الفيزياء الصوفية: شعر ابن الفارض أنموذجاً
سمر الديوب
“كانت هناك امرأة شابة يسمونها المتألقة
كان في إمكانها أن تسافر أسرع من الضوء
أقلعت اليوم
في طريق نسبية
وعادت إلى دارها في الليلة الماضية”
أ.ه. بوللر Buller
1 – هدف البحث وأسئلته ومنهجه
نسعى هذا البحث إلى دراسة الفيزياء الصوفية، منطلقين من أن “أنا” الصوفي جزء صغير جداً من كوننا المتماسك، الذي لا يوجد فيه استقلال، فالكون كليّة متواشجة، ونستطيع تعرُّفه من أصغر وحدة فيه، وتقوم العلاقات فيه على التبادل، ويعني هذا الكلام أن العالم الفيزيائي يعتمد على العالم الشعري، ولا يقوم الشعر من غير مبادئ فيزيائية. إنها طبيعة الأشياء الكونية المترابطة. وقد أدرك الفيزيائيون الحديثون كلّية العلاقات الكونية بدءاً بالكوارك -عالم ما دون الذرة- إلى المجرات الكونية، فثمة شبكة من العلاقات الكونية القائمة على التبادل بين جزيئات الكون، والإنسان جزء بسيط في هذا التدفق الأبدي للطاقة.
وقد رتّب الشاعر الصوفي الكون ترتيباً شعرياً؛ لذا نفترض وجود تماثلات بين الفيزياء والشعر الصوفي؛ ذلك لأن الشاعر غدا جزيئاً متفاعلاً مع الكون بأبعاده، ونفترض أنه قد وصل بالحدس والتأمل إلى ما وصل إليه الفيزيائي بالفكر والتجربة.
ولا تبتغي هذه الدراسة نفي الدراسات السابقة، بل الاختلاف عنها، فالنص الشعري نصّ قابل للتعدد والاختلاف.
ولا تختلف النظرة الفيزيائية عن النظرة الشعرية، والتضاد بينهما مدعاة للتكامل، فالفيزياء علم الطبيعة الكامل الشامل، وقد أُطلق على الفيزياء تسمية “فلسفة الطبيعة” فللفيزياء علاقة بما هو طبيعي، فالنظرة الفيزيائية نظرة فلسفية حسية، ويرتبط الشعر بالرؤيا والجانب العاطفي؛ لذا نفترض أنه يستطيع الإفادة من الفيزياء، وتوسلها طريقة لرؤية العالم.
تركزت الدراسات السابقة على المقولات الصوفية والرمز: رمز الخمر والمرأة، ويكشف تناول الشعر الصوفي من زاوية التماثلات مع الفيزياء الحديثة جانباً من كيفية تشكّل الخطاب الصوفي المبني على الثقافة التقليدية ظاهراً، المخالف لها ضمناً، فللصوفي عالمه الخاص، عالم معرفة، ربط بين الكون والأنا، وقلب الاهتمام من الخارج إلى الداخل بهدف الوصول إلى عالم النور: المعرفة التي لا تكون إلا بالمحبة.
وقد تمكن الشاعر الصوفي من جعل الشعر فلسفة، والفلسفة شعراً، وتتكامل العلوم في الإطار العام لها: الفلسفة، فينطلق هذا الشعر من طبيعة ميتافيزيقية؛ لذا يحيل إلى الفيزياء الحديثة؛ الميتافيزياء، فهو شعر عرفاني يغوص في الرمزية.
إن قوانين الفيزياء أقرب إلى الشعر؛ لأنها مسائل فيزيقية وميتافيزيقية، وللشعر علاقة بالميتافيزيقا.
ويثير البحث جملة أسئلة من قبيل: ما حدود العلاقة بين الفيزياء والشعر الصوفي؟ هل تستقل قوانين الفيزياء الحديثة عن العالم؟ وهل لها وجود في ذاتها فقط؟ هل الزمان حقيقة ذاتية تخص الإنسان أو حقيقة موضوعية خارجة عنه؟ هل أعادت الفيزياء الحديثة اكتشاف الصوفية القديمة؟ وهل يمكن للإنسان بالتأمل أن يتوصل إلى ما يتوصل إليه الفيزيائي بالتجربة؟ إن الفيزيائي والشاعر الصوفي يستخدمان العقل والحدس استخداماً مفرطاً، وكلّ من الطرفين يتمم الآخر.
والخطاب الصوفي خطاب مشرّع على تجديد الأسئلة من منظور علمي فلسفي، فلم كتب الشاعر الصوفي وهو يشعر أن المطلق أوسع من اللغة؟ هل قدم نصه الشعري بارتياب أن يكون قادراً على الكشف عن المطلق؟ ما علاقة المعرفة الحدسية بالمعرفة العقلية؟
وسنطمئن في بحثنا هذا إلى مقولات التفكيك، فيمكن أن تفكك الدراسة الحالية الدراسات السابقة، وتضيف جديداً إليها، وسنهتم بتفكيك طريقة تفكير الشاعر الصوفي القائمة على أسس من الميتافيزيقا وتحويلها إلى سمة يقينية، فيزيح التفكيك المقولات الثابتة، ويشارك في لعبة المعاني في النص الشعري. إنه إزاحة لا نهائية للمعنى. وسننتقل مستعينين بالتفكيك من نظام الشعر إلى الفيزياء الحديثة معتمدين على فائض المعنى.
وإذا كان التفكيك قد هدم الثنائيات الضدية في البنيوية فقد هدمها بالثنائيات أيضاً، كالشك واليقين، والحضور والغياب. فما الفيزياء الصوفية؟ وما العلاقة بين الفكر والحدس، والعلم والمعرفة؟ وما علاقة شعر التصوف بالمقولات الفيزيائية الحديثة؟ وما علاقة الفيزياء الحديثة بالخيال؟
2 – – الفيزياء الصوفية: دراسة في المصطلح ودلالاته
2-1- ثنائيتا العلم/ المعرفة، العقل/ الحدس
يقابل البحث في الإنسانيات البحثَ في الطبيعيات، ويلتقيه، فتتكامل العلوم، ويعدّ كل فرع منها ضرورياً للعلوم الأخرى، ولا يوجد علم مستقل في ذاته؛ لأن المعرفة واحدة، لا تتجزأ.
وإذ تقوم الإنسانيات على أساس متواضع من العلم يقوم العلم على الخيال الذي يعدّ شرطاً لوجود الإنسانيات، فثمة وحدة في النظام الكوني.
وللشعر الصوفي علاقة بالجانب العلمي، فلغته مرتبة ترتيباً منظماً، ولا يقبل عقله الفراغ، بل يملأ فكره فراغ عقله، ويمكن القول: إن ما قدّمه الشعر الصوفي وسيلة لإظهار قوانين الكون الخاصة بالإنسان.
إن ثمة نوعين من المعرفة: معرفة عقلية، ومعرفة حدسية، وللمعرفتين طبيعة تكاملية، فهما طرفا ثنائية ضدية، والمعرفة العقلية معرفة محدودة بمعطيات العلم، ويهتم الشاعر الصوفي بالإدراك الحدسي، وهو أرفع من التفكير العقلاني، فلا تعتمد معرفته على التصنيفات العقلية، وهذه سمة مائزة لكل تجربة صوفية؛ لذا يعجز الصوفي عن وصف المطلق بالكلمات، فيلجأ إلى الرمز، فالمعرفة الحدسية معرفة غير عقلية للواقع، معرفة تأملية صوفية، وتبنى المعرفة العقلية على معارف سابقة، قد تنقضها، وقد تعدّل فيها. أما المعرفة الحدسية فثابتة.
إن ثمة فيزياء صوفية، وصوفية فيزيائية، فليست الفيزياء مستقلة عن الطبيعة، بل هي متأصلة فيها، فثمة جانب حدسي في العلم، وجانب عقلي في الشعر الصوفي، فالمعارف متداخلة، وحين قال النفَّري: “كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة”(1) لمّح إلى عجز اللغة عن التعبير عن البعد الأعلى من بعدنا الفيزيائي، وأكّد أن الرؤية لدى الصوفي أساس المعرفة، وتستحيل المعرفة من غير رؤية، وتعني الرؤية المعرفة الميتافيزيقية؛ ذلك لأن تجربة الصوفي تجربة غير حسية(2).
يعني الكلام السابق أن للتصوف علاقة بالحدس، وللفيزياء علاقة بالتفكير العقلاني، لكن الجانبين قطبان لحقيقة واحدة متحدة، لا يمكن فصل أحد جانبيها عن الآخر، وحين يصل التفكير العقلاني إلى الذروة يتراجع لصالح التفكير الحدسي، والعكس صحيح.
وتعد الفيزياء الحديثة أعلى درجات التفكير العقلاني، ويعني ذلك أن لها علاقة بالتفكير الحدسي تبعاً لقاعدة الثنائيات الضدية السابقة. ويمكن القول إن أشد أنواع التقارب بين العلوم الطبيعية والإنسانية يتجلى في الفيزياء الحديثة والشعر، ولا سيما الشعر الصوفي، فثمة تشابه كبير بين التصوّف الحدسي والفيزياء العقلية؛ لذا يمكن أن تكون الفيزياء الحديثة: الميتا فيزياء وسيلة لفهم المعرفة الروحانية الصوفية.
لقد انقسمت الفيزياء الكلاسية إلى ثنائية: مادة/ عقل(3)، فالإنسان بدن وروح، وقالت إن الذرة أبسط أشكال المادة. أما فلسفة الشعر الصوفي فترد الظواهر الكونية إلى كلّ متحد متناغم، وهذا فهم مضاد للمفاهيم الكلاسية القديمة.
وبما أن الأجزاء ترتد إلى الكل الواحد، فكل ما ندركه بالحواس يرتبط بعضه ببعض، ويرتد إلى الحقيقة المطلقة. ولا يرى الشاعر الصوفي العقل مصدراً للمعرفة، بل يراه وسيلة تفسير وتحليل فقط. ويقضي الفيزيائي مراحل تدريب طويلة في حين يحتاج الصوفي إلى مجاهدة للوصول إلى رتبة أعلى، فيلجم عقله، ويُعمِل حدسه بوصفه وسيلة للوعي. فكلا التجربتين: الصوفية والفيزيائية تحتاج إلى تدريب، يتخطى الصوفي تجربته بالتأمل العميق، وينقل الوعي من الطريقة العقلية إلى الطريقة الحدسية(4) وفي التأمل العميق يكون العقل شديد التيقظ.
إن العلم يقوم على العقل، ولا يرى العقل سوى الحدود، في حين يعرف الحدس الذي يقوم عليه التصوف الدربَ المختلف. فإن كانت الأذن تعشق قبل العين أحياناً فإن الحدس يعرف قبل العقل أحياناً.
ويستند العلم إلى أفكار الآخرين، أما المعرفة فتستند إلى مجاهدة النفس لدى الصوفي، ويقيد الفكر العالِم، أما العبور فيقوم على الإفراغ، فيتضاءل الحجاب بالمعرفة، ولكي يتم التدرج من العلم إلى المعرفة ثمة حاجة إلى جهد؛ لذا يمكن للغة أن تستوعب العلم، لا المعرفة(5)
إن عقل الصوفي عقل قابل للكشف، لا عقل مرتبط بالبعد Demission الفيزيائي، فينتج خياله معرفة، لا فكراً، لكن ذلك لا يمنع قراءة نتاجه بالفكر العلمي، إنه يقدم فكره بالرمز؛ لأن اللغة عاجزة عن التعبير بلغتنا عن المطلق.(6)
إن التصوف معرفة عقلية فائقة، ويكشف الحدس الصوفي البعد الميتافيزيقي بطريقة فردية تتخطى حدود مادية النوع البشري، والصحوة غير العقل، ذلك أن العقل يجب ألا يكتنز معلومات سابقة لكي تعمل الصحوة، ويبقى فيزياء الجسد والروحي تجليين لحقيقة واحدة(7)، فتحيل ثنائية المظهر المتجلي والمظهر اللا متعين إلى حقيقة واحدة.
2-2-ثنائية الفيزياء/الميتافيزياء والتصوف
ننظر إلى الفيزياء الكلاسية على أنها النظريات القابلة للاختبار، أما الميتا فيزياء فهي النظريات غير القابلة للاختبار، وسنختبر العلاقة بين الميتا فيزياء والشعر الصوفي بنظريتي الكم والنظرية النسبية(8)
والفيزياء كلمة يونانية تعني محاولة رؤية الطبيعة الجوهرية للأشياء(9) ويرى الفيزيائيون أن الكون حافل بالمادة الحية، وهي النظرة التي تماثل نظرة الشاعر الصوفي إلى الكون، فهو حافل بالروح. ويحكم الفيزياء الكلاسيكية السبب والنتيجة في حين تتجرد منهما الميتا فيزياء، وتصف الفيزياء الحوادث، وتفسرها، وقد تتنبأ بها، فنحن نستطيع تعريف الضوء لكننا عاجزون عن تفسيره بوصفه ظاهرة. ويحاول الميتا فيزيائي بناء عالم تخيلات خاص به، مسوّغاً ذلك بأن ثمة حقائق لا تُدرك بالحواس.
وتعدّ النظرية الكوانتية -ميكانيكا الكم- نظرية تقوم على الريبة Uncertainty Principle وعدم التعيين، فيتم التحول إلى الميتا فيزياء(10)فتقول الفيزياء إن تفسير العالم أمر ممكن في حقل ميتا فيزيائي، فالقوانين الفيزيائية أصداء للعقل البشري.
والميتا فيزياء هي الأصل للفيزياء، وكلاهما طالب معرفة، يؤمن بالتجربة. فلا تجد الفيزياء معناها إلا في الميتا فيزياء، وتطبق القوانين الفيزيائية في نمط معين نحوزه، فهي محكومة بالزمان والمكان خلاف الميتا فيزياء، ويمكن القول إن ثمة طبيعة ميتا فيزيائية للفيزياء، فيربط الفيزيائيون الأمور بموضوعات معينة، ويبحث الميتا فيزيائيون عن نهج معرفي تسقط منه الموضوعية.
ويتعامل الفيزيائيون مع الأجزاء ضمن إطار توحيد الكون، ويتعامل الميتا فيزيائيون مع الكل المتضمن الأجزاء في إطار توحيد الكون، فالتجربة الفيزيائية تجربة ميتا فيزيائية؛ ذلك أن هموم الفيزياء تحولت إلى شجون ميتا فيزيائية، فثمة طبيعة ميتا فيزيائية للقوانين الفيزيائية(11) فالأفكار الميتا فيزيائية ضرورية للفيزياء، وهي ليست تجريبية.
وترى الفيزياء الحديثة أن التغير الدائم سمة الكون الدينامي، كالزمن وغيره من التغيرات، ويرى الصوفي الكون كلاً واحداً، لا انفصال فيه، حركته دائمة روحية ومادية. والحركة التي هي سمة الكون موجودة في الأشياء، لا خارجها، فيقوم الفكر الصوفي على خلفية فلسفية تماثل الخلفية الفلسفية الفيزيائية الحديثة، فيرى الميتا فيزيائي في العالم ما دون الذري أن هذا العالم نظام من العناصر غير المنفصلة كالصوفي الذي يرى الكون وحدة متواشجة.
إن الفيزياء الحديثة تقودنا إلى نظرة قريبة جداً من نظرة الشاعر الصوفي، ويمكن القول إن النظرة الفيزيائية تعود إلى أصول صوفية؛ إذ تعود الفيزياء في أصولها إلى زمن قديم لم يكن العلم فيه منفصلاً عن الفلسفة والدين.
ولأن الكلام ناقص في التعبير عن التجربة الصوفية يكررون هذه التجربة والكلام عليها، والنظرية الفيزيائية نظرية تحتاج إلى برهان؛ لذا تتكرر التجارب لإثباتها.
وإذا انطلقنا من الغياب الذي يتحدث عنه التفكيك وجدنا أن الفيزياء الحديثة تختفي، ولا تغيب في عوالم النص الصوفي، فالأفكار تتوالد، فما علاقة الفيزياء الصوفية بشعر ابن الفارض الصوفي؟
2 – 3 – الشعر الصوفي: ابن الفارض أنموذجاً
يمثل النص الصوفي خروجاً عن المعهود دينياً وأدبياً (12) فللشاعر الصوفي معجمه الخاص، وتمرده الخاص على اللغة، ويعدّ شعر ابن الفارض علامة مهمة في هذه المنظومة الصوفية لما يمتاز به من نضج إبداعي وروحي، وقد شكل نقطة لقاء بالنصوص السابقة له، ونقاط خلاف مع بعضها الآخر حين تحدث عن مغادرة الزمن الفيزيائي إلى زمن يقع في منطقة الميتا فيزياء، فذهاب الحس سمة مازت تجربته الشعرية.
وقد تم اختيار شعر ابن الفارض(13) أنموذجاً للدراسة؛ لأن شعر التصوف قد بلغ حداً من النضج والاكتمال واتضاح المعالم في القرن السابع الهجري، وما قدمه ابن الفارض خطاب رمزي تختبئ خلفه حقيقة علمية، فهو نص أدبي، لكنه يفارق النص الأدبي العادي، وتجربته الصوفية كاملة؛ لأنه دائم المحاولة، وهي تجربة قائمة على النفي؛ لأن إثباتها يعني فشلها، فآلية الإرجاء مستمرة في محاولة لخرق حدود الفيزياء إلى الميتا فيزياء.
والغائب في النص الشعري حاضر دائماً، لكنه متخفٍّ يحتاج إلى كشف الحجب عنه، فالتغييب حضور قوي، وما تغيَّب في النص الشعري الصوفي البعد الميتا فيزيائي.
ننظر إلى التصوف على أنه خطاب ثلاثي الأبعاد: فلسفي ونفسي وديني، وقد وردت الصوفية في دائرة المعارف البريطانية بمعنى التوحد مع الإلهي والمقدس(14)
ولا يشترط أن يكون الشاعر متصوفاً، لكن كل صوفي شاعر بمعنى ما؛ لأنه يمتح من لغة رمزية بعيدة عن التصريح، ويعد الحدس ركيزة أساسية في التصوف(15)، والعقل ركيزة أساسية في العلم، وكلاهما يلجأ إلى لغة الرمز، وكلا اللغتين قاصرة عن التعبير عن واقع ميتا فيزيائي؛ لأن الرؤية واسعة والعبارة محدودة. فكيف تجلت الفيزياء الصوفية في شعر ابن الفارض؟
3 – الصوفية وفيزياء الكم
3 – 1 – وحدة الأشياء والتعدد في الوحدة
تعد ميكانيكا الكم من النظريات الميتا فيزيائية التي تقوم على فكرة الوحدة في الكون، والكثرة ضمن الوحدة، فالكون كلّ متماسك، وكل جزء فيه يؤثّر في غيره، ولا وجود لشيء منفصل فيه، فقد نحا العلم المعاصر نحو وحدة الوجود، فقطرة من الماء تحتوي على نسق الكون كله(16) ويرى ابن الفارض أن الجزء من الكون يشتمل على خصائص الوحدة، فالكثرة في الوحدة، والوحدة في الكثرة. يقول:
تراه إن غابَ عنّي كلُّ جارحةٍ
في كلِّ معنى لطيفٍ رائقٍ بهجِ
في نغمةِ العودِ، والناي الرخيمِ إذا
تألّفا بين ألحانٍ من الهزَجِ
وفي مسارحِ غزلانِ الخمائلِ في
بَردِ الأصائلِ، والإصباحِ في البَلجِ
وفي مساقطِ أنداءِ الغمامِ على
بساطِ نَوْرٍ من الأزهارِ منتَسِجِ(17)
يرى ابن الفارض أن الكثرة ترتد إلى وحدة، ولا ندرك الوحدة بالمقابل إلا بالكثرة، فالصور التي تتجلى أمام أعيننا صور متعددة لواحد، ولا وجود للمتعينات في حد ذاتها، بل بالواحد.
وهذه النظرة هي نفسها نظرة الفيزيائي الحديث إلى العالم، فالعناصر الأساسية للنظرة الفيزيائية عناصر صوفية، وأبرز سمات هذه النظرة تتجلى في وعي الوحدة والعلاقات المتبادلة بين الأشياء كلها، فما يراه من جمال تجلياتٌ لوحدة أساسية، هو المطلق الذي يتجلى في الأشياء كلها، فتقسيم الأشياء وانفصالها وهم، ويوهم العقل بهذا الانفصال والتقسيم؛ لذا نجده يهدّئ عقله، ويضبطه بالتأمل حين يختبر الوحدة الأساسية للكون في موضع آخر حين يقول:
هو الحبُّ. فاسلمْ بالحشا ما الهوى سهلُ
فما اختاره مضنىً به وله عقلُ(18)
إنه يعطل عقله؛ لأن معرفته حدسية عن طريق القلب لا العقل، لكن المعرفة الحدسية تعني العقل في أعلى درجات عمله.
وفي الفيزياء الحديثة ثمة مملكة الذرة، ومملكة ما دون الذرة، فلا تُفهم فيزياء ما دون الذرة بوصفها وحدات منفصلة، بل بوصفها أجزاء متكاملة لكل واحد، فتتضمن ميكانيكا الكم ترابطات الطبيعة(19)،
لقد أدرك ابن الفارض أن الاختلاف يضمر انسجاماً في الوحدة، وهو كلام يشبه ما يقوله أصحاب نظرية الشواش “الأنتروبيا”(20) Entropy من وجود نظام في الفوضى الكونية، وفوضى في النظام.
ويمكن القول إن الشاعر يرى صوراً متعددة لفوضى في الكون، لكن ثمة نظاماً في هذه الفوضى.
وتكشف ميكانيكا الكم عن الترابط الداخلي للكون، فلا يمكن تفكيك العالم إلى وحدات صغرى مستقلة في وجودها، وحين نتعمق في المادة نجد أنها مكونة من جسيمات لا يمكن تحديد خصائصها ومراقبتها إلا بتفاعلها مع الأنظمة الأخرى، وبذلك مكنتنا الكمومية من رؤية الكون بوصفه شبكة معقدة من العلاقات في الكل الواحد، وهذا ما أكده ابن الفارض في غير موضع:
وقد وقعَ التفريقُ، والكلُّ واحدٌ
فأرواحُنا خمرٌ، وأشباحُنا كرمُ(21)
لا فرق بين الأرواح والأبدان، فالكل في الكثرة، وليست الأشياء شيئاً في حد ذاتها، فالمطلق هو الخيط الموحّد للشبكة الكونية، والأساس المطلق لها. ولا نستطيع في الفيزياء دون الذرية أن نتحدث عن خصائص شيء ما، بل نتحدث عنه في تفاعله مع المراقب، ولن يستطيع المراقب أن يكون موضوعياً في العالم ما دون الذري لعدم اتضاح الصورة أمامه، وكذلك لا يمكن تحصيل المعرفة الصوفية بالمراقبة فقط، بل كما يرى ابن الفارض بالمشاركة “فأرواحنا خمر وأشباحنا كرم” وتعني المشاركة الاندماج بكينونة المطلق، وفكرة المشارِك فكرة أساسية في ميتا فيزياء ما دون الذرة، وفي الفلسفة الصوفية(22) فلا يمكن الفصل بين الذات والموضوع، ويرى ابن الفارض استحالة التفريق، وقد وقع تفريق واهم. إنها النقطة التي انصهرت فيها الذات بالموضوع.
يرى محمد مصطفى حلمي أن ابن الفارض ليس من أنصار وحدة الوجود، بل الاتحاد الصوفي(23)، لكننا نرى أن الاتحاد وحدة مجردة من الكثرة، والجمع وحدة مع الكثرة. ففي الشهود حقيقة موحدة، وفي الوجود تشتت وكثرة، ونرى أنه تكلم على وحدة الوجود الذي يحيل الكثرة إلى وحدة، ففي الاتحاد لا يرى إلا ذاته، أما في الجمع فيرى عامة الموجودات، ويحمل الجزء خصائص الكل.
تأمَّلْ مقاماتِ السّروجيِّ، واعتبرْ
بتلوينِه تحمدْ قبولَ مشورتي
وتدرِ التباسَ النَّفسِ بالحسِّ باطناً
بمظهرِه في كلِّ شكلٍ وصورةِ
فطيفُ خيالِ الظلِّ يهدي إليك في
كرى اللهوِ ما عنه الستائرُ شُقَّتِ
ترى صورة الأشياء تُجلى عليك من
وراءِ حجابِ اللَّبسِ في كلِّ خِلعةِ(24)
فلا وجود للمتعينات في حدّ ذاتها، ووحدة النفس تمثيل لوحدة الوجود، وتتمثل وحدة الوجود في المشاهد المتضادة المختلفة “ترى صورة الأشياء”، وفي الفيزياء يعدّ الهيدروجين من أبسط عناصر الطبيعة، منه تشكلت العناصر الأخرى ذات النوى الذرية الأثقل، فتشكل الهيليوم، وبالاندماج تشكلت عناصر أخرى، فالكثرة حاضنة للوحدة، وللجسيمات المختلفة جسيمات أولية، ومردّ هذا الاختلاف الوحدة، فيعود هذا التنوع إلى واحد. (25)
يرى الشاعر أن طيف خيال الظل يهدي صوراً مختلفة لكلّ واحد، وترى الفيزياء الحديثة أن ما يبدو جسيمات أولية مختلفة هو نغمات متباينة لوتر أساس واحد، وثمة عدد هائل من الأوتار المتذبذبة التي تمثل سيمفونية كونية، ولكل وتر نسق اهتزازي ينشأ عنه جسيمة ذات طبيعة محددة(26)
فالمادة الأولية مختفية، والعوالم الكونية مظاهر تسترها وتخفيها. وهذا يماثل قول ابن الفارض إن الله موجود وليس في الوجود سواه، وما عداه وهم باطل. فكل شيء يُفهم بالتبادل مع الآخر، والتأثير فيه، ولا يُفهم بالانفصال عنه، فصور الأشياء تتوالى، ويعني ذلك أن كل حادثة مؤلفة من جملة حوادث تؤسس لحوادث أخرى إلى ما لا نهاية، فالكوارك -وهو أصغر وحدة مكتشفة في عالم ما دون الذرة- حوادث تجتمع لتشكّله، وهو يشكّل غيره، فالكثرة وهمية تحيل إلى وحدة، وها هو ذا يعلن وحدة الأكوان قائلاً:
وألسنةُ الأكوانِ إن كنتَ واعياً
شهودٌ بتوحيدي بحالٍ فصيحةِ
فقد رُفعتْ تاءُ المخاطَبِ بيننا
وفي رفعِها عن فُرقة الفَرق رِفعتي(27)
فثمة وحدة في الكون، لكن للوحدة علاقة بمبدأ عدم التعيين، أو الريبة.
3-2-مبدأ الريبة لدى ابن الفارض
لغة نظرية الكم هي لغة الاحتمالات، فلا نستطيع أن نتنبأ أين سيكون جسيم ما دون الذرة في زمن معين مثلاً، فتتفكك جسيمات ما دون الذرة إلى جسيمات أخرى بعد زمن، ونستطيع أن نتنبأ باحتمال التفكك بعد زمن معين، فلا توجد جسيمات ما دون الذرة في مكان محدد في زمان محدد، بل تبدي ميلاً للوجود، ولا تقع الأحداث الذرية تأكيداً في أماكن معينة، بل تبدي ميلاً للحدوث(28)
ويعني الكلام السابق أن معلومات الفيزيائيين محدودة في ميكانيكا الكم؛ لأن طبيعة المادة في العالم دون الذري تجعل المهمة شبه عسيرة حالياً، فلا تحدد النظرية حركة جسيم ما في مكان محدد، وزمان محدد، وحين نحدد موضعه بدقة نفقد السيطرة على ضبط سرعته،وإن ضبطنا سرعته فقدنا السيطرة على تحديد مكانه بسبب طبيعة العالم الكمومي ما دون الذرّي، فلا يوجد قانون يحكم سلوك الذرة الفردي مع علمنا باستمرار حركتها.
ونجد في شعر ابن الفارض عبارات شطحية احتمالية تلتقي مبدأَ الاحتمالية في الكوانتم:
وتظهرُ للعشاقِ في كلِّ مظهرٍ
من اللّبسِ في أشكالِ حسنٍ بديعةِ
ففي مرةٍ لبنى، وأخرى بثينةً
وآونةً تُدعى بعزةَ عَزَّتِ
ولسن سواها، لا، ولا كُنَّ غيرها
وما إن لها في حسنها من شريكةِ
وما القومُ غيري في هواها وإنما
ظهرتُ لهم للَّبس في كلِّ هيئةِ
ففي مرَّةِ قيساً، وأخرى كثيِّراً
وآونةً أبدو جميلَ بثينةِ
تجلَّيتُ فيهم ظاهراً واحتجبت با
طناً بهم فاعجبْ لكشفٍ بسُترةِ(29)
تقول الفيزياء الكوانتية إن للجسم طبيعتين: موجية وجسيمية. إنها أمواج احتمالية، وجسيمات احتمالية(30) وتشبه هذه الحال التفكيك الذي يسرّب المدلولات من الدال، فالمعنى غائب والدال حاضر، والشطح مستمر، ونحن أمام حالة شطحية لا تعيينية، وثمة توال في الشطح كالتوالي في المدلولات. فالشطح مفردة كوانتيمية لأن طبيعتها احتمالية ميتا فيزيائية، ويمكن القول إن المعرفة قريبة جداً من بيت ابن الفارض، وإن العلم قريب جداً منه، فثمة تأجيل في المعنى، مرة تظهر لبنى، ومرة بثينة، ومرة هو قيس وآونة هو جميل، فقد تجلى ظاهراً، واحتجب باطناً. وهذا التأجيل حالة مستمرة الحدوث مع كل معنى، وهو مستمر الحدوث مع كل حالة، فلا توجد حقيقة ثابتة، والاحتمال موجود دائماً، ولا وجود لمركزية في التفكيك والكوانتم، وقد دخل ابن الفارض مرحلة الشطح في حال من اللا شعور، فالشطح شدة غليان الوجد، وله سمة التكرار، ويعني ذلك أنه تجربة ممكنة الحدوث(31)، وتعود هذه التجربة إلى مفهوم الحيرة(32) لديه، فهي تقوم على التردد بين شيئين، وهي ناجمة عن معرفة:
صادياً شوقاً لصدَّا طيفكم
جدَّ ملتاحٍ إلى رؤيا وريّ
حائراً فيما إليه أمرُه
حائرٌ والمرءُ في المحنةِ عيّ(33)
يشتمل الشاهد السابق على حقيقة مؤجلة، يسعى ابن الفارض إلى القبض عليها، فالقبض على المعنى النهائي وهم، لكنه وهم جميل، ولا توصله تجربته إلى النهاية، فهي تجربة حيوية مستمرة، ومكابدة مستمرة:
ذَهلتُ بها عني بحيث ظننتُني
سواي ولم أقصدْ سَوى مظنتي(34)
إنه مبدأ الريبة الذي يقودنا إلى الحديث عن مبدأ التشابك الكمي.
3 – 3 – التشابك الكمي Quantum Entanglement لدى ابن الفارض
يعدّ التشابك الكمي أكبر ألغاز ميكانيكا الكم، فإذا اقترب جسيمان مسافة كافية أصبحت لهما خصائص متشابهة، وإذا تم هذا التشابك بقي موجوداً دائماً. فإذا أبقينا أحدهما على الأرض، ونقلنا الآخر إلى القمر، وقمنا بشبكهما كمّياً فإن حركة الشخص الموجود على الأرض تقابل حركة البعيد في الوقت نفسه، وإذا شبكنا الكترونين فأي شيء سيؤثر في الالكترون الأول سيتأثر الثاني آنياً، وهي مسألة فيزيائية(35).
ونجد صدى لهذه الفكرة لدى ابن الفارض، فقد شبك نفسه بالمطلق، فإذا به يعطّر الوجود بعودته:
ومن أنا إياها إلى حيثُ لا إلى
عرَجتُ وعطّرتُ الوجودَ برجعتي
يشاهد مني حسنَها كلُّ ذرةٍ
بها كلُّ طَرفٍ جالَ في كلّ طَرفةِ
فعينيَ ناجت، واللسانُ مُشاهدٌ
وينطقُ مني السّمعُ، واليدُ أصغتِ
وسمعي عينٌ تجتلي كلَّ ما بدا
وعينيَ سمعٌ إن شدا القومُ تُنصِتِ(36)
يرنو ابن الفارض إلى الحصول على شيء من طبيعة المطلق، فالوجود لديه هو أنا وآخر معاً، لقد اشتبك معها، فحصّل شيئاً من خصائصها، فأجزاؤه تتبادل التأثير فيما بينها؛ لشدة وجده، وقوة تشابكه الكمّي. والمعراج انفلات من الجاذبية الأرضية، ومن الجهل إلى المعرفة، لقد تحوّل التفكك إلى وحدة، ومحيت الفواصل، وحلّ الباطن محلّ الظاهر، وتبادلت الحواس العمل، وذلك كله بفعل الحب، فيلتقي الحضور الغيابَ، وينساب إليه نور بعد نور.
وفي شعر ابن الفارض تماثلات مدهشة مع النظرية النسبية، ونظرية الأوتار والأبعاد الفيزيائية.
4 – – الصوفية والنظرية النسبية:
4 – 1 – ابن الفارض والأبعاد الفيزيائية والميتا فيزيائية:
يعرَّف البعد بأنه محور مستقل، أو اتجاه مستقل في الفضاء أو الزمكان “Space Time” وللفضاء المألوف حولنا ثلاثة أبعاد: يسار/ يمين، خلف/ أمام، أعلى/ أسفل. وللزمكان المألوف أربعة أبعاد: الثلاثة السابقة يضاف إليها الزمن(37)
وتعدّ رحلة الشاعر الصوفي رحلة متعددة الأبعاد؛ إذ يطوف في الأبعاد الكونية، فيفقد الزمان والمكان معناهما الحقيقي لأنه يطوف في الزمان الكوني الموحد، فالماضي والحاضر والمستقبل أزمنة موجودة في كل لحظة يعيشها، الماضي موجود في عالم الروح، ويرتبط الماضي والمستقبل حيوياً بالحاضر، والحاضر هو الذي يمكّن من فهم الماضي والمستقبل.
ويرى الميتا فيزيائيون أننا لا نستطيع تخيل البعد الأعلى لأننا موجودون في بعد أدنى فيزيائياً هو البعد الثالث، ويمكن أن ندرك البعد الأدنى من بعدنا، لكن لا نستطيع إدراك البعد الأعلى، لكننا نستطيع أن نرى انعكاس الأجسام من البعد الأعلى على عالمنا ثلاثي الأبعاد، فالبعد الخامس اصطلاحاً(38) مجموعة عوالم ثلاثية الأبعاد، وعالمنا ثلاثي الأبعاد متجاور مع عوالم متشابهة أخرى، ومكون من عوالم من الأبعاد، والزمان والمكان أصل لمعلم واحد رباعي الأبعاد(39).
ونجد تماثلاً مدهشاً لانعكاس البعد الخامس/ الأعلى على البعد الثالث/ الأدنى في قول ابن الفارض:
ولولا شذاها ما اهتديتُ لحانِها
ولولا سناها ما تصوّرها الوهمُ
ولو طرحوا في فيءِ حائطِ كرمِها
عليلاً وقد أشفى لفارقَه السقمُ
ولو جُليت سراً على أكمه غدا
بصيراً ومن راووقها تَسمع الصمُّ(40)
يتكلم ابن الفارض على الخمر الصوفية التي يقصد بها المطلق، ويرى أننا لا نستطيع إدراك البعد الأعلى، ولا نراه، لكننا نشعر بوجوده، فيرتبط البعد الأعلى بالتجربة الإدراكية، وهو بعد ديناميّ متجدد، وهذه سمة فيزيائية.
إن ثمة حال اغتراب في البعد الفيزيائي الذي يعيش فيه ابن الفارض، البعد الثالث، وينشد البعد الأعلى، فيسكر بالخمر المقدّسة، وهذه الخمر منزهة عن قيود الزمان والمكان، فهي الحضرة الدائمة المحيطة بالأزمنة كلها، فلا ماض، ولا حال، ولا استقبال، والسكر بها تغييب للعقل، وإعمال للحدس. ويمثل هذا السكر عودة إلى الأصل: الزمن الماضي حين كان متحداً بالنور، فيتجرد من بعده الفيزيائي إلى بعد أعلى، وتتمزق نفسه بين الماضي/ الروح، والحاضر/ الروح المقيدة بمادية الجسد، لكن شذاها يهديه إليها، فيرتقي في البعد، ويتمرد على ماديته، ويرى أن الناس كلهم غير قادرين على فعل ذلك، فالارتقاء مرتبط بالشرط، و”لو” حرف امتناع لامتناع، ففي البعد الثالث يمتنع جواب الشرط لامتناع الشرط؛ لأن هذا الأمر غير ممكن في بعدنا الفيزيائي، إنها تتجلى لكل شخص بمقدار استعداده؛ لذا لا يسري عليه الشرط؛ لأنه في حال سعي دؤوب للارتقاء في البعد وصولاً إلى هدفه. ارتقاؤه إلى بعد أعلى انتقال من المقيّد إلى المطلق، وتحويل المستحيل إلى ممكن، وليتحقق ذلك عليه أن يفرغ من كل شيء في بعده الثالث، لكن حلم الشاعر بالمستحيل يقترن بالديمومة وبتجدد الرحلة، وفي ذلك تذكير باستحالة الديمومة، وإلا فما مسوغ إعادة الحديث عن الرحلة؟ وهذا الارتقاء بين الممكن والمستحيل ارتقاء ميتا فيزيائي. وبدلاً من التعاقب الخطي للزمن اختبر الحاضر المطلق غير التابع للزمن، فلا وجود لتقسيمات زمانية كالحاضر والماضي والمستقبل:
ولا قبلَها قبلٌ ولا بعدَ بَعدِها
وقبليّةُ الأبعادِ فهي لها حتْمُ
وعصرُ المدى من قبله كان عصرَها
وعهدُ أبينا بعدها ولها اليتم(41)
ففي الحضرة الدائمة يكون هنالك إحاطة بالأزمنة كلها، فلا ماض، ولا حاضر، ولا استقبال:
وليس ألستُ الأمسَ غيراً لمَن غدا
وجنحي غدا صبحي ويومي ليلتي(42)
تنظر ميكانيكا الكم إلى الزمن بشكل سيجعل التقسيم الزمني مختفياً، ويتيح التصوف ذلك، فلا يوجد تقسيم للزمن كما في بعدنا الثالث، وفي الفضاء متعدد الأبعاد يصبح للزمن مفهوم مختلف، فيدخل في عالم السرمدية. ونتذكر جسيمات ما دون الذرة التي ليس لها وجود مستقر، فهي موجودة في زمكانات رباعية الأبعاد؛ إذ تبدي ميلاً للوجود، وميلاً للحدوث -كما سبق- وكذلك الظواهر لدى الشاعر، فهي ليست قائمة في ذاتها، بل في صور وتجليات للمطلق(43).
إن خرق القوانين لا يغير طبيعتها، ففي البعد الثالث سببية، وخطّية في الزمن، فكل حدث سبب لحدث لاحق، وثمة ماض وحاضر ومستقبل، أما البعد الأعلى فمختلف فيزيائياً؛ إذ يمكن أن تحدث النتيجة قبل السبب(44)
وقد صدئت عيني برؤيةِ غيرِها
ولثمُ جفوني تربَها للصدى يجلو
حديثي قديم في هواها وما له
-كما علمَت- بَعدٌ وليس لها قبلُ(45)
الشعر ميتا فيزياء الكون، فاللحظة الشعرية لحظة كشف وتنوير، وكذلك اللحظة الفيزيائية. وحين يستحيل العودة إلى الماضي في البعد الثالث يصبح التجول في الزمن ممكناً في البعد الأعلى:
فلي بعد أوطاني سكونٌ إلى الفلا
وبالوحشِ أُنسي إذ من الأنسِ وحشتي
فلي بين هاتيك الخيامِ ضنينةٌ
عليّ بجمعي سمحةٌ بتشتتي
محجبةٌ بين الأسنةِ والظُّبى
إليها انثنت ألبابُنا إذ تثنَّتِ(46)
يرى الميتا فيزيائيون أن الزمن في أصله عار عن الحركة(47) وخمره أزلية مجردة من الزمان والمكان:
شربنا على ذكرِ الحبيبِ مُدامةً
سكرنا بها من قبلِ أن يُخلق الكرمُ(48)
ليس هنالك قَبْلية وبَعدية، لكن المعرفة ترتبط بالبعد الذي نعيش فيه؛ لذا تبقى المعرفة بالبعد الأعلى ناقصة(49) لكن لكي يصف البعد الأعلى لا تسعفه لغة بعده الفيزيائي(50)، فتخونه اللغة:
ولطفُ الأواني في الحقيقةِ تابعٌ
للطفِ المعاني، والمعاني بها تنمو(51)
الأواني عالم الممكن، العالم الفيزيائي في البعد الثالث، وعالم المعاني هو البعد الأعلى، وتضيق اللغة عن التعبير، فمقدار الامتلاء بالخمر المقدّسة هو الذي يحدد القدرة على الارتقاء في البعد.
وتحيل الأواني إلى عناصر الطبيعة: التراب، والنار، والماء، والهواء، وتتضمن جمال الروح، فالمفردات المعجمية ضيقة عن أن تتحدث عن البعد الأعلى/ الروح الفياضة التي يأخذ منها بقدر ابتعاده عن بعده الفيزيائي، فكمية الخمر نامية، والأواني من منشأ لطيف يناسب لطف المعاني، وتوحدت الآنية والخمر، فأصبحتا نوراً واحداً متجرداً من حسيته، ولا يمكن للآنية أن تحيط بهذه الخمر النامية، ويفترض بها أن تبذل جهداً للتماهي معها. فالأنا الصوفية تنفتح على البعد الأعلى بقدر انفلاتها من الإناء/ الجسد، البعد الأدنى، فيتخطى حاجز المادة، ويخرج من الإناء.
لقد اختبر ابن الفارض العالم متعدد الأبعاد، وهي السمة التي تتحدث عنها الفيزياء الحديثة(52) ويرى الشاعر والفيزيائي أن الزمان والمكان قائمان على التجربة، ويتوحدان في زمكانات، فلا يوجد توال للزمن لدى الشاعر الصوفي، وثمة زمن مطلق يأخذ فيه موقعه، ويتخطى عالم السبب والنتيجة، فالصوفية هي التحرر من الزمان الفيزيائي في البعد الثالث، وهذا هو جوهر الفيزياء الحديثة.
ويقودنا الحديث عن الارتقاء في البعد إلى الحديث عن السفر عبر الزمن لدى الشاعر الصوفي.
سمر الديوب
“كانت هناك امرأة شابة يسمونها المتألقة
كان في إمكانها أن تسافر أسرع من الضوء
أقلعت اليوم
في طريق نسبية
وعادت إلى دارها في الليلة الماضية”
أ.ه. بوللر Buller
1 – هدف البحث وأسئلته ومنهجه
نسعى هذا البحث إلى دراسة الفيزياء الصوفية، منطلقين من أن “أنا” الصوفي جزء صغير جداً من كوننا المتماسك، الذي لا يوجد فيه استقلال، فالكون كليّة متواشجة، ونستطيع تعرُّفه من أصغر وحدة فيه، وتقوم العلاقات فيه على التبادل، ويعني هذا الكلام أن العالم الفيزيائي يعتمد على العالم الشعري، ولا يقوم الشعر من غير مبادئ فيزيائية. إنها طبيعة الأشياء الكونية المترابطة. وقد أدرك الفيزيائيون الحديثون كلّية العلاقات الكونية بدءاً بالكوارك -عالم ما دون الذرة- إلى المجرات الكونية، فثمة شبكة من العلاقات الكونية القائمة على التبادل بين جزيئات الكون، والإنسان جزء بسيط في هذا التدفق الأبدي للطاقة.
وقد رتّب الشاعر الصوفي الكون ترتيباً شعرياً؛ لذا نفترض وجود تماثلات بين الفيزياء والشعر الصوفي؛ ذلك لأن الشاعر غدا جزيئاً متفاعلاً مع الكون بأبعاده، ونفترض أنه قد وصل بالحدس والتأمل إلى ما وصل إليه الفيزيائي بالفكر والتجربة.
ولا تبتغي هذه الدراسة نفي الدراسات السابقة، بل الاختلاف عنها، فالنص الشعري نصّ قابل للتعدد والاختلاف.
ولا تختلف النظرة الفيزيائية عن النظرة الشعرية، والتضاد بينهما مدعاة للتكامل، فالفيزياء علم الطبيعة الكامل الشامل، وقد أُطلق على الفيزياء تسمية “فلسفة الطبيعة” فللفيزياء علاقة بما هو طبيعي، فالنظرة الفيزيائية نظرة فلسفية حسية، ويرتبط الشعر بالرؤيا والجانب العاطفي؛ لذا نفترض أنه يستطيع الإفادة من الفيزياء، وتوسلها طريقة لرؤية العالم.
تركزت الدراسات السابقة على المقولات الصوفية والرمز: رمز الخمر والمرأة، ويكشف تناول الشعر الصوفي من زاوية التماثلات مع الفيزياء الحديثة جانباً من كيفية تشكّل الخطاب الصوفي المبني على الثقافة التقليدية ظاهراً، المخالف لها ضمناً، فللصوفي عالمه الخاص، عالم معرفة، ربط بين الكون والأنا، وقلب الاهتمام من الخارج إلى الداخل بهدف الوصول إلى عالم النور: المعرفة التي لا تكون إلا بالمحبة.
وقد تمكن الشاعر الصوفي من جعل الشعر فلسفة، والفلسفة شعراً، وتتكامل العلوم في الإطار العام لها: الفلسفة، فينطلق هذا الشعر من طبيعة ميتافيزيقية؛ لذا يحيل إلى الفيزياء الحديثة؛ الميتافيزياء، فهو شعر عرفاني يغوص في الرمزية.
إن قوانين الفيزياء أقرب إلى الشعر؛ لأنها مسائل فيزيقية وميتافيزيقية، وللشعر علاقة بالميتافيزيقا.
ويثير البحث جملة أسئلة من قبيل: ما حدود العلاقة بين الفيزياء والشعر الصوفي؟ هل تستقل قوانين الفيزياء الحديثة عن العالم؟ وهل لها وجود في ذاتها فقط؟ هل الزمان حقيقة ذاتية تخص الإنسان أو حقيقة موضوعية خارجة عنه؟ هل أعادت الفيزياء الحديثة اكتشاف الصوفية القديمة؟ وهل يمكن للإنسان بالتأمل أن يتوصل إلى ما يتوصل إليه الفيزيائي بالتجربة؟ إن الفيزيائي والشاعر الصوفي يستخدمان العقل والحدس استخداماً مفرطاً، وكلّ من الطرفين يتمم الآخر.
والخطاب الصوفي خطاب مشرّع على تجديد الأسئلة من منظور علمي فلسفي، فلم كتب الشاعر الصوفي وهو يشعر أن المطلق أوسع من اللغة؟ هل قدم نصه الشعري بارتياب أن يكون قادراً على الكشف عن المطلق؟ ما علاقة المعرفة الحدسية بالمعرفة العقلية؟
وسنطمئن في بحثنا هذا إلى مقولات التفكيك، فيمكن أن تفكك الدراسة الحالية الدراسات السابقة، وتضيف جديداً إليها، وسنهتم بتفكيك طريقة تفكير الشاعر الصوفي القائمة على أسس من الميتافيزيقا وتحويلها إلى سمة يقينية، فيزيح التفكيك المقولات الثابتة، ويشارك في لعبة المعاني في النص الشعري. إنه إزاحة لا نهائية للمعنى. وسننتقل مستعينين بالتفكيك من نظام الشعر إلى الفيزياء الحديثة معتمدين على فائض المعنى.
وإذا كان التفكيك قد هدم الثنائيات الضدية في البنيوية فقد هدمها بالثنائيات أيضاً، كالشك واليقين، والحضور والغياب. فما الفيزياء الصوفية؟ وما العلاقة بين الفكر والحدس، والعلم والمعرفة؟ وما علاقة شعر التصوف بالمقولات الفيزيائية الحديثة؟ وما علاقة الفيزياء الحديثة بالخيال؟
2 – – الفيزياء الصوفية: دراسة في المصطلح ودلالاته
2-1- ثنائيتا العلم/ المعرفة، العقل/ الحدس
يقابل البحث في الإنسانيات البحثَ في الطبيعيات، ويلتقيه، فتتكامل العلوم، ويعدّ كل فرع منها ضرورياً للعلوم الأخرى، ولا يوجد علم مستقل في ذاته؛ لأن المعرفة واحدة، لا تتجزأ.
وإذ تقوم الإنسانيات على أساس متواضع من العلم يقوم العلم على الخيال الذي يعدّ شرطاً لوجود الإنسانيات، فثمة وحدة في النظام الكوني.
وللشعر الصوفي علاقة بالجانب العلمي، فلغته مرتبة ترتيباً منظماً، ولا يقبل عقله الفراغ، بل يملأ فكره فراغ عقله، ويمكن القول: إن ما قدّمه الشعر الصوفي وسيلة لإظهار قوانين الكون الخاصة بالإنسان.
إن ثمة نوعين من المعرفة: معرفة عقلية، ومعرفة حدسية، وللمعرفتين طبيعة تكاملية، فهما طرفا ثنائية ضدية، والمعرفة العقلية معرفة محدودة بمعطيات العلم، ويهتم الشاعر الصوفي بالإدراك الحدسي، وهو أرفع من التفكير العقلاني، فلا تعتمد معرفته على التصنيفات العقلية، وهذه سمة مائزة لكل تجربة صوفية؛ لذا يعجز الصوفي عن وصف المطلق بالكلمات، فيلجأ إلى الرمز، فالمعرفة الحدسية معرفة غير عقلية للواقع، معرفة تأملية صوفية، وتبنى المعرفة العقلية على معارف سابقة، قد تنقضها، وقد تعدّل فيها. أما المعرفة الحدسية فثابتة.
إن ثمة فيزياء صوفية، وصوفية فيزيائية، فليست الفيزياء مستقلة عن الطبيعة، بل هي متأصلة فيها، فثمة جانب حدسي في العلم، وجانب عقلي في الشعر الصوفي، فالمعارف متداخلة، وحين قال النفَّري: “كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة”(1) لمّح إلى عجز اللغة عن التعبير عن البعد الأعلى من بعدنا الفيزيائي، وأكّد أن الرؤية لدى الصوفي أساس المعرفة، وتستحيل المعرفة من غير رؤية، وتعني الرؤية المعرفة الميتافيزيقية؛ ذلك لأن تجربة الصوفي تجربة غير حسية(2).
يعني الكلام السابق أن للتصوف علاقة بالحدس، وللفيزياء علاقة بالتفكير العقلاني، لكن الجانبين قطبان لحقيقة واحدة متحدة، لا يمكن فصل أحد جانبيها عن الآخر، وحين يصل التفكير العقلاني إلى الذروة يتراجع لصالح التفكير الحدسي، والعكس صحيح.
وتعد الفيزياء الحديثة أعلى درجات التفكير العقلاني، ويعني ذلك أن لها علاقة بالتفكير الحدسي تبعاً لقاعدة الثنائيات الضدية السابقة. ويمكن القول إن أشد أنواع التقارب بين العلوم الطبيعية والإنسانية يتجلى في الفيزياء الحديثة والشعر، ولا سيما الشعر الصوفي، فثمة تشابه كبير بين التصوّف الحدسي والفيزياء العقلية؛ لذا يمكن أن تكون الفيزياء الحديثة: الميتا فيزياء وسيلة لفهم المعرفة الروحانية الصوفية.
لقد انقسمت الفيزياء الكلاسية إلى ثنائية: مادة/ عقل(3)، فالإنسان بدن وروح، وقالت إن الذرة أبسط أشكال المادة. أما فلسفة الشعر الصوفي فترد الظواهر الكونية إلى كلّ متحد متناغم، وهذا فهم مضاد للمفاهيم الكلاسية القديمة.
وبما أن الأجزاء ترتد إلى الكل الواحد، فكل ما ندركه بالحواس يرتبط بعضه ببعض، ويرتد إلى الحقيقة المطلقة. ولا يرى الشاعر الصوفي العقل مصدراً للمعرفة، بل يراه وسيلة تفسير وتحليل فقط. ويقضي الفيزيائي مراحل تدريب طويلة في حين يحتاج الصوفي إلى مجاهدة للوصول إلى رتبة أعلى، فيلجم عقله، ويُعمِل حدسه بوصفه وسيلة للوعي. فكلا التجربتين: الصوفية والفيزيائية تحتاج إلى تدريب، يتخطى الصوفي تجربته بالتأمل العميق، وينقل الوعي من الطريقة العقلية إلى الطريقة الحدسية(4) وفي التأمل العميق يكون العقل شديد التيقظ.
إن العلم يقوم على العقل، ولا يرى العقل سوى الحدود، في حين يعرف الحدس الذي يقوم عليه التصوف الدربَ المختلف. فإن كانت الأذن تعشق قبل العين أحياناً فإن الحدس يعرف قبل العقل أحياناً.
ويستند العلم إلى أفكار الآخرين، أما المعرفة فتستند إلى مجاهدة النفس لدى الصوفي، ويقيد الفكر العالِم، أما العبور فيقوم على الإفراغ، فيتضاءل الحجاب بالمعرفة، ولكي يتم التدرج من العلم إلى المعرفة ثمة حاجة إلى جهد؛ لذا يمكن للغة أن تستوعب العلم، لا المعرفة(5)
إن عقل الصوفي عقل قابل للكشف، لا عقل مرتبط بالبعد Demission الفيزيائي، فينتج خياله معرفة، لا فكراً، لكن ذلك لا يمنع قراءة نتاجه بالفكر العلمي، إنه يقدم فكره بالرمز؛ لأن اللغة عاجزة عن التعبير بلغتنا عن المطلق.(6)
إن التصوف معرفة عقلية فائقة، ويكشف الحدس الصوفي البعد الميتافيزيقي بطريقة فردية تتخطى حدود مادية النوع البشري، والصحوة غير العقل، ذلك أن العقل يجب ألا يكتنز معلومات سابقة لكي تعمل الصحوة، ويبقى فيزياء الجسد والروحي تجليين لحقيقة واحدة(7)، فتحيل ثنائية المظهر المتجلي والمظهر اللا متعين إلى حقيقة واحدة.
2-2-ثنائية الفيزياء/الميتافيزياء والتصوف
ننظر إلى الفيزياء الكلاسية على أنها النظريات القابلة للاختبار، أما الميتا فيزياء فهي النظريات غير القابلة للاختبار، وسنختبر العلاقة بين الميتا فيزياء والشعر الصوفي بنظريتي الكم والنظرية النسبية(8)
والفيزياء كلمة يونانية تعني محاولة رؤية الطبيعة الجوهرية للأشياء(9) ويرى الفيزيائيون أن الكون حافل بالمادة الحية، وهي النظرة التي تماثل نظرة الشاعر الصوفي إلى الكون، فهو حافل بالروح. ويحكم الفيزياء الكلاسيكية السبب والنتيجة في حين تتجرد منهما الميتا فيزياء، وتصف الفيزياء الحوادث، وتفسرها، وقد تتنبأ بها، فنحن نستطيع تعريف الضوء لكننا عاجزون عن تفسيره بوصفه ظاهرة. ويحاول الميتا فيزيائي بناء عالم تخيلات خاص به، مسوّغاً ذلك بأن ثمة حقائق لا تُدرك بالحواس.
وتعدّ النظرية الكوانتية -ميكانيكا الكم- نظرية تقوم على الريبة Uncertainty Principle وعدم التعيين، فيتم التحول إلى الميتا فيزياء(10)فتقول الفيزياء إن تفسير العالم أمر ممكن في حقل ميتا فيزيائي، فالقوانين الفيزيائية أصداء للعقل البشري.
والميتا فيزياء هي الأصل للفيزياء، وكلاهما طالب معرفة، يؤمن بالتجربة. فلا تجد الفيزياء معناها إلا في الميتا فيزياء، وتطبق القوانين الفيزيائية في نمط معين نحوزه، فهي محكومة بالزمان والمكان خلاف الميتا فيزياء، ويمكن القول إن ثمة طبيعة ميتا فيزيائية للفيزياء، فيربط الفيزيائيون الأمور بموضوعات معينة، ويبحث الميتا فيزيائيون عن نهج معرفي تسقط منه الموضوعية.
ويتعامل الفيزيائيون مع الأجزاء ضمن إطار توحيد الكون، ويتعامل الميتا فيزيائيون مع الكل المتضمن الأجزاء في إطار توحيد الكون، فالتجربة الفيزيائية تجربة ميتا فيزيائية؛ ذلك أن هموم الفيزياء تحولت إلى شجون ميتا فيزيائية، فثمة طبيعة ميتا فيزيائية للقوانين الفيزيائية(11) فالأفكار الميتا فيزيائية ضرورية للفيزياء، وهي ليست تجريبية.
وترى الفيزياء الحديثة أن التغير الدائم سمة الكون الدينامي، كالزمن وغيره من التغيرات، ويرى الصوفي الكون كلاً واحداً، لا انفصال فيه، حركته دائمة روحية ومادية. والحركة التي هي سمة الكون موجودة في الأشياء، لا خارجها، فيقوم الفكر الصوفي على خلفية فلسفية تماثل الخلفية الفلسفية الفيزيائية الحديثة، فيرى الميتا فيزيائي في العالم ما دون الذري أن هذا العالم نظام من العناصر غير المنفصلة كالصوفي الذي يرى الكون وحدة متواشجة.
إن الفيزياء الحديثة تقودنا إلى نظرة قريبة جداً من نظرة الشاعر الصوفي، ويمكن القول إن النظرة الفيزيائية تعود إلى أصول صوفية؛ إذ تعود الفيزياء في أصولها إلى زمن قديم لم يكن العلم فيه منفصلاً عن الفلسفة والدين.
ولأن الكلام ناقص في التعبير عن التجربة الصوفية يكررون هذه التجربة والكلام عليها، والنظرية الفيزيائية نظرية تحتاج إلى برهان؛ لذا تتكرر التجارب لإثباتها.
وإذا انطلقنا من الغياب الذي يتحدث عنه التفكيك وجدنا أن الفيزياء الحديثة تختفي، ولا تغيب في عوالم النص الصوفي، فالأفكار تتوالد، فما علاقة الفيزياء الصوفية بشعر ابن الفارض الصوفي؟
2 – 3 – الشعر الصوفي: ابن الفارض أنموذجاً
يمثل النص الصوفي خروجاً عن المعهود دينياً وأدبياً (12) فللشاعر الصوفي معجمه الخاص، وتمرده الخاص على اللغة، ويعدّ شعر ابن الفارض علامة مهمة في هذه المنظومة الصوفية لما يمتاز به من نضج إبداعي وروحي، وقد شكل نقطة لقاء بالنصوص السابقة له، ونقاط خلاف مع بعضها الآخر حين تحدث عن مغادرة الزمن الفيزيائي إلى زمن يقع في منطقة الميتا فيزياء، فذهاب الحس سمة مازت تجربته الشعرية.
وقد تم اختيار شعر ابن الفارض(13) أنموذجاً للدراسة؛ لأن شعر التصوف قد بلغ حداً من النضج والاكتمال واتضاح المعالم في القرن السابع الهجري، وما قدمه ابن الفارض خطاب رمزي تختبئ خلفه حقيقة علمية، فهو نص أدبي، لكنه يفارق النص الأدبي العادي، وتجربته الصوفية كاملة؛ لأنه دائم المحاولة، وهي تجربة قائمة على النفي؛ لأن إثباتها يعني فشلها، فآلية الإرجاء مستمرة في محاولة لخرق حدود الفيزياء إلى الميتا فيزياء.
والغائب في النص الشعري حاضر دائماً، لكنه متخفٍّ يحتاج إلى كشف الحجب عنه، فالتغييب حضور قوي، وما تغيَّب في النص الشعري الصوفي البعد الميتا فيزيائي.
ننظر إلى التصوف على أنه خطاب ثلاثي الأبعاد: فلسفي ونفسي وديني، وقد وردت الصوفية في دائرة المعارف البريطانية بمعنى التوحد مع الإلهي والمقدس(14)
ولا يشترط أن يكون الشاعر متصوفاً، لكن كل صوفي شاعر بمعنى ما؛ لأنه يمتح من لغة رمزية بعيدة عن التصريح، ويعد الحدس ركيزة أساسية في التصوف(15)، والعقل ركيزة أساسية في العلم، وكلاهما يلجأ إلى لغة الرمز، وكلا اللغتين قاصرة عن التعبير عن واقع ميتا فيزيائي؛ لأن الرؤية واسعة والعبارة محدودة. فكيف تجلت الفيزياء الصوفية في شعر ابن الفارض؟
3 – الصوفية وفيزياء الكم
3 – 1 – وحدة الأشياء والتعدد في الوحدة
تعد ميكانيكا الكم من النظريات الميتا فيزيائية التي تقوم على فكرة الوحدة في الكون، والكثرة ضمن الوحدة، فالكون كلّ متماسك، وكل جزء فيه يؤثّر في غيره، ولا وجود لشيء منفصل فيه، فقد نحا العلم المعاصر نحو وحدة الوجود، فقطرة من الماء تحتوي على نسق الكون كله(16) ويرى ابن الفارض أن الجزء من الكون يشتمل على خصائص الوحدة، فالكثرة في الوحدة، والوحدة في الكثرة. يقول:
تراه إن غابَ عنّي كلُّ جارحةٍ
في كلِّ معنى لطيفٍ رائقٍ بهجِ
في نغمةِ العودِ، والناي الرخيمِ إذا
تألّفا بين ألحانٍ من الهزَجِ
وفي مسارحِ غزلانِ الخمائلِ في
بَردِ الأصائلِ، والإصباحِ في البَلجِ
وفي مساقطِ أنداءِ الغمامِ على
بساطِ نَوْرٍ من الأزهارِ منتَسِجِ(17)
يرى ابن الفارض أن الكثرة ترتد إلى وحدة، ولا ندرك الوحدة بالمقابل إلا بالكثرة، فالصور التي تتجلى أمام أعيننا صور متعددة لواحد، ولا وجود للمتعينات في حد ذاتها، بل بالواحد.
وهذه النظرة هي نفسها نظرة الفيزيائي الحديث إلى العالم، فالعناصر الأساسية للنظرة الفيزيائية عناصر صوفية، وأبرز سمات هذه النظرة تتجلى في وعي الوحدة والعلاقات المتبادلة بين الأشياء كلها، فما يراه من جمال تجلياتٌ لوحدة أساسية، هو المطلق الذي يتجلى في الأشياء كلها، فتقسيم الأشياء وانفصالها وهم، ويوهم العقل بهذا الانفصال والتقسيم؛ لذا نجده يهدّئ عقله، ويضبطه بالتأمل حين يختبر الوحدة الأساسية للكون في موضع آخر حين يقول:
هو الحبُّ. فاسلمْ بالحشا ما الهوى سهلُ
فما اختاره مضنىً به وله عقلُ(18)
إنه يعطل عقله؛ لأن معرفته حدسية عن طريق القلب لا العقل، لكن المعرفة الحدسية تعني العقل في أعلى درجات عمله.
وفي الفيزياء الحديثة ثمة مملكة الذرة، ومملكة ما دون الذرة، فلا تُفهم فيزياء ما دون الذرة بوصفها وحدات منفصلة، بل بوصفها أجزاء متكاملة لكل واحد، فتتضمن ميكانيكا الكم ترابطات الطبيعة(19)،
لقد أدرك ابن الفارض أن الاختلاف يضمر انسجاماً في الوحدة، وهو كلام يشبه ما يقوله أصحاب نظرية الشواش “الأنتروبيا”(20) Entropy من وجود نظام في الفوضى الكونية، وفوضى في النظام.
ويمكن القول إن الشاعر يرى صوراً متعددة لفوضى في الكون، لكن ثمة نظاماً في هذه الفوضى.
وتكشف ميكانيكا الكم عن الترابط الداخلي للكون، فلا يمكن تفكيك العالم إلى وحدات صغرى مستقلة في وجودها، وحين نتعمق في المادة نجد أنها مكونة من جسيمات لا يمكن تحديد خصائصها ومراقبتها إلا بتفاعلها مع الأنظمة الأخرى، وبذلك مكنتنا الكمومية من رؤية الكون بوصفه شبكة معقدة من العلاقات في الكل الواحد، وهذا ما أكده ابن الفارض في غير موضع:
وقد وقعَ التفريقُ، والكلُّ واحدٌ
فأرواحُنا خمرٌ، وأشباحُنا كرمُ(21)
لا فرق بين الأرواح والأبدان، فالكل في الكثرة، وليست الأشياء شيئاً في حد ذاتها، فالمطلق هو الخيط الموحّد للشبكة الكونية، والأساس المطلق لها. ولا نستطيع في الفيزياء دون الذرية أن نتحدث عن خصائص شيء ما، بل نتحدث عنه في تفاعله مع المراقب، ولن يستطيع المراقب أن يكون موضوعياً في العالم ما دون الذري لعدم اتضاح الصورة أمامه، وكذلك لا يمكن تحصيل المعرفة الصوفية بالمراقبة فقط، بل كما يرى ابن الفارض بالمشاركة “فأرواحنا خمر وأشباحنا كرم” وتعني المشاركة الاندماج بكينونة المطلق، وفكرة المشارِك فكرة أساسية في ميتا فيزياء ما دون الذرة، وفي الفلسفة الصوفية(22) فلا يمكن الفصل بين الذات والموضوع، ويرى ابن الفارض استحالة التفريق، وقد وقع تفريق واهم. إنها النقطة التي انصهرت فيها الذات بالموضوع.
يرى محمد مصطفى حلمي أن ابن الفارض ليس من أنصار وحدة الوجود، بل الاتحاد الصوفي(23)، لكننا نرى أن الاتحاد وحدة مجردة من الكثرة، والجمع وحدة مع الكثرة. ففي الشهود حقيقة موحدة، وفي الوجود تشتت وكثرة، ونرى أنه تكلم على وحدة الوجود الذي يحيل الكثرة إلى وحدة، ففي الاتحاد لا يرى إلا ذاته، أما في الجمع فيرى عامة الموجودات، ويحمل الجزء خصائص الكل.
تأمَّلْ مقاماتِ السّروجيِّ، واعتبرْ
بتلوينِه تحمدْ قبولَ مشورتي
وتدرِ التباسَ النَّفسِ بالحسِّ باطناً
بمظهرِه في كلِّ شكلٍ وصورةِ
فطيفُ خيالِ الظلِّ يهدي إليك في
كرى اللهوِ ما عنه الستائرُ شُقَّتِ
ترى صورة الأشياء تُجلى عليك من
وراءِ حجابِ اللَّبسِ في كلِّ خِلعةِ(24)
فلا وجود للمتعينات في حدّ ذاتها، ووحدة النفس تمثيل لوحدة الوجود، وتتمثل وحدة الوجود في المشاهد المتضادة المختلفة “ترى صورة الأشياء”، وفي الفيزياء يعدّ الهيدروجين من أبسط عناصر الطبيعة، منه تشكلت العناصر الأخرى ذات النوى الذرية الأثقل، فتشكل الهيليوم، وبالاندماج تشكلت عناصر أخرى، فالكثرة حاضنة للوحدة، وللجسيمات المختلفة جسيمات أولية، ومردّ هذا الاختلاف الوحدة، فيعود هذا التنوع إلى واحد. (25)
يرى الشاعر أن طيف خيال الظل يهدي صوراً مختلفة لكلّ واحد، وترى الفيزياء الحديثة أن ما يبدو جسيمات أولية مختلفة هو نغمات متباينة لوتر أساس واحد، وثمة عدد هائل من الأوتار المتذبذبة التي تمثل سيمفونية كونية، ولكل وتر نسق اهتزازي ينشأ عنه جسيمة ذات طبيعة محددة(26)
فالمادة الأولية مختفية، والعوالم الكونية مظاهر تسترها وتخفيها. وهذا يماثل قول ابن الفارض إن الله موجود وليس في الوجود سواه، وما عداه وهم باطل. فكل شيء يُفهم بالتبادل مع الآخر، والتأثير فيه، ولا يُفهم بالانفصال عنه، فصور الأشياء تتوالى، ويعني ذلك أن كل حادثة مؤلفة من جملة حوادث تؤسس لحوادث أخرى إلى ما لا نهاية، فالكوارك -وهو أصغر وحدة مكتشفة في عالم ما دون الذرة- حوادث تجتمع لتشكّله، وهو يشكّل غيره، فالكثرة وهمية تحيل إلى وحدة، وها هو ذا يعلن وحدة الأكوان قائلاً:
وألسنةُ الأكوانِ إن كنتَ واعياً
شهودٌ بتوحيدي بحالٍ فصيحةِ
فقد رُفعتْ تاءُ المخاطَبِ بيننا
وفي رفعِها عن فُرقة الفَرق رِفعتي(27)
فثمة وحدة في الكون، لكن للوحدة علاقة بمبدأ عدم التعيين، أو الريبة.
3-2-مبدأ الريبة لدى ابن الفارض
لغة نظرية الكم هي لغة الاحتمالات، فلا نستطيع أن نتنبأ أين سيكون جسيم ما دون الذرة في زمن معين مثلاً، فتتفكك جسيمات ما دون الذرة إلى جسيمات أخرى بعد زمن، ونستطيع أن نتنبأ باحتمال التفكك بعد زمن معين، فلا توجد جسيمات ما دون الذرة في مكان محدد في زمان محدد، بل تبدي ميلاً للوجود، ولا تقع الأحداث الذرية تأكيداً في أماكن معينة، بل تبدي ميلاً للحدوث(28)
ويعني الكلام السابق أن معلومات الفيزيائيين محدودة في ميكانيكا الكم؛ لأن طبيعة المادة في العالم دون الذري تجعل المهمة شبه عسيرة حالياً، فلا تحدد النظرية حركة جسيم ما في مكان محدد، وزمان محدد، وحين نحدد موضعه بدقة نفقد السيطرة على ضبط سرعته،وإن ضبطنا سرعته فقدنا السيطرة على تحديد مكانه بسبب طبيعة العالم الكمومي ما دون الذرّي، فلا يوجد قانون يحكم سلوك الذرة الفردي مع علمنا باستمرار حركتها.
ونجد في شعر ابن الفارض عبارات شطحية احتمالية تلتقي مبدأَ الاحتمالية في الكوانتم:
وتظهرُ للعشاقِ في كلِّ مظهرٍ
من اللّبسِ في أشكالِ حسنٍ بديعةِ
ففي مرةٍ لبنى، وأخرى بثينةً
وآونةً تُدعى بعزةَ عَزَّتِ
ولسن سواها، لا، ولا كُنَّ غيرها
وما إن لها في حسنها من شريكةِ
وما القومُ غيري في هواها وإنما
ظهرتُ لهم للَّبس في كلِّ هيئةِ
ففي مرَّةِ قيساً، وأخرى كثيِّراً
وآونةً أبدو جميلَ بثينةِ
تجلَّيتُ فيهم ظاهراً واحتجبت با
طناً بهم فاعجبْ لكشفٍ بسُترةِ(29)
تقول الفيزياء الكوانتية إن للجسم طبيعتين: موجية وجسيمية. إنها أمواج احتمالية، وجسيمات احتمالية(30) وتشبه هذه الحال التفكيك الذي يسرّب المدلولات من الدال، فالمعنى غائب والدال حاضر، والشطح مستمر، ونحن أمام حالة شطحية لا تعيينية، وثمة توال في الشطح كالتوالي في المدلولات. فالشطح مفردة كوانتيمية لأن طبيعتها احتمالية ميتا فيزيائية، ويمكن القول إن المعرفة قريبة جداً من بيت ابن الفارض، وإن العلم قريب جداً منه، فثمة تأجيل في المعنى، مرة تظهر لبنى، ومرة بثينة، ومرة هو قيس وآونة هو جميل، فقد تجلى ظاهراً، واحتجب باطناً. وهذا التأجيل حالة مستمرة الحدوث مع كل معنى، وهو مستمر الحدوث مع كل حالة، فلا توجد حقيقة ثابتة، والاحتمال موجود دائماً، ولا وجود لمركزية في التفكيك والكوانتم، وقد دخل ابن الفارض مرحلة الشطح في حال من اللا شعور، فالشطح شدة غليان الوجد، وله سمة التكرار، ويعني ذلك أنه تجربة ممكنة الحدوث(31)، وتعود هذه التجربة إلى مفهوم الحيرة(32) لديه، فهي تقوم على التردد بين شيئين، وهي ناجمة عن معرفة:
صادياً شوقاً لصدَّا طيفكم
جدَّ ملتاحٍ إلى رؤيا وريّ
حائراً فيما إليه أمرُه
حائرٌ والمرءُ في المحنةِ عيّ(33)
يشتمل الشاهد السابق على حقيقة مؤجلة، يسعى ابن الفارض إلى القبض عليها، فالقبض على المعنى النهائي وهم، لكنه وهم جميل، ولا توصله تجربته إلى النهاية، فهي تجربة حيوية مستمرة، ومكابدة مستمرة:
ذَهلتُ بها عني بحيث ظننتُني
سواي ولم أقصدْ سَوى مظنتي(34)
إنه مبدأ الريبة الذي يقودنا إلى الحديث عن مبدأ التشابك الكمي.
3 – 3 – التشابك الكمي Quantum Entanglement لدى ابن الفارض
يعدّ التشابك الكمي أكبر ألغاز ميكانيكا الكم، فإذا اقترب جسيمان مسافة كافية أصبحت لهما خصائص متشابهة، وإذا تم هذا التشابك بقي موجوداً دائماً. فإذا أبقينا أحدهما على الأرض، ونقلنا الآخر إلى القمر، وقمنا بشبكهما كمّياً فإن حركة الشخص الموجود على الأرض تقابل حركة البعيد في الوقت نفسه، وإذا شبكنا الكترونين فأي شيء سيؤثر في الالكترون الأول سيتأثر الثاني آنياً، وهي مسألة فيزيائية(35).
ونجد صدى لهذه الفكرة لدى ابن الفارض، فقد شبك نفسه بالمطلق، فإذا به يعطّر الوجود بعودته:
ومن أنا إياها إلى حيثُ لا إلى
عرَجتُ وعطّرتُ الوجودَ برجعتي
يشاهد مني حسنَها كلُّ ذرةٍ
بها كلُّ طَرفٍ جالَ في كلّ طَرفةِ
فعينيَ ناجت، واللسانُ مُشاهدٌ
وينطقُ مني السّمعُ، واليدُ أصغتِ
وسمعي عينٌ تجتلي كلَّ ما بدا
وعينيَ سمعٌ إن شدا القومُ تُنصِتِ(36)
يرنو ابن الفارض إلى الحصول على شيء من طبيعة المطلق، فالوجود لديه هو أنا وآخر معاً، لقد اشتبك معها، فحصّل شيئاً من خصائصها، فأجزاؤه تتبادل التأثير فيما بينها؛ لشدة وجده، وقوة تشابكه الكمّي. والمعراج انفلات من الجاذبية الأرضية، ومن الجهل إلى المعرفة، لقد تحوّل التفكك إلى وحدة، ومحيت الفواصل، وحلّ الباطن محلّ الظاهر، وتبادلت الحواس العمل، وذلك كله بفعل الحب، فيلتقي الحضور الغيابَ، وينساب إليه نور بعد نور.
وفي شعر ابن الفارض تماثلات مدهشة مع النظرية النسبية، ونظرية الأوتار والأبعاد الفيزيائية.
4 – – الصوفية والنظرية النسبية:
4 – 1 – ابن الفارض والأبعاد الفيزيائية والميتا فيزيائية:
يعرَّف البعد بأنه محور مستقل، أو اتجاه مستقل في الفضاء أو الزمكان “Space Time” وللفضاء المألوف حولنا ثلاثة أبعاد: يسار/ يمين، خلف/ أمام، أعلى/ أسفل. وللزمكان المألوف أربعة أبعاد: الثلاثة السابقة يضاف إليها الزمن(37)
وتعدّ رحلة الشاعر الصوفي رحلة متعددة الأبعاد؛ إذ يطوف في الأبعاد الكونية، فيفقد الزمان والمكان معناهما الحقيقي لأنه يطوف في الزمان الكوني الموحد، فالماضي والحاضر والمستقبل أزمنة موجودة في كل لحظة يعيشها، الماضي موجود في عالم الروح، ويرتبط الماضي والمستقبل حيوياً بالحاضر، والحاضر هو الذي يمكّن من فهم الماضي والمستقبل.
ويرى الميتا فيزيائيون أننا لا نستطيع تخيل البعد الأعلى لأننا موجودون في بعد أدنى فيزيائياً هو البعد الثالث، ويمكن أن ندرك البعد الأدنى من بعدنا، لكن لا نستطيع إدراك البعد الأعلى، لكننا نستطيع أن نرى انعكاس الأجسام من البعد الأعلى على عالمنا ثلاثي الأبعاد، فالبعد الخامس اصطلاحاً(38) مجموعة عوالم ثلاثية الأبعاد، وعالمنا ثلاثي الأبعاد متجاور مع عوالم متشابهة أخرى، ومكون من عوالم من الأبعاد، والزمان والمكان أصل لمعلم واحد رباعي الأبعاد(39).
ونجد تماثلاً مدهشاً لانعكاس البعد الخامس/ الأعلى على البعد الثالث/ الأدنى في قول ابن الفارض:
ولولا شذاها ما اهتديتُ لحانِها
ولولا سناها ما تصوّرها الوهمُ
ولو طرحوا في فيءِ حائطِ كرمِها
عليلاً وقد أشفى لفارقَه السقمُ
ولو جُليت سراً على أكمه غدا
بصيراً ومن راووقها تَسمع الصمُّ(40)
يتكلم ابن الفارض على الخمر الصوفية التي يقصد بها المطلق، ويرى أننا لا نستطيع إدراك البعد الأعلى، ولا نراه، لكننا نشعر بوجوده، فيرتبط البعد الأعلى بالتجربة الإدراكية، وهو بعد ديناميّ متجدد، وهذه سمة فيزيائية.
إن ثمة حال اغتراب في البعد الفيزيائي الذي يعيش فيه ابن الفارض، البعد الثالث، وينشد البعد الأعلى، فيسكر بالخمر المقدّسة، وهذه الخمر منزهة عن قيود الزمان والمكان، فهي الحضرة الدائمة المحيطة بالأزمنة كلها، فلا ماض، ولا حال، ولا استقبال، والسكر بها تغييب للعقل، وإعمال للحدس. ويمثل هذا السكر عودة إلى الأصل: الزمن الماضي حين كان متحداً بالنور، فيتجرد من بعده الفيزيائي إلى بعد أعلى، وتتمزق نفسه بين الماضي/ الروح، والحاضر/ الروح المقيدة بمادية الجسد، لكن شذاها يهديه إليها، فيرتقي في البعد، ويتمرد على ماديته، ويرى أن الناس كلهم غير قادرين على فعل ذلك، فالارتقاء مرتبط بالشرط، و”لو” حرف امتناع لامتناع، ففي البعد الثالث يمتنع جواب الشرط لامتناع الشرط؛ لأن هذا الأمر غير ممكن في بعدنا الفيزيائي، إنها تتجلى لكل شخص بمقدار استعداده؛ لذا لا يسري عليه الشرط؛ لأنه في حال سعي دؤوب للارتقاء في البعد وصولاً إلى هدفه. ارتقاؤه إلى بعد أعلى انتقال من المقيّد إلى المطلق، وتحويل المستحيل إلى ممكن، وليتحقق ذلك عليه أن يفرغ من كل شيء في بعده الثالث، لكن حلم الشاعر بالمستحيل يقترن بالديمومة وبتجدد الرحلة، وفي ذلك تذكير باستحالة الديمومة، وإلا فما مسوغ إعادة الحديث عن الرحلة؟ وهذا الارتقاء بين الممكن والمستحيل ارتقاء ميتا فيزيائي. وبدلاً من التعاقب الخطي للزمن اختبر الحاضر المطلق غير التابع للزمن، فلا وجود لتقسيمات زمانية كالحاضر والماضي والمستقبل:
ولا قبلَها قبلٌ ولا بعدَ بَعدِها
وقبليّةُ الأبعادِ فهي لها حتْمُ
وعصرُ المدى من قبله كان عصرَها
وعهدُ أبينا بعدها ولها اليتم(41)
ففي الحضرة الدائمة يكون هنالك إحاطة بالأزمنة كلها، فلا ماض، ولا حاضر، ولا استقبال:
وليس ألستُ الأمسَ غيراً لمَن غدا
وجنحي غدا صبحي ويومي ليلتي(42)
تنظر ميكانيكا الكم إلى الزمن بشكل سيجعل التقسيم الزمني مختفياً، ويتيح التصوف ذلك، فلا يوجد تقسيم للزمن كما في بعدنا الثالث، وفي الفضاء متعدد الأبعاد يصبح للزمن مفهوم مختلف، فيدخل في عالم السرمدية. ونتذكر جسيمات ما دون الذرة التي ليس لها وجود مستقر، فهي موجودة في زمكانات رباعية الأبعاد؛ إذ تبدي ميلاً للوجود، وميلاً للحدوث -كما سبق- وكذلك الظواهر لدى الشاعر، فهي ليست قائمة في ذاتها، بل في صور وتجليات للمطلق(43).
إن خرق القوانين لا يغير طبيعتها، ففي البعد الثالث سببية، وخطّية في الزمن، فكل حدث سبب لحدث لاحق، وثمة ماض وحاضر ومستقبل، أما البعد الأعلى فمختلف فيزيائياً؛ إذ يمكن أن تحدث النتيجة قبل السبب(44)
وقد صدئت عيني برؤيةِ غيرِها
ولثمُ جفوني تربَها للصدى يجلو
حديثي قديم في هواها وما له
-كما علمَت- بَعدٌ وليس لها قبلُ(45)
الشعر ميتا فيزياء الكون، فاللحظة الشعرية لحظة كشف وتنوير، وكذلك اللحظة الفيزيائية. وحين يستحيل العودة إلى الماضي في البعد الثالث يصبح التجول في الزمن ممكناً في البعد الأعلى:
فلي بعد أوطاني سكونٌ إلى الفلا
وبالوحشِ أُنسي إذ من الأنسِ وحشتي
فلي بين هاتيك الخيامِ ضنينةٌ
عليّ بجمعي سمحةٌ بتشتتي
محجبةٌ بين الأسنةِ والظُّبى
إليها انثنت ألبابُنا إذ تثنَّتِ(46)
يرى الميتا فيزيائيون أن الزمن في أصله عار عن الحركة(47) وخمره أزلية مجردة من الزمان والمكان:
شربنا على ذكرِ الحبيبِ مُدامةً
سكرنا بها من قبلِ أن يُخلق الكرمُ(48)
ليس هنالك قَبْلية وبَعدية، لكن المعرفة ترتبط بالبعد الذي نعيش فيه؛ لذا تبقى المعرفة بالبعد الأعلى ناقصة(49) لكن لكي يصف البعد الأعلى لا تسعفه لغة بعده الفيزيائي(50)، فتخونه اللغة:
ولطفُ الأواني في الحقيقةِ تابعٌ
للطفِ المعاني، والمعاني بها تنمو(51)
الأواني عالم الممكن، العالم الفيزيائي في البعد الثالث، وعالم المعاني هو البعد الأعلى، وتضيق اللغة عن التعبير، فمقدار الامتلاء بالخمر المقدّسة هو الذي يحدد القدرة على الارتقاء في البعد.
وتحيل الأواني إلى عناصر الطبيعة: التراب، والنار، والماء، والهواء، وتتضمن جمال الروح، فالمفردات المعجمية ضيقة عن أن تتحدث عن البعد الأعلى/ الروح الفياضة التي يأخذ منها بقدر ابتعاده عن بعده الفيزيائي، فكمية الخمر نامية، والأواني من منشأ لطيف يناسب لطف المعاني، وتوحدت الآنية والخمر، فأصبحتا نوراً واحداً متجرداً من حسيته، ولا يمكن للآنية أن تحيط بهذه الخمر النامية، ويفترض بها أن تبذل جهداً للتماهي معها. فالأنا الصوفية تنفتح على البعد الأعلى بقدر انفلاتها من الإناء/ الجسد، البعد الأدنى، فيتخطى حاجز المادة، ويخرج من الإناء.
لقد اختبر ابن الفارض العالم متعدد الأبعاد، وهي السمة التي تتحدث عنها الفيزياء الحديثة(52) ويرى الشاعر والفيزيائي أن الزمان والمكان قائمان على التجربة، ويتوحدان في زمكانات، فلا يوجد توال للزمن لدى الشاعر الصوفي، وثمة زمن مطلق يأخذ فيه موقعه، ويتخطى عالم السبب والنتيجة، فالصوفية هي التحرر من الزمان الفيزيائي في البعد الثالث، وهذا هو جوهر الفيزياء الحديثة.
ويقودنا الحديث عن الارتقاء في البعد إلى الحديث عن السفر عبر الزمن لدى الشاعر الصوفي.
25/11/2024, 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
25/11/2024, 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
25/11/2024, 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
25/11/2024, 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
25/11/2024, 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
25/11/2024, 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin