الرضا والتسليم في قصة الخليل إبراهيم : أ.د. عبد الرحمن البر
أستاذ الحديث وعلومه بجامعة الأزهر وعضو مكتب الإرشاد
وعضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
الحمد لله رب العالمين ، ولي الصالحين، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون، لك الحمد ربنا كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، عميت عين لا تراك، وخسرت أنفس لا تداخلها أنوارك، نعوذ بك ربنا من مقام الكافرين، وإعراض الغافلين، وأشهد أن لا إله إلا الله رب الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأراضين، ومالك يوم الدين، غوث كل ملهوف، من عاش فعليه رزقه، ومن مات فإليه منقلبه، أمرنا لأن نسلم له وجوهنا، وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام/71] ، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، الذي قال له ربه تبارك وتعالى:]... قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ [ [الأنعام/14] بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وأضاء الطريق، فلا يزيغ عنه إلا هالك، نسأل الله الذي رزقنا الإيمان به في الدنيا ولم نره، أن يرزقنا يوم القيامة صحبته، وأن يدعونا يوم القيامة خلفه، يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ [الإسراء/71] ، اللهم صلي وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين،
أما بعد أيها الأخوة الأحبة المسلمون، فكلما اقترب، موسم الحج الكريم، تذكر الناس، قصة إبراهيم، ذلك النبي العظيم، الذي أشبه الحبيبُ المصطفى خَلْقَه وخُلُقَه، يقول رسول الله وهو يتحدث في حديث الإسراء، حين رأى إبراهيم عليه السلام، مسندا ظهره إلى البيت المعمور، قال:« وَإِذَا إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - قَائِمٌ يُصَلِّى أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ صَاحِبُكُمْ - يَعْنِي نَفْسَهُ -»( )
ولذلك كان من تعليمهr للمسلم أن يَقُول إِذَا أَصْبَحَ وَإِذَا أَمْسَى: «أَصْبَحْنَا عَلَى فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ وَعَلَى كَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ وَعَلَى دِينِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى مِلَّةِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ» ( )
ورد اسم سيدنا إبراهيم في القرآن الكريم نحوا من سبعين مرة في مجال الإشادة به والمدح له والثناء عليه، ودعوة المسلمين للتأسي به، ولا تسع خطبة ولا عشرات الخطب للحديث عن مقام هذا النبي العظيم، لكننا في هذه الدقائق نتناول جانبا من سيرة هذا الحبيب صلوات الله وسلامه عليه ، نتناول جانب الإسلام في سيرة الخليل إبراهيم، فهذا أميز ما تميز به الخليل إبراهيم، عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، حتى إن الله عز وجل ينعي على من يرغب عن ملة إبراهيم، قال: ]وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ . وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [ [البقرة/130-132]
نريد أن نتبين هذا الإسلام الذي مدح الله به الخليل إبراهيم ، الذي هو أبو المسلمين كما قال الحق جل وعلا: ]وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [ [الحج: (78)]
قال بعض العلماء: الذي سمانا المسلمين من قبل هو إبراهيم، فالضمير في قوله (هو) يعود على إبراهيم، ولكن أكثر العلماء يقولون الضمير (هو) أي الحق جل وعلا، سماكم المسلمين من قبل، فالإسلام ليس حديثا بمجيء النبي r ولكن الإسلام قديم قدم الخلق، فقد كان إبراهيم u مسلما، روى البيهقي في دلائل النبوة عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال : اجتمعت نَصَارَى نَجْرَانَ وَأَحْبَارُ يَهُودَ ، عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَتَنَازَعُوا عِنْدَهُ ، فَقَالَتْ الْأَحْبَارُ: مَا كَانَ إبْرَاهِيمُ إلّا يَهُودِيّا ، وَقَالَتْ النّصَارَى : مَا كَانَ إبْرَاهِيمُ إلّا نَصْرَانِيّا . فَأَنْزَلَ اللّهُ - عَزّ وَجَلّ - فِيهِمْ ]يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ . هَا أَنتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ . مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِياًّ وَلاَ نَصْرَانِياًّ وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ [ [آل عمران/65-67]
]أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [ [البقرة: (140)]
إنما كان إبراهيم عليه السلام مسلما لله رب العالمين، وصى بنيه بالإسلام، ودعا الناس إلى الإسلام، وحضنا على هذا، وأبلغنا الحق جل وعلا أن أولى الناس بهذا النبي العظيم، وأمس الناس بهذا النبي الكريم، هم الذين اتبعوا محمدًا
] إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ المُؤْمِنِينَ [ [آل عمران/68]
وإذا كنا نحن أوْلى الناس بإبراهيم، فنحن أوْلى الناس أن نأخذ من سيرة إبراهيم نبراساً، أن نأخذ من سيرة إبراهيم هدى، نهتدي به في حياتنا، وأن نتعلم من سيرة أبينا إبراهيم معنى الإسلام الحق، فقد وصفه الله بأنه كان مسلما حقاً، إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [البقرة/131] ، اصطفاه الله وجعله أبا المسلمين، ونحن معاشر المسلمين يجب أن ننظر في سيرته، يجب أن نعرف كيف كان إسلامه، لأن هذا هو الذي أمرنا الله به، هذا هو الذي حذرنا الله أن نميل عنه، هذا الذي وصف الله الذين يميلون عن فهم إبراهيم للإسلام وعن طريقة إبراهيم في الإسلام بالسفه ، ]وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [ [البقرة/130]
إذاً لا بد أن نعرف، كيف كان إبراهيم مسلما وكيف كان هذا أمة ]إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِّلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ . شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ [ [النحل/120-123]
إن معنى أننا أولى الناس بإبراهيم، أن نفهم الدين كما فهمه إبراهيم، وأن نطبق الإسلام كما طبقه إبراهيم، و إلا فما معنى الولاية، إلا أن تكون، تأسيا وإقتداءً واهتداءً بأبي الأنبياء، أبي المسلمين، سيدنا إبراهيم خليل الرحمن، ولهذا جعله الله قدوة، وأسوة، قال تباركت أسماؤه ]قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ [ [الممتحنة: (4)]
فتعالوا معي أيها الأحبة في جولة مع آيات الكتاب الحكيم، وهو يتكلم عن بعض مظاهر الإسلام، التي تميز بها الخليل إبراهيم:
المظهر الأول: الاستسلام الكامل لأمر الله طوعا وقدرا:
الاستسلام الشرعي معناه الاستجابة الطوعية لأمر الله مهما عظم الأمر، وكذلك كان الخليل إبراهيم، أما الاستجابة القدرية والاستسلام القدري فهو الرضا بقدر الله، مهما كان صعبا على النفس، وهكذا كان إبراهيم مسلماً شرعا وقدرا، يستجيب لما أمر به، ويرضى بما قضي عليه، هكذا وصفه الله،إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ فلما قال أسلمت امتحن في هذا الإسلام وهذا الاستسلام، فنجح في الامتحان أعظم نجاح، غذ استسلم لأمر الله حين قضى على ألا ينجب أولادًا، وكانت امرأته عاقرًا، وتقدم به السن، ولم يظهر منه أدنى اعتراض على قدر الله، فلما رُزق بإسماعيل على كبر، قيل له فارق الولد، وألقه وأمه في صحراء مهلكة، ف قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ، فلما نشأ الولد وكبر وصار ملء السمع والبصر، امتُحن فيه، ورأى في المنام أن الله يأمره بذبحه، فما تردد وما تلعثم، وما راجع ربه في أمره، لكنه رضي بأمر الله، واستسلم لحكمة الله، وما سأل: ولماذا؟ وما هي الحكمة؟ وما ذنب الولد الصغير؟ ولماذا يحرم من حقه في الحياة؟ كل هذا لم يخطر على بال إبراهيم، مجرد خاطر، فظلا عن أن ينطق به لسانه، لأنه لما قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ، فوفى بعهده، ثم قيل له اذهب وابنِ الكعبة معه، ف قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ.
ابتلي صلوات الله وسلامه عليه بالنار التي صنعها النمرود لإحراقه، ف قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ، وكان دعائه وهو في السماء بين المقلاع وبين النار: حسبي الله ونعم الوكيل.
هذا هو الإسلام، وحقيقته الاستسلام الكامل لأمر الله، وما أحوجنا أيها الأحبة إلى هذا المعنى، معنى أن نسلم لله حقا، وأن نستسلم لقدره صدقا، وألا نجادله فيما أمر ونهى.
من العجيب أن يقول بعض الناس: إن هذه الشريعة ممتازة، لكنها لا تصلح لهذا الزمان! وأعجب من هذا أن يقول القائل: ما الداعي للشريعة أصلا؟ لماذا لا نترك الناس تعيش كما تشاء؟ ولماذا يتدخل الدين في حياة البشر؟
ونقول هؤلاء: راجع نفسك أولا: إذا كنت تقول أنا مسلم فالإسلام معناه الاستسلام، ولا يجوز لمسلم أن يعاند ربه، ولا أن يعارض شرع الله، ، إنما ينبغي لنا مع أمر الله أن نقول: سمعنا وأطعنا، خصوصا وأن ربنا تبارك وتعالى لم يكلفنا إلا ما نستطيع لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ، وليس لمسلم صحيح الإسلام أن يعترض على قدر الله أو على أمر الله، بل هو مستسلم لأمر الله، موقن أن فيه الخير كله، واثق أنه متى استسلم لمولاه جاءه الفرج والخير من حيث لا يحتسب، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ قَالَ: فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ، فَقَالُوا: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ، كُلِّفْنَا مِنَ الأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ، الصَّلاَةُ وَالصِّيَامُ وَالْجِهَادُ وَالصَّدَقَةُ، وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْكَ هَذِهِ الآيَةُ وَلاَ نُطِيقُهَا. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : « أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟ بَلْ قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ». قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ. فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا الْقَوْمُ ذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ في إِثْرِهَا آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا قَالَ: نَعَمْ رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا قَالَ: نَعَمْ رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ قَالَ: نَعَمْ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ قَالَ: نَعَمْ.( )
وها هنا نرى إبراهيم عليه السلام استسلم لأمر الله، ولذلك كانت عواقب أمره دائما خيرًا. انظر إلى كل محنة، امتحن بها الخليل عليه السلام ، كيف خرج منها؟
لما أسلم أمره لله حين ألقاه النمرود في العذاب] قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ [[الأنبياء/69-70] .
ولما قيل له: خذ هذا الولد وأمه وألق بهما في الصحراء، فاستسلم لأمر الله، ما الذي حدث؟ صارت الصحراء التي ترك فيها ولده وزوجه أكثر بقاع الأرض بركة، يجبى إليها ثمرات كل شيء، ثمرات الدنيا كلها من يومها إلى الآن تجبى إليها، مع كونها صحراء. وتلك إحدى بركات التسليم لله.
ولما استجاب لأمر الله حين قيل له: اذبح إسماعيل ]فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [ [الصافات: (103)] أي استسلما تماماً وحققا معنى الإسلام الحق، ووضع السكين على رقبة إسماعيل ، لما فعل هذا جاء الفرج ] وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ البَلاءُ المُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [ [الصافات/104-107]
وهكذا فإن الاستسلام لله لا بد أن تكون عاقبته بإذن الله خيرا. هذا الدرس الأول من معنى الاستسلام من سيرة الخليل إبراهيم عليه السلام.
أما المظهر الثاني من مظاهر إسلام الخليل عليه السلام: الاستجابة أمر الله دون أدنى تردد أو وقوف مع المشككين والمرجفين:
مقتضى الإسلام الحقيقي كما فهمه الخليل عليه السلام: أن تستجيب ولا تتردد، وألا تقع فريسة لشبهات المشبهين، ولا لزيغ الملحدين، ولا لوساوس الشياطين، ولا تعطي أذنك لمارق جاحد ، لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، فيشوش عليك دينك بما يثير من شبهات، فسيدنا إبراهيم استسلم لأمر ربه وجاءه الشيطان، فأجلب عليه بخيله ورجله، وحاول إثناءه عن تنفيذ أمر الله، فما كان من إبراهيم عليه السلام إلا أن رجمه بالحصى ورفض أن يستمع لوساوسه.
ففي الحديث: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا أُمِرَ بِالْمَنَاسِكِ عَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ عِنْدَ الْمَسْعَى فَسَابَقَهُ، فَسَبَقَهُ إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ ذَهَبَ بِهِ جِبْرِيلُ إِلَى جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، فَعَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ، فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى ذَهَبَ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الْوُسْطَى فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ. قَالَ : وَثَمَّ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ ، ...فذكر القصة، إلى أن قَالَ: ثُمَّ ذَهَبَ بِهِ جِبْرِيلُ إِلَى الْجَمْرَةِ الْقُصْوَى، فَعَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ، فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى ذَهَبَ»( ).
إن الحق إذا استبان لصاحبه، والطريق إذا وضح لسالكه، لم تشغله عنه شبهة، ولا يمكن لباطل مدجج بالحجج الزائفة أن يُميل صاحب الحق عن الحق الذي عرفه وآمن به، كان إبراهيم يعلم أن هذا أمر الله، ولهذا فسدت كل مساومات الشيطان ، ودائما على صخرة الإيمان تتحطم كل الشبهات.
أما أن يأتي من يدعي الإسلام وهو يتشكك في آية من كتاب الله، أو في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يأخذ في معارضة الكتاب والسنة بشبهات عقلية وظنون وأوهام فاسدة، فنقول له ولأمثاله : كيف يكون في قلبك شك من أمر الله؟ وكيف تأخذ شُبَه العباد لتحاكم إليها أو تعارض بها كتاب رب العباد؟
يا أخي، الحق إذا ظهر لك، فهو واضح أبلج، فدعك من الباطل اللجلج، وإذا حاك في صدرك شيء فدعه، فالحق واضح، وديننا بفضل الله من البساطة والوضوح بحيث يجعل كل عاقل يرى فيه الخير كل الخير، ولا يتأثر بشبهات المشبهين، ولا يستمع لإرجاف المرجفين.
أما المظهر الثالث من مظاهر إسلام الخليل عليه السلام، فهو اليقين الكامل بنصر الله عز وجل ، فقد كان إبراهيم عليه السلام، على تمام اليقين بما وعد الله تبارك وتعالى، على تمام اليقين بأن دينه غالب، وأن دعوة الله ظاهرة، ولهذا كان يواجه كل منكِر وكل معاند لها بغاية القوة والصلابة والثبات، دون تزلزل.
وقف يناظر قومه تلك المناظرة الرائعة، ليكشف لهم بطلان ألوهية الكواكب والقمر والشمس التي تظهر وتغيب ، ثم أعلن بكل صلابة وقوة الحق الذي آمن به، والدين الذي ملأ قلبه، قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام/78-82]
صدع بها بقوة ووقف له أبوه وقومه، فأعلن البراءة الكاملة من هذا الباطل وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26)[ [الزخرف: (26)] ، فهذه مسألة لا مفاصلة فيها، ويقين لا يقبل التلجلج ولا التزلزل ولا المدارة.
كان سيدنا إبراهيم صلبا في الحق، لما وقف أمام النمرود لم يشأ أن يمد حبل الجدال معه بلا فائدة، إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة/258] أتاه بالحكمة القاهرة التي قطعت لسانه، ولم يجد هذا المبهوت المتحير من جواب على الحجة القاطعة واليقين الصلب الذي أبداه إبراهيم عليه السلام إلا أن يأمر بحرق إبراهيم، فأخزاه الله وأنجى إبراهيم عليه السلام.
المظهر الرابع من مظاهر إسلام الخليل عليه السلام : حب المؤمنين والشفقة عليهم:
كان إبراهيم عليه السلام من حبه للحق يحب المؤمنين به، ويحب الداعين إليه، لما نزلت الملائكة عليه تبشره بإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ . قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ [العنكبوت/31، 32] أخذت الرأفة قلب إبراهيم عليه السلام، وقال: ألا تدعون هذه القرية من أجل لوط؟ وجعل يحاول أن يتشفع لرفع البلاء عن قرية لوط، فلما قيل يا إبراهيم أعرض عن هذا استجاب لأمر الله وسكتفَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ . إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ . يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ [هود/74-76]
المظهر الخامس من مظاهر إسلام الخليل الكريم: التضحية من أجل هذا الدين، لوجه الله ، وبمن يضحي؟ يضحي بفلذة كبده، يضحي بولده الوحيد، الذي جاء على كبر، وعلى فاقة، وعلى شوق، لكن إذا كان هذا مراد الله، فهو يستجيب لأمر الله.
أيها الممسك بالقليل من المال أن تنفقه في سبيل الله، كيف تدعي بنو تك لإبراهيم عليه السلام، وهو يقدم ولده لله وأنت تمسك بعض مالك؟ أيستقيم أن يكون أبونا صلوات الله وسلامه عليه يضحي بنفسه وولده، ثم بنوه الذين يدعون الإسلام يستثقلون التضحية؟ إذا لم نضح لنشر هذا الدين وإعزازه فلأي شيء نضحي؟ إذا لم ننفق في سبيل الله من وقتنا، ومالنا، وجهدنا، للمجاهدين في سبيل الله ، فلمن نضحي؟
إن هذا الدرس العظيم من سيرة الخليل إبراهيم، ليعلم كل مسلم أن ينفق في سبيل الله، وأن يضحي لله رب العالمين، قد تكون التضحية فيها مشقة، ولهذا سميت تضحية، ولهذا فهي شديدة على النفس، لكن العاقبة التي تنتظر المضحين، هي أكمل وأثمن وأغلى مما نضحي به. هب أنك ضحيت بوقتك وجهدك، هب أنك أوذيت في سبيل هذا الحق فتحملت، كم يساوي هذا في ما أعد الله للصادقين في دار النعيم؟ لا شيء على الإطلاق.
المظهر السادس من مظاهر إسلام الخليل عليه السلام هو الإيجابية:
آخر الدروس التي نحن في أمس الحاجة إليها: أن إبراهيم عليه السلام لم يفهم أن الإسلام أن يسلم فيما بينه وبين الله ثم يجلس في بيته، ويصلح حاله، إنما فهم أن الإسلام لا يتم إلا بحركة في الدنيا، إلا بتوريث لهذا الدين للأجيال، إلا بنقلٍ لهذا الحق إلى قلوب العباد، إلا بالدعوة .
لا يستقيم أن تكون مسلما، ولا تدعو إلى الإسلام، لا يستقيم أن تدعي الإسلام، ولم يخطر ببالك أن تكون داعية بلسانك، أو بخلقك، أو بعملك، المهم أن تدرك أن عليك واجبا في الدعوة إلى الإسلام.
سيدنا إبراهيم عليه السلام مارس هذا بكل أشكال الدعوة، في بيته، فدعا أباه، ومع أبنائه فوصى بنيه:]وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [ [البقرة: (132)]
مع الملك ورئيس الأمة: حين ناظر النمرود وحاجَّه في الله تبارك وتعالى.
مع قومه حين ناظرهم وحين قدم صورة عملية لتفاهة معتقدهم، كما قال ربنا جل وعلا :] وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ . إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ . قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ . قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ . قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ . قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ [ [الأنبياء/51-56]
تكلم حين احتاج الأمر إلى كلام، وجادل حين احتاجت الدعوة إلى جدال، وناظر حين احتاجت الدعوة إلى مناظرة، ومد يده بالتغيير حين احتاج الأمر إلى التغيير باليد ، فعرض للأصنام المنصوبة ]فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ [ [الأنبياء: (58)]
وصدع بالحق في وجه السلطان الجائر، ونادى بالحق في وجوه الناس جميعا، وهاجر في سبيل الحق من بلد إلى بلد، وتحمل في سبيل الله ألوان الأذى وصنوف البلاء، بنى البيت حين أمره الله أن يبني البيت، ونادى في الناس بالحج، حين أمره الله أن ينادي. بلغ الرسالة بكل صنوف التبليغ بالقول، وبالعمل، وبالخلق، وبالصبر، وبحسن المعاملة مع عباد الله، وهذا ما يجب أن يكون عليه كل مسلم.
الدعوة ليست عملا خاصاً بالمشايخ، ولا بالعلماء، بل الدعوة واجب كل مسلم، الدعوة بمعنى دلالة الناس على الحق، بمعنى دعوة الناس إلى الخير، بمعنى أن تعرف الناس ما هو حق فيتبعوه، وما هو باطل فيجتنبوه، وما هو خير فيهتدوا إليه، هذه واجب كل مسلم، واجبك إذا رأيت معروفا أن تدعو إليه، وإذا رأيت منكراً أن تحاربه وأن تنهى عنه، واجبك أن تعلم أبناءك الإسلام، وتوصيهم به كما وصى إبراهيم بنيه، ويعقوب، واجبك أن تكلم أباك وأمك وأهلك عن الدين وعن نصر الدين ونشر الدين، واجبك أن تكلم أقاربك وقومك، والناس من حولك، هذا واجب لا يحتاج إلى علماء، الدعوة لا تحتاج إلى علماء، لأن معنى الدعوة الدلالة، أن تدل الناس على خير، متى عرفت أن هذا خير فدل الناس عليه، إذا رأيت تاركا للصلاة، هل يحتاج الأمر إلى عالم لتذكره بالصلاة؟، إذا رأيت آكلا للربا هل يحتاج الأمر إلى عالم لتذكره بحرمة الربا؟ إذا رأيت إنسانا بذيء اللسان يتطاول على الناس بلسانه، هل هذا محتاج إلى عالم ليقول له هذا حرام؟ إذا رأيت إنسانا لا يصوم، أو يمنع الزكاة، أو يسيء إلى الضعفاء، أو يستغل مركزه أو يأكل الرشوة، هل هذه الأشياء تحتاج إلى علماء؟
الدعوة بمعنى الدلالة على الخير والدفع في اتجاه الخير، ومساندة أهل الخير، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر هذه كلها لا تحتاج إلى علماء، وإنما تحتاج إلى مسلمين يفهمون أن الإسلام ليس تسابيح وأذكارا وأورادا وصلوات فقط، إنما الإسلام بناء عام، يشمل حياة المسلم، من أولها إلى أخرها، وبالتالي يتعود أن يكون داعيا إلى الله، يتعود أن يكون دالا على الله، يتعود أن يكون هاديا إلى الله.
لكن حينما تعرض مسألة في الفتوى لا تبادر بالفتوى فللفتوى أهلها، إذا عرضت مسألة لا تعرفها قل الله أعلم، وانقلها إلى عالمها.
نسأل الله جلت حكمته أن يرزقنا الإسلام الذي رزقه الخليل إبراهيم، وأن يجعلنا ممن قام على ملة إبراهيم حنيفا إنه ولي ذلك والقادر عليه، واستغفروا عباد الله ربكم إنه هو الغفور الرحيم.
أستاذ الحديث وعلومه بجامعة الأزهر وعضو مكتب الإرشاد
وعضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
الحمد لله رب العالمين ، ولي الصالحين، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون، لك الحمد ربنا كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، عميت عين لا تراك، وخسرت أنفس لا تداخلها أنوارك، نعوذ بك ربنا من مقام الكافرين، وإعراض الغافلين، وأشهد أن لا إله إلا الله رب الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأراضين، ومالك يوم الدين، غوث كل ملهوف، من عاش فعليه رزقه، ومن مات فإليه منقلبه، أمرنا لأن نسلم له وجوهنا، وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام/71] ، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، الذي قال له ربه تبارك وتعالى:]... قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ [ [الأنعام/14] بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وأضاء الطريق، فلا يزيغ عنه إلا هالك، نسأل الله الذي رزقنا الإيمان به في الدنيا ولم نره، أن يرزقنا يوم القيامة صحبته، وأن يدعونا يوم القيامة خلفه، يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ [الإسراء/71] ، اللهم صلي وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين،
أما بعد أيها الأخوة الأحبة المسلمون، فكلما اقترب، موسم الحج الكريم، تذكر الناس، قصة إبراهيم، ذلك النبي العظيم، الذي أشبه الحبيبُ المصطفى خَلْقَه وخُلُقَه، يقول رسول الله وهو يتحدث في حديث الإسراء، حين رأى إبراهيم عليه السلام، مسندا ظهره إلى البيت المعمور، قال:« وَإِذَا إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - قَائِمٌ يُصَلِّى أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ صَاحِبُكُمْ - يَعْنِي نَفْسَهُ -»( )
ولذلك كان من تعليمهr للمسلم أن يَقُول إِذَا أَصْبَحَ وَإِذَا أَمْسَى: «أَصْبَحْنَا عَلَى فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ وَعَلَى كَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ وَعَلَى دِينِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى مِلَّةِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ» ( )
ورد اسم سيدنا إبراهيم في القرآن الكريم نحوا من سبعين مرة في مجال الإشادة به والمدح له والثناء عليه، ودعوة المسلمين للتأسي به، ولا تسع خطبة ولا عشرات الخطب للحديث عن مقام هذا النبي العظيم، لكننا في هذه الدقائق نتناول جانبا من سيرة هذا الحبيب صلوات الله وسلامه عليه ، نتناول جانب الإسلام في سيرة الخليل إبراهيم، فهذا أميز ما تميز به الخليل إبراهيم، عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، حتى إن الله عز وجل ينعي على من يرغب عن ملة إبراهيم، قال: ]وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ . وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [ [البقرة/130-132]
نريد أن نتبين هذا الإسلام الذي مدح الله به الخليل إبراهيم ، الذي هو أبو المسلمين كما قال الحق جل وعلا: ]وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [ [الحج: (78)]
قال بعض العلماء: الذي سمانا المسلمين من قبل هو إبراهيم، فالضمير في قوله (هو) يعود على إبراهيم، ولكن أكثر العلماء يقولون الضمير (هو) أي الحق جل وعلا، سماكم المسلمين من قبل، فالإسلام ليس حديثا بمجيء النبي r ولكن الإسلام قديم قدم الخلق، فقد كان إبراهيم u مسلما، روى البيهقي في دلائل النبوة عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال : اجتمعت نَصَارَى نَجْرَانَ وَأَحْبَارُ يَهُودَ ، عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَتَنَازَعُوا عِنْدَهُ ، فَقَالَتْ الْأَحْبَارُ: مَا كَانَ إبْرَاهِيمُ إلّا يَهُودِيّا ، وَقَالَتْ النّصَارَى : مَا كَانَ إبْرَاهِيمُ إلّا نَصْرَانِيّا . فَأَنْزَلَ اللّهُ - عَزّ وَجَلّ - فِيهِمْ ]يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ . هَا أَنتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ . مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِياًّ وَلاَ نَصْرَانِياًّ وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ [ [آل عمران/65-67]
]أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [ [البقرة: (140)]
إنما كان إبراهيم عليه السلام مسلما لله رب العالمين، وصى بنيه بالإسلام، ودعا الناس إلى الإسلام، وحضنا على هذا، وأبلغنا الحق جل وعلا أن أولى الناس بهذا النبي العظيم، وأمس الناس بهذا النبي الكريم، هم الذين اتبعوا محمدًا
] إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ المُؤْمِنِينَ [ [آل عمران/68]
وإذا كنا نحن أوْلى الناس بإبراهيم، فنحن أوْلى الناس أن نأخذ من سيرة إبراهيم نبراساً، أن نأخذ من سيرة إبراهيم هدى، نهتدي به في حياتنا، وأن نتعلم من سيرة أبينا إبراهيم معنى الإسلام الحق، فقد وصفه الله بأنه كان مسلما حقاً، إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [البقرة/131] ، اصطفاه الله وجعله أبا المسلمين، ونحن معاشر المسلمين يجب أن ننظر في سيرته، يجب أن نعرف كيف كان إسلامه، لأن هذا هو الذي أمرنا الله به، هذا هو الذي حذرنا الله أن نميل عنه، هذا الذي وصف الله الذين يميلون عن فهم إبراهيم للإسلام وعن طريقة إبراهيم في الإسلام بالسفه ، ]وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [ [البقرة/130]
إذاً لا بد أن نعرف، كيف كان إبراهيم مسلما وكيف كان هذا أمة ]إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِّلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ . شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ [ [النحل/120-123]
إن معنى أننا أولى الناس بإبراهيم، أن نفهم الدين كما فهمه إبراهيم، وأن نطبق الإسلام كما طبقه إبراهيم، و إلا فما معنى الولاية، إلا أن تكون، تأسيا وإقتداءً واهتداءً بأبي الأنبياء، أبي المسلمين، سيدنا إبراهيم خليل الرحمن، ولهذا جعله الله قدوة، وأسوة، قال تباركت أسماؤه ]قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ [ [الممتحنة: (4)]
فتعالوا معي أيها الأحبة في جولة مع آيات الكتاب الحكيم، وهو يتكلم عن بعض مظاهر الإسلام، التي تميز بها الخليل إبراهيم:
المظهر الأول: الاستسلام الكامل لأمر الله طوعا وقدرا:
الاستسلام الشرعي معناه الاستجابة الطوعية لأمر الله مهما عظم الأمر، وكذلك كان الخليل إبراهيم، أما الاستجابة القدرية والاستسلام القدري فهو الرضا بقدر الله، مهما كان صعبا على النفس، وهكذا كان إبراهيم مسلماً شرعا وقدرا، يستجيب لما أمر به، ويرضى بما قضي عليه، هكذا وصفه الله،إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ فلما قال أسلمت امتحن في هذا الإسلام وهذا الاستسلام، فنجح في الامتحان أعظم نجاح، غذ استسلم لأمر الله حين قضى على ألا ينجب أولادًا، وكانت امرأته عاقرًا، وتقدم به السن، ولم يظهر منه أدنى اعتراض على قدر الله، فلما رُزق بإسماعيل على كبر، قيل له فارق الولد، وألقه وأمه في صحراء مهلكة، ف قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ، فلما نشأ الولد وكبر وصار ملء السمع والبصر، امتُحن فيه، ورأى في المنام أن الله يأمره بذبحه، فما تردد وما تلعثم، وما راجع ربه في أمره، لكنه رضي بأمر الله، واستسلم لحكمة الله، وما سأل: ولماذا؟ وما هي الحكمة؟ وما ذنب الولد الصغير؟ ولماذا يحرم من حقه في الحياة؟ كل هذا لم يخطر على بال إبراهيم، مجرد خاطر، فظلا عن أن ينطق به لسانه، لأنه لما قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ، فوفى بعهده، ثم قيل له اذهب وابنِ الكعبة معه، ف قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ.
ابتلي صلوات الله وسلامه عليه بالنار التي صنعها النمرود لإحراقه، ف قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ، وكان دعائه وهو في السماء بين المقلاع وبين النار: حسبي الله ونعم الوكيل.
هذا هو الإسلام، وحقيقته الاستسلام الكامل لأمر الله، وما أحوجنا أيها الأحبة إلى هذا المعنى، معنى أن نسلم لله حقا، وأن نستسلم لقدره صدقا، وألا نجادله فيما أمر ونهى.
من العجيب أن يقول بعض الناس: إن هذه الشريعة ممتازة، لكنها لا تصلح لهذا الزمان! وأعجب من هذا أن يقول القائل: ما الداعي للشريعة أصلا؟ لماذا لا نترك الناس تعيش كما تشاء؟ ولماذا يتدخل الدين في حياة البشر؟
ونقول هؤلاء: راجع نفسك أولا: إذا كنت تقول أنا مسلم فالإسلام معناه الاستسلام، ولا يجوز لمسلم أن يعاند ربه، ولا أن يعارض شرع الله، ، إنما ينبغي لنا مع أمر الله أن نقول: سمعنا وأطعنا، خصوصا وأن ربنا تبارك وتعالى لم يكلفنا إلا ما نستطيع لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ، وليس لمسلم صحيح الإسلام أن يعترض على قدر الله أو على أمر الله، بل هو مستسلم لأمر الله، موقن أن فيه الخير كله، واثق أنه متى استسلم لمولاه جاءه الفرج والخير من حيث لا يحتسب، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ قَالَ: فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ، فَقَالُوا: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ، كُلِّفْنَا مِنَ الأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ، الصَّلاَةُ وَالصِّيَامُ وَالْجِهَادُ وَالصَّدَقَةُ، وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْكَ هَذِهِ الآيَةُ وَلاَ نُطِيقُهَا. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : « أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟ بَلْ قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ». قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ. فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا الْقَوْمُ ذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ في إِثْرِهَا آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا قَالَ: نَعَمْ رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا قَالَ: نَعَمْ رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ قَالَ: نَعَمْ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ قَالَ: نَعَمْ.( )
وها هنا نرى إبراهيم عليه السلام استسلم لأمر الله، ولذلك كانت عواقب أمره دائما خيرًا. انظر إلى كل محنة، امتحن بها الخليل عليه السلام ، كيف خرج منها؟
لما أسلم أمره لله حين ألقاه النمرود في العذاب] قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ [[الأنبياء/69-70] .
ولما قيل له: خذ هذا الولد وأمه وألق بهما في الصحراء، فاستسلم لأمر الله، ما الذي حدث؟ صارت الصحراء التي ترك فيها ولده وزوجه أكثر بقاع الأرض بركة، يجبى إليها ثمرات كل شيء، ثمرات الدنيا كلها من يومها إلى الآن تجبى إليها، مع كونها صحراء. وتلك إحدى بركات التسليم لله.
ولما استجاب لأمر الله حين قيل له: اذبح إسماعيل ]فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [ [الصافات: (103)] أي استسلما تماماً وحققا معنى الإسلام الحق، ووضع السكين على رقبة إسماعيل ، لما فعل هذا جاء الفرج ] وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ البَلاءُ المُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [ [الصافات/104-107]
وهكذا فإن الاستسلام لله لا بد أن تكون عاقبته بإذن الله خيرا. هذا الدرس الأول من معنى الاستسلام من سيرة الخليل إبراهيم عليه السلام.
أما المظهر الثاني من مظاهر إسلام الخليل عليه السلام: الاستجابة أمر الله دون أدنى تردد أو وقوف مع المشككين والمرجفين:
مقتضى الإسلام الحقيقي كما فهمه الخليل عليه السلام: أن تستجيب ولا تتردد، وألا تقع فريسة لشبهات المشبهين، ولا لزيغ الملحدين، ولا لوساوس الشياطين، ولا تعطي أذنك لمارق جاحد ، لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، فيشوش عليك دينك بما يثير من شبهات، فسيدنا إبراهيم استسلم لأمر ربه وجاءه الشيطان، فأجلب عليه بخيله ورجله، وحاول إثناءه عن تنفيذ أمر الله، فما كان من إبراهيم عليه السلام إلا أن رجمه بالحصى ورفض أن يستمع لوساوسه.
ففي الحديث: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا أُمِرَ بِالْمَنَاسِكِ عَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ عِنْدَ الْمَسْعَى فَسَابَقَهُ، فَسَبَقَهُ إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ ذَهَبَ بِهِ جِبْرِيلُ إِلَى جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، فَعَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ، فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى ذَهَبَ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الْوُسْطَى فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ. قَالَ : وَثَمَّ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ ، ...فذكر القصة، إلى أن قَالَ: ثُمَّ ذَهَبَ بِهِ جِبْرِيلُ إِلَى الْجَمْرَةِ الْقُصْوَى، فَعَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ، فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى ذَهَبَ»( ).
إن الحق إذا استبان لصاحبه، والطريق إذا وضح لسالكه، لم تشغله عنه شبهة، ولا يمكن لباطل مدجج بالحجج الزائفة أن يُميل صاحب الحق عن الحق الذي عرفه وآمن به، كان إبراهيم يعلم أن هذا أمر الله، ولهذا فسدت كل مساومات الشيطان ، ودائما على صخرة الإيمان تتحطم كل الشبهات.
أما أن يأتي من يدعي الإسلام وهو يتشكك في آية من كتاب الله، أو في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يأخذ في معارضة الكتاب والسنة بشبهات عقلية وظنون وأوهام فاسدة، فنقول له ولأمثاله : كيف يكون في قلبك شك من أمر الله؟ وكيف تأخذ شُبَه العباد لتحاكم إليها أو تعارض بها كتاب رب العباد؟
يا أخي، الحق إذا ظهر لك، فهو واضح أبلج، فدعك من الباطل اللجلج، وإذا حاك في صدرك شيء فدعه، فالحق واضح، وديننا بفضل الله من البساطة والوضوح بحيث يجعل كل عاقل يرى فيه الخير كل الخير، ولا يتأثر بشبهات المشبهين، ولا يستمع لإرجاف المرجفين.
أما المظهر الثالث من مظاهر إسلام الخليل عليه السلام، فهو اليقين الكامل بنصر الله عز وجل ، فقد كان إبراهيم عليه السلام، على تمام اليقين بما وعد الله تبارك وتعالى، على تمام اليقين بأن دينه غالب، وأن دعوة الله ظاهرة، ولهذا كان يواجه كل منكِر وكل معاند لها بغاية القوة والصلابة والثبات، دون تزلزل.
وقف يناظر قومه تلك المناظرة الرائعة، ليكشف لهم بطلان ألوهية الكواكب والقمر والشمس التي تظهر وتغيب ، ثم أعلن بكل صلابة وقوة الحق الذي آمن به، والدين الذي ملأ قلبه، قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام/78-82]
صدع بها بقوة ووقف له أبوه وقومه، فأعلن البراءة الكاملة من هذا الباطل وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26)[ [الزخرف: (26)] ، فهذه مسألة لا مفاصلة فيها، ويقين لا يقبل التلجلج ولا التزلزل ولا المدارة.
كان سيدنا إبراهيم صلبا في الحق، لما وقف أمام النمرود لم يشأ أن يمد حبل الجدال معه بلا فائدة، إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة/258] أتاه بالحكمة القاهرة التي قطعت لسانه، ولم يجد هذا المبهوت المتحير من جواب على الحجة القاطعة واليقين الصلب الذي أبداه إبراهيم عليه السلام إلا أن يأمر بحرق إبراهيم، فأخزاه الله وأنجى إبراهيم عليه السلام.
المظهر الرابع من مظاهر إسلام الخليل عليه السلام : حب المؤمنين والشفقة عليهم:
كان إبراهيم عليه السلام من حبه للحق يحب المؤمنين به، ويحب الداعين إليه، لما نزلت الملائكة عليه تبشره بإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ . قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ [العنكبوت/31، 32] أخذت الرأفة قلب إبراهيم عليه السلام، وقال: ألا تدعون هذه القرية من أجل لوط؟ وجعل يحاول أن يتشفع لرفع البلاء عن قرية لوط، فلما قيل يا إبراهيم أعرض عن هذا استجاب لأمر الله وسكتفَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ . إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ . يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ [هود/74-76]
المظهر الخامس من مظاهر إسلام الخليل الكريم: التضحية من أجل هذا الدين، لوجه الله ، وبمن يضحي؟ يضحي بفلذة كبده، يضحي بولده الوحيد، الذي جاء على كبر، وعلى فاقة، وعلى شوق، لكن إذا كان هذا مراد الله، فهو يستجيب لأمر الله.
أيها الممسك بالقليل من المال أن تنفقه في سبيل الله، كيف تدعي بنو تك لإبراهيم عليه السلام، وهو يقدم ولده لله وأنت تمسك بعض مالك؟ أيستقيم أن يكون أبونا صلوات الله وسلامه عليه يضحي بنفسه وولده، ثم بنوه الذين يدعون الإسلام يستثقلون التضحية؟ إذا لم نضح لنشر هذا الدين وإعزازه فلأي شيء نضحي؟ إذا لم ننفق في سبيل الله من وقتنا، ومالنا، وجهدنا، للمجاهدين في سبيل الله ، فلمن نضحي؟
إن هذا الدرس العظيم من سيرة الخليل إبراهيم، ليعلم كل مسلم أن ينفق في سبيل الله، وأن يضحي لله رب العالمين، قد تكون التضحية فيها مشقة، ولهذا سميت تضحية، ولهذا فهي شديدة على النفس، لكن العاقبة التي تنتظر المضحين، هي أكمل وأثمن وأغلى مما نضحي به. هب أنك ضحيت بوقتك وجهدك، هب أنك أوذيت في سبيل هذا الحق فتحملت، كم يساوي هذا في ما أعد الله للصادقين في دار النعيم؟ لا شيء على الإطلاق.
المظهر السادس من مظاهر إسلام الخليل عليه السلام هو الإيجابية:
آخر الدروس التي نحن في أمس الحاجة إليها: أن إبراهيم عليه السلام لم يفهم أن الإسلام أن يسلم فيما بينه وبين الله ثم يجلس في بيته، ويصلح حاله، إنما فهم أن الإسلام لا يتم إلا بحركة في الدنيا، إلا بتوريث لهذا الدين للأجيال، إلا بنقلٍ لهذا الحق إلى قلوب العباد، إلا بالدعوة .
لا يستقيم أن تكون مسلما، ولا تدعو إلى الإسلام، لا يستقيم أن تدعي الإسلام، ولم يخطر ببالك أن تكون داعية بلسانك، أو بخلقك، أو بعملك، المهم أن تدرك أن عليك واجبا في الدعوة إلى الإسلام.
سيدنا إبراهيم عليه السلام مارس هذا بكل أشكال الدعوة، في بيته، فدعا أباه، ومع أبنائه فوصى بنيه:]وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [ [البقرة: (132)]
مع الملك ورئيس الأمة: حين ناظر النمرود وحاجَّه في الله تبارك وتعالى.
مع قومه حين ناظرهم وحين قدم صورة عملية لتفاهة معتقدهم، كما قال ربنا جل وعلا :] وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ . إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ . قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ . قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ . قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ . قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ [ [الأنبياء/51-56]
تكلم حين احتاج الأمر إلى كلام، وجادل حين احتاجت الدعوة إلى جدال، وناظر حين احتاجت الدعوة إلى مناظرة، ومد يده بالتغيير حين احتاج الأمر إلى التغيير باليد ، فعرض للأصنام المنصوبة ]فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ [ [الأنبياء: (58)]
وصدع بالحق في وجه السلطان الجائر، ونادى بالحق في وجوه الناس جميعا، وهاجر في سبيل الحق من بلد إلى بلد، وتحمل في سبيل الله ألوان الأذى وصنوف البلاء، بنى البيت حين أمره الله أن يبني البيت، ونادى في الناس بالحج، حين أمره الله أن ينادي. بلغ الرسالة بكل صنوف التبليغ بالقول، وبالعمل، وبالخلق، وبالصبر، وبحسن المعاملة مع عباد الله، وهذا ما يجب أن يكون عليه كل مسلم.
الدعوة ليست عملا خاصاً بالمشايخ، ولا بالعلماء، بل الدعوة واجب كل مسلم، الدعوة بمعنى دلالة الناس على الحق، بمعنى دعوة الناس إلى الخير، بمعنى أن تعرف الناس ما هو حق فيتبعوه، وما هو باطل فيجتنبوه، وما هو خير فيهتدوا إليه، هذه واجب كل مسلم، واجبك إذا رأيت معروفا أن تدعو إليه، وإذا رأيت منكراً أن تحاربه وأن تنهى عنه، واجبك أن تعلم أبناءك الإسلام، وتوصيهم به كما وصى إبراهيم بنيه، ويعقوب، واجبك أن تكلم أباك وأمك وأهلك عن الدين وعن نصر الدين ونشر الدين، واجبك أن تكلم أقاربك وقومك، والناس من حولك، هذا واجب لا يحتاج إلى علماء، الدعوة لا تحتاج إلى علماء، لأن معنى الدعوة الدلالة، أن تدل الناس على خير، متى عرفت أن هذا خير فدل الناس عليه، إذا رأيت تاركا للصلاة، هل يحتاج الأمر إلى عالم لتذكره بالصلاة؟، إذا رأيت آكلا للربا هل يحتاج الأمر إلى عالم لتذكره بحرمة الربا؟ إذا رأيت إنسانا بذيء اللسان يتطاول على الناس بلسانه، هل هذا محتاج إلى عالم ليقول له هذا حرام؟ إذا رأيت إنسانا لا يصوم، أو يمنع الزكاة، أو يسيء إلى الضعفاء، أو يستغل مركزه أو يأكل الرشوة، هل هذه الأشياء تحتاج إلى علماء؟
الدعوة بمعنى الدلالة على الخير والدفع في اتجاه الخير، ومساندة أهل الخير، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر هذه كلها لا تحتاج إلى علماء، وإنما تحتاج إلى مسلمين يفهمون أن الإسلام ليس تسابيح وأذكارا وأورادا وصلوات فقط، إنما الإسلام بناء عام، يشمل حياة المسلم، من أولها إلى أخرها، وبالتالي يتعود أن يكون داعيا إلى الله، يتعود أن يكون دالا على الله، يتعود أن يكون هاديا إلى الله.
لكن حينما تعرض مسألة في الفتوى لا تبادر بالفتوى فللفتوى أهلها، إذا عرضت مسألة لا تعرفها قل الله أعلم، وانقلها إلى عالمها.
نسأل الله جلت حكمته أن يرزقنا الإسلام الذي رزقه الخليل إبراهيم، وأن يجعلنا ممن قام على ملة إبراهيم حنيفا إنه ولي ذلك والقادر عليه، واستغفروا عباد الله ربكم إنه هو الغفور الرحيم.
أمس في 21:08 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الرابعة: قوانين الميراث تفضل الرجال على النساء ـ د.نضير خان
أمس في 21:05 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الثالثة: شهادة المرأة لا تساوي سوى نصف رجل ـ د.نضير خان
أمس في 21:02 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الثانية: المرأة لا تستطيع الطلاق ـ د.نضير خان
أمس في 20:59 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الأولى: الإسلام يوجه الرجال لضرب زوجاتهم ـ د.نضير خان
أمس في 20:54 من طرف Admin
» كتاب: المرأة في المنظور الإسلامي ـ إعداد لجنة من الباحثين
أمس في 20:05 من طرف Admin
» كتاب: (درة العشاق) محمد صلى الله عليه وسلم ـ الشّاعر غازي الجَمـل
9/11/2024, 17:10 من طرف Admin
» كتاب: الحب في الله ـ محمد غازي الجمل
9/11/2024, 17:04 من طرف Admin
» كتاب "قطائف اللطائف من جواهر المعارف" - الجزء الأول ـ إعداد: غازي الجمل
9/11/2024, 16:59 من طرف Admin
» كتاب "قطائف اللطائف من جواهر المعارف" - الجزء الثاني ـ إعداد: غازي الجمل
9/11/2024, 16:57 من طرف Admin
» كتاب : الفتن ـ نعيم بن حماد المروزي
7/11/2024, 09:30 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (1) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:12 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (2) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:10 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (3) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:06 من طرف Admin
» كتاب: تحفة المشتاق: أربعون حديثا في التزكية والأخلاق ـ محب الدين علي بن محمود بن تقي المصري
19/10/2024, 11:00 من طرف Admin