حلية الابدال لسيدي محي الدين ابن عربي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله على ما الهم وان علمنا ما لم نكن نعلم وكان فضل الله علينا عظيما وصلى الله على السيد الاعظم والنبي الأكرم المعطي جوامع الكلم بالموقف الاعظم وسلم تسليما.
وبعد فاني استخرت الله تعالى ليلة الاثنين الثاني والعشرين من جمادي الاولى سنة تسع وتسعين وخمسماية بمنزل الماية بالطائف في زيارتنا عبدالله ابن العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان سبب استخارتي سؤال صاحبي ابي محمد بدر عبدالله الحبشي عتيق ابي الغنائم بن ابي الفتوح الحراني وابي عبدالله محمد بن خالد الصدفي التلمساني وفقهما الله ان اقيد لهما في هذه الايام ايام الزيارة ما ينتفعون به في طريق الآخرة فاستخرت الله في ذلك وقيدت لهما هذه الكراسة التي وسمتها حلية الابدال وما يظهر عنها من المعارف والاحوال تكون لهما ولغيرهما عونا على طريق السعادة وبابا جامعا لفنون الارادة ومن موجد الكون نسأل التأييد والعون.
فصل
اعلم ان الحكم نتيجة الحكمة والعلم نتيجة المعرفة فمن لا حكمة له لا معرفة له فالحاكم العالم لله قائم والحكيم العارف بالله واقف فالحاكمون العالمون لاميون والحكماء العارفون نائبون لما شغف الزاهد بترك دنياه والمتوكل بتسليم كلية امره الى مولاه والمريد بالسماع والوجد والعابد بالعبادة والجهد والحكيم العارف بالهمة والقصد غاب عن العالمون الحاكمون في الغيب فلا يعرفهم عارف ولا مريد ولا عابد ولا شهدهم متوكل ولا زاهد فترك الزهد للعوض وتوكل المتوكل لنيل الغرض وتواجد لتنفيس الكرب واجتهد رغبة في القرب وقصد العارف الحكيم بهمته الوصول وانما يتجلى الحق لمن انمحى رسمه وزال عنه اسمه فالمعرفة حجاب على المعروف والحكمة باب يكون عنده الوقوف وما بقى من الاوصاف فاسباب الحروف وهذه كلها علل تعمي الابصار وتطمس الانوار فلولا وجود الكون لظهر العين ولولا الاسماء لبرز المسمى ولولا المحبة لاستمر الوصل ولولا الحظوظ لملكت المراتب ولولا الهوية الانية ولولا هو لكان هو ولولا انت لبدا رسم الجهل فئما ولولا الفهم لقوي سلطان العلم فاذا تلاشت هذه الظلم وطارت بمرهفات الفنا هذه البهم.
تجلى لقلبك من لم يزل=به قاطنا في غيوب الازل
وما حجب العين عن دركها=سواك ولكن بضرب المثل
تبين للقلب ان الذي=رآه به داعيا لم يزل
وجاء خطاب يعم الكلام=ويبدي سناه رسول المحل
فصل
كان لنا بمرشانة الزيتون ببلاد الاندلس صاحب من الصالحين يعلم القرآن فقيها جيدا حافظا ذا ورع وفضل وخدمة للفقراء اسمه عبد المجيد بن سلمة اخبرني وفقه الله قال بينما انا ليلة في مصلاي قد اكملت حزبي وجعلت رأسي بين ركبتي اذكر الله اذ تحسست بشخص قد نفض مصلاي من تحتي وبسط عوضا عنه حصير خصف وقال صل عليه وباب بيتي علي مغلق فداخلني منه جزع فقال لي من تأنس بالله لم يجزع ثم قال لي اتق الله في كل حال ثم اني الهمت فقلت ياسيدي بماذا تصير الابدال ابدالا قال بالاربعة التي ذكرها ابوطالب في القوت الصمت والعزلة والجوع والسهر ثم انصرف عني ولا اعرف كيف دخل ولا كيف خرج غير ان بابي علي حاله مغلق والحصير الذي اعطانيه تحتي وهذا الرجل هو من الأبدال واسمه معاذ بن اسوش رضي الله عنه فهذه الاربعة التي ذكرها هي عماد هذه الطريق الاسنى وقوائمه ومن لاقدم له فيها ولا رسوخ فهو تائه عن طريق الله تعالى وغرضنا في هذه الكراسة الكلام في الفصول الاربعة وسنفرد لكل واحد منها فصلا ونذكر ما تعطيه من المعاني والاحوال جعلنا الله واياكم ممن تحقق بها وداوم عليها انه على ذلك قدير.
فصل
في الصمت
الصمت على قسمين صمت باللسان عن الحديث بغير الله تعالى مع غير الله جملة واحدة وصمت بالقلب عن خاطر يخطر له في النفس في كون الاكوان البتة فمن صمت لسانه ولم يصمت قلبه خف وزره ومن صمت لسانه وفلبه طهر سره وتجلى له ربه ومن صمت قلبه ولم يصمت لسانه فهو ناطق بلسان الحكمة ومن لم يصمت بلسانه ولا بقلبه كان مملكة للشيطان ومسخرة له فصمت اللسان من صفات منازل العامة وارباب السلوك وصمت القلب من صفات المقربين اهل المشاهدات وحال صمت السالكين السلامة من الآفات وحال صمت المقربين مخاطبات التأنيس فمن التزم الصمت في جميع الاحوال كلها لم يبق له حديث الا مع ربه فان الصمت على الانسان محال في نفسه فاذا انتقل من الحديث مع الاغيار الى الحديث مع ربه كان نجيا مقربا مؤيدا في نطقه اذا نطق نطق بالصواب لانه ينطق عن الله قال تعال في حق نبيهعليس الصلاة والسلام (وما ينطق عن الهوى) فالنطق بالصواب نتيجة الصمت عن الخطاء والكلام مع غير الله خطأ بكل حال ولغير الله سوء من كل الوجوه قال تعالى ( لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ) بكمال شروطها وقال تعالى(وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) ولحال الصمت مقام الوحي عن ضروبه والصمت يورث معرفة الله تعالى.
فصل
في العزلة
والعزلة سبب لصمت اللسان فمن اعتزل الناس فلم يجد من يحادثه اداه ذلك الى الصمت باللسان
والعزلة على قسمين عزلة المريدين وهي بالاجسام وعزلة المحققين وهي بالقلوب عن الاكوان فليست قلوبهم محلا لشيء سوى العلم بالله تعالى الذي هو شاهد الحق فيها الحاصل من المشاهدة وللمعتزلين نيات ثلاثة نية اتقاء شر الناس ونية اتقاء شر المعتدي الى الغير وهو ارفع من الاول فان في الاول سوء الظن بالناس وفي الثاني سوء الظن بنفسه وسوء الظن بنفسك اولى لانك بنفسك اعرف ونية ابقاء صحبة المولى من جانب الملاء الاعلى فأعلى الناس من اعتزل بنفسه ايثارا لصحبة ربه فمن آثر العزلة على المخالطة فقد آثر ربه على غيره ومن آثر ربه لم يعرف احد ما يعطيه الله تعالى من المواهب والاسرار ولا تقع العزلة ابدا في القلب الا من وحشة تطرأ على القلب من المعتزل عنه وانس المعتزل اليه وهو الذي يشوقه الى العزلة وكانت العزلة تغني عن شرط الصمت فان الصمت لازم لها فهذا صمت اللسان واما صمت القلب فلا تعطيه العزلة فقد يتحدث الواحد في نفسه بغير الله تعالى مع غير الله تعالى فلهذا جعلنا الصمت ركنا من الاركان في الطريق قائما بنفسه فمن لازم العزلة وقف على سر الوحدانية الالهية وهذا ينتج له من المعارف والاسرار اسرار الاحدية التي هي الصفة وحال العزلة التنزيه عن الاوصاف سالكا كان المعتزل محققا وارفع احوال العزلة الخلوة فان الخلوة عزلة في العزلة فنتيجتها اقوى من نتيجة العزلة العامة فينبغي للمعتزل ان يكون صاحب يقين مع الله تعالى حتى لا يكون له خاطر متعلق خارجا عن بيت عزلته فان حرم اليقين فليستعد لعزلته قوته زمان عزلته زمان عزلته حتى يتقوى يقينه بما يتجلى له في عزلته لا بد من ذلك هذه شرط محكم من شروط العزلة والعزلة تورث معرفة لدنية.
فصل
في الجوع
الجوع هو الركن الثالث من اركان هذا الطريق الالهي وهو يتضمن الركن الرابع الذي هو السهر كالعزلة تتضمن الجوع ةالصمت والجوع جوع اختياري وهو جوع السالكين وجوع اضطراري وهو جوع المحققين فان المحقق لا يجوع نفسه ولكن يقلل اكله ان كان في مقام الانس فان كان في مقام الهيبة كثر اكله فكثرة الاكل للمحققين دليل على صحة سطوات انوار الحقيقة على قلوبهم بحال العظمة في مشهودهم وقلة الاكل لهم دليل على صحة المحادثة بحال الموانسة من مشهودهم وكثرة الاكل للسالكين دليل على بعدهم عن الله تعالى وطردهم عن بابه واستيلاء النفس الشهوانية البهيمية بسلطانها عليهم وقلة الاكل لهم دليل على نفحات الجود الالهي على قلوبهم فيشغلهم ذلك عن تدبير جسومهم والجوع بكل حال ووجه سبب داع للسالك والمحقق الى نيل عظيم الاحوال للسالكين والاسرار للمحققين ما لم يفرط بصحو من الجائع فانه اذا افرط ادى الى الهوس وذهاب العقل وفساد المزاج فلا سبيل للسالك ان يجوع الجوع المطلوب لنيل الاحوال الا عن امر شيخ واما وحده فلا سبيل له لكن يتعين على السالك اذا كان وحده التقليل من الطعام واستدامة الصيام ولزوم اكلة واحدة في الليل والنهار وان يغب بالادم الدسم فلا يتأدم في الجمعة سوى مرتين ان اراد ان ينتفع يجد شيخا فاذا وجده سلم امره اليه وشيخه يدبر امره وحاله اذ الشيخ اعرف بمصاله منه وللجوع حال ومقام فحاله الخشوع والخضوع والمسكنة والذلة والافتقار وعدم الفضول وسكون الجوارح وعدم الخواطر الردية هذا الجوع للسالكين واما حاله في المحققين فالرقة والصفاء والمؤانسة وذهاب الكون والتنزه عن اوصاف البشرية بالقوة الالهية والسلطان الرباني ومقامه المقام الصمداني وهو مقام عال له اسرار وتجليات واحوال فهذه فائدة الجوع المصاحب للهمة لا جوع العامة فان جوع العامة جوع صلاح مزاج وتنعيم البدن بالصحة لا غير والجوع يورث معرفة الشيطان عصمنا الله واياكم منه.
فصل
في السهر
والسهر نتيجة الجوع فإن المعدة اذا لم يكن فيها طعام ذهب النوم والسهر سهران سهر القلب وسهر العين فسهر القلب انتباهه من نومات الغفلات طلبا للمشاهدات وسهر العين رغبة في بقاء الهمة في القلب لطالب المسامرة فإن العين اذا نامت بطل عمل القلب فان كان القلب غير نائم مع نوم العين فغايته مشاهدة سره المتقدم لا غير واما ان يلحظ غير ذلك فلا ففائدة السهر استمرار عمل القلب وارتقاء المنازل العلية المخزونة عند الله تعالى وحال السهر تعميمه الوقت خاصة للسالك والمحقق غير ان المحقق في حالة زيادة تخلق رباني لا يعرفه السالك واما مقامه فمقام القيومية وربما بعض اصحابنا منع ان يتححق احد بالقيومية وبعضهم منع التخلق بها
لقيت ابا عبدالله بن الجنيدي يمنع من ذلك واما نحن فلا نقول بذلك فقد اعطتنا الحقائق ان الانسان الكامل لا يبقى له في الحضرة الالهية اسم الا هو حامل له ومن توقف من اصحابنا في مثل هذه المسألة فلعدم معرفة بما هو الانسان عليه في حقيقته ونشأته فلو عرف نفسه ما عسر عليه مثل هذا والسهر يورث معرفة النفس (وتمت اركان المعرفة واذا المعرفة)تدور على تحصيل الاربعة المعارف معرفة الله والنفس والدنيا والشيطان فاذا اعتزل الانسان عن الخلق وعن نفسه وصمت عن ذكره بذكر ربه اياه واعرض عن الغذاء الجسماني وسهر عند نوم النائمين واجتمعت فيه هذه الخصال الاربعة بدلت بشريته ملكا وعبوديته سيادة وعقله حسا وغيبه شهادة وباطنه ظاهرا واذا رحل عن موضع ترك بدله فيه حقيقة روحانية تجتمع اليها ارواح ذلك الموطن الذي رحل عنه هذا الولي فان ظهر شوق من اناس ذلك الموطن شديد لهذا الشخص تجسدت تلك الحقيقة الروحانية التي تركها بدله فكلمها وكلمته وهو يتخيل انه مطلوبه وهو غائب عنه حتى يقضي حاجته منه وقد تتجسد هذه الروحانية اذا كان من صاحبها شوق او تعلق همة بذلك الموطن وقديكون هذا من غير البدل والفرق بينهما ان البدل يرحل ويعلم انه ترك بدله وغيره لا يعرف ذلك وان تركه لانه لم يحكم هذه الأربعة الاركان التي ذكرناها وفي ذلك قلت:
يامن يروم منازل الابدال=من غير قصد منه للاعمال
لا تطمعن بها فلست من اهلها=ان لم تزاحمهم على الاحوال
واصمت بقلبك واعتزل كل ما=يدنيك من غير الحبيب الوالي
واذاسهرت وجعت نلت مقامهم=وصحبتهم في الحال والترحال
بيت الولاية قسمت اركانه=ساداتنا فيه من الابدال
ما بين صمت وعتزال دائم=والجوع والسهر النزيه العالي
والله نسأل ان يوفقنا واياكم لاستعمال هذه الاركان
وينزلنا واياكم منازل الاحسان انه الولي المنان.
اللهم صلي وسلم وبارك على سيدنا محمدوعلى أله وصحبه صلاة اهل السموات ولارضين عليه اجري يارب لطفك الخفي في أموري والمسلمين.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله على ما الهم وان علمنا ما لم نكن نعلم وكان فضل الله علينا عظيما وصلى الله على السيد الاعظم والنبي الأكرم المعطي جوامع الكلم بالموقف الاعظم وسلم تسليما.
وبعد فاني استخرت الله تعالى ليلة الاثنين الثاني والعشرين من جمادي الاولى سنة تسع وتسعين وخمسماية بمنزل الماية بالطائف في زيارتنا عبدالله ابن العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان سبب استخارتي سؤال صاحبي ابي محمد بدر عبدالله الحبشي عتيق ابي الغنائم بن ابي الفتوح الحراني وابي عبدالله محمد بن خالد الصدفي التلمساني وفقهما الله ان اقيد لهما في هذه الايام ايام الزيارة ما ينتفعون به في طريق الآخرة فاستخرت الله في ذلك وقيدت لهما هذه الكراسة التي وسمتها حلية الابدال وما يظهر عنها من المعارف والاحوال تكون لهما ولغيرهما عونا على طريق السعادة وبابا جامعا لفنون الارادة ومن موجد الكون نسأل التأييد والعون.
فصل
اعلم ان الحكم نتيجة الحكمة والعلم نتيجة المعرفة فمن لا حكمة له لا معرفة له فالحاكم العالم لله قائم والحكيم العارف بالله واقف فالحاكمون العالمون لاميون والحكماء العارفون نائبون لما شغف الزاهد بترك دنياه والمتوكل بتسليم كلية امره الى مولاه والمريد بالسماع والوجد والعابد بالعبادة والجهد والحكيم العارف بالهمة والقصد غاب عن العالمون الحاكمون في الغيب فلا يعرفهم عارف ولا مريد ولا عابد ولا شهدهم متوكل ولا زاهد فترك الزهد للعوض وتوكل المتوكل لنيل الغرض وتواجد لتنفيس الكرب واجتهد رغبة في القرب وقصد العارف الحكيم بهمته الوصول وانما يتجلى الحق لمن انمحى رسمه وزال عنه اسمه فالمعرفة حجاب على المعروف والحكمة باب يكون عنده الوقوف وما بقى من الاوصاف فاسباب الحروف وهذه كلها علل تعمي الابصار وتطمس الانوار فلولا وجود الكون لظهر العين ولولا الاسماء لبرز المسمى ولولا المحبة لاستمر الوصل ولولا الحظوظ لملكت المراتب ولولا الهوية الانية ولولا هو لكان هو ولولا انت لبدا رسم الجهل فئما ولولا الفهم لقوي سلطان العلم فاذا تلاشت هذه الظلم وطارت بمرهفات الفنا هذه البهم.
تجلى لقلبك من لم يزل=به قاطنا في غيوب الازل
وما حجب العين عن دركها=سواك ولكن بضرب المثل
تبين للقلب ان الذي=رآه به داعيا لم يزل
وجاء خطاب يعم الكلام=ويبدي سناه رسول المحل
فصل
كان لنا بمرشانة الزيتون ببلاد الاندلس صاحب من الصالحين يعلم القرآن فقيها جيدا حافظا ذا ورع وفضل وخدمة للفقراء اسمه عبد المجيد بن سلمة اخبرني وفقه الله قال بينما انا ليلة في مصلاي قد اكملت حزبي وجعلت رأسي بين ركبتي اذكر الله اذ تحسست بشخص قد نفض مصلاي من تحتي وبسط عوضا عنه حصير خصف وقال صل عليه وباب بيتي علي مغلق فداخلني منه جزع فقال لي من تأنس بالله لم يجزع ثم قال لي اتق الله في كل حال ثم اني الهمت فقلت ياسيدي بماذا تصير الابدال ابدالا قال بالاربعة التي ذكرها ابوطالب في القوت الصمت والعزلة والجوع والسهر ثم انصرف عني ولا اعرف كيف دخل ولا كيف خرج غير ان بابي علي حاله مغلق والحصير الذي اعطانيه تحتي وهذا الرجل هو من الأبدال واسمه معاذ بن اسوش رضي الله عنه فهذه الاربعة التي ذكرها هي عماد هذه الطريق الاسنى وقوائمه ومن لاقدم له فيها ولا رسوخ فهو تائه عن طريق الله تعالى وغرضنا في هذه الكراسة الكلام في الفصول الاربعة وسنفرد لكل واحد منها فصلا ونذكر ما تعطيه من المعاني والاحوال جعلنا الله واياكم ممن تحقق بها وداوم عليها انه على ذلك قدير.
فصل
في الصمت
الصمت على قسمين صمت باللسان عن الحديث بغير الله تعالى مع غير الله جملة واحدة وصمت بالقلب عن خاطر يخطر له في النفس في كون الاكوان البتة فمن صمت لسانه ولم يصمت قلبه خف وزره ومن صمت لسانه وفلبه طهر سره وتجلى له ربه ومن صمت قلبه ولم يصمت لسانه فهو ناطق بلسان الحكمة ومن لم يصمت بلسانه ولا بقلبه كان مملكة للشيطان ومسخرة له فصمت اللسان من صفات منازل العامة وارباب السلوك وصمت القلب من صفات المقربين اهل المشاهدات وحال صمت السالكين السلامة من الآفات وحال صمت المقربين مخاطبات التأنيس فمن التزم الصمت في جميع الاحوال كلها لم يبق له حديث الا مع ربه فان الصمت على الانسان محال في نفسه فاذا انتقل من الحديث مع الاغيار الى الحديث مع ربه كان نجيا مقربا مؤيدا في نطقه اذا نطق نطق بالصواب لانه ينطق عن الله قال تعال في حق نبيهعليس الصلاة والسلام (وما ينطق عن الهوى) فالنطق بالصواب نتيجة الصمت عن الخطاء والكلام مع غير الله خطأ بكل حال ولغير الله سوء من كل الوجوه قال تعالى ( لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ) بكمال شروطها وقال تعالى(وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) ولحال الصمت مقام الوحي عن ضروبه والصمت يورث معرفة الله تعالى.
فصل
في العزلة
والعزلة سبب لصمت اللسان فمن اعتزل الناس فلم يجد من يحادثه اداه ذلك الى الصمت باللسان
والعزلة على قسمين عزلة المريدين وهي بالاجسام وعزلة المحققين وهي بالقلوب عن الاكوان فليست قلوبهم محلا لشيء سوى العلم بالله تعالى الذي هو شاهد الحق فيها الحاصل من المشاهدة وللمعتزلين نيات ثلاثة نية اتقاء شر الناس ونية اتقاء شر المعتدي الى الغير وهو ارفع من الاول فان في الاول سوء الظن بالناس وفي الثاني سوء الظن بنفسه وسوء الظن بنفسك اولى لانك بنفسك اعرف ونية ابقاء صحبة المولى من جانب الملاء الاعلى فأعلى الناس من اعتزل بنفسه ايثارا لصحبة ربه فمن آثر العزلة على المخالطة فقد آثر ربه على غيره ومن آثر ربه لم يعرف احد ما يعطيه الله تعالى من المواهب والاسرار ولا تقع العزلة ابدا في القلب الا من وحشة تطرأ على القلب من المعتزل عنه وانس المعتزل اليه وهو الذي يشوقه الى العزلة وكانت العزلة تغني عن شرط الصمت فان الصمت لازم لها فهذا صمت اللسان واما صمت القلب فلا تعطيه العزلة فقد يتحدث الواحد في نفسه بغير الله تعالى مع غير الله تعالى فلهذا جعلنا الصمت ركنا من الاركان في الطريق قائما بنفسه فمن لازم العزلة وقف على سر الوحدانية الالهية وهذا ينتج له من المعارف والاسرار اسرار الاحدية التي هي الصفة وحال العزلة التنزيه عن الاوصاف سالكا كان المعتزل محققا وارفع احوال العزلة الخلوة فان الخلوة عزلة في العزلة فنتيجتها اقوى من نتيجة العزلة العامة فينبغي للمعتزل ان يكون صاحب يقين مع الله تعالى حتى لا يكون له خاطر متعلق خارجا عن بيت عزلته فان حرم اليقين فليستعد لعزلته قوته زمان عزلته زمان عزلته حتى يتقوى يقينه بما يتجلى له في عزلته لا بد من ذلك هذه شرط محكم من شروط العزلة والعزلة تورث معرفة لدنية.
فصل
في الجوع
الجوع هو الركن الثالث من اركان هذا الطريق الالهي وهو يتضمن الركن الرابع الذي هو السهر كالعزلة تتضمن الجوع ةالصمت والجوع جوع اختياري وهو جوع السالكين وجوع اضطراري وهو جوع المحققين فان المحقق لا يجوع نفسه ولكن يقلل اكله ان كان في مقام الانس فان كان في مقام الهيبة كثر اكله فكثرة الاكل للمحققين دليل على صحة سطوات انوار الحقيقة على قلوبهم بحال العظمة في مشهودهم وقلة الاكل لهم دليل على صحة المحادثة بحال الموانسة من مشهودهم وكثرة الاكل للسالكين دليل على بعدهم عن الله تعالى وطردهم عن بابه واستيلاء النفس الشهوانية البهيمية بسلطانها عليهم وقلة الاكل لهم دليل على نفحات الجود الالهي على قلوبهم فيشغلهم ذلك عن تدبير جسومهم والجوع بكل حال ووجه سبب داع للسالك والمحقق الى نيل عظيم الاحوال للسالكين والاسرار للمحققين ما لم يفرط بصحو من الجائع فانه اذا افرط ادى الى الهوس وذهاب العقل وفساد المزاج فلا سبيل للسالك ان يجوع الجوع المطلوب لنيل الاحوال الا عن امر شيخ واما وحده فلا سبيل له لكن يتعين على السالك اذا كان وحده التقليل من الطعام واستدامة الصيام ولزوم اكلة واحدة في الليل والنهار وان يغب بالادم الدسم فلا يتأدم في الجمعة سوى مرتين ان اراد ان ينتفع يجد شيخا فاذا وجده سلم امره اليه وشيخه يدبر امره وحاله اذ الشيخ اعرف بمصاله منه وللجوع حال ومقام فحاله الخشوع والخضوع والمسكنة والذلة والافتقار وعدم الفضول وسكون الجوارح وعدم الخواطر الردية هذا الجوع للسالكين واما حاله في المحققين فالرقة والصفاء والمؤانسة وذهاب الكون والتنزه عن اوصاف البشرية بالقوة الالهية والسلطان الرباني ومقامه المقام الصمداني وهو مقام عال له اسرار وتجليات واحوال فهذه فائدة الجوع المصاحب للهمة لا جوع العامة فان جوع العامة جوع صلاح مزاج وتنعيم البدن بالصحة لا غير والجوع يورث معرفة الشيطان عصمنا الله واياكم منه.
فصل
في السهر
والسهر نتيجة الجوع فإن المعدة اذا لم يكن فيها طعام ذهب النوم والسهر سهران سهر القلب وسهر العين فسهر القلب انتباهه من نومات الغفلات طلبا للمشاهدات وسهر العين رغبة في بقاء الهمة في القلب لطالب المسامرة فإن العين اذا نامت بطل عمل القلب فان كان القلب غير نائم مع نوم العين فغايته مشاهدة سره المتقدم لا غير واما ان يلحظ غير ذلك فلا ففائدة السهر استمرار عمل القلب وارتقاء المنازل العلية المخزونة عند الله تعالى وحال السهر تعميمه الوقت خاصة للسالك والمحقق غير ان المحقق في حالة زيادة تخلق رباني لا يعرفه السالك واما مقامه فمقام القيومية وربما بعض اصحابنا منع ان يتححق احد بالقيومية وبعضهم منع التخلق بها
لقيت ابا عبدالله بن الجنيدي يمنع من ذلك واما نحن فلا نقول بذلك فقد اعطتنا الحقائق ان الانسان الكامل لا يبقى له في الحضرة الالهية اسم الا هو حامل له ومن توقف من اصحابنا في مثل هذه المسألة فلعدم معرفة بما هو الانسان عليه في حقيقته ونشأته فلو عرف نفسه ما عسر عليه مثل هذا والسهر يورث معرفة النفس (وتمت اركان المعرفة واذا المعرفة)تدور على تحصيل الاربعة المعارف معرفة الله والنفس والدنيا والشيطان فاذا اعتزل الانسان عن الخلق وعن نفسه وصمت عن ذكره بذكر ربه اياه واعرض عن الغذاء الجسماني وسهر عند نوم النائمين واجتمعت فيه هذه الخصال الاربعة بدلت بشريته ملكا وعبوديته سيادة وعقله حسا وغيبه شهادة وباطنه ظاهرا واذا رحل عن موضع ترك بدله فيه حقيقة روحانية تجتمع اليها ارواح ذلك الموطن الذي رحل عنه هذا الولي فان ظهر شوق من اناس ذلك الموطن شديد لهذا الشخص تجسدت تلك الحقيقة الروحانية التي تركها بدله فكلمها وكلمته وهو يتخيل انه مطلوبه وهو غائب عنه حتى يقضي حاجته منه وقد تتجسد هذه الروحانية اذا كان من صاحبها شوق او تعلق همة بذلك الموطن وقديكون هذا من غير البدل والفرق بينهما ان البدل يرحل ويعلم انه ترك بدله وغيره لا يعرف ذلك وان تركه لانه لم يحكم هذه الأربعة الاركان التي ذكرناها وفي ذلك قلت:
يامن يروم منازل الابدال=من غير قصد منه للاعمال
لا تطمعن بها فلست من اهلها=ان لم تزاحمهم على الاحوال
واصمت بقلبك واعتزل كل ما=يدنيك من غير الحبيب الوالي
واذاسهرت وجعت نلت مقامهم=وصحبتهم في الحال والترحال
بيت الولاية قسمت اركانه=ساداتنا فيه من الابدال
ما بين صمت وعتزال دائم=والجوع والسهر النزيه العالي
والله نسأل ان يوفقنا واياكم لاستعمال هذه الاركان
وينزلنا واياكم منازل الاحسان انه الولي المنان.
اللهم صلي وسلم وبارك على سيدنا محمدوعلى أله وصحبه صلاة اهل السموات ولارضين عليه اجري يارب لطفك الخفي في أموري والمسلمين.
25/11/2024, 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
25/11/2024, 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
25/11/2024, 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
25/11/2024, 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
25/11/2024, 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
25/11/2024, 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin