع تسلّطه على إخراج ما أحدثه المتصوّفة من وظائف الأذكار وغيرها لكن بعيد أن يستقيم لنا ذلك، إلاّ إذا أخرجت معه سائر اجتهادات المجتهدين وأقوال العلماء العاملين، ولا شكّ أنّه قضاء مبرم على سائر الأحكام الشرعيّة، المقرّرة من طريق الاجتهاد، والحكم عليها بأنّها ليست من الدين، بدعوى أنّها جاءت بعد كمال الدين وإتمام نعمته على المسلمين، المفهومات من صحيح الآية، ولا شكّ أنّ مقالتك هذه تنتج لنا من الاعتقاد ما لا تقول به أية فرقة من فرق الإسلام المنحرفة، فضلا عن أهل السنّة المتبوعة الذين أنت من أفرادهم
ونحن إذا نظرنا إلى ما أسسته الصوفيّة من وظائف الأذكار، والتقييدات في الأعداد، وغير ذلك أنكرتموه، ثمّ نظرنا إلى ما أسسه المجتهدون من الحكّام وقنّنوه من القوانين، نجد الأول نزرا قليلا بالنظر إلى الآخر!
على أنّ المجتهدين حلّلوا وحرّموا وأوجبوا وندبوا، الأمر الذي لا يذكر أمامه ما أحدثه القوم من القوانين، مقالة أنّ جميع ذلك بعد كمال الدين وإتمام النعمة
وإذا، فما يقول حضرة الشيخ في جميع ذلك ؟، هل يتسنى له القول بأنّ الأمّة من عهد المجتهدين إلى يومنا هذا، تدين لله بغير الدين المنزل على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، المختتم بقوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم، وزيادة على هذا إنّ الأمر لا يقف عند هذا الحدّ بل يتعدى إلى سائر الأحكام المستفادة من أقوال الصحابة والتابعين، وحتى المنصوص عليها من أعمال الخلفاء الراشدين، على أنّ جميعها جاء بعد نزول الآية الكريمة، فلا تفوتك يا حضرة الشيخ تلك النوازل على صلاة التراويح بالمسجد لم يقرر العمل به إلاّ في خلافة عمر بأمر منه، وكان الحال في عصر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على خلاف ذلك، وأنّ الطلاق الثلاث دفعة واحدة، كان على عهد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وخلافة أبي بكر، وطرف من خلافة عمر رضي الله عنهما يعتبر طلقة واحدة، ثم بدا لهذا الأخير أن يعتبره ثلاثا باتا، فنجد رأيه في ذلك، ووافقه عليه الصحابة رضوان الله عليهم، وها هو الآن يجري عليه العمل!، وأنّ حدّ شارب الخمر، كان في عهد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وخلافة أبي بكر مقيّدا بأربعين جلدة، وزاد فيه عمر إلى الثمانين، وعلى ذلك جرى العمل، وقس على ذلك بقيّة النوازل، والحالة أنّ جميع ذلك بعد نزول الآية الكريمة، فهل يتسنى لكم القول بأنّ ذلك ليس من الدين ؟ ! كلا، لا تطاوعك نفسك، ولا نفس أي مؤمن يشبه ذلك القول
وفي ظنّي أنّك تدرك كون الأمر لا يقف عند هذا الحدّ أيضا، بل يتعدّاه إلى سائر الحكام المستفادة من الأحاديث النبويّة، التي جاءت بعد نزول الآية، أعني بعد كمال الدين وإتمام النعمة، فوجودها مساو لوجود غيرها بالنظر لمقتضى الآية
ونحن مهما اعتبرنا ما جاء من الأحاديث، عقب تلك الآية، لا يصحّ الاحتجاج به لزمنا التوقف في عموم الأحاديث التي نجهل تاريخ وقوعها، وهي ليست بقليلة العدد، نفعل ذلك لئلا ندين لله بغير دينه المختم بقوله اليوم أكملت لكم دينكم، على أنّ رواة الحديث لم يتعرّضوا في الغالب لما يرجع للتاريخ، ولا شكّ أنّ أمرا كهذا يجرّ لنا وللمسلمين من الوبال ما لا يخفى على مثلكم، وكأنّي بكم تظنون أنّ الأمر يقف عند هذا الحد أيضا ؟، ولهذا ظهر لي أن أذكر لك ما هو أعظم منه
فأقول إنّه يلزم على ذلك المعتقد خروج جملة من الأحكام السماويّة المنصوص عليها بالآيات القرآنيّة، واعتبارها أنّها ليست من الدين، وإليكم من الإيضاح ما يتعين عليكم الوقوف عنده، ولو شيئا قليلا، حتى تدركوا مصداق الحديث، وما يجري إليه السياق
ذكر السيوطي في كتابه الإتقان ما نصه إنّ من المشكل قوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم، فإنّها نزلت بعرفات عام حجّة الوداع، وظاهرها كمال جميع الفرائض والأحكام قبلها، وقد صرّح بذلك جماعة، مع أنّه ورد في آيات الربا والدين والكلالة أنّها نزلت بعد ذلك، وقد استشكل ذلك ابن جرير، فقال الأولى أن يتأول على انّه أكمل دينهم بإقرارهم بالبلد الحرام، وانجلاء المشركين عنه
ومحل الشاهد أنّه يلزم إخراج هاته الأحكام المستفادة من هاته الآي من دائرة الدين، فبعيد، والله أن يعتقد المسلم نظير ذلك، ولهذا حمل المفسرون هاته الآية على محمل غير المحامل التي يحملها عليها كتاب عصرنا
وإنّي أرى أحسن ما ينبغي أن تحمل عليه، هو أنّ المراد بكمال الدين، يعني أصوله وقواعده الجوهريّة، وأمّا ما وراء ذلك من الفرعيّات فلا نراه من مدخول الحكم، ولا تراه أنت يا حضرة الشيخ، إلاّ من طريق رجوع الفروع إلى أصولها، لأنّها تعتبر كامنة فيها، ككمون النخلة في حبّة النواة ؟، ألهمني الله وإياكم من العلم ما يكون أساسه التقوى
وهذا ما فهمناه نحن من الدين، وما معنى كماله وإتمام النعمة على أهله، فإن كان له موقع عندكم فذاك، وإلاّ فأرشدونا لفهم أعلى من ذلك، وأجركم على الله
وثق يا حضرة الشيخ، فإنّ فهمك السابق في الآية الكريمة ليس هو من العلم في شيء، ولا ممّا يحسن اعتقاده، ولا أقول لكم أنّكم اعتقدتم ذلك القول بحيث صدر منكم عن تمحيص وإمعان، أو بنيتموه عن حجّة وبرهان إنّما اعتقادي فيكم أنّكم جريتم فيه على قلّة التثبت، وأعانكم على ذلك حسن ثقتكم بأنفسكم من جهة مكانتكم العلميّة
والحالة أنّنا وأنتم ممّن هو حقيق أن يقال له علمت شيئا وغابت عنك أشياء، مع أنّ الأجدر أمثالنا قبل كلّ شيء، هو إدراك التقصير من أنفسنا، وهذا فيما نعلم، وأحرى فيما لا علم لنا به
وإذا فواجب النصيحة يقضي عليّ أن أقول لك نظير ما جاء في الرسالة الخروبيّــة، حيث يقول صاحبها يجب على الفقيه أن يرفق بنفسه، وإن يعلم مقامه في الدين، فلا يمدّن يده الفارغة، إلى ما فوق طوره من المقامات العرفانيّة، والأحوال الربانيّة، حتى يذوق ما ذاقت الرجال، لا أحرمنا الله، وإيّاكم من سلسبيل معارفهم، وفي الأخير أرجوكم يا سيدي أن لا ترسلوا النصوص في الاستدلال، قبل تأملها فإنّ الأمر ليس بالهين، وهذا ما سبق فيه اختياري لنفسي، اخترته لكم والسلام
سئل رضي الله عنه عن قوله تعالى إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر / العنكبوت آية / 45، فكيف يكون الذكر أكبر، مع أنّ الصلاة تشتمل على أذكار وأدعية وغير ذلك ؟، وعليه فما هو الذكر؟
فأجاب قائلا إنّ معنى ذلك والله أعلم أنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر كيفما كانت بحضور، أو بغير حضور، ولذكر الله فيها، أي تذكر المصلّي في صلاته بأنّه مع الله، سواء كان على سبيل المراقبة أو على طريق المشاهدة، فهو أكبر في النهي، والمعنى راجع إلى نفس الصلاة لا غير والله أعلم
سئل رضي الله عنه عن قوله تعالى فمن اهتدى فإنّما يهتدي لنفسه ومن ضلّ فإنّما يضلّ عليها / يونس آية / 108
فأجاب قائلا جاءت هاته الآية على ما يتبادره الفهم الخاصّ، تشعرنا بأنّ الهداية محصورة في معرفة النفس، كما إنّ الضلالة محصورة في عدم معرفتها، فكأنّه تعالى يقول فمن اهتدى هداية لا يشقى بعدها أبدا، ولهذا جاءت الهداية محصورة بإنّما، وبعبارة أخرى فمن اهتدى فغاية ما يهتدي إليه، أن يهتدي لنفسه، أي يعرفها على ما هي عليه، والذي يشعرك بهذا، ما يروى في الأثر انّه من عرف نفسه فقد عرف ربّه، والعكس بالعكس، فمن جهل نفسه فقد جهل ربّه، وهو قوله ومن ضلّ فإنّما يضلّ عليها، فجاءت الضلالة أيضا محصورة بإنّما فكأنّه تعالى يقول لا ضلال أضلّ من ضلّ عن نفسه أن يعرفها، فهذا هو الضلال البعيد، فأشدّ ما يعاتب به العبد أن يضلّ عن نفسه من أن يعرفها، قال تعالى نسوا الله فأنساهم أنفسهم / الحشر آية / 19، قــال أبو يزيد البسطامي رضي الله عنه طلبت ذاتي في الكونيين فلم أجدها، إلى أن انسلخت عنّي فعرفت من أنا، قال تعالى قد أفلح من زكّاها , وقد خاب من دسّاها / الشمس آية /9, 10، نفعنا الله بخيرها وأعاذنا من شرّها آمين
سئل رضي الله عنه عن قوله تعالى وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظنّ أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلاّ أنت سبحانك إنّي كنت من الظالمين / الأنبياء آية / 87، وقال السائل إنّ الآية تفيد كأن يونس عليه السلام أصابه شكّ في قدرة القادر؟
فأجاب قائلا حاشا لله أن يتشكّك أحد من المرسلين في قدرته تعالى إنّما ظنّه في قولـه فظنّ أن لن نقدر عليه، أي أن لن نضيق عليه على حدّ قوله تعالى ومن قدر عليه رزقه فلينفق ممّا أتاه الله / الطلاق آية / 7، ولمّا كان الله عند ظنّ عبده المؤمن به، انتفع سيدنا يونس بظنه، وأنت ترى كيف أنقذه الله من بطن الحوت، ولولا حسن الظنّ للبث في بطنّه إلى يوم يبعثون
سئل رضي الله عنه عن قوله تعالى ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه / طه آية / 114
فأجاب قائلا على ما تعطيه الإشارة إنّ النهي عن العجلة جاء متعلّقا بتفسير معاني القرآن، كأنّه يقول تعالى، ولا تعجل يا محمد بتبيين جميع معاني القرآن، قبل أن يأتي أوانها وإن من شيء إلاّ عندنا خزائنه وما ننزّله إلاّ بقدر معلوم / الحجر آية / 21 ، فالقرآن وإن انقضى وحيّه لك من جهة الأحكام، فهو لا ينقضي من جهة ما احتوى عليه من الإلهام، فلا يسمح لك إلاّ بإظهار ما هو مستحق الظهور، وما زاد على ذلك من غرائبه فاتركه لأوانه، يظهره الله تبارك وتعالى على ألسنة علماء أمّتك، وقد أشار بعضهم إلى هذا المعنى بقوله الحقّ يجري على ألسنة علماء كلّ زمان بما يليق بأهله، والمراد بالعلماء، العلماء بالله، المشار لهم في الحديث العلماء ورثة الأنبياء، والنكتة في قوله ورثة الأنبياء بدلا أن يقول ورثة الرسل تفيدنا تحجيرهم على عدم مجاوزتهم على ما أحاط به القرآن
والمعنى إنّ الإلهام الذي خصّهم به الحقّ عزّ وجلّ، وإن كان هو قسم من أقسام الوحي، جاءهم مقصورا على القرآن، لا يتجاوزه لما وراء ذلك فما زالوا رضي الله عنهم يستخرجون من معاني القرآن، ما لا تحتمله الأذهان، وكلّ ذلك من أثر الوحي وشعاعه المتّصل إلى قلوبهم، من الحضرة النبويّة، فما زالوا ينفقون مما خصّهم الحقّ عزّ وجلّ به من عجائب القرآن، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، والقرآن لا تتناهى معانيه، والذي يشعرك به قوله صلّى الله عليه وسلّم القرآن لا تنقضي عجائبه، والله أعلم
سئل رضي الله عنه عن قوله تعالى ادع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن / النحل آية / 125
فأجاب قائلا إنّ القوم الذين أقامهم الله تعالى لدعوة الخلق، عرّفهم أسلوب التذكير، فينقاد لهم بسبب ذلك الكبير والصغير، والجليل والحقير، كلامهم مقبول في الأسماع لأنّ وعظهم يصدر من القلوب، لا من الكتب، والكلام إذا صدر من القلب وقع فيه، فلهذا أثّرت في القلوب موعظتهم، وسارت في المريد إشارتهم، وقد فهموا الآية الكريمة!، إنّ الناس جاءت على أزواج ثلاثة، والرسول صلّى الله عليه وسلّم يقول أنزلوا الناس منازلهم، فالقسم الأول من الأقسام لا ينقاد للمذّكر إلاّ بالحكمة، وهم الخاصّة من عباد الله، والقسم الثاني تفيده الموعظة الحسنة، الواقعة بين ترغيب وترهيب، أي برفق وملاطفة، القسم الثالث أهل المجادلة، وهو الذي أتعب المرشدين، رسولا ووليّا، فأباح الله للرسول فتح باب المجادلة معهم، إلاّ أنّه قيّدها بالتي هي أحسن، وهكذا الأحسن فالأحسن، ولهذا كان السيف آخر درجات التبليغ، ومن تخلّف عن هاته الخطّة المشروعة للتذكير، ففي الغالب يكون أمره مردودا عليه، وكلّ ذلك يستفاد من قوله صلّى الله عليه وسلّم من أمر فليأمر بالمعروف، أي برفق ولين، ليكون أدعى للقبول، والله أعلم
سئل رضي الله عنه عن قوله تعالى إنّا فتحنا لك فتحا مبينا , ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخر ويتمّ نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما , وينصرك الله نصرا عزيزا / الفتح آية / من 1 إلى 3، هل المراد بالفتح فتح مكة، أو قصّة الحديبية حسبما جرى عليه أكثر المفسرين، أم يشير إلى ما هو أعلى من ذلك؟
فأجاب قائلا إنّ التعليل في قوله تعالى ليغفر لك الله، ينافي كون الفتح على ما جرى عليه بعض المفسرين، لأنّه لا مناسبة لتعليق المغفرة على فتح مكّة، أو نحوها من المدن، ولو كان المراد فتح مكّة، لقال ليمكن لك في الأرض أو لينصرك، وما هو من هذا القبيل، وعليه فلزمنا أن نحمل الفتح على الفتح الأكبر، الذي هو أخصّ وأحرى بهذا المقام، وليس المراد به إلاّ فتح البصيرة، وتمكّن القلب من شهود الحقّ عزّ وجلّ، ولمّا كان الفتح قد يكون غير مبين، وهو المحتمل لعودة الحجاب قيّده تعالى بالمبين، فقــال إنّا فتحنا لك فتحا مبينا، والمعنى أنّه مأمون العاقبة ممّا يطرقه من الشوائب، وما فتحنا لك هذا الفتح يا محمد إلاّ ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك، وهو الذنب الذي كان يستغفر منه صلّى الله عليه وسلّم كقوله سبحانك ظلمت نفسي وعملت سوءا فاغفر لي فإنّه لا يغفر الذنوب إلاّ أنــت، وقد يستبعد المؤمن صدور الذنب منه صلّى الله عليه وسلّم، وكيفما كان لا يتصور أنّه ذنب، لكن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم تحقّقه من نفسه، ولولاه لما استغفر الله، ولنذكر لكم شيئا ممّا أطلعني الله عليه في هذا الباب، فأقول إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يجب عليه أن يؤمن برسالته كما يؤمن به غيره، وإلى ذلك الإشارة في قوله تعالى أمن الرسول بما أنزل إليه من ربّه / البقرة آية / 285، وبهذه المناسبة لمّا تحقّق من نفسه بالرسالة ظهر له وجود التقصير من نفسه مع نفسه، حيث إنّه كان يعاملها معاملة دون اعتبار، لأنّه غاية ما كان يرى لنفسه أنّه محمد بن عبد الله، ولا شكّ أنّ من كان مع أحد من رسل الله وهو يعلم بأنّه رسول، لا يخلو من الإساءة والتقصير، على ما تقتضيه المعاشرة، وعندما يتضّح له أنّه رسول الله، تبين له هفواته وتقصيراته التي كان يرتكبها من قبل، ويعقبها من الكمد ما يفضي به إلى الالتجاء إلى الله عزّ وجلّ من ذلك التقصير، وهكذا حاله صلّى الله عليه وسلّم، فإنّه كان لا يرى نفسه إلاّ محمّد بن عبد الله، ولما فتح الله عين قلبه، بحيث أبصر ما هو عليه وما يجب في حقّه، من احترام مقامه الذي هو به رسول، كما يحترمه غيره، قال صلّى الله عليه وسلّم ظلمت نفسي فيما قبل من جهة عدم إعطائها ما تستحق، وما كنت أعترف لها بالرسالة، ولا أنّها أشرف البريّة، فقال له تعالى ما فتحنا لك ذلك الفتح إلاّ ليغفر لك الله ما تقدّم من ذلك الذنب، وما تأخر منه إن كان أيضا، لأنه قد يتلاهى عن نفسه وربما ينظرها باحتقار، فأخبره تعالى أنّه يتجاوز عن مثل ذلك، ولمّا كان محمد صلّى الله عليه وسلّم قد يتخيّل عدم تمام النعمة، فقيل له وما فتح لك ذلك الفتح المبين إلاّ ليتمّ نعمته عليك، ويهديك صراطا مستقيما، وينصرك الله نصرا عزيزا، وعليه فيؤخذ من ذلك أنّ كلا من غفران الذنوب وسلوك سبيل الرشاد والنصر، وسلامة العاقبة، معلّق على الفتح المبين، فمن فتح الله عليه فتوح العارفين الوارثين، لم يتردد في كونه مغفورا له منصورا ومهديا، وما ارتدّ من ارتدّ إلاّ من الطريق، وحصل له فتح غير مبين وإلى ذلك الإشارة في قوله تعالى والعاقبة للمتقين / الأعراف آية / 128
أجوبته عن بعض الأحاديث النبويّة
سئل رضي الله عنه عن قوله صلّى الله عليه وسلّم أباؤكم خير من أبنائكم إلى يوم القيامة، فما معنى هذا الحديث؟، فعلى ما يظهر من ظاهر الحديث تشريف الآباء على الأبناء إلى يوم الدين، والحالة أنّ الواقع يقتضي خلاف ذلك، فإنّ كثيرا من الأبناء حصل شرفا لم تحصّله الأجداد
فأجاب قائلا إنّ هذا الحديث ممّا تداولته ألسنة العموم والخصوص، ولا أرى فيما أعلم من أفصح عن معناه، أو تدبر في مبناه، والحالة أنّه أسهل من أن يستشكله لبيب لأنّه لم يقل صلّى الله عليه وسلّم الآباء خير من الأبناء، حتى يلتبس الأمر، إنّما قال للمخاطبين، آباؤكم خير من أبنائكم، أي آباؤكم لكم، والمعنى إنّ كلّ إنسان في نفسه أبوه خير له من ابنه، وذلك لما كان يعلمه صلّى الله عليه وسلّم من أنّ النفس تميل بالطبع للبنين دون الآباء، والحالة أنّ الإنسان أبوه خير له من ابنه دنيا وأخرى، ووجه الخيريّة من جهة الدنيا، إنّ الأب لا يحمل الابن على اقتحام المخاطر، بخلاف ابنه فإنّه يحمله بالطبع إنّما أموالكم وأولادكم فتنة / التغابن آية / 15، ومن جهة أخرى إنّ مادة الأجر الواصلة إليه من إحسانه لوالده، أكثر من الواصلة إليه من إحسانه لولده، وهكذا إلى يوم الدين
سئل رضي الله عنه عن قوله صلّى الله عليه وسلّم الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا
فأجاب قائلا نعم إنّهم نيام، ومن ذلك أنّ الصحابة رضي الله عنهم رأوا رجلا قدم على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يسأله عن الدين، فأوّل لهم ما راؤه صلّى الله عليه وسلّم بجبريل عليه السلام، أن قال لهم هذا جبريل جاء يعلمكم دينكم، لأنّه مستيقظ وهم نيام، لقوله صلّى الله عليه وسلّم نحن معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا
سئل رضي الله عنه عن قوله صلّى الله عليه وسلّم افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وتفرقت أمّتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلّها في النار إلاّ واحدة، وهي ما أنا عليه وأصحابي، رواه السيوطي في الجامع الصغير
فأجاب قائلا إنّ هذا الحديث ممّا يقضي على الأمّة المحمديّة بالهلاك، مهما فهمناه حسبما فهمه أغلب المفسرين، لأنّه صريح في نجاة جزء من ثلاث وسبعين جزءا من الأمّة المحمديّة، وعليه فالمرجو من الله والموافق لرأفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمؤمنين، أن نحمل ذكر الأمّة في الحديث على أمّة الدعوة، لا على أمّة الإجابة، لقوله صلّى الله عليه وسلّم أنا رسول من أدركته حيّا، ومن لم يولد بعدي، ويتضح لك المعنى من أنّ الأمّة هنا المراد بها أمّة الدعوة، لقوله صلّى الله عليه وسلّم من كان آخر كلامه في الدنيا لا إله إلاّ الله دخل الجنّة، وقوله تعالى إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء / النساء آية / 48 وغير هذا
ومن المعلوم أنّ أمّة الإجابة لم تعدم حظها من توحيد الله، والإقرار برسالة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإن تفرّقت من حيث الفروع فأصلها ثابت، وشفاعته صلّى الله عليه وسلّم محيطة بمن انتسب إليه، كيفما كان، والظنّ في الله حسن
ومن المحتمل أنّ الملل كانت قبل بعثة موسى عليه السلام، بالغة إلى حد السبعين فرقة والملّة التي جاء بها موسى عليه السلام هي تمام الإحدى والسبعين فرقة، والجميع في النار إلاّ ما كان عليه موسى عليه السلام وأتباعه، ولمّا بعث الله عيسى عليه السلام، كانت ملته هي تمام الاثنين والسبعين فرقة، والجميع في النار إلاّ ما كان عليه عيسى وأتباعه، ولمّا بعث الله سبحانه وتعالى سيدنا محمدا صلّى الله عليه وسلّم بشريعة سمحة عادت الفرق مع ما سبق ثلاثا وسبعين فرقة، والجميع في النار إلاّ ما كان عليـه محمد صلّى الله عليه وسلّم وأتباعه، والجميع أمتّه من جهة الدعوة حسبما سبق، والظنّ في الله جميل، وهو حسبنا ونعم الوكيل
=======================
أجوبته عن المسائل العلميّة والدينيّة
سئل رضي الله عنه عن مقالة سيدي محي الدين بن عربي الحاتمي رضي الله عنه عينان، عينان لم يكتبهما قلم، في كلّ عين من العينين نونان، نونان لم يكتبهما قلم، في كلّ نون من النونين عينان، عينان لم يكتبهما قلم
فأجاب قائلا بداهة من غير تكلّف على سبيل المفاكهة، وهو جواب لم يخرج عن الحق قائلا إنّ معنى هاته المقالة، وإن أشغلت أكثر المفكرين فهي أقرب شيء للمبتدئين، ومرجعها اللغة لا غير، فالمراد بالعينين اللتين لم يكتبهما قلم المذكورتين في الأول، هما عينان من الماء فإنّهما حقيقة لم يكتبهما قلم
والمراد بقوله في كل عين من العينين نونان، نونان أي سمكتان، لأنّ النون من أسماء السمك، فهما أيضا لم يكتبهما قلم
وأمّا قوله في كل نون من النونين عينان، أي المعدتان للبصر، في كلّ حيوان، والمعنى أنّ العين في الجملة الأولى عائدة على العين الجارية، والعين في الجملة الأخيرة عائدة على الموجودة في السمك وغيره، والنون عائد علىالسمك
ثمّ قال رضي الله عنه وإنّ هذا التأويل وإن لم يحتو على فائدة كبيرة إلاّ أنّه مخرج أقرب إلى الحقّ، بعيد عن التكلّف، والله أعلم
سئل رضي الله عنه من أحد الكاثوليكيين عن سورة سبح قائلا إنّ القرآن يقول فيها إنّها بصحف إبراهيم وموسى، فتتبعنا العهد القديم التوراة ولم نجد لها أثرا ؟
فأجاب قائلا لو أنّكم جعلتم الإشارة في قوله إنّ هذا عائدة على مجرد قوله تعالى بل تؤثرون الحياة الدنيا , والآخرة خير وأبقى / الأعلى آية / 16، 17، لما فاتكم معنى تلك الآية في أسفار الأقدمين وبعبارة أخرى إنّ صحف إبراهيم وموسى لا وجود لها بين دفتي العهد القديم، وهذا ما تعترفون به، ما عدا أسفار التوراة وهي غير الصحف المنصوص عليها، فكيف تطلبون وجود سورة سبح في شيء لا وجود له بأيديكم ؟
سئل رضي الله عنه عمّا يستعمله القوم من الصوفيّة من الرموز في حديثهم وعما يأتون به من المتشابه في مؤلفاتهم، هل لهم في ذلك مستند من الشرع ؟
فأجاب قائلا نعم، مستندهم في ذلك مفتتح السور من كتاب الله، وما أشبه منه، ومن سنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
سئل رضي الله عنه عن بعض الذاكرين، أنّهم في حلقة الذكر، لا يقولــون إلاّ ها، ها، ها فما معنى ذلك ؟، وكأن السائل يريد الاعتراض على الذاكرين
فأجاب قائلا وهل عرفت معاني بقيّة الأذكار الإلهيّة، ولم يبق لك إلاّ هذا المعنى تعرفه؟، فقال السائل وهل هذا من جملة الأذكار؟، فقال له الأستاذ وما يدريك أن يكون منها!، فقال السائل فمن أين جاء، ومن أين يؤخذ؟، قال الأستاذ في قوله تعالـى كهيعص ذكر / مريم آية / 1 ، وهل ترى أنّ هذه الهاء لا معنى لها في الواقع، حفظنا الله من سوء الظنّ ثمّ قال إنّ اسم الجلالة لا يتغيّر بنقص بعض الحروف منه، فالكمال فيه غير متفرّق على الحروف، وإنّما هو موجود في كلّ حرف، حرف، فلو استعملت حرفا منه، ودمت عليه، لجاءك الفتح كما يجيئك من أصله، ألا ترى لو حذفت الألف لبقي لله وهو من أسمائه معقول المعنى، ولو حذفت من اللام الأولى لبقي له، ولا يخفى ما في ذلك لفظا ومعنى، ولو حذفت اللام الثانية، لبقيت الهاء، وهي هوية الشيء، أي عين الاسم، وضمير المسمّى، لأنّ الضمّة إذا أشبعت يتولد عنها واو، فتقول هو
سئل رضي الله عنه عن قول ابن الفارض رضي الله عنه مناجيا الله بقوله
وإذا سألتك أن أراك حقيقة فاسمح ولا تجعل جوابي لن ترى
وقال السائل فهل يريد ابن الفارض أن تكون له حظوة عند الله أكثر ممّا لموسى عليه السلام ؟ وإلاّ فما معنى قوله ولا تجعل جوابي لن ترى
فأجاب قائلا حاشا لله أن يتوّهم ابن الفارض ذلك، وبيان المسألة أنّ سيدنا موسى عليه السلام، بعدما سدّ الله تعالى في وجهه باب الرؤية بقولــه لن تراني ! أعقبه جبرا لخاطره، وهو قوله ولكن انظر إلى الجبل / الأعراف آية / 143، ولا شكّ أنّ في هذا الخطاب الأخير ما يستروح إليه طالب الرؤية، بخلاف ما لو قطع الحديث عند قوله لن تراني، وهو ما اختاره ابن الفارض أن يكون جوابا له، فكأنّه يقول إن وقع وسألتك أن أراك حقيقة، فلا تجعل جوابي مقصورا على قولك لن تراني، بل أعقبه بشبه استدراك مثل ما فعلت مع موسى، حيث أحلته على النظر إلى الجبل، لأنّ في استلفاتك له أن ينظر إلى الجبل ما يسليه عن منع الرؤية المجرّدة، وهذا ما كانت تنحصر فيه مسألة ابن الفارض، والله أعلم
سئل رضي الله عنه هل قول المجتهد حجّة على قول غيره من المجتهدين، وهل يسوغ التمسّك به مع تقبيح التمسّك بغيره ؟
فأجاب قائلا إنّه يجب على من يريد الاستدراك على فساد مذهب من المذاهب، أن يدرك قبل كلّ شيء كون أقوال الأئمة، أو نقول العلماء، لا تؤخذ في بعضهم مهما كانت المراتب متقاربة من بعضها، وإلاّ لكانت المذاهب قاضية على نفسها بنفسها، بالنظر لما قالته، وقيل فيها، وبالجملة فإنّ كلّ من يحتمل أن يقول أو يقال فيه، لا يعدّ قوله حجّة على نظيره، وبهذا يسلم الحدّ لمحدوده، لأنّ المجتهد إذا نفى حكما أو أثبته آخر، لا يكون بدعة، فمن ذلك الإشارة باليد في الصلاة، فقد نفاها أبو حنيفة، وأثبتها باقي الأئمة لثبوت أدلتها عندهم، ونفيها عنده، ومن ذلك الأربع ركعات التي بعد الظهر، لكونها بتسليمتين أو تسليمه واحدة، ومن ذلك البسملة في الفريضة، إلى غير ذلك
سئل رضي الله عنه عن قول من يقول بحذف الوسائط بين العبد وربّه، وأنّ وجودها يكون مزاحما للتوحيد، وأنّ الله لم يترك بينه وبين خلقه ما تحلّ به الواسطة ما دام أقرب إليه من حبل الوريد ؟
فأجاب قائلا إنّه يسوغ هذا القول لمن تحقّق قرب الله منه، ولكن لا يمنعنا أن نسأل حضرة هذا القائل هل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان ينقصه ذلك القرب، حتى اتخذ جبرائيل واسطة بينه وبين الله؟، اتخاذ ذلك يعتبر مزاحما للتوحيد، أم القرآن لم يصب في قوله وابتغوا إليه الوسيلة / المائدة آية / 35، أم هاته المغالطات، وما هذه التشكيلات ؟
سئل رضي الله عنه هل يكون في الأمّة المحمديّة من خواصها من يقوم مقام الأنبياء ؟
فأجاب قائلا لو لم يكن فيها من لم يقم بذلك المقام، لما تصرف المجتهدون في الأحكام فمنهم من حلّل، ومنهم من حرّم، لكن على شرط أن يكون ذلك من مدخولات الشرع العامّة
سئل رضي الله عنه عمن يطلقون ألسنتهم في المنتسبين على أنّهم مقصّرون في عدّة أمور، وأغلبهم أميّون لا يحسنون الكتابة، وما هو من ذلك القبيل ؟
فأجاب قائلا بديهة بما معناه إنّ الإسلام والله لهو دين الأميّين، وقد بعث الله فيهم رسولا من أنفسهم، يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، فالحكمة أميّة، ولا تكون غالبا إلاّ بين الأميّين، وإنّي قد رأيت الأميّين والله في شغب من أهل الكتاب قديما وحديثا، فبهت الجميع حيرة، ممّا وقعوا فيه
وقد كان رضي الله عنه ذات يوم بمحضر من الفقراء وغيرهم، ولمّا أخذ في الكلام كعادته التي بحقّها تعدّ من خرق العوائد، بما يبديه من الأسرار التي تعجز عن تصويرها الأفكار، قال له أحد المشايخ كان بجنبه يا سبحان الله قد بلغنا عنك عدم اشتهارك بملازمة الدروس حالة التعليم، فقال له وتلك حجّتنا أتيناها إبراهيم على قومه / الأنعام آية / 83
سئل رضي الله عنه عن ختم النبوءة ؟
فأجاب قائلا إنّ الختم هو عبارة عن تمام الشيء ونهايته، وقد ينتهي الشيء في نفسـه إنّ الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد / القصص آية / 85، وإلى ذلك الإشارة بقوله صلّى الله عليه وسلّم إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإيضاح ذلك، أنّ النبوءة خط مستدير كخاتم متآلف من نقط، وهي الأنبياء والنقطة الجامعة ما بين طرفي حلقات الخاتم، هي سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وبمناسبة ما له من المزايا من جهة اختصاص نقطته باختتام دائرة النبوءة عن بقيّة النقط قال أنا سيد ولد آدم ولا فخر، ثمّ إذا اعتبرنا حلقة خاتم النبوءة، بعد تواصل الأطراف بعضها ببعض، ظهرت لنا كلّ نقطة من نقطها جامعة بين طرفيها، ولو جردتها لوقع الانفصال، فتساوت النقط بهذا الاعتبار، ولهذا قال صلّى الله عليه وسلّم لا تفضلوني على أخي يونس، لا نفرق بين أحد من رسله / البقرة آية / 285، لأنّ التفريق وصمة في دائرة النبوءة، وقد تقدّم لنا أنّها واحدة متألفة من نقط متواصلة ببعضها، ومنتهى الدائرة هو عين مبدئها، قال صلّى الله عليه وسلّم نحن الآخرون السابقون
سئل رضي الله عنه هل علم التصوّف يوجد في بقية الأديان من غير الدين الإسلامي ؟
فأجاب قائلا إنّ دين الله واحد، والتصوّف زبدته، ولهذا تجد في كلّ الملل آثاره، وفي الملّة الإسلاميّة الآن جوهره، فمن أخذ به أخذ بالغاية من الدين، وهذا مسلّم ما دمنا نعتقد مقام الإحسان منتهى سير المتدينين إنّ رحمة الله قريب من المحسنين / الأعراف آية / 56
سئل رضي الله عنه عن معنى الشريعة، والطريقة، والحقيقة، وقال السائل إنّ من الناس من يقول بوجود التنافر بين الحقيقة والشريعة، وإنّ الباطن قد يباين الظاهر، وغير ذلك ممّا يستعصي تطبيقه على مراد الشارع فيما ظهر،
فأجاب قائلا لا تنافر، وليس هناك ما يستعصي تطبيقه على مراد الشارع مهما استقصينا المسألة من أصلها، وعبّرنا عن الأشياء بكنهها وحقائقها نعم، قد يظهر شيء من التنافر، ولكن سببه ضعف التعبير، وإلاّ فأي خلاف أو تناقض إذا قلنا إنّ الشريعة هي عبارة عن الأحكام المنزلة على سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، المستفادة من قوله تعالى وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا / الحشر آية / 7، والطريقة هي عبارة عن تطبيق تلك الأحكام على أعمال المكلّف، ظاهرا وباطنا، تطبيقا محكما والحقيقة هي ما يحصل للمريد من المعارف والعلوم الناشئة عن أعماله، قال تعالى واتقوا الله ويعلّمكم الله / البقرة آية / 282، وإذا لا تنافر بهذا الاعتبار إنّما هي ألفاظ منها ما وضع لتدل على الأحكام المجرّدة باصطلاح، ومنها ما وضع، لتدل على العمل بها، ومنها ما وضع، لتدلّ على النتائج الحاصلة عن ذلك العمل، وإذا حققت لم تجد هناك إلاّ الشريعة
فقال السائل ولم سمينا تطبيق أوامر الشرع على أفعال المكلّف بالطريقة، وما ها المناسبة ؟
فقال الأستاذ إنّ تطبيقه ذلك يعتبر منه تزحزحا في سبيل القرب إلى الله عزّ وجلّ، لما في الحديث القدسيّ ما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحبّ إليّ ممّا افترضته عليه، فيصح أن يطلق على ذلك العمل سيرا وطريقا أيضا، فتأمل رعاك الله
سئل رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه أشرف المخلوقين فكيف حتى جاء جبريل عليه السلام بينه وبين ربّ العالمين؟، وما كان يريد هذا السائل أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو الواسطة بين الحق والخلق، فكيف جاءت واسطة قبله ووقف دونتها ؟
فأجاب قائلا إنّ جبريل عليه السلام، ليس هو بأجنبي عن محمد صلّى الله عليه وسلّم وإنّما هو روحه، فظاهره محمد، وباطنه جبريل، فهو عليه الصلاة والسلام متصّل بالخلق من جهة شبحه، ومتصّل بالحقّ من جهة روحه، فكانت له المناسبة من الوجهين والروح واسطة بين ما يتلى على سرّه، ويظهر على شبحه وأوحينا إليك روحا من أمرنا / الشورى آية / 52، فلا يجنح بك الانفصال، وتحجب عن المعاني بالأقوال، بقدر ما تحتمله العقول
أجوبته عن بعض المسائل القرآنيّة
سئل رضي الله عنه عن قوله تعالى فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون / البقرة آية / 152
فأجاب قائلا أمّا ذكرنا له تعالى فهو قولنا لا إله إلاّ الله، أو ما يشاكله من أسماء الله الحسنى، وهو مفهوم ضرورة لا إشكال فيه، أمّا ذكره تعالى لذاكره فهو محل الإشكال في تصوير كيفيته وأسلوبه، فكيف يكون يا ترى؟، يريد بهذا التوجيه شحذ قرائح أتباعه، ولمّا علم منهم القصور عن الخوض في المسألة، قال استلفتنا تعالى بهذه الآية الكريمة لما يخلّد ذكرنا في التاريخ، فكأنّه يقول إن أردتم أن تذكروا باحترام فيما سيأتي من الأمم والأجيال، فاذكروني، أذكركم على ألسنتهم، ومن أجل هذا ترى الذاكرين لن يزالون مذكورين على ألسنة العموم والخصوص، وذلك هو نفس ذكر الله لهم، جزاء وفاقا، لأنّ الجزاء من جنس العمل والله أعلم
سئل رضي الله عنه عن قوله تعالى حكاية عن سيدنا إبراهيم عليه السلام إذ قال ربّ أرني كيف تحيّ الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهّن إليك ثمّ اجعل على كلّ جبل منهن جزءا ثمّ ادعهن يأتينك سعيا / البقرة آية / 260، قال السائل تشعرنا هاته الآية بأنّ سيدنا إبراهيم عليه السلام كان على غير اطمئنان من وجود النشأة الأخرويّة، ونظير هذا مخلّ بمقام النبوّة
فأجابه قائلا إنّ سيدنا إبراهيم عليه السلام، كان يريد بسؤاله أن يربط منتهى إيمانه بمبدأ شهوده، وهو من السير في طريق الله عزّ وجلّ، وحقّنا أن نعتبر ذلك درسا لنا، حتى لا نقتصر على ما بأيدينا من الإيمان، وفي وسعنا أن نربطه بطرف من المشاهدة، لأنّ درجة الخبر أو الدليل لا تقوى قوّة المشاهد كيفما كان الحال، ومن ذلك قول سيدنـا موسى عليه السلام ربّ أرني انظر إليك / الأعراف آية / 142، والمحصّل مما قدمناه أنّه لا يحصل الاطمئنان في العقائد إلاّ إذا تعزّز جانبها بشيء من لوائح المشاهدة، والله أعلم
سئل رضي الله عنه عن قوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا / المائدة آية / 3
فأجاب قائلا بعد الديباجة مختصرا أراني ملزما يا حضرة الأخ بذكر أمر طالما تردّد ذكره في مكاتباتكم، كمكاتبات غيركم من بعض كتّاب العصر، وقد جئتم به في هذا الكتاب الأخير أيضا بقصد الاستدلال على محدثات المتصوّفة، وأنّها ليست من الدين في شيء، وأكبر عمدتكم في ذلك قوله تعالى الآية في هذه المسألة، تريدون بذلك أنّ ما لم يكن دينا في ذلك الحين، ليس هو بدين من بعد، وهذا شيء جميل، لو يقع تسلّطه على إخراج ما أحدثه المتصوّفة من وظائف الأذكار وغيرها لكن بعيد أن يستقيم لنا ذلك، إلاّ إذا أخرجت معه سائر اجتهادات المجتهدين وأقوال العلماء العاملين، ولا شكّ أنّه قضاء مبرم على سائر الأحكام الشرعيّة، المقرّرة من طريق الاجتهاد، والحكم عليها بأنّها ليست من الدين، بدعوى أنّها جاءت بعد كمال الدين وإتمام نعمته على المسلمين، المفهومات من صحيح الآية، ولا شكّ أنّ مقالتك هذه تنتج لنا من الاعتقاد ما لا تقول به أية فرقة من فرق الإسلام المنحرفة، فضلا عن أهل السنّة المتبوعة الذين أنت من أفرادهم
ونحن إذا نظرنا إلى ما أسسته الصوفيّة من وظائف الأذكار، والتقييدات في الأعداد، وغير ذلك أنكرتموه، ثمّ نظرنا إلى ما أسسه المجتهدون من الحكّام وقنّنوه من القوانين، نجد الأول نزرا قليلا بالنظر إلى الآخر!
على أنّ المجتهدين حلّلوا وحرّموا وأوجبوا وندبوا، الأمر الذي لا يذكر أمامه ما أحدثه القوم من القوانين، مقالة أنّ جميع ذلك بعد كمال الدين وإتمام النعمة
وإذا، فما يقول حضرة الشيخ في جميع ذلك ؟، هل يتسنى له القول بأنّ الأمّة من عهد المجتهدين إلى يومنا هذا، تدين لله بغير الدين المنزل على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، المختتم بقوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم، وزيادة على هذا إنّ الأمر لا يقف عند هذا الحدّ بل يتعدى إلى سائر الأحكام المستفادة من أقوال الصحابة والتابعين، وحتى المنصوص عليها من أعمال الخلفاء الراشدين، على أنّ جميعها جاء بعد نزول الآية الكريمة، فلا تفوتك يا حضرة الشيخ تلك النوازل على صلاة التراويح بالمسجد لم يقرر العمل به إلاّ في خلافة عمر بأمر منه، وكان الحال في عصر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على خلاف ذلك، وأنّ الطلاق الثلاث دفعة واحدة، كان على عهد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وخلافة أبي بكر، وطرف من خلافة عمر رضي الله عنهما يعتبر طلقة واحدة، ثم بدا لهذا الأخير أن يعتبره ثلاثا باتا، فنجد رأيه في ذلك، ووافقه عليه الصحابة رضوان الله عليهم، وها هو الآن يجري عليه العمل!، وأنّ حدّ شارب الخمر، كان في عهد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وخلافة أبي بكر مقيّدا بأربعين جلدة، وزاد فيه عمر إلى الثمانين، وعلى ذلك جرى العمل، وقس على ذلك بقيّة النوازل، والحالة أنّ جميع ذلك بعد نزول الآية الكريمة، فهل يتسنى لكم القول بأنّ ذلك ليس من الدين ؟ ! كلا، لا تطاوعك نفسك، ولا نفس أي مؤمن يشبه ذلك القول
وفي ظنّي أنّك تدرك كون الأمر لا يقف عند هذا الحدّ أيضا، بل يتعدّاه إلى سائر الحكام المستفادة من الأحاديث النبويّة، التي جاءت بعد نزول الآية، أعني بعد كمال الدين وإتمام النعمة، فوجودها مساو لوجود غيرها بالنظر لمقتضى الآية
ونحن مهما اعتبرنا ما جاء من الأحاديث، عقب تلك الآية، لا يصحّ الاحتجاج به لزمنا التوقف في عموم الأحاديث التي نجهل تاريخ وقوعها، وهي ليست بقليلة العدد، نفعل ذلك لئلا ندين لله بغير دينه المختم بقوله اليوم أكملت لكم دينكم، على أنّ رواة الحديث لم يتعرّضوا في الغالب لما يرجع للتاريخ، ولا شكّ أنّ أمرا كهذا يجرّ لنا وللمسلمين من الوبال ما لا يخفى على مثلكم، وكأنّي بكم تظنون أنّ الأمر يقف عند هذا الحد أيضا ؟، ولهذا ظهر لي أن أذكر لك ما هو أعظم منه
فأقول إنّه يلزم على ذلك المعتقد خروج جملة من الأحكام السماويّة المنصوص عليها بالآيات القرآنيّة، واعتبارها أنّها ليست من الدين، وإليكم من الإيضاح ما يتعين عليكم الوقوف عنده، ولو شيئا قليلا، حتى تدركوا مصداق الحديث، وما يجري إليه السياق
ذكر السيوطي في كتابه الإتقان ما نصه إنّ من المشكل قوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم، فإنّها نزلت بعرفات عام حجّة الوداع، وظاهرها كمال جميع الفرائض والأحكام قبلها، وقد صرّح بذلك جماعة، مع أنّه ورد في آيات الربا والدين والكلالة أنّها نزلت بعد ذلك، وقد استشكل ذلك ابن جرير، فقال الأولى أن يتأول على انّه أكمل دينهم بإقرارهم بالبلد الحرام، وانجلاء المشركين عنه
ومحل الشاهد أنّه يلزم إخراج هاته الأحكام المستفادة من هاته الآي من دائرة الدين، فبعيد، والله أن يعتقد المسلم نظير ذلك، ولهذا حمل المفسرون هاته الآية على محمل غير المحامل التي يحملها عليها كتاب عصرنا
وإنّي أرى أحسن ما ينبغي أن تحمل عليه، هو أنّ المراد بكمال الدين، يعني أصوله وقواعده الجوهريّة، وأمّا ما وراء ذلك من الفرعيّات فلا نراه من مدخول الحكم، ولا تراه أنت يا حضرة الشيخ، إلاّ من طريق رجوع الفروع إلى أصولها، لأنّها تعتبر كامنة فيها، ككمون النخلة في حبّة النواة ؟، ألهمني الله وإياكم من العلم ما يكون أساسه التقوى
وهذا ما فهمناه نحن من الدين، وما معنى كماله وإتمام النعمة على أهله، فإن كان له موقع عندكم فذاك، وإلاّ فأرشدونا لفهم أعلى من ذلك، وأجركم على الله
وثق يا حضرة الشيخ، فإنّ فهمك السابق في الآية الكريمة ليس هو من العلم في شيء، ولا ممّا يحسن اعتقاده، ولا أقول لكم أنّكم اعتقدتم ذلك القول بحيث صدر منكم عن تمحيص وإمعان، أو بنيتموه عن حجّة وبرهان إنّما اعتقادي فيكم أنّكم جريتم فيه على قلّة التثبت، وأعانكم على ذلك حسن ثقتكم بأنفسكم من جهة مكانتكم العلميّة
والحالة أنّنا وأنتم ممّن هو حقيق أن يقال له علمت شيئا وغابت عنك أشياء، مع أنّ الأجدر أمثالنا قبل كلّ شيء، هو إدراك التقصير من أنفسنا، وهذا فيما نعلم، وأحرى فيما لا علم لنا به
وإذا فواجب النصيحة يقضي عليّ أن أقول لك نظير ما جاء في الرسالة الخروبيّــة، حيث يقول صاحبها يجب على الفقيه أن يرفق بنفسه، وإن يعلم مقامه في الدين، فلا يمدّن يده الفارغة، إلى ما فوق طوره من المقامات العرفانيّة، والأحوال الربانيّة، حتى يذوق ما ذاقت الرجال، لا أحرمنا الله، وإيّاكم من سلسبيل معارفهم، وفي الأخير أرجوكم يا سيدي أن لا ترسلوا النصوص في الاستدلال، قبل تأملها فإنّ الأمر ليس بالهين، وهذا ما سبق فيه اختياري لنفسي، اخترته لكم والسلام
سئل رضي الله عنه عن قوله تعالى إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر / العنكبوت آية / 45، فكيف يكون الذكر أكبر، مع أنّ الصلاة تشتمل على أذكار وأدعية وغير ذلك ؟، وعليه فما هو الذكر؟
فأجاب قائلا إنّ معنى ذلك والله أعلم أنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر كيفما كانت بحضور، أو بغير حضور، ولذكر الله فيها، أي تذكر المصلّي في صلاته بأنّه مع الله، سواء كان على سبيل المراقبة أو على طريق المشاهدة، فهو أكبر في النهي، والمعنى راجع إلى نفس الصلاة لا غير والله أعلم
سئل رضي الله عنه عن قوله تعالى فمن اهتدى فإنّما يهتدي لنفسه ومن ضلّ فإنّما يضلّ عليها / يونس آية / 108
فأجاب قائلا جاءت هاته الآية على ما يتبادره الفهم الخاصّ، تشعرنا بأنّ الهداية محصورة في معرفة النفس، كما إنّ الضلالة محصورة في عدم معرفتها، فكأنّه تعالى يقول فمن اهتدى هداية لا يشقى بعدها أبدا، ولهذا جاءت الهداية محصورة بإنّما، وبعبارة أخرى فمن اهتدى فغاية ما يهتدي إليه، أن يهتدي لنفسه، أي يعرفها على ما هي عليه، والذي يشعرك بهذا، ما يروى في الأثر انّه من عرف نفسه فقد عرف ربّه، والعكس بالعكس، فمن جهل نفسه فقد جهل ربّه، وهو قوله ومن ضلّ فإنّما يضلّ عليها، فجاءت الضلالة أيضا محصورة بإنّما فكأنّه تعالى يقول لا ضلال أضلّ من ضلّ عن نفسه أن يعرفها، فهذا هو الضلال البعيد، فأشدّ ما يعاتب به العبد أن يضلّ عن نفسه من أن يعرفها، قال تعالى نسوا الله فأنساهم أنفسهم / الحشر آية / 19، قــال أبو يزيد البسطامي رضي الله عنه طلبت ذاتي في الكونيين فلم أجدها، إلى أن انسلخت عنّي فعرفت من أنا، قال تعالى قد أفلح من زكّاها , وقد خاب من دسّاها / الشمس آية /9, 10، نفعنا الله بخيرها وأعاذنا من شرّها آمين
سئل رضي الله عنه عن قوله تعالى وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظنّ أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلاّ أنت سبحانك إنّي كنت من الظالمين / الأنبياء آية / 87، وقال السائل إنّ الآية تفيد كأن يونس عليه السلام أصابه شكّ في قدرة القادر؟
فأجاب قائلا حاشا لله أن يتشكّك أحد من المرسلين في قدرته تعالى إنّما ظنّه في قولـه فظنّ أن لن نقدر عليه، أي أن لن نضيق عليه على حدّ قوله تعالى ومن قدر عليه رزقه فلينفق ممّا أتاه الله / الطلاق آية / 7، ولمّا كان الله عند ظنّ عبده المؤمن به، انتفع سيدنا يونس بظنه، وأنت ترى كيف أنقذه الله من بطن الحوت، ولولا حسن الظنّ للبث في بطنّه إلى يوم يبعثون
سئل رضي الله عنه عن قوله تعالى ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه / طه آية / 114
فأجاب قائلا على ما تعطيه الإشارة إنّ النهي عن العجلة جاء متعلّقا بتفسير معاني القرآن، كأنّه يقول تعالى، ولا تعجل يا محمد بتبيين جميع معاني القرآن، قبل أن يأتي أوانها وإن من شيء إلاّ عندنا خزائنه وما ننزّله إلاّ بقدر معلوم / الحجر آية / 21 ، فالقرآن وإن انقضى وحيّه لك من جهة الأحكام، فهو لا ينقضي من جهة ما احتوى عليه من الإلهام، فلا يسمح لك إلاّ بإظهار ما هو مستحق الظهور، وما زاد على ذلك من غرائبه فاتركه لأوانه، يظهره الله تبارك وتعالى على ألسنة علماء أمّتك، وقد أشار بعضهم إلى هذا المعنى بقوله الحقّ يجري على ألسنة علماء كلّ زمان بما يليق بأهله، والمراد بالعلماء، العلماء بالله، المشار لهم في الحديث العلماء ورثة الأنبياء، والنكتة في قوله ورثة الأنبياء بدلا أن يقول ورثة الرسل تفيدنا تحجيرهم على عدم مجاوزتهم على ما أحاط به القرآن
والمعنى إنّ الإلهام الذي خصّهم به الحقّ عزّ وجلّ، وإن كان هو قسم من أقسام الوحي، جاءهم مقصورا على القرآن، لا يتجاوزه لما وراء ذلك فما زالوا رضي الله عنهم يستخرجون من معاني القرآن، ما لا تحتمله الأذهان، وكلّ ذلك من أثر الوحي وشعاعه المتّصل إلى قلوبهم، من الحضرة النبويّة، فما زالوا ينفقون مما خصّهم الحقّ عزّ وجلّ به من عجائب القرآن، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، والقرآن لا تتناهى معانيه، والذي يشعرك به قوله صلّى الله عليه وسلّم القرآن لا تنقضي عجائبه، والله أعلم
سئل رضي الله عنه عن قوله تعالى ادع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن / النحل آية / 125
فأجاب قائلا إنّ القوم الذين أقامهم الله تعالى لدعوة الخلق، عرّفهم أسلوب التذكير، فينقاد لهم بسبب ذلك الكبير والصغير، والجليل والحقير، كلامهم مقبول في الأسماع لأنّ وعظهم يصدر من القلوب، لا من الكتب، والكلام إذا صدر من القلب وقع فيه، فلهذا أثّرت في القلوب موعظتهم، وسارت في المريد إشارتهم، وقد فهموا الآية الكريمة!، إنّ الناس جاءت على أزواج ثلاثة، والرسول صلّى الله عليه وسلّم يقول أنزلوا الناس منازلهم، فالقسم الأول من الأقسام لا ينقاد للمذّكر إلاّ بالحكمة، وهم الخاصّة من عباد الله، والقسم الثاني تفيده الموعظة الحسنة، الواقعة بين ترغيب وترهيب، أي برفق وملاطفة، القسم الثالث أهل المجادلة، وهو الذي أتعب المرشدين، رسولا ووليّا، فأباح الله للرسول فتح باب المجادلة معهم، إلاّ أنّه قيّدها بالتي هي أحسن، وهكذا الأحسن فالأحسن، ولهذا كان السيف آخر درجات التبليغ، ومن تخلّف عن هاته الخطّة المشروعة للتذكير، ففي الغالب يكون أمره مردودا عليه، وكلّ ذلك يستفاد من قوله صلّى الله عليه وسلّم من أمر فليأمر بالمعروف، أي برفق ولين، ليكون أدعى للقبول، والله أعلم
سئل رضي الله عنه عن قوله تعالى إنّا فتحنا لك فتحا مبينا , ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخر ويتمّ نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما , وينصرك الله نصرا عزيزا / الفتح آية / من 1 إلى 3، هل المراد بالفتح فتح مكة، أو قصّة الحديبية حسبما جرى عليه أكثر المفسرين، أم يشير إلى ما هو أعلى من ذلك؟
فأجاب قائلا إنّ التعليل في قوله تعالى ليغفر لك الله، ينافي كون الفتح على ما جرى عليه بعض المفسرين، لأنّه لا مناسبة لتعليق المغفرة على فتح مكّة، أو نحوها من المدن، ولو كان المراد فتح مكّة، لقال ليمكن لك في الأرض أو لينصرك، وما هو من هذا القبيل، وعليه فلزمنا أن نحمل الفتح على الفتح الأكبر، الذي هو أخصّ وأحرى بهذا المقام، وليس المراد به إلاّ فتح البصيرة، وتمكّن القلب من شهود الحقّ عزّ وجلّ، ولمّا كان الفتح قد يكون غير مبين، وهو المحتمل لعودة الحجاب قيّده تعالى بالمبين، فقــال إنّا فتحنا لك فتحا مبينا، والمعنى أنّه مأمون العاقبة ممّا يطرقه من الشوائب، وما فتحنا لك هذا الفتح يا محمد إلاّ ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك، وهو الذنب الذي كان يستغفر منه صلّى الله عليه وسلّم كقوله سبحانك ظلمت نفسي وعملت سوءا فاغفر لي فإنّه لا يغفر الذنوب إلاّ أنــت، وقد يستبعد المؤمن صدور الذنب منه صلّى الله عليه وسلّم، وكيفما كان لا يتصور أنّه ذنب، لكن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم تحقّقه من نفسه، ولولاه لما استغفر الله، ولنذكر لكم شيئا ممّا أطلعني الله عليه في هذا الباب، فأقول إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يجب عليه أن يؤمن برسالته كما يؤمن به غيره، وإلى ذلك الإشارة في قوله تعالى أمن الرسول بما أنزل إليه من ربّه / البقرة آية / 285، وبهذه المناسبة لمّا تحقّق من نفسه بالرسالة ظهر له وجود التقصير من نفسه مع نفسه، حيث إنّه كان يعاملها معاملة دون اعتبار، لأنّه غاية ما كان يرى لنفسه أنّه محمد بن عبد الله، ولا شكّ أنّ من كان مع أحد من رسل الله وهو يعلم بأنّه رسول، لا يخلو من الإساءة والتقصير، على ما تقتضيه المعاشرة، وعندما يتضّح له أنّه رسول الله، تبين له هفواته وتقصيراته التي كان يرتكبها من قبل، ويعقبها من الكمد ما يفضي به إلى الالتجاء إلى الله عزّ وجلّ من ذلك التقصير، وهكذا حاله صلّى الله عليه وسلّم، فإنّه كان لا يرى نفسه إلاّ محمّد بن عبد الله، ولما فتح الله عين قلبه، بحيث أبصر ما هو عليه وما يجب في حقّه، من احترام مقامه الذي هو به رسول، كما يحترمه غيره، قال صلّى الله عليه وسلّم ظلمت نفسي فيما قبل من جهة عدم إعطائها ما تستحق، وما كنت أعترف لها بالرسالة، ولا أنّها أشرف البريّة، فقال له تعالى ما فتحنا لك ذلك الفتح إلاّ ليغفر لك الله ما تقدّم من ذلك الذنب، وما تأخر منه إن كان أيضا، لأنه قد يتلاهى عن نفسه وربما ينظرها باحتقار، فأخبره تعالى أنّه يتجاوز عن مثل ذلك، ولمّا كان محمد صلّى الله عليه وسلّم قد يتخيّل عدم تمام النعمة، فقيل له وما فتح لك ذلك الفتح المبين إلاّ ليتمّ نعمته عليك، ويهديك صراطا مستقيما، وينصرك الله نصرا عزيزا، وعليه فيؤخذ من ذلك أنّ كلا من غفران الذنوب وسلوك سبيل الرشاد والنصر، وسلامة العاقبة، معلّق على الفتح المبين، فمن فتح الله عليه فتوح العارفين الوارثين، لم يتردد في كونه مغفورا له منصورا ومهديا، وما ارتدّ من ارتدّ إلاّ من الطريق، وحصل له فتح غير مبين وإلى ذلك الإشارة في قوله تعالى والعاقبة للمتقين / الأعراف آية / 128
أجوبته عن بعض الأحاديث النبويّة
سئل رضي الله عنه عن قوله صلّى الله عليه وسلّم أباؤكم خير من أبنائكم إلى يوم القيامة، فما معنى هذا الحديث؟، فعلى ما يظهر من ظاهر الحديث تشريف الآباء على الأبناء إلى يوم الدين، والحالة أنّ الواقع يقتضي خلاف ذلك، فإنّ كثيرا من الأبناء حصل شرفا لم تحصّله الأجداد
فأجاب قائلا إنّ هذا الحديث ممّا تداولته ألسنة العموم والخصوص، ولا أرى فيما أعلم من أفصح عن معناه، أو تدبر في مبناه، والحالة أنّه أسهل من أن يستشكله لبيب لأنّه لم يقل صلّى الله عليه وسلّم الآباء خير من الأبناء، حتى يلتبس الأمر، إنّما قال للمخاطبين، آباؤكم خير من أبنائكم، أي آباؤكم لكم، والمعنى إنّ كلّ إنسان في نفسه أبوه خير له من ابنه، وذلك لما كان يعلمه صلّى الله عليه وسلّم من أنّ النفس تميل بالطبع للبنين دون الآباء، والحالة أنّ الإنسان أبوه خير له من ابنه دنيا وأخرى، ووجه الخيريّة من جهة الدنيا، إنّ الأب لا يحمل الابن على اقتحام المخاطر، بخلاف ابنه فإنّه يحمله بالطبع إنّما أموالكم وأولادكم فتنة / التغابن آية / 15، ومن جهة أخرى إنّ مادة الأجر الواصلة إليه من إحسانه لوالده، أكثر من الواصلة إليه من إحسانه لولده، وهكذا إلى يوم الدين
سئل رضي الله عنه عن قوله صلّى الله عليه وسلّم الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا
فأجاب قائلا نعم إنّهم نيام، ومن ذلك أنّ الصحابة رضي الله عنهم رأوا رجلا قدم على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يسأله عن الدين، فأوّل لهم ما راؤه صلّى الله عليه وسلّم بجبريل عليه السلام، أن قال لهم هذا جبريل جاء يعلمكم دينكم، لأنّه مستيقظ وهم نيام، لقوله صلّى الله عليه وسلّم نحن معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا
سئل رضي الله عنه عن قوله صلّى الله عليه وسلّم افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وتفرقت أمّتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلّها في النار إلاّ واحدة، وهي ما أنا عليه وأصحابي، رواه السيوطي في الجامع الصغير
فأجاب قائلا إنّ هذا الحديث ممّا يقضي على الأمّة المحمديّة بالهلاك، مهما فهمناه حسبما فهمه أغلب المفسرين، لأنّه صريح في نجاة جزء من ثلاث وسبعين جزءا من الأمّة المحمديّة، وعليه فالمرجو من الله والموافق لرأفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمؤمنين، أن نحمل ذكر الأمّة في الحديث على أمّة الدعوة، لا على أمّة الإجابة، لقوله صلّى الله عليه وسلّم أنا رسول من أدركته حيّا، ومن لم يولد بعدي، ويتضح لك المعنى من أنّ الأمّة هنا المراد بها أمّة الدعوة، لقوله صلّى الله عليه وسلّم من كان آخر كلامه في الدنيا لا إله إلاّ الله دخل الجنّة، وقوله تعالى إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء / النساء آية / 48 وغير هذا
ومن المعلوم أنّ أمّة الإجابة لم تعدم حظها من توحيد الله، والإقرار برسالة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإن تفرّقت من حيث الفروع فأصلها ثابت، وشفاعته صلّى الله عليه وسلّم محيطة بمن انتسب إليه، كيفما كان، والظنّ في الله حسن
ومن المحتمل أنّ الملل كانت قبل بعثة موسى عليه السلام، بالغة إلى حد السبعين فرقة والملّة التي جاء بها موسى عليه السلام هي تمام الإحدى والسبعين فرقة، والجميع في النار إلاّ ما كان عليه موسى عليه السلام وأتباعه، ولمّا بعث الله عيسى عليه السلام، كانت ملته هي تمام الاثنين والسبعين فرقة، والجميع في النار إلاّ ما كان عليه عيسى وأتباعه، ولمّا بعث الله سبحانه وتعالى سيدنا محمدا صلّى الله عليه وسلّم بشريعة سمحة عادت الفرق مع ما سبق ثلاثا وسبعين فرقة، والجميع في النار إلاّ ما كان عليـه محمد صلّى الله عليه وسلّم وأتباعه، والجميع أمتّه من جهة الدعوة حسبما سبق، والظنّ في الله جميل، وهو حسبنا ونعم الوكيل
=======================
أجوبته عن المسائل العلميّة والدينيّة
سئل رضي الله عنه عن مقالة سيدي محي الدين بن عربي الحاتمي رضي الله عنه عينان، عينان لم يكتبهما قلم، في كلّ عين من العينين نونان، نونان لم يكتبهما قلم، في كلّ نون من النونين عينان، عينان لم يكتبهما قلم
فأجاب قائلا بداهة من غير تكلّف على سبيل المفاكهة، وهو جواب لم يخرج عن الحق قائلا إنّ معنى هاته المقالة، وإن أشغلت أكثر المفكرين فهي أقرب شيء للمبتدئين، ومرجعها اللغة لا غير، فالمراد بالعينين اللتين لم يكتبهما قلم المذكورتين في الأول، هما عينان من الماء فإنّهما حقيقة لم يكتبهما قلم
والمراد بقوله في كل عين من العينين نونان، نونان أي سمكتان، لأنّ النون من أسماء السمك، فهما أيضا لم يكتبهما قلم
وأمّا قوله في كل نون من النونين عينان، أي المعدتان للبصر، في كلّ حيوان، والمعنى أنّ العين في الجملة الأولى عائدة على العين الجارية، والعين في الجملة الأخيرة عائدة على الموجودة في السمك وغيره، والنون عائد علىالسمك
ثمّ قال رضي الله عنه وإنّ هذا التأويل وإن لم يحتو على فائدة كبيرة إلاّ أنّه مخرج أقرب إلى الحقّ، بعيد عن التكلّف، والله أعلم
سئل رضي الله عنه من أحد الكاثوليكيين عن سورة سبح قائلا إنّ القرآن يقول فيها إنّها بصحف إبراهيم وموسى، فتتبعنا العهد القديم التوراة ولم نجد لها أثرا ؟
فأجاب قائلا لو أنّكم جعلتم الإشارة في قوله إنّ هذا عائدة على مجرد قوله تعالى بل تؤثرون الحياة الدنيا , والآخرة خير وأبقى / الأعلى آية / 16، 17، لما فاتكم معنى تلك الآية في أسفار الأقدمين وبعبارة أخرى إنّ صحف إبراهيم وموسى لا وجود لها بين دفتي العهد القديم، وهذا ما تعترفون به، ما عدا أسفار التوراة وهي غير الصحف المنصوص عليها، فكيف تطلبون وجود سورة سبح في شيء لا وجود له بأيديكم ؟
سئل رضي الله عنه عمّا يستعمله القوم من الصوفيّة من الرموز في حديثهم وعما يأتون به من المتشابه في مؤلفاتهم، هل لهم في ذلك مستند من الشرع ؟
فأجاب قائلا نعم، مستندهم في ذلك مفتتح السور من كتاب الله، وما أشبه منه، ومن سنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
سئل رضي الله عنه عن بعض الذاكرين، أنّهم في حلقة الذكر، لا يقولــون إلاّ ها، ها، ها فما معنى ذلك ؟، وكأن السائل يريد الاعتراض على الذاكرين
فأجاب قائلا وهل عرفت معاني بقيّة الأذكار الإلهيّة، ولم يبق لك إلاّ هذا المعنى تعرفه؟، فقال السائل وهل هذا من جملة الأذكار؟، فقال له الأستاذ وما يدريك أن يكون منها!، فقال السائل فمن أين جاء، ومن أين يؤخذ؟، قال الأستاذ في قوله تعالـى كهيعص ذكر / مريم آية / 1 ، وهل ترى أنّ هذه الهاء لا معنى لها في الواقع، حفظنا الله من سوء الظنّ ثمّ قال إنّ اسم الجلالة لا يتغيّر بنقص بعض الحروف منه، فالكمال فيه غير متفرّق على الحروف، وإنّما هو موجود في كلّ حرف، حرف، فلو استعملت حرفا منه، ودمت عليه، لجاءك الفتح كما يجيئك من أصله، ألا ترى لو حذفت الألف لبقي لله وهو من أسمائه معقول المعنى، ولو حذفت من اللام الأولى لبقي له، ولا يخفى ما في ذلك لفظا ومعنى، ولو حذفت اللام الثانية، لبقيت الهاء، وهي هوية الشيء، أي عين الاسم، وضمير المسمّى، لأنّ الضمّة إذا أشبعت يتولد عنها واو، فتقول هو
سئل رضي الله عنه عن قول ابن الفارض رضي الله عنه مناجيا الله بقوله
وإذا سألتك أن أراك حقيقة فاسمح ولا تجعل جوابي لن ترى
وقال السائل فهل يريد ابن الفارض أن تكون له حظوة عند الله أكثر ممّا لموسى عليه السلام ؟ وإلاّ فما معنى قوله ولا تجعل جوابي لن ترى
فأجاب قائلا حاشا لله أن يتوّهم ابن الفارض ذلك، وبيان المسألة أنّ سيدنا موسى عليه السلام، بعدما سدّ الله تعالى في وجهه باب الرؤية بقولــه لن تراني ! أعقبه جبرا لخاطره، وهو قوله ولكن انظر إلى الجبل / الأعراف آية / 143، ولا شكّ أنّ في هذا الخطاب الأخير ما يستروح إليه طالب الرؤية، بخلاف ما لو قطع الحديث عند قوله لن تراني، وهو ما اختاره ابن الفارض أن يكون جوابا له، فكأنّه يقول إن وقع وسألتك أن أراك حقيقة، فلا تجعل جوابي مقصورا على قولك لن تراني، بل أعقبه بشبه استدراك مثل ما فعلت مع موسى، حيث أحلته على النظر إلى الجبل، لأنّ في استلفاتك له أن ينظر إلى الجبل ما يسليه عن منع الرؤية المجرّدة، وهذا ما كانت تنحصر فيه مسألة ابن الفارض، والله أعلم
سئل رضي الله عنه هل قول المجتهد حجّة على قول غيره من المجتهدين، وهل يسوغ التمسّك به مع تقبيح التمسّك بغيره ؟
فأجاب قائلا إنّه يجب على من يريد الاستدراك على فساد مذهب من المذاهب، أن يدرك قبل كلّ شيء كون أقوال الأئمة، أو نقول العلماء، لا تؤخذ في بعضهم مهما كانت المراتب متقاربة من بعضها، وإلاّ لكانت المذاهب قاضية على نفسها بنفسها، بالنظر لما قالته، وقيل فيها، وبالجملة فإنّ كلّ من يحتمل أن يقول أو يقال فيه، لا يعدّ قوله حجّة على نظيره، وبهذا يسلم الحدّ لمحدوده، لأنّ المجتهد إذا نفى حكما أو أثبته آخر، لا يكون بدعة، فمن ذلك الإشارة باليد في الصلاة، فقد نفاها أبو حنيفة، وأثبتها باقي الأئمة لثبوت أدلتها عندهم، ونفيها عنده، ومن ذلك الأربع ركعات التي بعد الظهر، لكونها بتسليمتين أو تسليمه واحدة، ومن ذلك البسملة في الفريضة، إلى غير ذلك
سئل رضي الله عنه عن قول من يقول بحذف الوسائط بين العبد وربّه، وأنّ وجودها يكون مزاحما للتوحيد، وأنّ الله لم يترك بينه وبين خلقه ما تحلّ به الواسطة ما دام أقرب إليه من حبل الوريد ؟
فأجاب قائلا إنّه يسوغ هذا القول لمن تحقّق قرب الله منه، ولكن لا يمنعنا أن نسأل حضرة هذا القائل هل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان ينقصه ذلك القرب، حتى اتخذ جبرائيل واسطة بينه وبين الله؟، اتخاذ ذلك يعتبر مزاحما للتوحيد، أم القرآن لم يصب في قوله وابتغوا إليه الوسيلة / المائدة آية / 35، أم هاته المغالطات، وما هذه التشكيلات ؟
سئل رضي الله عنه هل يكون في الأمّة المحمديّة من خواصها من يقوم مقام الأنبياء ؟
فأجاب قائلا لو لم يكن فيها من لم يقم بذلك المقام، لما تصرف المجتهدون في الأحكام فمنهم من حلّل، ومنهم من حرّم، لكن على شرط أن يكون ذلك من مدخولات الشرع العامّة
سئل رضي الله عنه عمن يطلقون ألسنتهم في المنتسبين على أنّهم مقصّرون في عدّة أمور، وأغلبهم أميّون لا يحسنون الكتابة، وما هو من ذلك القبيل ؟
فأجاب قائلا بديهة بما معناه إنّ الإسلام والله لهو دين الأميّين، وقد بعث الله فيهم رسولا من أنفسهم، يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، فالحكمة أميّة، ولا تكون غالبا إلاّ بين الأميّين، وإنّي قد رأيت الأميّين والله في شغب من أهل الكتاب قديما وحديثا، فبهت الجميع حيرة، ممّا وقعوا فيه
وقد كان رضي الله عنه ذات يوم بمحضر من الفقراء وغيرهم، ولمّا أخذ في الكلام كعادته التي بحقّها تعدّ من خرق العوائد، بما يبديه من الأسرار التي تعجز عن تصويرها الأفكار، قال له أحد المشايخ كان بجنبه يا سبحان الله قد بلغنا عنك عدم اشتهارك بملازمة الدروس حالة التعليم، فقال له وتلك حجّتنا أتيناها إبراهيم على قومه / الأنعام آية / 83
سئل رضي الله عنه عن ختم النبوءة ؟
فأجاب قائلا إنّ الختم هو عبارة عن تمام الشيء ونهايته، وقد ينتهي الشيء في نفسـه إنّ الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد / القصص آية / 85، وإلى ذلك الإشارة بقوله صلّى الله عليه وسلّم إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإيضاح ذلك، أنّ النبوءة خط مستدير كخاتم متآلف من نقط، وهي الأنبياء والنقطة الجامعة ما بين طرفي حلقات الخاتم، هي سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وبمناسبة ما له من المزايا من جهة اختصاص نقطته باختتام دائرة النبوءة عن بقيّة النقط قال أنا سيد ولد آدم ولا فخر، ثمّ إذا اعتبرنا حلقة خاتم النبوءة، بعد تواصل الأطراف بعضها ببعض، ظهرت لنا كلّ نقطة من نقطها جامعة بين طرفيها، ولو جردتها لوقع الانفصال، فتساوت النقط بهذا الاعتبار، ولهذا قال صلّى الله عليه وسلّم لا تفضلوني على أخي يونس، لا نفرق بين أحد من رسله / البقرة آية / 285، لأنّ التفريق وصمة في دائرة النبوءة، وقد تقدّم لنا أنّها واحدة متألفة من نقط متواصلة ببعضها، ومنتهى الدائرة هو عين مبدئها، قال صلّى الله عليه وسلّم نحن الآخرون السابقون
سئل رضي الله عنه هل علم التصوّف يوجد في بقية الأديان من غير الدين الإسلامي ؟
فأجاب قائلا إنّ دين الله واحد، والتصوّف زبدته، ولهذا تجد في كلّ الملل آثاره، وفي الملّة الإسلاميّة الآن جوهره، فمن أخذ به أخذ بالغاية من الدين، وهذا مسلّم ما دمنا نعتقد مقام الإحسان منتهى سير المتدينين إنّ رحمة الله قريب من المحسنين / الأعراف آية / 56
سئل رضي الله عنه عن معنى الشريعة، والطريقة، والحقيقة، وقال السائل إنّ من الناس من يقول بوجود التنافر بين الحقيقة والشريعة، وإنّ الباطن قد يباين الظاهر، وغير ذلك ممّا يستعصي تطبيقه على مراد الشارع فيما ظهر،
فأجاب قائلا لا تنافر، وليس هناك ما يستعصي تطبيقه على مراد الشارع مهما استقصينا المسألة من أصلها، وعبّرنا عن الأشياء بكنهها وحقائقها نعم، قد يظهر شيء من التنافر، ولكن سببه ضعف التعبير، وإلاّ فأي خلاف أو تناقض إذا قلنا إنّ الشريعة هي عبارة عن الأحكام المنزلة على سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، المستفادة من قوله تعالى وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا / الحشر آية / 7، والطريقة هي عبارة عن تطبيق تلك الأحكام على أعمال المكلّف، ظاهرا وباطنا، تطبيقا محكما والحقيقة هي ما يحصل للمريد من المعارف والعلوم الناشئة عن أعماله، قال تعالى واتقوا الله ويعلّمكم الله / البقرة آية / 282، وإذا لا تنافر بهذا الاعتبار إنّما هي ألفاظ منها ما وضع لتدل على الأحكام المجرّدة باصطلاح، ومنها ما وضع، لتدل على العمل بها، ومنها ما وضع، لتدلّ على النتائج الحاصلة عن ذلك العمل، وإذا حققت لم تجد هناك إلاّ الشريعة
فقال السائل ولم سمينا تطبيق أوامر الشرع على أفعال المكلّف بالطريقة، وما ها المناسبة ؟
فقال الأستاذ إنّ تطبيقه ذلك يعتبر منه تزحزحا في سبيل القرب إلى الله عزّ وجلّ، لما في الحديث القدسيّ ما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحبّ إليّ ممّا افترضته عليه، فيصح أن يطلق على ذلك العمل سيرا وطريقا أيضا، فتأمل رعاك الله
سئل رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه أشرف المخلوقين فكيف حتى جاء جبريل عليه السلام بينه وبين ربّ العالمين؟، وما كان يريد هذا السائل أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو الواسطة بين الحق والخلق، فكيف جاءت واسطة قبله ووقف دونتها ؟
فأجاب قائلا إنّ جبريل عليه السلام، ليس هو بأجنبي عن محمد صلّى الله عليه وسلّم وإنّما هو روحه، فظاهره محمد، وباطنه جبريل، فهو عليه الصلاة والسلام متصّل بالخلق من جهة شبحه، ومتصّل بالحقّ من جهة روحه، فكانت له المناسبة من الوجهين والروح واسطة بين ما يتلى على سرّه، ويظهر على شبحه وأوحينا إليك روحا من أمرنا / الشورى آية / 52، فلا يجنح بك الانفصال، وتحجب عن المعاني بالأقوال، بقدر ما تحتمله العقول
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin