الحياء حياة القلوب
أ. د. علي جمعة
كان رسولنا -صلى الله عليه وسلم- على خلق عظيم، وقد شهد له ربه سبحانه وتعالى في قرآنه بذلك فقال تعالى : ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم : 4]، وجعل الله أهم أهداف رسالته صلى الله عليه وسلم إتمام مكارم الأخلاق فقال صلى الله عليه وسلم : «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» [أحمد والبيهقي والحاكم في المستدرك ومالك في الموطأ]. في أسلوب يوحي بأن رسالته صلى الله عليه وسلم قاصرة على هذا الغرض؛ وذلك لإعلاء مكانة مكارم الأخلاق في الإسلام.
وكان الحياء من أبرز الأخلاق الكريمة التي غرسها النبي -صلى الله عليه وسلم- في أصحابه وأمته من بعدهم من خلال قاله وحاله، وفي حياته كلها، والحياء لغةً : مصدر حي ، وهو : تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به ويذم. وهو ضد البذاءة والوقاحة، فالبذاءة: السفاهة والفحش في المنطق وإن كان الكلام صدقا. والوقاحة والقحة أن يَقلّ حياء الرجل ويجترئ على اقتراف القبائح ولا يعبأ بها.
أما الحياء في الشرع : خلق يبعث على اجتناب القبيح من الأفعال والأقوال ، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق. وقد يطلق ويراد به الخجل أيضًا،
وإن كان الخجل أصله في اللغة: الكسل والتواني وقلة الحركة في طلب الرزق، ثم كثر استعمال العرب له حتى أخرجوه على معنى الانقطاع في الكلام. كما قاله ابن الأنباري. ويستعمل الخجل أيضا بمعنى : الاسترخاء من الحياء، ويكون من الذل، يقال : به خجلة أي حياء. وهو التحير والدهش من الاستحياء . يقال: خجل الرجل خجلا : فعل فعلاً فاستحى منه.
وقد قيل إن الفرق بين الخجل والحياء، أن الخجل معنى يظهر في الوجه لغم يلحق القلب عند ذهاب حجة، أو ظهور على ريبة وما أشبه ذلك فهو شيء تتغير به الهيئة، والحياء هو الارتداع بقوة الحياء، ولهذا يقال فلان يستحي في هذا الحال أن يفعل كذا، ولا يقال يخجل أن يفعله في هذه الحال؛ لأن هيئته لا تتغير منه قبل أن يفعله، فالخجل مما كان والحياء مما يكون، وقد يستعمل الحياء موضع الخجل توسعا.
والحياء بمعناه الشرعي مطلوب من المسلم باتفاق، وإنما بمعناه العام، أو معناه اللغوي والعرفي فتجري فيه جميع الأحكام التكليفية: فإن كان المستحيي منه محرمًا، فالحياء منه واجب، وإن كان المستحيي منه مكروه فالحياء مندوب، وإن كان المستحيي منه واجبًا فالحياء منه حرام، وإن كان المستحيي منه مباح فهو عرفي أو جائز. فالحياء من تعلم أمور الدين وما يجب على الإنسان العلم به ليس بحياء شرعي .
وقد حث الإسلام على الحياء باعتباره خلقًا محمودًا على مستوى الفرد وعلى مستوى المجتمع حتى شاع الذم بعبارة (قليل الحيا) في الاستعمال اليومي، مع حذف همزة الحياء؛ لأن العرب تقصر كل ممدود ولا تمد بالضرورة كل مقصور.
وقد تفشت قلة الحياء بين الأفراد والمجتمعات وعلى المستوى الدولي كذلك، فصار الناس لا يستحيون من الله، ولا من الناس، وعلى المستوى الدولي فمن قلة الحياء التي نراها في التصرفات الدولية، حيث يحتل المحتل الأراضي ويسلب الخيرات ويسرق الوثائق والمستندات التاريخية ويعذب السجناء ويلتقط لهم الصور أثناء التعذيب حتى يبعثها لأهله مفتخرًا بنفسه أن عذب البشر. وهذا من خسة أخلاقه حيث ذهب الحياء.
ومن قلة الحياء على مستوى المجتمع أن يطلب المناصب القيادية أسافل الناس، بعد كل ما قدموه من فاحشة وسمعة سيئة، ويصدق فيهم قول - النبي صلى الله عليه وسلم- في علامات فساد الزمان وأهله : (يأتي على الناس سنوات خدعات، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيهم الرويبضة. قيل يا رسول الله- صلى الله عليه وسلم : وما الرويبضة ؟ قال الرجل التافه يتكلم في أمر العامة) [وابن ماجة].
وقال: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت) [رواه البخاري] وكان الحياء ينشئ ثقافة سائدة تمنع من الانحراف وتضبط إيقاع العمل على المستوى الشخصي والمستوى الجماعي، وانعدام الحياء يوصلنا إلى فقد المعيار الذي به التقويم والذي به القبول والرد والذي به التحسين والتقبيح، وفقد المعيار هذا يؤدي إلى ما يشبه الفوضى وهي الحالة التي إذا استمرت لا يصل الإنسان إلى غايته، ويضيع الاجتماع البشري وتسقط الحضارات في نهاية المطاف حيث لا ضابط ولا رابط.
وعلى ذلك فمن العبارات الشائعة - وهي خطأ- قولهم (لا حياء في الدين) ويقصدون أن الإنسان يجب عليه أن يسأل في كل شيء دون خجل يصده عن التعلم فلا يخجل من عدم معرفته ولا يخجل أن يعرف كل شيء في جميع المجالات، فليس هناك حدود للمعرفة والعبارة الصحيحة التي حرفت من أصلها إلى هذه العبارة الجديدة الخاطئة هي (لا حرج في الدين) وهناك فارق كبير بينهما؛ فصحيح أنه لا حرج في الدين، فإن اليسر يغلب العسر، ومن طبق الدين لا يجد فيه ضيقًا ولا تضيقًا فقد قال الله تعالى : (فإن مع العسر يسراً * إن المعسر يسرا) [الشرح : 5،6] وفي الحديث الشريف : ( أنه صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا أخذ أيسرهما) [رواه مسلم]. والقاعدة الفقهية الأم (المشقة تجلب التيسير).
والحياء المذكور في القرآن جاء على ثلاثة أنحاء الأول : ما أسند إلى الله تعالى قال سبحانه : (إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً) [البقرة : 26].وذلك أن هذا ليس بحال الحياء؛ لأنه مجال تعليم كما سبق والحياء إنما هو خلق يمنع صاحبه من السوء وإظهار المعصية وحب إشاعة الفحشاء، ولا علاقة له بالخجل من السؤال في العلم وطلب التعلم؛ لأن العلم وطلبه من الحق. قال تعالى : (والله لا يستحي من الحق) [الأحزاب : 53] والثاني : حياء منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومنه قوله تعالى (إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فيستحي منكم) [الأحزاب : 53] وهو حياء من كمال خُلقه ورحمته بأتباعه؛ حيث يقول لهم (أنا لكم بمنزلة الوالد). [أبو داود وابن أبي شيبة]. والثالث جاء منسوبًا إلى النساء العفيفات اللائي تربين في بيوت النبوة (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ) [القصص : 25]
والحياء في خصال البشر نوعان، نوع مكتسب، ونوع غريزي، وقد جمع النبي صلى الله عليه سلم بينهما في أخلاقه وسلوكه، قال القرطبي : «وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جمع له النوعان من الحياء المكتسب والغريزي وكان في الغريزي أشد حياء من العذراء في خدرها وكان في المكتسب في الذروة العليا صلى الله عليه وسلم» [المفهم شرح مسلم]. ولذا فقد وصفه أصحابه رضوان الله عليهم فقالوا : «كان النبي صلى الله عليه وسلم : أشد حياء من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئا يكرهه عرفناه في وجهه» [متفق عليه].
وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الحياء ورغب فيه، وحفز المؤمنين على التخلق به وأعلمهم أن هذه الصفة هي من صفات الله سبحانه وتعالى على ما يليق به جل وعلا، فقد روى سلمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إن الله حيي كريم يستحيي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفرا خائبتين» [رواه الترمذي].
والحياء هو من الأخلاق التي تميز الإسلام وأهله، ولذا يقول عنه النبي صلى الله عليه وسلم : «إن لكل دين خلقا وخلق الإسلام الحياء» [ابن ماجة، والطبراني في الكبير]
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الحياء جزء من الإيمان، وأن نقيضه وهو الفحش جزء من الجفاء، وأن الحياء في الجنة فقال : «الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاءة من الجفاء والجفاء في النار» [صحيح ابن حبان].
وخصه صلى الله عليه وسلم بالذكر ضمن شعب الإيمان بعد ذكر أعلى الشعب وأدناها، وذلك لبيان مكانته، فقال : «الإيمان بضع وسبعون شعبة أفضلها قول: لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان» [متفق عليه]
بل جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم قرين الإيمان، في قلب المسلم، وفي نزعهما من قلبه، فقال صلى الله عليه وسلم : «الحياء والإيمان قرنا جميعا ، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر» [الحاكم في المستدرك، والمصنف لابن أبي شيبة].
وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على رجل يعظ أخاه في الحياء ، فقال له صلى الله عليه وسلم : «دعه فإن الحياء من الإيمان» [متفق عليه].
ويعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم كيف نطبق خلق الحياء مع الله سبحانه وتعالى ، فيقول «استحيوا من الله حق الحياء. قال : قلنا : إنا نستحيي والحمد لله، قال : ليس ذاك ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى ، والبطن وما حوى، وتتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء» [رواه الترمذي].
فالحياء كله خير، ولا يأتي إلا بالخير. والذي أخبر بذلك هو الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، حيث قال: «الحياء لا يأتي إلا بخير». [متفق عليه]. وفي الحديث «الحياء خير كله ولا يأتي إلا بخير» [رواه مسلم]
كل هذه الأحاديث تؤكد على قيمة الحياء العظيمة في الإسلام، وأن الحياء هو خلق الإسلام حقا؛ لأنه باعث على أفعال الخير ومانع من المعاصي، ويحول بين المرء والقبائح ، ويمنعه مما يعاب به ويذم، فإذا كان هذا أثره فلا شك أنه خلق محمود، لا ينتج إلا خيرا.
وقد قال العلماء : الحياء من الحياة، وعلى حسب حياة القلب يكون فيه قوة خلق الحياء، وقلة الحياء من موت القلب والروح،
وأولى الحياء : الحياء من الله، والحياء منه ألا يراك حيث نهاك، ويكون ذلك عن معرفة ومراقبة.
وقال الجنيد رحمه الله : «الحياء رؤية الآلاء، ورؤية التقصير فيتولد بينهما حالة تسمى : الحياء» . وقال ابن القيم : ومن كلام الحكماء أحيوا الحياء بمجالسة من يستحيى منه، وعمارة القلب بالهيبة والحياء، فإذا ذهبا من القلب لم يبق فيه خير.
وإذا كان الحياء العرفي يمنع صاحبه من التعلم فهو حياء مذموم ولا يكون هو المطلوب من المسلم، فعن عائشة رضي الله عنها قالت : "نعم النساء نساء الأنصار لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين" [ رواه مسلم]. وعن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت : «جاءت أم سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله : إن الله لا يستحيي من الحق، هل على المرأة غسل إذا هي احتلمت ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم ، إذا رأت الماء» [رواه البخاري].
وكذلك الحياء من مواجهة الظلمة، والفساق وزجرهم، وترك الجهر بالمعروف، والنهي عن المنكر حياء ليس بحياء، وإنما هو عجز ومهانة، وتسميته حياء : من إطلاق بعض أهل العرف : أطلقوه مجازاً لمشابهته الصورية للحياء الشرعي.
وقد اعتنت الشريعة بحفظ مال المسلم الحيي، حتى وإن وافق على التفريط في حقه حياءً، فلا يجوز للآخذ أخذه. وقد صرح الشافعية والحنابلة أنه : إذا أخذ مال غيره بالحياء كأن يسأل غيره مالاً في ملأ فدفعه إليه بباعث الحياء فقط، أو أهدي إليه حياءً هدية يعلم المهدى له أن المهدي أهدى إليه بها حياءً: لم يملكه، ولا يحل له التصرف فيه، وإن لم يحصل طلب من الآخذ. فالمدار مجرد العلم بأن صاحب المال دفعه إليه حياءً، لا مروءة، ولا لرغبة في خير.
ومن هذا : لو جلس عند قوم يأكلون طعاماً، وسألوه أن يأكل معهم، وعلم أن ذلك لمجرد حيائهم، لا يجوز له أكله من طعامهم، كما يحرم على الضيف أن يقيم في بيت مضيفه مدة تزيد على مدة الضيافة الشرعية وهي ثلاثة أيام فيطعمه حياء.
فللمأخوذ بالحياء حكم المغصوب، وعلى الآخذ رده، أو التعويض عنه، ويجب أن يكون التعويض بقيمة ما أخذ أو أكل من زادهم، وقال ابن الجوزي : هذا كلام حسن لأن المقاصد في العقود معتبرة.
وما أحوجنا في هذا العصر أن نتخلق بأخلاق الله سبحانه وتعالى، وأخلاق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحياء، حتى ندعو إلى هذا الدين بالخلق الحسن، فيدخل الناس في دين الله أفواجا كما حدث من قبل، نسأل الله أن يرزقنا وجميع المسلمين الحياء، ويجمعنا على الهداية والطاعة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أ. د. علي جمعة
كان رسولنا -صلى الله عليه وسلم- على خلق عظيم، وقد شهد له ربه سبحانه وتعالى في قرآنه بذلك فقال تعالى : ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم : 4]، وجعل الله أهم أهداف رسالته صلى الله عليه وسلم إتمام مكارم الأخلاق فقال صلى الله عليه وسلم : «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» [أحمد والبيهقي والحاكم في المستدرك ومالك في الموطأ]. في أسلوب يوحي بأن رسالته صلى الله عليه وسلم قاصرة على هذا الغرض؛ وذلك لإعلاء مكانة مكارم الأخلاق في الإسلام.
وكان الحياء من أبرز الأخلاق الكريمة التي غرسها النبي -صلى الله عليه وسلم- في أصحابه وأمته من بعدهم من خلال قاله وحاله، وفي حياته كلها، والحياء لغةً : مصدر حي ، وهو : تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به ويذم. وهو ضد البذاءة والوقاحة، فالبذاءة: السفاهة والفحش في المنطق وإن كان الكلام صدقا. والوقاحة والقحة أن يَقلّ حياء الرجل ويجترئ على اقتراف القبائح ولا يعبأ بها.
أما الحياء في الشرع : خلق يبعث على اجتناب القبيح من الأفعال والأقوال ، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق. وقد يطلق ويراد به الخجل أيضًا،
وإن كان الخجل أصله في اللغة: الكسل والتواني وقلة الحركة في طلب الرزق، ثم كثر استعمال العرب له حتى أخرجوه على معنى الانقطاع في الكلام. كما قاله ابن الأنباري. ويستعمل الخجل أيضا بمعنى : الاسترخاء من الحياء، ويكون من الذل، يقال : به خجلة أي حياء. وهو التحير والدهش من الاستحياء . يقال: خجل الرجل خجلا : فعل فعلاً فاستحى منه.
وقد قيل إن الفرق بين الخجل والحياء، أن الخجل معنى يظهر في الوجه لغم يلحق القلب عند ذهاب حجة، أو ظهور على ريبة وما أشبه ذلك فهو شيء تتغير به الهيئة، والحياء هو الارتداع بقوة الحياء، ولهذا يقال فلان يستحي في هذا الحال أن يفعل كذا، ولا يقال يخجل أن يفعله في هذه الحال؛ لأن هيئته لا تتغير منه قبل أن يفعله، فالخجل مما كان والحياء مما يكون، وقد يستعمل الحياء موضع الخجل توسعا.
والحياء بمعناه الشرعي مطلوب من المسلم باتفاق، وإنما بمعناه العام، أو معناه اللغوي والعرفي فتجري فيه جميع الأحكام التكليفية: فإن كان المستحيي منه محرمًا، فالحياء منه واجب، وإن كان المستحيي منه مكروه فالحياء مندوب، وإن كان المستحيي منه واجبًا فالحياء منه حرام، وإن كان المستحيي منه مباح فهو عرفي أو جائز. فالحياء من تعلم أمور الدين وما يجب على الإنسان العلم به ليس بحياء شرعي .
وقد حث الإسلام على الحياء باعتباره خلقًا محمودًا على مستوى الفرد وعلى مستوى المجتمع حتى شاع الذم بعبارة (قليل الحيا) في الاستعمال اليومي، مع حذف همزة الحياء؛ لأن العرب تقصر كل ممدود ولا تمد بالضرورة كل مقصور.
وقد تفشت قلة الحياء بين الأفراد والمجتمعات وعلى المستوى الدولي كذلك، فصار الناس لا يستحيون من الله، ولا من الناس، وعلى المستوى الدولي فمن قلة الحياء التي نراها في التصرفات الدولية، حيث يحتل المحتل الأراضي ويسلب الخيرات ويسرق الوثائق والمستندات التاريخية ويعذب السجناء ويلتقط لهم الصور أثناء التعذيب حتى يبعثها لأهله مفتخرًا بنفسه أن عذب البشر. وهذا من خسة أخلاقه حيث ذهب الحياء.
ومن قلة الحياء على مستوى المجتمع أن يطلب المناصب القيادية أسافل الناس، بعد كل ما قدموه من فاحشة وسمعة سيئة، ويصدق فيهم قول - النبي صلى الله عليه وسلم- في علامات فساد الزمان وأهله : (يأتي على الناس سنوات خدعات، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيهم الرويبضة. قيل يا رسول الله- صلى الله عليه وسلم : وما الرويبضة ؟ قال الرجل التافه يتكلم في أمر العامة) [وابن ماجة].
وقال: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت) [رواه البخاري] وكان الحياء ينشئ ثقافة سائدة تمنع من الانحراف وتضبط إيقاع العمل على المستوى الشخصي والمستوى الجماعي، وانعدام الحياء يوصلنا إلى فقد المعيار الذي به التقويم والذي به القبول والرد والذي به التحسين والتقبيح، وفقد المعيار هذا يؤدي إلى ما يشبه الفوضى وهي الحالة التي إذا استمرت لا يصل الإنسان إلى غايته، ويضيع الاجتماع البشري وتسقط الحضارات في نهاية المطاف حيث لا ضابط ولا رابط.
وعلى ذلك فمن العبارات الشائعة - وهي خطأ- قولهم (لا حياء في الدين) ويقصدون أن الإنسان يجب عليه أن يسأل في كل شيء دون خجل يصده عن التعلم فلا يخجل من عدم معرفته ولا يخجل أن يعرف كل شيء في جميع المجالات، فليس هناك حدود للمعرفة والعبارة الصحيحة التي حرفت من أصلها إلى هذه العبارة الجديدة الخاطئة هي (لا حرج في الدين) وهناك فارق كبير بينهما؛ فصحيح أنه لا حرج في الدين، فإن اليسر يغلب العسر، ومن طبق الدين لا يجد فيه ضيقًا ولا تضيقًا فقد قال الله تعالى : (فإن مع العسر يسراً * إن المعسر يسرا) [الشرح : 5،6] وفي الحديث الشريف : ( أنه صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا أخذ أيسرهما) [رواه مسلم]. والقاعدة الفقهية الأم (المشقة تجلب التيسير).
والحياء المذكور في القرآن جاء على ثلاثة أنحاء الأول : ما أسند إلى الله تعالى قال سبحانه : (إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً) [البقرة : 26].وذلك أن هذا ليس بحال الحياء؛ لأنه مجال تعليم كما سبق والحياء إنما هو خلق يمنع صاحبه من السوء وإظهار المعصية وحب إشاعة الفحشاء، ولا علاقة له بالخجل من السؤال في العلم وطلب التعلم؛ لأن العلم وطلبه من الحق. قال تعالى : (والله لا يستحي من الحق) [الأحزاب : 53] والثاني : حياء منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومنه قوله تعالى (إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فيستحي منكم) [الأحزاب : 53] وهو حياء من كمال خُلقه ورحمته بأتباعه؛ حيث يقول لهم (أنا لكم بمنزلة الوالد). [أبو داود وابن أبي شيبة]. والثالث جاء منسوبًا إلى النساء العفيفات اللائي تربين في بيوت النبوة (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ) [القصص : 25]
والحياء في خصال البشر نوعان، نوع مكتسب، ونوع غريزي، وقد جمع النبي صلى الله عليه سلم بينهما في أخلاقه وسلوكه، قال القرطبي : «وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جمع له النوعان من الحياء المكتسب والغريزي وكان في الغريزي أشد حياء من العذراء في خدرها وكان في المكتسب في الذروة العليا صلى الله عليه وسلم» [المفهم شرح مسلم]. ولذا فقد وصفه أصحابه رضوان الله عليهم فقالوا : «كان النبي صلى الله عليه وسلم : أشد حياء من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئا يكرهه عرفناه في وجهه» [متفق عليه].
وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الحياء ورغب فيه، وحفز المؤمنين على التخلق به وأعلمهم أن هذه الصفة هي من صفات الله سبحانه وتعالى على ما يليق به جل وعلا، فقد روى سلمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إن الله حيي كريم يستحيي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفرا خائبتين» [رواه الترمذي].
والحياء هو من الأخلاق التي تميز الإسلام وأهله، ولذا يقول عنه النبي صلى الله عليه وسلم : «إن لكل دين خلقا وخلق الإسلام الحياء» [ابن ماجة، والطبراني في الكبير]
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الحياء جزء من الإيمان، وأن نقيضه وهو الفحش جزء من الجفاء، وأن الحياء في الجنة فقال : «الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاءة من الجفاء والجفاء في النار» [صحيح ابن حبان].
وخصه صلى الله عليه وسلم بالذكر ضمن شعب الإيمان بعد ذكر أعلى الشعب وأدناها، وذلك لبيان مكانته، فقال : «الإيمان بضع وسبعون شعبة أفضلها قول: لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان» [متفق عليه]
بل جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم قرين الإيمان، في قلب المسلم، وفي نزعهما من قلبه، فقال صلى الله عليه وسلم : «الحياء والإيمان قرنا جميعا ، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر» [الحاكم في المستدرك، والمصنف لابن أبي شيبة].
وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على رجل يعظ أخاه في الحياء ، فقال له صلى الله عليه وسلم : «دعه فإن الحياء من الإيمان» [متفق عليه].
ويعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم كيف نطبق خلق الحياء مع الله سبحانه وتعالى ، فيقول «استحيوا من الله حق الحياء. قال : قلنا : إنا نستحيي والحمد لله، قال : ليس ذاك ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى ، والبطن وما حوى، وتتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء» [رواه الترمذي].
فالحياء كله خير، ولا يأتي إلا بالخير. والذي أخبر بذلك هو الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، حيث قال: «الحياء لا يأتي إلا بخير». [متفق عليه]. وفي الحديث «الحياء خير كله ولا يأتي إلا بخير» [رواه مسلم]
كل هذه الأحاديث تؤكد على قيمة الحياء العظيمة في الإسلام، وأن الحياء هو خلق الإسلام حقا؛ لأنه باعث على أفعال الخير ومانع من المعاصي، ويحول بين المرء والقبائح ، ويمنعه مما يعاب به ويذم، فإذا كان هذا أثره فلا شك أنه خلق محمود، لا ينتج إلا خيرا.
وقد قال العلماء : الحياء من الحياة، وعلى حسب حياة القلب يكون فيه قوة خلق الحياء، وقلة الحياء من موت القلب والروح،
وأولى الحياء : الحياء من الله، والحياء منه ألا يراك حيث نهاك، ويكون ذلك عن معرفة ومراقبة.
وقال الجنيد رحمه الله : «الحياء رؤية الآلاء، ورؤية التقصير فيتولد بينهما حالة تسمى : الحياء» . وقال ابن القيم : ومن كلام الحكماء أحيوا الحياء بمجالسة من يستحيى منه، وعمارة القلب بالهيبة والحياء، فإذا ذهبا من القلب لم يبق فيه خير.
وإذا كان الحياء العرفي يمنع صاحبه من التعلم فهو حياء مذموم ولا يكون هو المطلوب من المسلم، فعن عائشة رضي الله عنها قالت : "نعم النساء نساء الأنصار لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين" [ رواه مسلم]. وعن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت : «جاءت أم سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله : إن الله لا يستحيي من الحق، هل على المرأة غسل إذا هي احتلمت ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم ، إذا رأت الماء» [رواه البخاري].
وكذلك الحياء من مواجهة الظلمة، والفساق وزجرهم، وترك الجهر بالمعروف، والنهي عن المنكر حياء ليس بحياء، وإنما هو عجز ومهانة، وتسميته حياء : من إطلاق بعض أهل العرف : أطلقوه مجازاً لمشابهته الصورية للحياء الشرعي.
وقد اعتنت الشريعة بحفظ مال المسلم الحيي، حتى وإن وافق على التفريط في حقه حياءً، فلا يجوز للآخذ أخذه. وقد صرح الشافعية والحنابلة أنه : إذا أخذ مال غيره بالحياء كأن يسأل غيره مالاً في ملأ فدفعه إليه بباعث الحياء فقط، أو أهدي إليه حياءً هدية يعلم المهدى له أن المهدي أهدى إليه بها حياءً: لم يملكه، ولا يحل له التصرف فيه، وإن لم يحصل طلب من الآخذ. فالمدار مجرد العلم بأن صاحب المال دفعه إليه حياءً، لا مروءة، ولا لرغبة في خير.
ومن هذا : لو جلس عند قوم يأكلون طعاماً، وسألوه أن يأكل معهم، وعلم أن ذلك لمجرد حيائهم، لا يجوز له أكله من طعامهم، كما يحرم على الضيف أن يقيم في بيت مضيفه مدة تزيد على مدة الضيافة الشرعية وهي ثلاثة أيام فيطعمه حياء.
فللمأخوذ بالحياء حكم المغصوب، وعلى الآخذ رده، أو التعويض عنه، ويجب أن يكون التعويض بقيمة ما أخذ أو أكل من زادهم، وقال ابن الجوزي : هذا كلام حسن لأن المقاصد في العقود معتبرة.
وما أحوجنا في هذا العصر أن نتخلق بأخلاق الله سبحانه وتعالى، وأخلاق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحياء، حتى ندعو إلى هذا الدين بالخلق الحسن، فيدخل الناس في دين الله أفواجا كما حدث من قبل، نسأل الله أن يرزقنا وجميع المسلمين الحياء، ويجمعنا على الهداية والطاعة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin