بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على اشرف الانبياء والمرسلين سيدّنا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
" ضَرَبَ اللهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وفَرْعُهَا في السَّمَاءِ" صدق الله العظيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للهِ الأحدي الذات، الفردي الصفات، الذي تقدس وجهه عن الجهات، وقدسه عن المحدثات، وقدمه عن الجهات، ويده عن الحركات، وعينه عن اللحظات، واستواؤه عن الاتصالات، وقدرته عن الهفوات، وإرادته عن الشهوات، الذي لا تعدد لصفاته بتعدد الموصوفات، ولا تختلف إرادته باختلاف المرادات، وكون بكلمة ( كن ) جميع الكائنات، وأوجد بها جميع الموجودات، فلا موجود إلا مستخرج من كنهها المكنون، ولا مكنون إلا مستخرج من سرِّها المصون، قال الله تعالى: " إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ".
وبعد: فإني نظرت إلى الكون وتكوينه، وإلى المكنون وتدوينه، فرأيت الكون كله شجرة، وأصل نَوْرِها من حبة ( كن )، قد لقحت كاف الكنتية بلقاح حبة " نحن خلقناكم "، فانعقد من ذلك البزر ثمرة " إنا كل شيء خلقناه بقدرٍ "، وظهر من هذا غصنان مختلفان أصلهما واحدٌ، وهو الإرادة، وفرعها القدرة، فظهر عن جوهر الكاف معنيان مختلفان كاف الكمالية " اليوم أكملت لكم دينكم "، وكاف الكفرية " فمنهم من آمن ومنهم من كفر " وظهر جوهر النون: نون النكرة ونون المعرفة، فلما أبرزهم من كن العدم على حكم مراد القدم رش عليهم من نوره، فأما من أصابه ذلك النور فحدق إلى تمثال " كنتم خير أمة "، واتضح له في شرح نونها " أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه ".
وأما من أخطأه ذلك النور فطولب بكشف المعنى المقصود من حرف (كن ) فإنه غلط في هجائه، وخاب في رجائه، فنظر إلى مثال (كن) فظن أنها كاف كفرية بنون نكرة، فكان من الكافرين، وكان حظ كل مخلوق من كلمة (كن ) ما علم من هجاء حروفها، وما شهد من سرائر خفائها، دليله قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم رش عليهم من نوره فمن أصابه ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ذلك النور ضل وغوى ".
فلما نظر آدم إلى دائرة الوجود فوجد كل موجود دائرا في دائرة الكون، واحد من نار وواحد من طين، ثم رأى هذه الدائرة على سرائر (كن)، فكيفما دار واستدار، وحيثما طار واستطار، فإليها يؤول، وعليها يجول، ولا يزول عنها ولا يحول.
فواحد شهد كاف الكمالية ونون المعرفة، وواحد شهد كاف الكفرية ونون النكرة، فهو على حكم ما شهد راجع إلى نقطة دائرة (كن ) وليس للمكوَّن أن يجاوز ما أراده المكوِّن.
فإذا نظرت إلى اختلاف أغصان شجرة الكون ونوع ثمارها علمت أن أصل ذلك ناشئ من حبة( كن ) بائن عنها، فلما أدخل آدم في مكتب التعليم، وعُلِّم الأسماء كلها، نظر إلى مثال ( كن )، ونظر إلى مراد المكوِّن من المكوَّن، فشهد المعلَّم من كاف ( كن ) كاف الكنزية " كنت كنزا مخفيا لا أُعرف فأحببت أن أُعرف "، فنظر من سر النون نون الأنانية " إنني أنا الله لا إله إلا أنا"... الآية، فلما صح الهجاءُ، وحقق الرجاءُ، استنبط له من كاف الكنزية كافَ التكريم " ولقد كرمنا بني آدم "، وكاف الكنتية " كنت له سمعا وبصرا ويدا "، واستخرج له من نون الأنانية نونَ النورية " وجعلنا له نورا "، واتصلت بها نونُ النعمة " وإن تعدُّوا نعمة الله لا تحصوها ".
وأما إبليس لعنه الله فإنه مكث في مكتب التعليم أربعين ألف عام يتصفح حروف ( كن )، وقد وكله المعلِّم إلى نفسه، وأحاله على حوله وقوته، فكان ينظر إلى تمثال ( كن ) ليشهد من تمثالها كافَ كفره، فكبر " فأبى واستكبر "، ويشهد من نونها نون ناريته " خلقتني من نار "، فاتصلت كاف كفريته بنون ناريته " فكبكبوا فيها ".
فلما نظر آدم إلى اختلاف هذه الشجرة، وتنوع أزهارها وثمارها، فتثبت بغصن " إني أنا الله "، فنودي: كل من ثمار التوحيد، واستظل بظل التفريد، " ولا تقربا "، فأراد إبليس أن يوصله بغصن " فوسوس لهما.. فأكلا منها"، فزلقا في مزالق " وعصى"، واستمسك بغصن " ربنا ظلمنا أنفسنا "، فتدلت عليه ثمار " فتلقى ".
فلما نودي يوم الإشهاد، على رؤوس الأشهاد، " ألست بربكم " فشهد كلٌّ على مقدار ما شهد وسمع، ثم اتفق الكل في الإيجاب، فقالوا: " بلى "، لكن الاختلاف وقع من حيث الإشهاد، فمن أشهده جمالية ذاته شهد أنه " ليس كمثله شيء "، ومن أشهده جمالية صفاته شهد أنه " لا إله إلا هو الملك القدوس "، ومن أشهده عرائس مخلوقاته اختلفت شهاداتهم لاختلاف المشهود، فقوم جعلوه محدودا، وقوم جعلوه معدوما، وقوم جعلوه حجرا جلمودا، والكل في ذلك على حكم " قل لن يصيبنا "، وهو مستبطن في سر كلمة ( كن )، دائر على نقطة دائرتها، ثابت على أصل حبتها.
فلما كانت هذه الحبة بزر شجرة الكون، وبزر ثمرتها، ومعنى صورتها، أحببتُ أن أجعل للمكوَّن مثالا، وللموجود تمثالا، ولما ينتج من الأقوال والأفعال والأحوال منوالا، فمثلت شجرة نبتت عن أصل حبة ( كن )، وكل ما يحدث في الكون من الحوادث كالنقص والزيادة، والغيب والشهادة، والكفر والإيمان، وما تثمر من الأعمال وزكاة الأحوال، وما يطهر من قربات المقربين، ومقامات المتقين، ومنازلات الصديقين، ومناجاة العارفين، ومشاهدات المحبين، كل ذلك من ثمرها الذي أثمرته، وطلعها الذي أطلعته.
فأول ما أنبتت هذه الشجرة التي هي حبة ( كن ) ثلاثةُ أغصان، أخذ غصن منها ذات اليمين، فهم أصحاب اليمين، وأخذ غصن منها ذات الشمال، ونبت غصن منها معتدل القامة على سبيل الاستقامة، فكان منه السابقون المقربون، فلما ثبت واستعلى جاء من فرعها الأعلى وجاء من فرعها الأدنى عالم الصورة والمعنى، فما كان من قشورها الظاهرة، وستورها البارزة، فهو عالم الملك، وما كان من قلوبها الباطنة، ولباب معانيها الخافية، فهو عالم الملكوت، وما كان من الماء الجاري في شريانات عروقها الذي حصل به نموها، وحياتها وسموها، وبه طلعت أزهارها، وأينعت ثمارها فهو عالم الجبروت الذي هو سر كلمة ( كن ).
ثم أحاط بالشجرة حائطٌ، وحُدَّ لها حدود، ورسم لها رسوم، فحدودها الجهات وهن: العلو والسفل واليمين والشمال ووراء وأمام، فما كان أعلى فهو حدها الأعلى، وما كان أسفل فهو حدها الأسفل.
وأما رسومها وما فيها من الأفلاك والأجرام، والأملاك والأحكام، والآثار والأعلام، فجعل السبع الطباق، بمنزلة ما يستظل به من الأوراق، وجعل الكواكب في الإشراق، بمنزلة الأزهار في الآفاق، وجعل الليل والنهار، بمنزلة رداءين مختلفين: أحدهما أسود يُرتدى به ليحتجب عن الأبصار، والآخر أبيض يُرتدى به ليتجلى على ذوات الاستبصار.
وجعل العرش بمنزلة بيت مال هذه الشجرة وخزانة سلاحها، فمنه يستمد ما فيه صلاحها، وفيه سُوَّاسُ هذه الشجرة وخدمها " وترى الملائكة حافِّين من حول العرش " إليه يتوجهون، وعليه يعوِّلون، وحوله يحومون، وبه يطوفون، وحيثما كانوا فإليه يشيرون.
فمتى حدث في هذه الشجرة حادثة، أو نزل بشيء منها نازلةٌ، رفعوا أيدي المسألة والتضرع إلى جهة عرشه، يطلبون الشفا، ويستعفون عن الخطا، لأن موجد هذه الشجرة لا جهة إليه يشار إليها، ولا أينية يقصدونها، ولا كيفية له يعرفونها، فلو لم يكن العرش جهةً يتوجهون إليه للقيام بخدمته، ولأداء طاعته، لضلوا في طلبهم، فهو سبحانه إنما أوجد العرش إظهارا لقدرته لا محلا لذاته، وأوجد الوجود لا لحاجة له به ، وإنما هو إظهار لأسمائه وصفاته، فإن من أسمائه الغفور، ومن صفاته المغفرة، ومن أسمائه الرحيم، ومن صفاته الرحمة، ومن أسمائه الكريم، ومن صفاته الكرم، فاختلفت أغصانُ هذه الشجرة، وتنوعت ثمارها ليظهر سر مغفرته للمذنب، ورحمته للمحسن، وفضله للطائع، وعدله للعاصي، ونعمته للمؤمن، ونقمته على الكافر.
فهو مقدس في وجوده عن ملامسة ما أوجده ومجانبته ومواصلته ومفاصلته، لأنه كان ولا كون، وهو الآن كما كان لا يتصل بكون، ولا ينفصل عن كون، لأن الوصل والفصل من صفات الحدوث لا من صفات القدم، لأن الاتصال والانفصال، يلزم منه الانتقال والارتحال، ويلزم من الانتقال والارتحال التحول والزوال والتغيير والاستبدال، وهذا كله من صفات النقص لا من صفات الكمال، فسبحانه سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا.
ثم جعل اللوح والقلم بمنزلة كتاب المُلك وما يسطر فيه من أحكامه، وما حكم بنقضه وإبرامه، وإيجاده وإعدامه، وما يخرج من بره وإنعامه، وما يكون من ثوابه وانتقامه.
ثم جعل سدرة المنتهى بمنزلة غصن من أغصان هذه الشجرة، يقوم تحتها مَنْ يقوم بخدمته وينفذ أحكامه، ويرفع إليه ما يحمل من ثمرة هذه الشجرة وما يدانيها، ثم يتلقى هناك من نسخة كتاب المُلك الذي هو اللوح المحفوظ.
وما يحدث في هذه الشجرة من محو وإثبات ونقص وزيادة فلا يتجاوز تلك الشجرة، إذ لكل واحد منهم حد مفهوم، وحظ مقسوم، ورسم مرسوم " وما منا إلا له مقام معلوم ".
ولا يرفع شيء من ثمرة هذه الشجرة من دني أو سنيٍّ، أو صغير أو كبير، أو جليل أو حقير، أو قليل أو كثير، إلا ختم عليه في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ثم يأمرهم المَلِكُ أن يدفعوا إلى إحدى خزانتيه اللتين ادخرهما لثمرة هذه الشجرة، وهما الجنة والنار، فما كان من ثمر طيب ففي خزانة الجنة " كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين "، وما كان من ثمر خبيث ففي خزانة النار " كلا إن كتاب الفجار لفي سجين "، فأما الجنة فدار أصحاب اليمين من جانب الطور الأيمن من الشجرة المباركة الطيبة، وأما النار فدار أصحاب الشمال من الشجرة الملعونة في القرآن.
ثم جعل الدنيا مستودع زهرتها، والآخرة مستقر ثمرتها، وأحاط على هذه الشجرة حائط إحاطة القدرة " والله بكل شيء محيط "، وأدار عليها دائرة الإرادة " يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ".
فلما ثبت أصل هذه الشجرة وثبت فرعها، التقى طرفاها، ولحق أخراها بأولاها " إلى ربك منتهاها " إلى مبتداها، لأن من كان أوله ( كن ) كان آخره ( يكون )، فهي وإن تعددت فروعها، وتنوعت زروعها، فأصلها واحد، فهي حبة كلمة ( كن )، وسيكون آخرها واحدا وهي كلمة ( كن ).
فلو أحدقت ببصر بصيرتك لرأيت أغصان شجرة طوبى معلقةً بأغصان شجرة الزقوم، وبرد نسيم القرب يمازج حر السموم، وظل سماء الوصل متصلا بظل من يحموم، وقد تناول كل حظه المقسوم، فواحد يشرب بكأسه المختوم، وواحد يشرب بكأسه المحتوم، وواحد من بينهم محروم.
فلما برزت أطفال الوجود من حضرة العدم هبت عليهم نسمات القدرة، وغذتها لطائف الحكمة، وأمطرتها سحائب الإرادة بعجائب الصنع، فأنبت كل غصن منها ما سبق له في القدم، ورُكِّب في عنصره من الصحة والسقم، والكون كله من عنصرين مستخرجين من جزءين من كلمة ( كن )، وهما: الظلمة والنور، فالخير كله من النور، والشر كله من الظلمة، فملأ الملائكة موجود من عنصر النور، فكان منهم الخير " لا يعصون الله ما أمرهم "، وملأ الشياطين من عنصر الظلمة، فكان منهم الشر.
وأما آدم وبنوه فإنهم جعلت طينتهم من الظلمة والنور، وركب عنصره من الخير والشر، والنفع والضر، وجعلت ذاته قابلةً للنكرة والمعرفة، فأي جوهر غلب عليه نسب إليه، فإن علا جوهر نوره على جوهر الظلمة، وظهرت روحانيته على جسمانيته، فقد فضل على المَلَك، وعلا على الفَلَكِ، وإن غلب جوهر ظلمته على جوهر نوره، وظهرت جسمانيته على روحانيته، فقد فضل على الشيطان.
فلما قبض الله آدم من قبضة تراب ( كن ) مسح على ظهره " حتى يميز الخبيث من الطيب "، فاستخرج من ظهره مَنْ كان من أصحاب اليمين، فأخذوا ذات اليمين، واستخرج من ظهره مَنْ كان من أصحاب الشمال، فأخذوا ذات الشمال، وما زاغ أحد عن المراد وما مال، ومن قال: لِمَ؟ فقد أخطأ في السؤال.
فأول من عمل حوالي هذه الشجرة إلى أصل حبة ( كن ) فاعتصر صفوة عنصرها، ومَخَضَهَا حتى بدت زُبْدَتُهَا، ثم صفاها بمصفاة الصفوة حتى زال وَخَمُهَا، ثم ألقى عليها من نور هدايته حتى ظهر جوهرها، ثم غمسها في بحر الرحمة حتى عمت بركتها، ثم خلق منها نور نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم زين بنور الملأ الأعلى حتى أضاء وعلا، ثم جعل ذلك النور أصلا لكل نور، فهو أولهم في المسطور، وآخرهم في الظهور، وقائدهم في النشور، ومُبَشَّرُهُمْ بالسرور، ومتَوَّجُهُمْ بالحبور، فهو مستودع في ديوان الإنس، مستقر في رياض الأنس، وحضرة الأنس، ستر معنى روحانيته بستر جسمانيته، وغطى عالم شهوده بعالم وجوده، فهو مستخْرَجٌ في الكون، مستنبَطٌ لأجله الكون.
وذلك أن الله تعالى كون الأكوان اقتدارا عليها لا افتقارا إليها، وكمال حكمته في التكوين، لإظهار شرف الماء والطين، فإنه أوجد ما أوجد ولم يقل في شيء من ذلك: " إني جاعل في الأرض خليفةً "، وكان وجود الآدمي، فكانت حكمته في وجود الآدمي لإظهار شرف النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه حكمة الأجساد لاستخراج كاف الكنزية " كنت كنزا مخفيا لا أعرف "، فكان المقصود في الوجود معرفة موجدهم سبحانه، وكان المخصوص بأتم المعارف قلب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، لأم معارف الكل كانت تصديقا وإيمانا، ومعرفته صلى الله عليه وسلم مشاهدة وعيانا، وبنور معرفته صلى الله عليه وسلم تعرفوا، وبفضله عليهم اعترفوا، فاستخرجه من لباب حبة ( كن ) " كزرع أخرج شطأه فآزره " بصحابته " فاستغلظ " بقرابته " فاستوى على سوقه " بصحة ذوقه، وقوة توقه وشوقه.
فلما ظهر هذا الغصن المحمدي وسما، أورق عوده ونما، وانهل عليه سحاب القبول وهمى، وتباشر بظهوره الحدثان، وبشر بوجوده الثقلان، وتعطرت بقدومه الأكوان، وانتكست بمولده الأوثان، ونسخت بمبعثه الأديان، ونزل بتصديقه القرآن، واهتزت طربا شجرة الأكوان، وتحرك ما فيها من الألوان والعيدان، وكان من أغصان هذه الشجرة من أخذ ذات الشمال، ومال يهوى الضلال، فلما أرسلت رياح الإرسال، برسالة " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، استنشقها من سبقت لهم منا الحسنى، فمال إليها متعطفا، وأما من كان مزكوما، أو خلع القبول محروما، فإنه عصفت به عواصف القدرة فأصبح بعد نضارته يابسا، ووجه سعادته عابسا، وراح من رجاء فلاحه قانطا آيسا.
وكان سر هذا الغصن لقاح شجرة الجود، ودرة صدفة الوجود، وكان من روح روحانيته روح " يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا *وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا "، فهو مصباح ظلمة الكون، وروح جسد الوجود، لأن الله تعالى لما خاطب السموات والأرض وقال لهما: " ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين "، فأجابه موضع الكعبة من الأرض ومن السماء ما يحاذيه، فكانت تربة بقعة الكعبة، وكان محل الإيمان من الأرض.
فلما أمر الله بالقبضة التي قبضت من الأرض لخلق آدم عليه السلام، فقبضت من سائر الأرض، من طيبها وخبيثها، فكانت طينة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مخلوقة من موضع الكعبة التي هي محل الإيمان بالله تعالى، ثم عجنت تلك الطينة بطينة آدم عليه السلام، فكانت تلك الطينة بمنزلة الخميرة، ولولا ذلك لما أطاقوا الإجابة يوم الإشهاد، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " كنت نبيا وآدم بين الماء والطين ".
فكانت ذوات الوجود وبركته من ذرة وجوده، فلما أشهدهم على أنفسهم في حضرة شهوده قال: " ألست بربكم قالوا بلى "، فسرت في أجزاء ذراتهم تلك الخميرة النبوية، فانطلقت بإذن الله تعالى ألسنتهم بالتلبية قائلة، فمن كانت طينته قابلة للتخمير، بما سبق في التقدير، بقي معه ذلك التخمير، باقيا فيه مستصحبا، حتى ظهر إلى الحس، وظهر في تلك الصورة، فبرز ذلك المعنى، محققا لتلك الدعوى، فأشرق نور ذلك المعنى الروحاني، على ما يحاذيه من الجسد الجسماني، فأشرق الجسد بعد ظلمته، فاستنارت الجوارح لرشدها فعملت بالطاعة.
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على اشرف الانبياء والمرسلين سيدّنا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
" ضَرَبَ اللهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وفَرْعُهَا في السَّمَاءِ" صدق الله العظيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للهِ الأحدي الذات، الفردي الصفات، الذي تقدس وجهه عن الجهات، وقدسه عن المحدثات، وقدمه عن الجهات، ويده عن الحركات، وعينه عن اللحظات، واستواؤه عن الاتصالات، وقدرته عن الهفوات، وإرادته عن الشهوات، الذي لا تعدد لصفاته بتعدد الموصوفات، ولا تختلف إرادته باختلاف المرادات، وكون بكلمة ( كن ) جميع الكائنات، وأوجد بها جميع الموجودات، فلا موجود إلا مستخرج من كنهها المكنون، ولا مكنون إلا مستخرج من سرِّها المصون، قال الله تعالى: " إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ".
وبعد: فإني نظرت إلى الكون وتكوينه، وإلى المكنون وتدوينه، فرأيت الكون كله شجرة، وأصل نَوْرِها من حبة ( كن )، قد لقحت كاف الكنتية بلقاح حبة " نحن خلقناكم "، فانعقد من ذلك البزر ثمرة " إنا كل شيء خلقناه بقدرٍ "، وظهر من هذا غصنان مختلفان أصلهما واحدٌ، وهو الإرادة، وفرعها القدرة، فظهر عن جوهر الكاف معنيان مختلفان كاف الكمالية " اليوم أكملت لكم دينكم "، وكاف الكفرية " فمنهم من آمن ومنهم من كفر " وظهر جوهر النون: نون النكرة ونون المعرفة، فلما أبرزهم من كن العدم على حكم مراد القدم رش عليهم من نوره، فأما من أصابه ذلك النور فحدق إلى تمثال " كنتم خير أمة "، واتضح له في شرح نونها " أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه ".
وأما من أخطأه ذلك النور فطولب بكشف المعنى المقصود من حرف (كن ) فإنه غلط في هجائه، وخاب في رجائه، فنظر إلى مثال (كن) فظن أنها كاف كفرية بنون نكرة، فكان من الكافرين، وكان حظ كل مخلوق من كلمة (كن ) ما علم من هجاء حروفها، وما شهد من سرائر خفائها، دليله قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم رش عليهم من نوره فمن أصابه ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ذلك النور ضل وغوى ".
فلما نظر آدم إلى دائرة الوجود فوجد كل موجود دائرا في دائرة الكون، واحد من نار وواحد من طين، ثم رأى هذه الدائرة على سرائر (كن)، فكيفما دار واستدار، وحيثما طار واستطار، فإليها يؤول، وعليها يجول، ولا يزول عنها ولا يحول.
فواحد شهد كاف الكمالية ونون المعرفة، وواحد شهد كاف الكفرية ونون النكرة، فهو على حكم ما شهد راجع إلى نقطة دائرة (كن ) وليس للمكوَّن أن يجاوز ما أراده المكوِّن.
فإذا نظرت إلى اختلاف أغصان شجرة الكون ونوع ثمارها علمت أن أصل ذلك ناشئ من حبة( كن ) بائن عنها، فلما أدخل آدم في مكتب التعليم، وعُلِّم الأسماء كلها، نظر إلى مثال ( كن )، ونظر إلى مراد المكوِّن من المكوَّن، فشهد المعلَّم من كاف ( كن ) كاف الكنزية " كنت كنزا مخفيا لا أُعرف فأحببت أن أُعرف "، فنظر من سر النون نون الأنانية " إنني أنا الله لا إله إلا أنا"... الآية، فلما صح الهجاءُ، وحقق الرجاءُ، استنبط له من كاف الكنزية كافَ التكريم " ولقد كرمنا بني آدم "، وكاف الكنتية " كنت له سمعا وبصرا ويدا "، واستخرج له من نون الأنانية نونَ النورية " وجعلنا له نورا "، واتصلت بها نونُ النعمة " وإن تعدُّوا نعمة الله لا تحصوها ".
وأما إبليس لعنه الله فإنه مكث في مكتب التعليم أربعين ألف عام يتصفح حروف ( كن )، وقد وكله المعلِّم إلى نفسه، وأحاله على حوله وقوته، فكان ينظر إلى تمثال ( كن ) ليشهد من تمثالها كافَ كفره، فكبر " فأبى واستكبر "، ويشهد من نونها نون ناريته " خلقتني من نار "، فاتصلت كاف كفريته بنون ناريته " فكبكبوا فيها ".
فلما نظر آدم إلى اختلاف هذه الشجرة، وتنوع أزهارها وثمارها، فتثبت بغصن " إني أنا الله "، فنودي: كل من ثمار التوحيد، واستظل بظل التفريد، " ولا تقربا "، فأراد إبليس أن يوصله بغصن " فوسوس لهما.. فأكلا منها"، فزلقا في مزالق " وعصى"، واستمسك بغصن " ربنا ظلمنا أنفسنا "، فتدلت عليه ثمار " فتلقى ".
فلما نودي يوم الإشهاد، على رؤوس الأشهاد، " ألست بربكم " فشهد كلٌّ على مقدار ما شهد وسمع، ثم اتفق الكل في الإيجاب، فقالوا: " بلى "، لكن الاختلاف وقع من حيث الإشهاد، فمن أشهده جمالية ذاته شهد أنه " ليس كمثله شيء "، ومن أشهده جمالية صفاته شهد أنه " لا إله إلا هو الملك القدوس "، ومن أشهده عرائس مخلوقاته اختلفت شهاداتهم لاختلاف المشهود، فقوم جعلوه محدودا، وقوم جعلوه معدوما، وقوم جعلوه حجرا جلمودا، والكل في ذلك على حكم " قل لن يصيبنا "، وهو مستبطن في سر كلمة ( كن )، دائر على نقطة دائرتها، ثابت على أصل حبتها.
فلما كانت هذه الحبة بزر شجرة الكون، وبزر ثمرتها، ومعنى صورتها، أحببتُ أن أجعل للمكوَّن مثالا، وللموجود تمثالا، ولما ينتج من الأقوال والأفعال والأحوال منوالا، فمثلت شجرة نبتت عن أصل حبة ( كن )، وكل ما يحدث في الكون من الحوادث كالنقص والزيادة، والغيب والشهادة، والكفر والإيمان، وما تثمر من الأعمال وزكاة الأحوال، وما يطهر من قربات المقربين، ومقامات المتقين، ومنازلات الصديقين، ومناجاة العارفين، ومشاهدات المحبين، كل ذلك من ثمرها الذي أثمرته، وطلعها الذي أطلعته.
فأول ما أنبتت هذه الشجرة التي هي حبة ( كن ) ثلاثةُ أغصان، أخذ غصن منها ذات اليمين، فهم أصحاب اليمين، وأخذ غصن منها ذات الشمال، ونبت غصن منها معتدل القامة على سبيل الاستقامة، فكان منه السابقون المقربون، فلما ثبت واستعلى جاء من فرعها الأعلى وجاء من فرعها الأدنى عالم الصورة والمعنى، فما كان من قشورها الظاهرة، وستورها البارزة، فهو عالم الملك، وما كان من قلوبها الباطنة، ولباب معانيها الخافية، فهو عالم الملكوت، وما كان من الماء الجاري في شريانات عروقها الذي حصل به نموها، وحياتها وسموها، وبه طلعت أزهارها، وأينعت ثمارها فهو عالم الجبروت الذي هو سر كلمة ( كن ).
ثم أحاط بالشجرة حائطٌ، وحُدَّ لها حدود، ورسم لها رسوم، فحدودها الجهات وهن: العلو والسفل واليمين والشمال ووراء وأمام، فما كان أعلى فهو حدها الأعلى، وما كان أسفل فهو حدها الأسفل.
وأما رسومها وما فيها من الأفلاك والأجرام، والأملاك والأحكام، والآثار والأعلام، فجعل السبع الطباق، بمنزلة ما يستظل به من الأوراق، وجعل الكواكب في الإشراق، بمنزلة الأزهار في الآفاق، وجعل الليل والنهار، بمنزلة رداءين مختلفين: أحدهما أسود يُرتدى به ليحتجب عن الأبصار، والآخر أبيض يُرتدى به ليتجلى على ذوات الاستبصار.
وجعل العرش بمنزلة بيت مال هذه الشجرة وخزانة سلاحها، فمنه يستمد ما فيه صلاحها، وفيه سُوَّاسُ هذه الشجرة وخدمها " وترى الملائكة حافِّين من حول العرش " إليه يتوجهون، وعليه يعوِّلون، وحوله يحومون، وبه يطوفون، وحيثما كانوا فإليه يشيرون.
فمتى حدث في هذه الشجرة حادثة، أو نزل بشيء منها نازلةٌ، رفعوا أيدي المسألة والتضرع إلى جهة عرشه، يطلبون الشفا، ويستعفون عن الخطا، لأن موجد هذه الشجرة لا جهة إليه يشار إليها، ولا أينية يقصدونها، ولا كيفية له يعرفونها، فلو لم يكن العرش جهةً يتوجهون إليه للقيام بخدمته، ولأداء طاعته، لضلوا في طلبهم، فهو سبحانه إنما أوجد العرش إظهارا لقدرته لا محلا لذاته، وأوجد الوجود لا لحاجة له به ، وإنما هو إظهار لأسمائه وصفاته، فإن من أسمائه الغفور، ومن صفاته المغفرة، ومن أسمائه الرحيم، ومن صفاته الرحمة، ومن أسمائه الكريم، ومن صفاته الكرم، فاختلفت أغصانُ هذه الشجرة، وتنوعت ثمارها ليظهر سر مغفرته للمذنب، ورحمته للمحسن، وفضله للطائع، وعدله للعاصي، ونعمته للمؤمن، ونقمته على الكافر.
فهو مقدس في وجوده عن ملامسة ما أوجده ومجانبته ومواصلته ومفاصلته، لأنه كان ولا كون، وهو الآن كما كان لا يتصل بكون، ولا ينفصل عن كون، لأن الوصل والفصل من صفات الحدوث لا من صفات القدم، لأن الاتصال والانفصال، يلزم منه الانتقال والارتحال، ويلزم من الانتقال والارتحال التحول والزوال والتغيير والاستبدال، وهذا كله من صفات النقص لا من صفات الكمال، فسبحانه سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا.
ثم جعل اللوح والقلم بمنزلة كتاب المُلك وما يسطر فيه من أحكامه، وما حكم بنقضه وإبرامه، وإيجاده وإعدامه، وما يخرج من بره وإنعامه، وما يكون من ثوابه وانتقامه.
ثم جعل سدرة المنتهى بمنزلة غصن من أغصان هذه الشجرة، يقوم تحتها مَنْ يقوم بخدمته وينفذ أحكامه، ويرفع إليه ما يحمل من ثمرة هذه الشجرة وما يدانيها، ثم يتلقى هناك من نسخة كتاب المُلك الذي هو اللوح المحفوظ.
وما يحدث في هذه الشجرة من محو وإثبات ونقص وزيادة فلا يتجاوز تلك الشجرة، إذ لكل واحد منهم حد مفهوم، وحظ مقسوم، ورسم مرسوم " وما منا إلا له مقام معلوم ".
ولا يرفع شيء من ثمرة هذه الشجرة من دني أو سنيٍّ، أو صغير أو كبير، أو جليل أو حقير، أو قليل أو كثير، إلا ختم عليه في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ثم يأمرهم المَلِكُ أن يدفعوا إلى إحدى خزانتيه اللتين ادخرهما لثمرة هذه الشجرة، وهما الجنة والنار، فما كان من ثمر طيب ففي خزانة الجنة " كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين "، وما كان من ثمر خبيث ففي خزانة النار " كلا إن كتاب الفجار لفي سجين "، فأما الجنة فدار أصحاب اليمين من جانب الطور الأيمن من الشجرة المباركة الطيبة، وأما النار فدار أصحاب الشمال من الشجرة الملعونة في القرآن.
ثم جعل الدنيا مستودع زهرتها، والآخرة مستقر ثمرتها، وأحاط على هذه الشجرة حائط إحاطة القدرة " والله بكل شيء محيط "، وأدار عليها دائرة الإرادة " يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ".
فلما ثبت أصل هذه الشجرة وثبت فرعها، التقى طرفاها، ولحق أخراها بأولاها " إلى ربك منتهاها " إلى مبتداها، لأن من كان أوله ( كن ) كان آخره ( يكون )، فهي وإن تعددت فروعها، وتنوعت زروعها، فأصلها واحد، فهي حبة كلمة ( كن )، وسيكون آخرها واحدا وهي كلمة ( كن ).
فلو أحدقت ببصر بصيرتك لرأيت أغصان شجرة طوبى معلقةً بأغصان شجرة الزقوم، وبرد نسيم القرب يمازج حر السموم، وظل سماء الوصل متصلا بظل من يحموم، وقد تناول كل حظه المقسوم، فواحد يشرب بكأسه المختوم، وواحد يشرب بكأسه المحتوم، وواحد من بينهم محروم.
فلما برزت أطفال الوجود من حضرة العدم هبت عليهم نسمات القدرة، وغذتها لطائف الحكمة، وأمطرتها سحائب الإرادة بعجائب الصنع، فأنبت كل غصن منها ما سبق له في القدم، ورُكِّب في عنصره من الصحة والسقم، والكون كله من عنصرين مستخرجين من جزءين من كلمة ( كن )، وهما: الظلمة والنور، فالخير كله من النور، والشر كله من الظلمة، فملأ الملائكة موجود من عنصر النور، فكان منهم الخير " لا يعصون الله ما أمرهم "، وملأ الشياطين من عنصر الظلمة، فكان منهم الشر.
وأما آدم وبنوه فإنهم جعلت طينتهم من الظلمة والنور، وركب عنصره من الخير والشر، والنفع والضر، وجعلت ذاته قابلةً للنكرة والمعرفة، فأي جوهر غلب عليه نسب إليه، فإن علا جوهر نوره على جوهر الظلمة، وظهرت روحانيته على جسمانيته، فقد فضل على المَلَك، وعلا على الفَلَكِ، وإن غلب جوهر ظلمته على جوهر نوره، وظهرت جسمانيته على روحانيته، فقد فضل على الشيطان.
فلما قبض الله آدم من قبضة تراب ( كن ) مسح على ظهره " حتى يميز الخبيث من الطيب "، فاستخرج من ظهره مَنْ كان من أصحاب اليمين، فأخذوا ذات اليمين، واستخرج من ظهره مَنْ كان من أصحاب الشمال، فأخذوا ذات الشمال، وما زاغ أحد عن المراد وما مال، ومن قال: لِمَ؟ فقد أخطأ في السؤال.
فأول من عمل حوالي هذه الشجرة إلى أصل حبة ( كن ) فاعتصر صفوة عنصرها، ومَخَضَهَا حتى بدت زُبْدَتُهَا، ثم صفاها بمصفاة الصفوة حتى زال وَخَمُهَا، ثم ألقى عليها من نور هدايته حتى ظهر جوهرها، ثم غمسها في بحر الرحمة حتى عمت بركتها، ثم خلق منها نور نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم زين بنور الملأ الأعلى حتى أضاء وعلا، ثم جعل ذلك النور أصلا لكل نور، فهو أولهم في المسطور، وآخرهم في الظهور، وقائدهم في النشور، ومُبَشَّرُهُمْ بالسرور، ومتَوَّجُهُمْ بالحبور، فهو مستودع في ديوان الإنس، مستقر في رياض الأنس، وحضرة الأنس، ستر معنى روحانيته بستر جسمانيته، وغطى عالم شهوده بعالم وجوده، فهو مستخْرَجٌ في الكون، مستنبَطٌ لأجله الكون.
وذلك أن الله تعالى كون الأكوان اقتدارا عليها لا افتقارا إليها، وكمال حكمته في التكوين، لإظهار شرف الماء والطين، فإنه أوجد ما أوجد ولم يقل في شيء من ذلك: " إني جاعل في الأرض خليفةً "، وكان وجود الآدمي، فكانت حكمته في وجود الآدمي لإظهار شرف النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه حكمة الأجساد لاستخراج كاف الكنزية " كنت كنزا مخفيا لا أعرف "، فكان المقصود في الوجود معرفة موجدهم سبحانه، وكان المخصوص بأتم المعارف قلب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، لأم معارف الكل كانت تصديقا وإيمانا، ومعرفته صلى الله عليه وسلم مشاهدة وعيانا، وبنور معرفته صلى الله عليه وسلم تعرفوا، وبفضله عليهم اعترفوا، فاستخرجه من لباب حبة ( كن ) " كزرع أخرج شطأه فآزره " بصحابته " فاستغلظ " بقرابته " فاستوى على سوقه " بصحة ذوقه، وقوة توقه وشوقه.
فلما ظهر هذا الغصن المحمدي وسما، أورق عوده ونما، وانهل عليه سحاب القبول وهمى، وتباشر بظهوره الحدثان، وبشر بوجوده الثقلان، وتعطرت بقدومه الأكوان، وانتكست بمولده الأوثان، ونسخت بمبعثه الأديان، ونزل بتصديقه القرآن، واهتزت طربا شجرة الأكوان، وتحرك ما فيها من الألوان والعيدان، وكان من أغصان هذه الشجرة من أخذ ذات الشمال، ومال يهوى الضلال، فلما أرسلت رياح الإرسال، برسالة " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، استنشقها من سبقت لهم منا الحسنى، فمال إليها متعطفا، وأما من كان مزكوما، أو خلع القبول محروما، فإنه عصفت به عواصف القدرة فأصبح بعد نضارته يابسا، ووجه سعادته عابسا، وراح من رجاء فلاحه قانطا آيسا.
وكان سر هذا الغصن لقاح شجرة الجود، ودرة صدفة الوجود، وكان من روح روحانيته روح " يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا *وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا "، فهو مصباح ظلمة الكون، وروح جسد الوجود، لأن الله تعالى لما خاطب السموات والأرض وقال لهما: " ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين "، فأجابه موضع الكعبة من الأرض ومن السماء ما يحاذيه، فكانت تربة بقعة الكعبة، وكان محل الإيمان من الأرض.
فلما أمر الله بالقبضة التي قبضت من الأرض لخلق آدم عليه السلام، فقبضت من سائر الأرض، من طيبها وخبيثها، فكانت طينة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مخلوقة من موضع الكعبة التي هي محل الإيمان بالله تعالى، ثم عجنت تلك الطينة بطينة آدم عليه السلام، فكانت تلك الطينة بمنزلة الخميرة، ولولا ذلك لما أطاقوا الإجابة يوم الإشهاد، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " كنت نبيا وآدم بين الماء والطين ".
فكانت ذوات الوجود وبركته من ذرة وجوده، فلما أشهدهم على أنفسهم في حضرة شهوده قال: " ألست بربكم قالوا بلى "، فسرت في أجزاء ذراتهم تلك الخميرة النبوية، فانطلقت بإذن الله تعالى ألسنتهم بالتلبية قائلة، فمن كانت طينته قابلة للتخمير، بما سبق في التقدير، بقي معه ذلك التخمير، باقيا فيه مستصحبا، حتى ظهر إلى الحس، وظهر في تلك الصورة، فبرز ذلك المعنى، محققا لتلك الدعوى، فأشرق نور ذلك المعنى الروحاني، على ما يحاذيه من الجسد الجسماني، فأشرق الجسد بعد ظلمته، فاستنارت الجوارح لرشدها فعملت بالطاعة.
أمس في 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin