نماذج من تأويل علماء الأئمة وأئمتها لنصوص الصفات
قال الإمام الخطابي – رحمه الله تعالى – عند شرحه قول النبي ‘ “وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب ” (معالم السنن 4 / 328):
(هذا الكلام إذا جرى على ظاهره كان فيه نوع من الكيفية، والكيفية عن الله وصفاته منفية، فعقل أن ليس المراد منه تحقيق هذه الصفة، ولا تحديده على هذه الهيئة، وإنما هو كلام تقريب أريد به عظمة الله وجلاله سبحانه، وإنما قصد به إفهام السائل من حيث يدركه فهمه إذ كان أعرابياً جلفاً لا علم له بمعاني ما دق من الكلام وبما لطف منه عن درك الإفهام، وفي الكلام حذف وإضمار، فمعنى قوله ” أتدري ما الله ” معناه أتدري ما عظمة الله وجلاله، وقوله ” إنه ليئط به ” معناه إنه ليعجز عن جلاله وعظمته حتى يئط به، إذ كان معلوماً أن أطيط الرحل بالراكب إنما يكون لقوة ما فوقه ولعجزه عن احتماله، فقرر بهذا النوع من التمثيل عنده معنى عظمة الله وجلاله وارتفاع عرشه ليعلم أن الموصوف بعلو الشأن وجلالة القدر وفخامة الذكر لا يجعل شفيعاً إلى من هو دونه في القدر وأسفل منه في الدرجة، وتعالى الله أن يكون مشبهاً بشيء أو مكيفا بصورة خلق أو مدركاً بحد. ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) اهـ.
وأوّل محيي السنة الإمام البغوي حبَّ الله تعالى للمؤمنين بثنائه عليهم وثوابه لهم وعفوه عنهم (تفسير البغوي 1 / 293).
وتفسيره زاخر بما تقرّ به أعين المنزّهين لله تعالى.
وقال الإمام أبو نصرالقشيري رحمه الله تعالى (إتحاف السادة المتقين 2/ 110):
(كيف يسوغ لقائل أن يقول: في كتاب الله تعالى ما ليس لمخلوق سبيل إلى معرفته ولا يعلم تأويله إلا الله، أليس هذا من أعظم القدح في النبوات؟! وأن النبي ‘ ما عرف تأويل ما ورد في صفـات الله تعالى، ودعا الخلق إلى علم ما لا يعلم، أليس الله يقول ( بلسان عربي مبين ) فإذاً – على زعمهم – يجب أن يقولوا كذب حيث قال ( بلسان عربي مبين ) إذ لم يكن معلوماً عندهم، وإلا فأين هذا البيان، وإذا كان بلغة العرب فكيف يدعى بأنه مما لا تعلمه العرب؟ ولو كان كذلك لما كان ذلك الشيء عربياً… ونسبة النبي ‘ إلى أنه دعا إلى رب موصوف بصفات لا تعقل، أمر عظيم لا يتخيله مسلم، فإن الجهل بالصفات يؤدي إلى الجهل بالموصوف. والغرض: أن يستبين من معه مسكة من العقل أن قول من يقول: استواؤه صفة ذاتية لا يعقل معناه، واليد صفة ذاتية لا يعقل معناها، والقدم صفة ذاتيـة لا يعقل معناه، تمويه ضمنه تكييف وتشبيه ودعاء إلى الجهل، وقد وضح الحق لذي عينين. وليت شعري، هذا الذي ينكر التأويل يطرد هذا الإنكار في كل شيء وفي كل آية، أم يقنع بترك التأويل في صفات الله تعالى؟ فإن امتنع من التأويل أصلاً فقد أبطل الشريعة والعلوم، إذ ما من آية وخبر إلا ويحتاج إلى تأويل وتصرفٍ في الكلام، لأن ثَمّ أشياء لابد من تأويلها لا خلاف بين العقلاء فيه إلا الملحدة الذين قصدهم التعطيل للشرائع، والاعتقاد لهذا يؤدي إلى إبطال ما هو عليه من التمسك بالشرع.
وإن قال: يجوز التأويل على الجملة إلا فيما يتعلق بالله وصفاته فلا تأويل فيه. فهذا يصير منه إلى أن ما يتعلق بغير الله تعالى يجب أن يعلم، وما يتعلق بالصانع وصفاته يجب التقاصي عنه، وهذا لا يرضى به مسلم. وسر الأمر أن هؤلاء الذين يمتنعون عن التأويل معتقدون حقيقة التشبيه غير أنهم يدلسون ويقولون: له يد لا كالأيدي وقدم لا كالأقدام، واستواء بالذات لا كما نعقل فيما بيننا، فليقل المحقق: هذا كلام لابد فيه من استبيان، قولكم: نُجري الأمر على الظاهر ولا يعقل معناه تناقض، إن أجريت على الظاهر فظاهر السياق في قوله تعالى ( يوم يكشف عن ساق ) هو العضو المشتمل على الجلد واللحم والعظم والعصب والمخ، فإن أخذت بهذا الظاهر والتزمت بالإقرار بهذه الأعضاء فهو الكفر، وإن لم يمكنك الأخذ بها فأين الأخذ بالظاهر؟ ألست قد تركت الظاهر وعلمت تقدس الرب تعالى عما يوهم الظاهر فكيف يكون أخذاً بالظاهر؟! وإن قال الخصم: هذه الظواهر لا معنى لها أصلاً. فهو حكم بأنها ملغاة وما كان في إبلاغها إلينا فائدة وهي هدر، وهذا محال. وفي لغة العرب ما شئت من التجوز والتوسع في الخطاب وكانوا يعرفون موارد الكلام ويفهمون المقاصد، فمن تجافى عن التأويل فذلك لقلة فهمه بالعربية، ومن أحاط بطرف من العربية هان عليه مدرك الحقائق، وقد قيل ( وما يعلم تأويله إلا الله ، والراسخون في العلم ) فكأنه قال والراسخون في العلم أيضاً يعلمونه ويقولون آمنا به فإن الإيمان بالشيء إنما يتصور بعد العلم، أما ما لا يعلم فالإيمان به غير متأت، ولهذا قال ابن عباس: أنا من الراسخين في العلم) انـتـهى قول الإمام القشيري رحمه الله.
ونقل الحافظ ابن حجر عن ابن دقيق العيد مؤيداً له في شرحـه لحديث ” لا شخص أغير من الله ” (الفتح 13 / 411) قال:
(قال ابن دقيق العيد: المنزهون لله إما ساكت عن التأويل، وإما مؤول، والثاني – يعني المؤول – يقول المراد بالغيرة المنع من الشيء والحماية، وهما من لوازم الغيرة، فأطلقت على سبيل المجاز، كالملازمة وغيرها من الأوجه الشائعة في لسان العرب) اهـ.
وقال الإمام النووي – رحمه الله – (شرح مسلم 5 / 24) في شرح حديث إمساك السموات على أصبع والأرضين على أصبع ” ما نصه:
(هذا من أحاديث الصفات وقد سبق فيها المذهبان التأويل والإمساك…) ثم قال بعد صفحات (وأما إطلاق اليدين لله تعالى فمتأول على القدرة، وكنى عن ذلك باليدين لأن أفعالنا تقع باليدين، فخوطبنا بما نفهمه ليكون أوضح وأوكد في النفوس، ولا تمثيل لصفة الله تعالى السمعية المسماة باليد التي ليست بجارحة، والله تعالى أعلم بمراد نبيه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم فيما ورد في هذه الأحاديث من مشكل ونحن نؤمن بالله تعالى وصفاته ولا نشبه شيئاً به ولا نشبهه بشيء) اهـ.
وقال الإمام اللغوي النحوي ابن السيد البطليوسي – رحمه الله تعالى – بعد أن ذكر حديث النزول في سياق إثباته للمجاز (الإنصاف ص/ 82):
(جعلته المجسمة نزولا على الحقيقة، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، وقد أجمع العارفون بالله عز وجل على أنه لا ينتقل لأن الانتقال من صفات المحدثات، ولهذا الحديث تأويلان صحيحان لا يقتضيان شيئاً من التشبيه:
أحدهما أشار إليه مالك رحمه الله وقد سئل عن هذا الحديث فقال: ينزل أمره كل سحر، فأما هو عز وجل فإنه دائم لا يزول ولا ينتقل سبحانه لا إله إلا هو.
وسئل الأوزاعي فقال: يفعل الله ما يشاء([1]).
وهذا تلويح يحتاج إلى تصريح، وخفي إشارة يحتاج إلى تبيين عبارة)
ثم أخذ رحمه الله ببيان حقيقة ما قالاه على أساليب العرب واستعاراتها، وذكر أن العرب تنسب الفعل إلى من أمر به كما تنسبه إلى من فعله وباشره ومعنى النزول في الحديث أن الله تعالى يأمر ملكاً بالنزول إلى السماء الدنيا فينادي بأمره، ثم قال رحمه الله: (فهذا تأويل كما تراه صحيح جار على فصيح كلام العرب في محاوراتها والمتعارف من أساليبها ومخاطباتها، وهو شرح ما أراده مالك والأوزاعي رحمهما الله) اهـ.
قال الإمام أبو بكر بن العربي – رحمه الله – (القبس شرح الموطأ 1 / 288 – 289):
(وأما الأوزاعي – وهو إمام عظيم – فنزع بالتأويل حين قال وقد سئل عن قول النبي ‘ “ينزل ربنا ” فقال: يفعل الله ما يشاء. ففتح باباً من المعرفة عظيما ونهج إلى التأويل صراطا مستقيما).
ثم قال رحمه الله تعالى:
(إن الله سبحانه منزه عن الحركة والانتقال لأنه لا يحويه مكان كما لا يشتمل عليه زمان، ولا يشغل حيزاً كما لا يدنو إلى شيء بمسافة ولا يغيب بعلمه عن شيء، متقدس الذات عن الآفات منزه عن التغير والاستحالات، إله في الأرض إله في السماوات. وهذه عقيدة مستقرة في القلوب ثابتة بواضح الدليل) اهـ.
وقال أيضاً في شرحه على سنن الترمذي (2 /234):
(اختلف الناس في هذا الحديث وأمثاله على ثلاثة أقوال فمنهم من ردّه لأنه خبر واحد ورد بما لا يجوز ظاهره على الله وهم المبتدعة، ومنهم من قبله وأمرّه كما جاء ولم يتأوله ولا تكلم فيه مع اعتقاده أن الله ليس كمثله شيء، ومنهم من تأوله وفسره. وبه أقول، لأنه معنى قريب عربي فصيح.
أما إنه قد تعدى إليه قوم ليسوا من أهل العلم بالتفسير فتعدوا عليه بالقول بالتكثير، قالوا: في هذا الحديث دليل على أن الله في السماء على العرش من فوق سبع سموات.
قلنا:هذا جهل عظيم وإنما قال ” ينزل إلى السماء ” ولم يقل في هذا الحديث من أين ينزل ولا كيف ينزل.
قالوا – وحجتهم ظاهره – : قال الله تعالى ( الرحمن على العرش استوى ) .
قلنا: وما العرش في العربية؟ وما الاستواء؟…) إلى أن قال رحمه الله تعالى:
(والذي يجب أن يعتقد في ذلك أن الله كان ولا شيء معه ثم خلق المخلوقات من العرش إلى الفرش فلم يتغير بها ولا حدث له جهة منها ولا كان له مكان فيها فإنه لا يحول ولا يزول قدوس لا يتغير ولا يستحيل، وللاستواء في كلام العرب خمسة عشر معنى ما بين حقيقة ومجاز، منها ما يجوز على الله فيكون معنى الآية، ومنها ما لا يجوز على الله بحال، وهو إذا كان الاستواء بمعنى التمكن أو الاستقرار أو الاتصال أو المحاذاة، فإن شيئاً من ذلك لا يجوز على الباري تعالى، ولا يضرب له الأمثال في المخلوقات، وإما أن لا يفسر كما قال مالك وغيره: إن الاستواء معلوم. يعني مورده في اللغة. والكيفية التي أراد الله مما يجوز عليه من معاني الاستواء مجهولة، فمن يقدر أن يعيّنها، والسؤال عنه بدعة، لأن الاشتغال به وقد تبين طلب التشابه ابتغاء للفتنة. فتحصل لك من كلام إمام المسلمين مالك أن الاستواء معلوم وأن ما يجوز على الله غير متعين وما يستحيل عليه هو منزه عنه، وتعيُّن المراد بما لا يجوز عليه لا فائدة لك فيه إذ قد حصل لك التوحيد والإيمان بنفي التشبيه والمحال على الله سبحانه وتعالى فلا يلزمك سواه، وقد بينا ذلك في المشكلين على التحقيق، وأما قوله: ينزل ويجيء ويأتي، وما أشبه ذلك من الألفاظ التي لا تجوز على الله في ذاته معانيها فإنها ترجع إلى أفعاله، وهنا نكتة وهي: أن أفعالك أيها العبد إنما هي في ذاتك، وأفعال الله سبحانه لا تكون في ذاته ولا ترجع إليه وإنما تكون في مخلوقاته، فإذا سمعت الله يقول كذا فمعناه في المخلوقات لا في الذات، وقد بين ذلك الأوزاعي حين سئل عن هذا الحديث ـ أي حديث النزول ـ فقال: يفعل الله ما يشاء. وإما أن تعلم وتعتقد أن الله لا يتوهم على صفة من المحدثات ولا يشبهه شيء من المخلوقات ولا يدخل باباً من التأويلات.
قالوا- أي أصحاب الظواهر – : نقول ينزل ولا نكيف.
قلنا: معاذ الله أن نقول ذلك، إنما نقول كما علمنا رسول الله ‘ وكما علمنا من العربية التي نزل بها القرآن، قال النبي ‘: ” يقول الله عبدي مرضت فلم تعدني.. وجعت فلم تطعمني.. وعطشت فلم تسقني ” وهو لا يجوز عليه شيء من ذلك ولكن شرّف هؤلاء بأن عبّر به عنهم، كذلك قوله: ينزل ربنا، عبّر به عن عبده وملَكه الذي ينزل بأمره باسمه فيما يعطي من رحمته… والنزول قد يكون في المعاني وقد يكون في الأجسام، والنزول الذي أخبر الله عنه إن حملته على أنه جسم فذلك ملَكُه ورسوله وعبده، وإن حملته على أنه كان لايفعل شيئاً من ذلك ثم فعله عند ثلث الليل فاستجاب وغفر وأعطى وسمّى ذلك نزولاً عن مرتبة إلى مرتبة ومن صفة إلى صفة فتلك عربية محضة خاطب بها من هم أعرف منكم – أهل الظاهر – وأعقل وأكثر توحيداً وأقلّ بل أعدم تخليطاً. قالوا بجهلهم: لو أراد نزول رحمته لما خص بذلك الثلث من الليل لأن رحمته تنزل بالليل والنهار. قلنا: ولكنها بالليل وفي يوم عرفة وفي ساعة الجمعة يكون نزولها أكثر وعطاؤها أوسع وقد نبّه الله على ذلك بقوله تعالى ( والمستغفرين بالأسحار ) اهـ.
ولقد أطلنا بنقل كلامه رحمه الله لنفاسته وإحكامه. ولا ندري – والله – كيف يكون مثل هذا الكلام الرفيع الرائع الرائق ضلالاً؟!
وجاء في كتاب البيان والتحصيل لابن رشد (الجد) رحمه الله تعالى (18 / 504، وانظر السير 8/104، والنوادر والزيادات لابن أبي زيد 14/553) ما نصه:
(قال – يعني ابن القاسم صاحب مالك – وسألت مالكاً عن الحديث في أخبار سعد بن معاذ في العرش، فقال: لا تتحدث به… وعن الحديث ” إن الله خلق آدم على صورته ” وعن الحديث في الساق، وذلك كله، قال ابن القاسم: لا ينبغي لمن يتقي الله ويخافه أن يحدث بمثل هذا. قال ابن رشد بعد أن ذكر الأحاديث التي أشار إليها ابن القاسم: وإنما نهى مالك أن يتحدث بهذين الحديثين وبالحديث الذي جاء بأن الله خلق آدم على صورته، ونحو ذلك من الأحاديث التي يقتضي ظاهرها التشبيه، مخافة أن يتحدث بها، فيكثر التحدث بها، وتشيع في الناس، فيسمعها الجهال الذين لا يعرفون تأويلها، فيسبق إلى ظنونهم التشبيه بها، وسبيلها – إذا صحت الروايات بها – أن تتأول على ما يصح، مما ينتفي به التشبيه عن الله عز وجل بشيء من خلقه، كما يصنع بما جاء في القرآن مما يقتضي ظاهره التشبيه وهو كثير، كالإتيان في قوله عز وجل ( هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل ) والاستواء في قوله ( الرحمن على العرش استوى ) وكما يفعل أيضاً بما جاء من ذلك في السنن المتواترة كالضحك والنزول وشبه ذلك مما لم يكره روايتها لتواتر الآثار بها، لأن سبيلها كلها في اقتضاء ظاهرها التشبيه وإمكان تأويلها على ما ينتفي به تشبيه الله عز وجل بشيء من خلقه سواء) اهـ.
ولقد نقل الحافظ أبو الحسن على بن القطان – رحمه الله تعالى – الإجماع على التأويل الإجمالي والتأويل التفصيلي، قال (الإقناع في مسائل الإجماع 1 / 32 – 43):
(وأجمعـوا أنه تعالى يجيء يوم القيامة والملك صفاً صفاً لعرض الأمم وحسابها وعقابها وثوابها، فيغفر لمن يشاء من المؤمنين، ويعذب منهم من يشاء كما قال تعالى، وليس مجيئه بحركة ولا انتقال.
وأجمعوا أنه تعالى يرضى عن الطائعين له، وأن رضاه عنهم إرادته نعيمهم.
وأجمعوا أنه يحب التوابين ويسخط على الكافرين ويغضب عليهم، وأن غضبه إرادته لعذابهم وأنه لا يقوم لغضبه شيء) اهـ.
وفي صرف المجيء عن ظاهره الذي هو الحركة تأويل إجمالي، وفى حمل الرضا على إرادة النعيم، وحمل الغضب على إرادة العذاب تأويل تفصيلي.
وقال الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى (الاعتصام، بتحقيق محمد رشيد رضا، 1/297):
(إن للراسخين طريقاًً يسلكونها في اتباع الحق، وإن الزائغين على طريق غير طريقهم، فاحتجنا إلى بيان الطريق التي سلكها هؤلاء لنتجنبها، كما نبين الطريق التي سلكها الراسخون لنسلكها).
ثم أخذ ببيان طرق الزائغين فقال:
(فمنها اعتمادهم على الأحاديث الواهية الضعيفة… ومنها ضد هذا، وهو ردّهم للأحاديث التي جرت غير موافقة لأغراضهم ومذاهبهم… ومنها تخرّصهم على الكلام في القرآن والسنة العربيين مع العُروِّ عن علم العربية الذي يفهم به عن الله ورسوله… ومنها انحرافهم عن الأصول الواضحة إلى اتباع المتشابهات التي للعقول فيها مواقف).
وضرب مثلاً لهذا الصنف من غير أمة الإسلام بالنصارى، ثم قال رحمه الله: (ومثاله في ملة الإسلام مذهب الظاهرية في إثبات الجوارح للرب ـ المنزه عن النقائص ـ من العين واليد والرجل والوجه المحسوسات والجهة وغير ذلك من الثابت للمحدثات) اهـ.
ومعنى كلامه ظاهر، أي أن المحظور هو حملها على المحسوسات، وهو اللازم من حملها على الظاهر والحقيقة، أما إثباتها مع تنزيه الله تعالى عن ظواهرها وحقائقها اللغوية المعروفة فهو حق، وهو مذهب جماهير سلف الأمة الصالح رضوان الله عليهم.
وقال أيضاً رحمه الله تعالى في تأويل حُبِّه تعالى وبغضه (الموافقات 2/116):
(والحب والبغض من الله تعالى إما أن يراد بهما نفس الإنعام والانتقام، فيرجعان إلى صفات الأفعال على رأي من قال بذلك، وإما أن يراد بهما إرادة الإنعام والانتقام، فيرجعان إلى صفات الذات، لأن نفس الحب والبغض المفهومين في كلام العرب حقيقة محالان على الله تعالى) اهـ.
وقال الإمام ابن الأثير رحمه الله تعالى (النهاية في غريب الحديث 5/300):
( ” الحجر يمين الله في الأرض ” هذا الكلام تمثيل وتخييل، وأصله أن الملك إذا صافح رجلاً قبّل الرجل يده، فكأن الحجر الأسود لله بمنزلة اليمين للملك، حيث يستلم ويلثم.
ومنه الحديث الآخر ” وكلتا يديه يمين ” أي أن يديه تبارك وتعالى بصفة الكمال، لانقص في واحدة منهما، لأن الشمال تنقص عن اليمين، وكل ما جاء في القرآن والحديث من إضافة اليد والأيدي واليمين وغير ذلك من أسماء الجوارح إلى الله تعالى فإنما هو على سبيل المجاز والاستعارة، والله منزه عن التشبيه والتجسيم ) اهـ.
وقال أيضاً عن حديث النزول (5/42): ( النزول والصعود والحركة والسكون من صفات الأجسام، والله يتعالى عن ذلك ويتقدس، والمراد به نزول الرحمة والألطاف الإلهية، وقربها من العباد، وتخصيصها بالليل والثلث الأخير منه لأنه وقت التهجد وغفلة الناس عمّن يتعرض لنفحات رحمة الله، وعند ذلك تكون النية خالصة، والرغبة إلى الله وافرة، وذلك مظنة القبول والإجابة ) اهـ.
وقال الإمام القرطبي – رحمه الله تعالى – (المُفهم 6 / 672) في شرح حديث “قلوب بنى آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن “:
(ظاهر الأصبع محال على الله تعالى قطعاً… وقد تأول بعض أئمتنا هذا الحديث فقال: هذا استعارة جارية مجرى قولهم: فلان في كفي وفي قبضتي. يراد به أنه متمكن من التصرف فيه والتصريف له كيف يشاء…) اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى (الفتح 1/189) مؤولاً للفظ الحياء المضاف إلى الله تعالى في الحديث: (قوله ” فاستحيا الله منه ” أي رحمه ولم يعاقبه، وقوله ” فأعرض الله عنه ” أي سخط عليه..)’اهـ.
وقال أيضاً (الفتح 1/419) مؤوّلاً للفظ اليد (والمراد باليد هنا القدرة) اهـ.
وقال قبل ذلك (هدي الساري ص/219): (ووقع ذكر اليد في القرآن والحديث مضافاً إلى الله تعالى، واتفق أهل السنة والجماعة على أنه ليس المراد باليد الجارحة التي هي من صفات المحدثات، وأثبتوا ما جاء من ذلك وآمنوا به، فمنهم من وقف ولم يتأوّل، ومنهم من حمل كلّ لفظ منها على المعنى الذي ظهر له، وهكذا عملوا في جميع ما جاء من أمثال ذلك) اهـ
فأنت ترى أن الأمر يسير، ولا يستدعي كلّ ما أثير حوله من تهويل، فليس في حمل الكلام على المعنى المجازي كبير خطر، ما دام ذلك ضمن ما يفهم من اللسان العربي عن قرب، وهذا الحافظ ابن حجر يقول: إن أهل السنة ـ بعد التنزيه عن الظاهر ـ ما بين مفوض ومؤول، ولا نكير من أحدهم على الآخر.
وللإمام الأُبّي – رحمه الله تعالى – كـلام يعتبر قـاعدة ذهبية في هذا الباب، قال رحمه الله (شرح مسلم 7 / 54):
(القاعدة التي يجب اعتبارها أن ما يستحيل نسبته للذات أو الصفات يستحيل أن يرد متواتراً في نص لا يحتمل التأويل، وغاية المتواتر أن يرد فيما دلالته على المحال دلالة ظاهرة، والظاهر يقبل التأويل، فإن ورد فيجب صرف اللفظ عن ظاهره المستحيل، ثم اختلف، فوقف أكثر السلف عن التأويل، وقالوا نؤمن به على ما هو عند الله سبحانه في نفس الأمر، ونَكِلُ علم ذلك إلى الله سبحانه، وقال قوم بل الأولى التأويل… وإن ورد خبر واحد نصاً في محال قطع بكذب راويه، وإن كان محتملاً للتأويل يتصرف فيه كما سبق) اهـ.
وهذا كلام محكم نفيس في عبارة موجزة شاملة.
وقوله رحمه الله (وإن ورد… قطع بكذب راويه) لأنه ظني عارض القطعي، وقد ثبت بالقطعي من دليل النقل والعقل أنه تعالى ليس كمثله شيء، فكل خبر يأتي على خلاف ذلك يقطع بكذب راويه، لأن أدلة الشرع تتعاضد ولا تتضاد.
ومن اطلع على كتب التراث الإسلامي لأئمة الإسلام وجد ما لا يدخل تحت الحصر من هذه النصوص التي اكتفينا هنا بذكر شذرة منها، مما يدفع العاقل الأريب إلى الإيقان بصحة هذا المنهج الذي اجتمعت عليه الأمة.
قال الشيخ الزرقاني في ” مناهل العرفان ” (2 / 286) ما نصه:
(علماؤنا أجزل الله مثوبتهم قد اتفقوا على ثلاثة أمور تتعلق بهذه المتشابهات، ثم اختلفوا فيما وراءها:
فأول: ما اتفقوا عليه صرفها عن ظواهرها المستحيلة، واعتقاد أن هذه الظواهر باطلة بالأدلة القاطعة وبما هو معروف عن الشارع نفسه في محكماته.
ثانيه: أنه إذا توقف الدفاع عن الإسلام على التأويل لهذه المتشابهات وجب تأويلها بما يدفع شبهات المشتبهين ويرد طعن الطاعنين.
ثالثه: إن المتشابه إن كان له تأويل واحد يفهم منه قريباً وجب القول به إجماعاً، وذلك كقوله تعالى ( وهو معكم أينما كنتم ) فإن الكينونة بالذات مع الخلق مستحيلة قطعاً، وليس لها بعد ذلك إلا تأويل واحد، هو الكينونة معهم بالإحاطة علماً وبصراً وقدرة وإرادة.
وأما اختلاف العلماء فيما وراء ذلك فقد وقع على ثلاثة مذاهب)’اهـ.
فعد مذهب التفويض ومذهب التأويل، ثم جعل للإمام ابن دقيق العيد مذهباً ثالثاً متوسطاً بين المذهبين لقوله (الفتح 13 / 395) (نقول في الصفات المشكلة إنها حق وصدق على المعنى الذي أراده الله، ومن تأولها نظرنا، فإن كان تأويله قريباً على مقتضى لسان العرب لم ننكر عليه، وإن كان بعيداً توقفنا عنه ورجعنا إلى التصديق مع التنزيه)، وهو في حقيقة الأمر داخل ضمن مذهب التأويل، لأنه ليس من أهل السنة أحد إلا وهو متفق معه على ما ذهب إليه من رفض التأويلات البعيدة التي ليست على مقتضى لسان العرب.
وقال الشيخ العلامة محمد الحامد – رحمه الله تعالى – (ردود على أباطيل 2/ 10):
(النصوص السمعية المحكمة أي الواضحة المعنى هي الأصل الذي يجب أن يحمل عليه المتشابه، أي الذي يسبق إلى الوهم معنى التشبيه منه ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنَّ أمُّ الكتاب وأخر متشابهات ، فأمّا الذين في قلوبهم زيغ فيتَّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله ، والراسخون في العلم يقولون آمنّا به كلٌّ من عند ربنا ، وما يتذكّر ألا أولوا الألباب ) أي آمنا به جميعاً محكمه ومتشابهه، لكن إيمانهم بالمتشابه لا ينقض إيمانهم بالمحكم الذي هو الأصل، فهم لا يشبهون الله بخلقه، بل يكلون العلم بمعنى المتشابه إلى الله عز وجل معتقدين أن له معنى شريفاً يليق به سبحانه، فلا هم بالمعطلين للنصوص ولا هم بالمشبهين، ومذهبهم وسط بين الطائفتين الشاذتين عن سبيل أهل الحق وهما المعطلة والمشبهة. وعلى هذا درج سلف الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم ولو ذهبت أسرد لك كلماتهم في هذا لطال بي القول وامتد الكلام، لكن لما ظهرت البدعة وتطلعت رؤوس أهل الزيغ وصاروا يشوشون على المسلمين عقائدهم، خشي علماء المسلمين على العقائد أن يلحقها لوث وفساد فاعتمدوا تأويل النصوص المتشابهة في إطار اللغة العربية وضمن سور الشريعة) اهـ.
وقوله رحمه الله (لكن إيمانهم بالمتشابه لا ينقض إيمانهم بالمحكم الذي هو الأصل) واضح في الرد على من حمل المتشابه على مقتضى الحس، فهؤلاء بدلاً من أن يحملوا المتشابه على المحكم ويرجعوه إليه، فعلوا العكس، فنقضوا بفعلهم هذا إيمانهم بالمحكم من مثل قوله تعالى ( ليس كمثله شئ وهو السميع البصير ) وقال الداعية الكبير سيد قطب رحمه الله تعالى (في ظلال القرآن، سورة الحديد):
(وكذلك العرش فنحن نؤمن به كما ذكره، لا نعلم حقيقته، أما الاستواء على العرش فنملك أن نقول إنه كناية عن الهيمنة على هذا الخلق، استناداً إلى ما نعلمه من القرآن عن يقين من أن الله سبحانه لا تتغير عليه الأحوال، فلا يكون في حالة عدم استواء على العرش ثم تتبعها حالة استواء، والقول بأننا نؤمن بالاستواء ولا ندرك كيفيته لا يفسرقوله تعالى ( ثم استوى ) ، والأولى أن نقول: إنه كناية عن الهيمنة كما ذكرنا، والتأويل هنا لا يخرج على المنهج الذي أشرنا إليه آنفاً، لأنه لا ينبع من مقررات وتصورات من عند أنفسنا) اهـ.
وبالجملة، فإن منهج سيد قطب رحمه الله تعالى في الظلال دائر بين التأويل الذي أخذ به أولاً قبل العودة على الظلال بالتنقيح، وبين التفويض الذي آل إليه رأيه أخيراً، وكلا الطريقين حق، بل إن طريق التفويض الذي كان عليه جمهور السلف الصالح أولى بالاتباع ما لم تدعُ حاجة إلى التأويل.
وهذا الذي آل إليه رأي سيد قطب رحمه الله تعالى هو من قبيل ما ينسب إلى بعض الأئمة مثل الإمام الجويني والرازي والغزالي وغيرهم، ففهم البعض منه أنهم هجروا منهج الإمام الأشعري، وقد ردَدْنا هذا الفهم وبيَّنّا بطلانه، كما بيَّنا أيضاً أن منهج الأشعري تفويض وتأويل، وأنهم تركوا التأويل ورجعوا إلى التفويض الذي كان عليه جمهور السلف، وذكرنا أنه ليس بين المسلكين تناقض، إذ كلاهما قائل بتنزيه الله تعالى عن سمات النقص والحدوث، وكلاهما مؤوّل، فالسلف أوّلوا إجمالاً، والخلف أوّلوا تفصيلاً.
وقال الشيخ عمر التلمساني رحمه الله تعالى (بعض ما علمني الإخوان ص/17) في قوله تعالـى ( والسموات مطويات بيمينه ) (إن هذه اليمين التي تشير إليها الآية الكريمة هي التمكن من طي السموات والأرض، أي القدرة التي تفعل ما تشاء كيفما تشاء عندما تشاء) اهـ.
وكذا قال سيد قطب عند هذه الآية (الظلال 5/3062):
(وكل ما ورد في القرآن والحديث من هذه الصور والمشاهد إنما هو تقريب للحقائق التي لا يملك البشر إدراكها بغير أن توضع لهم في تعبير يدركونه، وفي صورة يتصورونها، ومنه هذا التصوير لجانب من حقيقة القدرة المطلقة التي لا تتقيد بشكل ولا تتحيز في حيز ولا تتحدد بحدود) اهـ.
وقال الإمام الداعية حسن البنا رحمه الله (مجموعة رسائل الإمام ص 411):
(انقسم الناس في هذه المسألة على أربع فرق:
الأولى: أخذت بظواهرها كما هي فنسبت إلى الله وجهاً كوجوه الخلق ويداً أو أيدٍ كأيديهم وضحكاً كضحكهم… وهؤلاء هم المجسمة والمشبهة، وليسوا من الإسلام في شيء، وليس لقولهم نصيب من الصحة.
والثانية: عطلت معاني هذه على أي وجه، يقصدون بذلك نفي مدلولاتها عن الله تبارك وتعالى فالله تبارك وتعالى عندهم لا يتكلم ولا يسمع ولا يبصر… وهؤلاء هم المعطلة ويطلق عليهم بعض علماء تاريخ العقائد الإسلامية الجهمية… هذان رأيان باطلان لا حظ لهما من النظر.
وبقي أمامنا رأيان هما محل أنظار العلماء في العقائد وهما رأي السلف والخلف.
مذهب السلف: نؤمن بهذه الآيات والأحاديث كما وردت ونترك بيان المقصود منها لله تبارك وتعالى، فهم يثبتون اليد والعين والأعين والاستواء والضحك والتعجب… الخ، وكل ذلك بمعان لا ندركها، ونترك لله تبارك وتعالى الإحاطة بعلمها…
أما الخلف: فقد قالوا إننا نقطع بأن معاني ألفاظ هذه الآيات والأحاديث لا يراد بها ظواهرها، وعلى ذلك فهي مجازات لا مانع من تأويلها…) اهـ.
ثم قال رحمه الله تعالى (بين السلف والخلف: قد علمت أن مذهب السلف في الآيات والأحاديث التي تتعلق بصفات الله تبارك وتعالى أن يُمِرّوها على ما جاءت عليه ويسكتوا عن تفسيرها أو تأويلها، وأن مذهب الخلف أن يؤولوها بما يتفق مع تنزيه الله تبارك وتعالى عن مشابهة خلقه) اهـ.
ثم بين رحمه الله تعالى أن كلا المذهبين حق ولا يستلزم اختلافهم تكفيراً ولا تفسيقاً.
قال الإمام الخطابي – رحمه الله تعالى – عند شرحه قول النبي ‘ “وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب ” (معالم السنن 4 / 328):
(هذا الكلام إذا جرى على ظاهره كان فيه نوع من الكيفية، والكيفية عن الله وصفاته منفية، فعقل أن ليس المراد منه تحقيق هذه الصفة، ولا تحديده على هذه الهيئة، وإنما هو كلام تقريب أريد به عظمة الله وجلاله سبحانه، وإنما قصد به إفهام السائل من حيث يدركه فهمه إذ كان أعرابياً جلفاً لا علم له بمعاني ما دق من الكلام وبما لطف منه عن درك الإفهام، وفي الكلام حذف وإضمار، فمعنى قوله ” أتدري ما الله ” معناه أتدري ما عظمة الله وجلاله، وقوله ” إنه ليئط به ” معناه إنه ليعجز عن جلاله وعظمته حتى يئط به، إذ كان معلوماً أن أطيط الرحل بالراكب إنما يكون لقوة ما فوقه ولعجزه عن احتماله، فقرر بهذا النوع من التمثيل عنده معنى عظمة الله وجلاله وارتفاع عرشه ليعلم أن الموصوف بعلو الشأن وجلالة القدر وفخامة الذكر لا يجعل شفيعاً إلى من هو دونه في القدر وأسفل منه في الدرجة، وتعالى الله أن يكون مشبهاً بشيء أو مكيفا بصورة خلق أو مدركاً بحد. ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) اهـ.
وأوّل محيي السنة الإمام البغوي حبَّ الله تعالى للمؤمنين بثنائه عليهم وثوابه لهم وعفوه عنهم (تفسير البغوي 1 / 293).
وتفسيره زاخر بما تقرّ به أعين المنزّهين لله تعالى.
وقال الإمام أبو نصرالقشيري رحمه الله تعالى (إتحاف السادة المتقين 2/ 110):
(كيف يسوغ لقائل أن يقول: في كتاب الله تعالى ما ليس لمخلوق سبيل إلى معرفته ولا يعلم تأويله إلا الله، أليس هذا من أعظم القدح في النبوات؟! وأن النبي ‘ ما عرف تأويل ما ورد في صفـات الله تعالى، ودعا الخلق إلى علم ما لا يعلم، أليس الله يقول ( بلسان عربي مبين ) فإذاً – على زعمهم – يجب أن يقولوا كذب حيث قال ( بلسان عربي مبين ) إذ لم يكن معلوماً عندهم، وإلا فأين هذا البيان، وإذا كان بلغة العرب فكيف يدعى بأنه مما لا تعلمه العرب؟ ولو كان كذلك لما كان ذلك الشيء عربياً… ونسبة النبي ‘ إلى أنه دعا إلى رب موصوف بصفات لا تعقل، أمر عظيم لا يتخيله مسلم، فإن الجهل بالصفات يؤدي إلى الجهل بالموصوف. والغرض: أن يستبين من معه مسكة من العقل أن قول من يقول: استواؤه صفة ذاتية لا يعقل معناه، واليد صفة ذاتية لا يعقل معناها، والقدم صفة ذاتيـة لا يعقل معناه، تمويه ضمنه تكييف وتشبيه ودعاء إلى الجهل، وقد وضح الحق لذي عينين. وليت شعري، هذا الذي ينكر التأويل يطرد هذا الإنكار في كل شيء وفي كل آية، أم يقنع بترك التأويل في صفات الله تعالى؟ فإن امتنع من التأويل أصلاً فقد أبطل الشريعة والعلوم، إذ ما من آية وخبر إلا ويحتاج إلى تأويل وتصرفٍ في الكلام، لأن ثَمّ أشياء لابد من تأويلها لا خلاف بين العقلاء فيه إلا الملحدة الذين قصدهم التعطيل للشرائع، والاعتقاد لهذا يؤدي إلى إبطال ما هو عليه من التمسك بالشرع.
وإن قال: يجوز التأويل على الجملة إلا فيما يتعلق بالله وصفاته فلا تأويل فيه. فهذا يصير منه إلى أن ما يتعلق بغير الله تعالى يجب أن يعلم، وما يتعلق بالصانع وصفاته يجب التقاصي عنه، وهذا لا يرضى به مسلم. وسر الأمر أن هؤلاء الذين يمتنعون عن التأويل معتقدون حقيقة التشبيه غير أنهم يدلسون ويقولون: له يد لا كالأيدي وقدم لا كالأقدام، واستواء بالذات لا كما نعقل فيما بيننا، فليقل المحقق: هذا كلام لابد فيه من استبيان، قولكم: نُجري الأمر على الظاهر ولا يعقل معناه تناقض، إن أجريت على الظاهر فظاهر السياق في قوله تعالى ( يوم يكشف عن ساق ) هو العضو المشتمل على الجلد واللحم والعظم والعصب والمخ، فإن أخذت بهذا الظاهر والتزمت بالإقرار بهذه الأعضاء فهو الكفر، وإن لم يمكنك الأخذ بها فأين الأخذ بالظاهر؟ ألست قد تركت الظاهر وعلمت تقدس الرب تعالى عما يوهم الظاهر فكيف يكون أخذاً بالظاهر؟! وإن قال الخصم: هذه الظواهر لا معنى لها أصلاً. فهو حكم بأنها ملغاة وما كان في إبلاغها إلينا فائدة وهي هدر، وهذا محال. وفي لغة العرب ما شئت من التجوز والتوسع في الخطاب وكانوا يعرفون موارد الكلام ويفهمون المقاصد، فمن تجافى عن التأويل فذلك لقلة فهمه بالعربية، ومن أحاط بطرف من العربية هان عليه مدرك الحقائق، وقد قيل ( وما يعلم تأويله إلا الله ، والراسخون في العلم ) فكأنه قال والراسخون في العلم أيضاً يعلمونه ويقولون آمنا به فإن الإيمان بالشيء إنما يتصور بعد العلم، أما ما لا يعلم فالإيمان به غير متأت، ولهذا قال ابن عباس: أنا من الراسخين في العلم) انـتـهى قول الإمام القشيري رحمه الله.
ونقل الحافظ ابن حجر عن ابن دقيق العيد مؤيداً له في شرحـه لحديث ” لا شخص أغير من الله ” (الفتح 13 / 411) قال:
(قال ابن دقيق العيد: المنزهون لله إما ساكت عن التأويل، وإما مؤول، والثاني – يعني المؤول – يقول المراد بالغيرة المنع من الشيء والحماية، وهما من لوازم الغيرة، فأطلقت على سبيل المجاز، كالملازمة وغيرها من الأوجه الشائعة في لسان العرب) اهـ.
وقال الإمام النووي – رحمه الله – (شرح مسلم 5 / 24) في شرح حديث إمساك السموات على أصبع والأرضين على أصبع ” ما نصه:
(هذا من أحاديث الصفات وقد سبق فيها المذهبان التأويل والإمساك…) ثم قال بعد صفحات (وأما إطلاق اليدين لله تعالى فمتأول على القدرة، وكنى عن ذلك باليدين لأن أفعالنا تقع باليدين، فخوطبنا بما نفهمه ليكون أوضح وأوكد في النفوس، ولا تمثيل لصفة الله تعالى السمعية المسماة باليد التي ليست بجارحة، والله تعالى أعلم بمراد نبيه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم فيما ورد في هذه الأحاديث من مشكل ونحن نؤمن بالله تعالى وصفاته ولا نشبه شيئاً به ولا نشبهه بشيء) اهـ.
وقال الإمام اللغوي النحوي ابن السيد البطليوسي – رحمه الله تعالى – بعد أن ذكر حديث النزول في سياق إثباته للمجاز (الإنصاف ص/ 82):
(جعلته المجسمة نزولا على الحقيقة، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، وقد أجمع العارفون بالله عز وجل على أنه لا ينتقل لأن الانتقال من صفات المحدثات، ولهذا الحديث تأويلان صحيحان لا يقتضيان شيئاً من التشبيه:
أحدهما أشار إليه مالك رحمه الله وقد سئل عن هذا الحديث فقال: ينزل أمره كل سحر، فأما هو عز وجل فإنه دائم لا يزول ولا ينتقل سبحانه لا إله إلا هو.
وسئل الأوزاعي فقال: يفعل الله ما يشاء([1]).
وهذا تلويح يحتاج إلى تصريح، وخفي إشارة يحتاج إلى تبيين عبارة)
ثم أخذ رحمه الله ببيان حقيقة ما قالاه على أساليب العرب واستعاراتها، وذكر أن العرب تنسب الفعل إلى من أمر به كما تنسبه إلى من فعله وباشره ومعنى النزول في الحديث أن الله تعالى يأمر ملكاً بالنزول إلى السماء الدنيا فينادي بأمره، ثم قال رحمه الله: (فهذا تأويل كما تراه صحيح جار على فصيح كلام العرب في محاوراتها والمتعارف من أساليبها ومخاطباتها، وهو شرح ما أراده مالك والأوزاعي رحمهما الله) اهـ.
قال الإمام أبو بكر بن العربي – رحمه الله – (القبس شرح الموطأ 1 / 288 – 289):
(وأما الأوزاعي – وهو إمام عظيم – فنزع بالتأويل حين قال وقد سئل عن قول النبي ‘ “ينزل ربنا ” فقال: يفعل الله ما يشاء. ففتح باباً من المعرفة عظيما ونهج إلى التأويل صراطا مستقيما).
ثم قال رحمه الله تعالى:
(إن الله سبحانه منزه عن الحركة والانتقال لأنه لا يحويه مكان كما لا يشتمل عليه زمان، ولا يشغل حيزاً كما لا يدنو إلى شيء بمسافة ولا يغيب بعلمه عن شيء، متقدس الذات عن الآفات منزه عن التغير والاستحالات، إله في الأرض إله في السماوات. وهذه عقيدة مستقرة في القلوب ثابتة بواضح الدليل) اهـ.
وقال أيضاً في شرحه على سنن الترمذي (2 /234):
(اختلف الناس في هذا الحديث وأمثاله على ثلاثة أقوال فمنهم من ردّه لأنه خبر واحد ورد بما لا يجوز ظاهره على الله وهم المبتدعة، ومنهم من قبله وأمرّه كما جاء ولم يتأوله ولا تكلم فيه مع اعتقاده أن الله ليس كمثله شيء، ومنهم من تأوله وفسره. وبه أقول، لأنه معنى قريب عربي فصيح.
أما إنه قد تعدى إليه قوم ليسوا من أهل العلم بالتفسير فتعدوا عليه بالقول بالتكثير، قالوا: في هذا الحديث دليل على أن الله في السماء على العرش من فوق سبع سموات.
قلنا:هذا جهل عظيم وإنما قال ” ينزل إلى السماء ” ولم يقل في هذا الحديث من أين ينزل ولا كيف ينزل.
قالوا – وحجتهم ظاهره – : قال الله تعالى ( الرحمن على العرش استوى ) .
قلنا: وما العرش في العربية؟ وما الاستواء؟…) إلى أن قال رحمه الله تعالى:
(والذي يجب أن يعتقد في ذلك أن الله كان ولا شيء معه ثم خلق المخلوقات من العرش إلى الفرش فلم يتغير بها ولا حدث له جهة منها ولا كان له مكان فيها فإنه لا يحول ولا يزول قدوس لا يتغير ولا يستحيل، وللاستواء في كلام العرب خمسة عشر معنى ما بين حقيقة ومجاز، منها ما يجوز على الله فيكون معنى الآية، ومنها ما لا يجوز على الله بحال، وهو إذا كان الاستواء بمعنى التمكن أو الاستقرار أو الاتصال أو المحاذاة، فإن شيئاً من ذلك لا يجوز على الباري تعالى، ولا يضرب له الأمثال في المخلوقات، وإما أن لا يفسر كما قال مالك وغيره: إن الاستواء معلوم. يعني مورده في اللغة. والكيفية التي أراد الله مما يجوز عليه من معاني الاستواء مجهولة، فمن يقدر أن يعيّنها، والسؤال عنه بدعة، لأن الاشتغال به وقد تبين طلب التشابه ابتغاء للفتنة. فتحصل لك من كلام إمام المسلمين مالك أن الاستواء معلوم وأن ما يجوز على الله غير متعين وما يستحيل عليه هو منزه عنه، وتعيُّن المراد بما لا يجوز عليه لا فائدة لك فيه إذ قد حصل لك التوحيد والإيمان بنفي التشبيه والمحال على الله سبحانه وتعالى فلا يلزمك سواه، وقد بينا ذلك في المشكلين على التحقيق، وأما قوله: ينزل ويجيء ويأتي، وما أشبه ذلك من الألفاظ التي لا تجوز على الله في ذاته معانيها فإنها ترجع إلى أفعاله، وهنا نكتة وهي: أن أفعالك أيها العبد إنما هي في ذاتك، وأفعال الله سبحانه لا تكون في ذاته ولا ترجع إليه وإنما تكون في مخلوقاته، فإذا سمعت الله يقول كذا فمعناه في المخلوقات لا في الذات، وقد بين ذلك الأوزاعي حين سئل عن هذا الحديث ـ أي حديث النزول ـ فقال: يفعل الله ما يشاء. وإما أن تعلم وتعتقد أن الله لا يتوهم على صفة من المحدثات ولا يشبهه شيء من المخلوقات ولا يدخل باباً من التأويلات.
قالوا- أي أصحاب الظواهر – : نقول ينزل ولا نكيف.
قلنا: معاذ الله أن نقول ذلك، إنما نقول كما علمنا رسول الله ‘ وكما علمنا من العربية التي نزل بها القرآن، قال النبي ‘: ” يقول الله عبدي مرضت فلم تعدني.. وجعت فلم تطعمني.. وعطشت فلم تسقني ” وهو لا يجوز عليه شيء من ذلك ولكن شرّف هؤلاء بأن عبّر به عنهم، كذلك قوله: ينزل ربنا، عبّر به عن عبده وملَكه الذي ينزل بأمره باسمه فيما يعطي من رحمته… والنزول قد يكون في المعاني وقد يكون في الأجسام، والنزول الذي أخبر الله عنه إن حملته على أنه جسم فذلك ملَكُه ورسوله وعبده، وإن حملته على أنه كان لايفعل شيئاً من ذلك ثم فعله عند ثلث الليل فاستجاب وغفر وأعطى وسمّى ذلك نزولاً عن مرتبة إلى مرتبة ومن صفة إلى صفة فتلك عربية محضة خاطب بها من هم أعرف منكم – أهل الظاهر – وأعقل وأكثر توحيداً وأقلّ بل أعدم تخليطاً. قالوا بجهلهم: لو أراد نزول رحمته لما خص بذلك الثلث من الليل لأن رحمته تنزل بالليل والنهار. قلنا: ولكنها بالليل وفي يوم عرفة وفي ساعة الجمعة يكون نزولها أكثر وعطاؤها أوسع وقد نبّه الله على ذلك بقوله تعالى ( والمستغفرين بالأسحار ) اهـ.
ولقد أطلنا بنقل كلامه رحمه الله لنفاسته وإحكامه. ولا ندري – والله – كيف يكون مثل هذا الكلام الرفيع الرائع الرائق ضلالاً؟!
وجاء في كتاب البيان والتحصيل لابن رشد (الجد) رحمه الله تعالى (18 / 504، وانظر السير 8/104، والنوادر والزيادات لابن أبي زيد 14/553) ما نصه:
(قال – يعني ابن القاسم صاحب مالك – وسألت مالكاً عن الحديث في أخبار سعد بن معاذ في العرش، فقال: لا تتحدث به… وعن الحديث ” إن الله خلق آدم على صورته ” وعن الحديث في الساق، وذلك كله، قال ابن القاسم: لا ينبغي لمن يتقي الله ويخافه أن يحدث بمثل هذا. قال ابن رشد بعد أن ذكر الأحاديث التي أشار إليها ابن القاسم: وإنما نهى مالك أن يتحدث بهذين الحديثين وبالحديث الذي جاء بأن الله خلق آدم على صورته، ونحو ذلك من الأحاديث التي يقتضي ظاهرها التشبيه، مخافة أن يتحدث بها، فيكثر التحدث بها، وتشيع في الناس، فيسمعها الجهال الذين لا يعرفون تأويلها، فيسبق إلى ظنونهم التشبيه بها، وسبيلها – إذا صحت الروايات بها – أن تتأول على ما يصح، مما ينتفي به التشبيه عن الله عز وجل بشيء من خلقه، كما يصنع بما جاء في القرآن مما يقتضي ظاهره التشبيه وهو كثير، كالإتيان في قوله عز وجل ( هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل ) والاستواء في قوله ( الرحمن على العرش استوى ) وكما يفعل أيضاً بما جاء من ذلك في السنن المتواترة كالضحك والنزول وشبه ذلك مما لم يكره روايتها لتواتر الآثار بها، لأن سبيلها كلها في اقتضاء ظاهرها التشبيه وإمكان تأويلها على ما ينتفي به تشبيه الله عز وجل بشيء من خلقه سواء) اهـ.
ولقد نقل الحافظ أبو الحسن على بن القطان – رحمه الله تعالى – الإجماع على التأويل الإجمالي والتأويل التفصيلي، قال (الإقناع في مسائل الإجماع 1 / 32 – 43):
(وأجمعـوا أنه تعالى يجيء يوم القيامة والملك صفاً صفاً لعرض الأمم وحسابها وعقابها وثوابها، فيغفر لمن يشاء من المؤمنين، ويعذب منهم من يشاء كما قال تعالى، وليس مجيئه بحركة ولا انتقال.
وأجمعوا أنه تعالى يرضى عن الطائعين له، وأن رضاه عنهم إرادته نعيمهم.
وأجمعوا أنه يحب التوابين ويسخط على الكافرين ويغضب عليهم، وأن غضبه إرادته لعذابهم وأنه لا يقوم لغضبه شيء) اهـ.
وفي صرف المجيء عن ظاهره الذي هو الحركة تأويل إجمالي، وفى حمل الرضا على إرادة النعيم، وحمل الغضب على إرادة العذاب تأويل تفصيلي.
وقال الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى (الاعتصام، بتحقيق محمد رشيد رضا، 1/297):
(إن للراسخين طريقاًً يسلكونها في اتباع الحق، وإن الزائغين على طريق غير طريقهم، فاحتجنا إلى بيان الطريق التي سلكها هؤلاء لنتجنبها، كما نبين الطريق التي سلكها الراسخون لنسلكها).
ثم أخذ ببيان طرق الزائغين فقال:
(فمنها اعتمادهم على الأحاديث الواهية الضعيفة… ومنها ضد هذا، وهو ردّهم للأحاديث التي جرت غير موافقة لأغراضهم ومذاهبهم… ومنها تخرّصهم على الكلام في القرآن والسنة العربيين مع العُروِّ عن علم العربية الذي يفهم به عن الله ورسوله… ومنها انحرافهم عن الأصول الواضحة إلى اتباع المتشابهات التي للعقول فيها مواقف).
وضرب مثلاً لهذا الصنف من غير أمة الإسلام بالنصارى، ثم قال رحمه الله: (ومثاله في ملة الإسلام مذهب الظاهرية في إثبات الجوارح للرب ـ المنزه عن النقائص ـ من العين واليد والرجل والوجه المحسوسات والجهة وغير ذلك من الثابت للمحدثات) اهـ.
ومعنى كلامه ظاهر، أي أن المحظور هو حملها على المحسوسات، وهو اللازم من حملها على الظاهر والحقيقة، أما إثباتها مع تنزيه الله تعالى عن ظواهرها وحقائقها اللغوية المعروفة فهو حق، وهو مذهب جماهير سلف الأمة الصالح رضوان الله عليهم.
وقال أيضاً رحمه الله تعالى في تأويل حُبِّه تعالى وبغضه (الموافقات 2/116):
(والحب والبغض من الله تعالى إما أن يراد بهما نفس الإنعام والانتقام، فيرجعان إلى صفات الأفعال على رأي من قال بذلك، وإما أن يراد بهما إرادة الإنعام والانتقام، فيرجعان إلى صفات الذات، لأن نفس الحب والبغض المفهومين في كلام العرب حقيقة محالان على الله تعالى) اهـ.
وقال الإمام ابن الأثير رحمه الله تعالى (النهاية في غريب الحديث 5/300):
( ” الحجر يمين الله في الأرض ” هذا الكلام تمثيل وتخييل، وأصله أن الملك إذا صافح رجلاً قبّل الرجل يده، فكأن الحجر الأسود لله بمنزلة اليمين للملك، حيث يستلم ويلثم.
ومنه الحديث الآخر ” وكلتا يديه يمين ” أي أن يديه تبارك وتعالى بصفة الكمال، لانقص في واحدة منهما، لأن الشمال تنقص عن اليمين، وكل ما جاء في القرآن والحديث من إضافة اليد والأيدي واليمين وغير ذلك من أسماء الجوارح إلى الله تعالى فإنما هو على سبيل المجاز والاستعارة، والله منزه عن التشبيه والتجسيم ) اهـ.
وقال أيضاً عن حديث النزول (5/42): ( النزول والصعود والحركة والسكون من صفات الأجسام، والله يتعالى عن ذلك ويتقدس، والمراد به نزول الرحمة والألطاف الإلهية، وقربها من العباد، وتخصيصها بالليل والثلث الأخير منه لأنه وقت التهجد وغفلة الناس عمّن يتعرض لنفحات رحمة الله، وعند ذلك تكون النية خالصة، والرغبة إلى الله وافرة، وذلك مظنة القبول والإجابة ) اهـ.
وقال الإمام القرطبي – رحمه الله تعالى – (المُفهم 6 / 672) في شرح حديث “قلوب بنى آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن “:
(ظاهر الأصبع محال على الله تعالى قطعاً… وقد تأول بعض أئمتنا هذا الحديث فقال: هذا استعارة جارية مجرى قولهم: فلان في كفي وفي قبضتي. يراد به أنه متمكن من التصرف فيه والتصريف له كيف يشاء…) اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى (الفتح 1/189) مؤولاً للفظ الحياء المضاف إلى الله تعالى في الحديث: (قوله ” فاستحيا الله منه ” أي رحمه ولم يعاقبه، وقوله ” فأعرض الله عنه ” أي سخط عليه..)’اهـ.
وقال أيضاً (الفتح 1/419) مؤوّلاً للفظ اليد (والمراد باليد هنا القدرة) اهـ.
وقال قبل ذلك (هدي الساري ص/219): (ووقع ذكر اليد في القرآن والحديث مضافاً إلى الله تعالى، واتفق أهل السنة والجماعة على أنه ليس المراد باليد الجارحة التي هي من صفات المحدثات، وأثبتوا ما جاء من ذلك وآمنوا به، فمنهم من وقف ولم يتأوّل، ومنهم من حمل كلّ لفظ منها على المعنى الذي ظهر له، وهكذا عملوا في جميع ما جاء من أمثال ذلك) اهـ
فأنت ترى أن الأمر يسير، ولا يستدعي كلّ ما أثير حوله من تهويل، فليس في حمل الكلام على المعنى المجازي كبير خطر، ما دام ذلك ضمن ما يفهم من اللسان العربي عن قرب، وهذا الحافظ ابن حجر يقول: إن أهل السنة ـ بعد التنزيه عن الظاهر ـ ما بين مفوض ومؤول، ولا نكير من أحدهم على الآخر.
وللإمام الأُبّي – رحمه الله تعالى – كـلام يعتبر قـاعدة ذهبية في هذا الباب، قال رحمه الله (شرح مسلم 7 / 54):
(القاعدة التي يجب اعتبارها أن ما يستحيل نسبته للذات أو الصفات يستحيل أن يرد متواتراً في نص لا يحتمل التأويل، وغاية المتواتر أن يرد فيما دلالته على المحال دلالة ظاهرة، والظاهر يقبل التأويل، فإن ورد فيجب صرف اللفظ عن ظاهره المستحيل، ثم اختلف، فوقف أكثر السلف عن التأويل، وقالوا نؤمن به على ما هو عند الله سبحانه في نفس الأمر، ونَكِلُ علم ذلك إلى الله سبحانه، وقال قوم بل الأولى التأويل… وإن ورد خبر واحد نصاً في محال قطع بكذب راويه، وإن كان محتملاً للتأويل يتصرف فيه كما سبق) اهـ.
وهذا كلام محكم نفيس في عبارة موجزة شاملة.
وقوله رحمه الله (وإن ورد… قطع بكذب راويه) لأنه ظني عارض القطعي، وقد ثبت بالقطعي من دليل النقل والعقل أنه تعالى ليس كمثله شيء، فكل خبر يأتي على خلاف ذلك يقطع بكذب راويه، لأن أدلة الشرع تتعاضد ولا تتضاد.
ومن اطلع على كتب التراث الإسلامي لأئمة الإسلام وجد ما لا يدخل تحت الحصر من هذه النصوص التي اكتفينا هنا بذكر شذرة منها، مما يدفع العاقل الأريب إلى الإيقان بصحة هذا المنهج الذي اجتمعت عليه الأمة.
قال الشيخ الزرقاني في ” مناهل العرفان ” (2 / 286) ما نصه:
(علماؤنا أجزل الله مثوبتهم قد اتفقوا على ثلاثة أمور تتعلق بهذه المتشابهات، ثم اختلفوا فيما وراءها:
فأول: ما اتفقوا عليه صرفها عن ظواهرها المستحيلة، واعتقاد أن هذه الظواهر باطلة بالأدلة القاطعة وبما هو معروف عن الشارع نفسه في محكماته.
ثانيه: أنه إذا توقف الدفاع عن الإسلام على التأويل لهذه المتشابهات وجب تأويلها بما يدفع شبهات المشتبهين ويرد طعن الطاعنين.
ثالثه: إن المتشابه إن كان له تأويل واحد يفهم منه قريباً وجب القول به إجماعاً، وذلك كقوله تعالى ( وهو معكم أينما كنتم ) فإن الكينونة بالذات مع الخلق مستحيلة قطعاً، وليس لها بعد ذلك إلا تأويل واحد، هو الكينونة معهم بالإحاطة علماً وبصراً وقدرة وإرادة.
وأما اختلاف العلماء فيما وراء ذلك فقد وقع على ثلاثة مذاهب)’اهـ.
فعد مذهب التفويض ومذهب التأويل، ثم جعل للإمام ابن دقيق العيد مذهباً ثالثاً متوسطاً بين المذهبين لقوله (الفتح 13 / 395) (نقول في الصفات المشكلة إنها حق وصدق على المعنى الذي أراده الله، ومن تأولها نظرنا، فإن كان تأويله قريباً على مقتضى لسان العرب لم ننكر عليه، وإن كان بعيداً توقفنا عنه ورجعنا إلى التصديق مع التنزيه)، وهو في حقيقة الأمر داخل ضمن مذهب التأويل، لأنه ليس من أهل السنة أحد إلا وهو متفق معه على ما ذهب إليه من رفض التأويلات البعيدة التي ليست على مقتضى لسان العرب.
وقال الشيخ العلامة محمد الحامد – رحمه الله تعالى – (ردود على أباطيل 2/ 10):
(النصوص السمعية المحكمة أي الواضحة المعنى هي الأصل الذي يجب أن يحمل عليه المتشابه، أي الذي يسبق إلى الوهم معنى التشبيه منه ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنَّ أمُّ الكتاب وأخر متشابهات ، فأمّا الذين في قلوبهم زيغ فيتَّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله ، والراسخون في العلم يقولون آمنّا به كلٌّ من عند ربنا ، وما يتذكّر ألا أولوا الألباب ) أي آمنا به جميعاً محكمه ومتشابهه، لكن إيمانهم بالمتشابه لا ينقض إيمانهم بالمحكم الذي هو الأصل، فهم لا يشبهون الله بخلقه، بل يكلون العلم بمعنى المتشابه إلى الله عز وجل معتقدين أن له معنى شريفاً يليق به سبحانه، فلا هم بالمعطلين للنصوص ولا هم بالمشبهين، ومذهبهم وسط بين الطائفتين الشاذتين عن سبيل أهل الحق وهما المعطلة والمشبهة. وعلى هذا درج سلف الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم ولو ذهبت أسرد لك كلماتهم في هذا لطال بي القول وامتد الكلام، لكن لما ظهرت البدعة وتطلعت رؤوس أهل الزيغ وصاروا يشوشون على المسلمين عقائدهم، خشي علماء المسلمين على العقائد أن يلحقها لوث وفساد فاعتمدوا تأويل النصوص المتشابهة في إطار اللغة العربية وضمن سور الشريعة) اهـ.
وقوله رحمه الله (لكن إيمانهم بالمتشابه لا ينقض إيمانهم بالمحكم الذي هو الأصل) واضح في الرد على من حمل المتشابه على مقتضى الحس، فهؤلاء بدلاً من أن يحملوا المتشابه على المحكم ويرجعوه إليه، فعلوا العكس، فنقضوا بفعلهم هذا إيمانهم بالمحكم من مثل قوله تعالى ( ليس كمثله شئ وهو السميع البصير ) وقال الداعية الكبير سيد قطب رحمه الله تعالى (في ظلال القرآن، سورة الحديد):
(وكذلك العرش فنحن نؤمن به كما ذكره، لا نعلم حقيقته، أما الاستواء على العرش فنملك أن نقول إنه كناية عن الهيمنة على هذا الخلق، استناداً إلى ما نعلمه من القرآن عن يقين من أن الله سبحانه لا تتغير عليه الأحوال، فلا يكون في حالة عدم استواء على العرش ثم تتبعها حالة استواء، والقول بأننا نؤمن بالاستواء ولا ندرك كيفيته لا يفسرقوله تعالى ( ثم استوى ) ، والأولى أن نقول: إنه كناية عن الهيمنة كما ذكرنا، والتأويل هنا لا يخرج على المنهج الذي أشرنا إليه آنفاً، لأنه لا ينبع من مقررات وتصورات من عند أنفسنا) اهـ.
وبالجملة، فإن منهج سيد قطب رحمه الله تعالى في الظلال دائر بين التأويل الذي أخذ به أولاً قبل العودة على الظلال بالتنقيح، وبين التفويض الذي آل إليه رأيه أخيراً، وكلا الطريقين حق، بل إن طريق التفويض الذي كان عليه جمهور السلف الصالح أولى بالاتباع ما لم تدعُ حاجة إلى التأويل.
وهذا الذي آل إليه رأي سيد قطب رحمه الله تعالى هو من قبيل ما ينسب إلى بعض الأئمة مثل الإمام الجويني والرازي والغزالي وغيرهم، ففهم البعض منه أنهم هجروا منهج الإمام الأشعري، وقد ردَدْنا هذا الفهم وبيَّنّا بطلانه، كما بيَّنا أيضاً أن منهج الأشعري تفويض وتأويل، وأنهم تركوا التأويل ورجعوا إلى التفويض الذي كان عليه جمهور السلف، وذكرنا أنه ليس بين المسلكين تناقض، إذ كلاهما قائل بتنزيه الله تعالى عن سمات النقص والحدوث، وكلاهما مؤوّل، فالسلف أوّلوا إجمالاً، والخلف أوّلوا تفصيلاً.
وقال الشيخ عمر التلمساني رحمه الله تعالى (بعض ما علمني الإخوان ص/17) في قوله تعالـى ( والسموات مطويات بيمينه ) (إن هذه اليمين التي تشير إليها الآية الكريمة هي التمكن من طي السموات والأرض، أي القدرة التي تفعل ما تشاء كيفما تشاء عندما تشاء) اهـ.
وكذا قال سيد قطب عند هذه الآية (الظلال 5/3062):
(وكل ما ورد في القرآن والحديث من هذه الصور والمشاهد إنما هو تقريب للحقائق التي لا يملك البشر إدراكها بغير أن توضع لهم في تعبير يدركونه، وفي صورة يتصورونها، ومنه هذا التصوير لجانب من حقيقة القدرة المطلقة التي لا تتقيد بشكل ولا تتحيز في حيز ولا تتحدد بحدود) اهـ.
وقال الإمام الداعية حسن البنا رحمه الله (مجموعة رسائل الإمام ص 411):
(انقسم الناس في هذه المسألة على أربع فرق:
الأولى: أخذت بظواهرها كما هي فنسبت إلى الله وجهاً كوجوه الخلق ويداً أو أيدٍ كأيديهم وضحكاً كضحكهم… وهؤلاء هم المجسمة والمشبهة، وليسوا من الإسلام في شيء، وليس لقولهم نصيب من الصحة.
والثانية: عطلت معاني هذه على أي وجه، يقصدون بذلك نفي مدلولاتها عن الله تبارك وتعالى فالله تبارك وتعالى عندهم لا يتكلم ولا يسمع ولا يبصر… وهؤلاء هم المعطلة ويطلق عليهم بعض علماء تاريخ العقائد الإسلامية الجهمية… هذان رأيان باطلان لا حظ لهما من النظر.
وبقي أمامنا رأيان هما محل أنظار العلماء في العقائد وهما رأي السلف والخلف.
مذهب السلف: نؤمن بهذه الآيات والأحاديث كما وردت ونترك بيان المقصود منها لله تبارك وتعالى، فهم يثبتون اليد والعين والأعين والاستواء والضحك والتعجب… الخ، وكل ذلك بمعان لا ندركها، ونترك لله تبارك وتعالى الإحاطة بعلمها…
أما الخلف: فقد قالوا إننا نقطع بأن معاني ألفاظ هذه الآيات والأحاديث لا يراد بها ظواهرها، وعلى ذلك فهي مجازات لا مانع من تأويلها…) اهـ.
ثم قال رحمه الله تعالى (بين السلف والخلف: قد علمت أن مذهب السلف في الآيات والأحاديث التي تتعلق بصفات الله تبارك وتعالى أن يُمِرّوها على ما جاءت عليه ويسكتوا عن تفسيرها أو تأويلها، وأن مذهب الخلف أن يؤولوها بما يتفق مع تنزيه الله تبارك وتعالى عن مشابهة خلقه) اهـ.
ثم بين رحمه الله تعالى أن كلا المذهبين حق ولا يستلزم اختلافهم تكفيراً ولا تفسيقاً.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin