تعريف علم التصوف
تعددت الأقوال وكثرت في تعريف التصوف، ولكن جميع هذه الأقوال تنصب في مفهومٍ واحدٍ، وتخرج من مشكاةٍ واحدةٍ، وما تعدد الأقوال في هذا العلم إلا دلالة على حقيقته الراقية، ويتبين من خلالها أنه علم جليل القدر، ولو لم يكن كذلك لما تفنن العلماء في تعريفاته، فهو أكثر العلوم في معانيه، إذ كل الأقوال تستخرج اشتقاقاتها من أوصافٍ حسنةٍ، وهذا ينطبق على المعنى اللغوي أو الاصطلاحي أو العرفي، لأن جميع من تناول التصوف بالتعريف ذكروا له أوصاف جليلة وراقية، مما يدل على علو شأن هذا العلم ورفعته.
أما سبب اختلافهم في وصفه فقد جاء من اختلاف رؤيتهم لهذا العلم العظيم، فكل من وصفه قد وصف جهة معرفته به، وتذوقه له، كما لو أن قوماً اجتمعوا حول جبل شاهق وعظيم، وأرادوا وصفه، فكل واحدٍ منهم سيصفه من جهته التي يرى ويلمس ويدرك، وقد تختلف الأوصاف بشكلٍ ما، ولكنها جميعاً تؤكد وصفاً لشيءٍ عظيمٍ وكبيرٍ، وقد ذكر الحافظ أبو نعيم الأصفهاني في حلية الأولياء تعريفاً للتصوف في كل ترجمة من تراجم كتابه تقريباً، وقد احتوى كتابه أكثر من ألفي ترجمة.
قال الشيخ السهروردي رحمه الله تعالى: أقوال المشايخ في ماهية التصوف تزيد على ألف قول([1]).
ويقول الشيخ أحمد زروق في قواعده: وقد حُدَّ التصوف ورُسِمَ وفُسِرَ بوجوه تبلغ نحو الألفين مرجعها كلها صدق التوجه إلى الله وإنما هي وجوه فيه([2]). ولو سردنا تعاريف التصوف لاحتجنا لكتاب كامل، ولكن اكتفينا بذكر أهم التعريفات له ومن خلالها سيتجلى لنا معنى التصوف واليك هذه التعريفات:
عرفه الأمام الجنيد البغدادي فقال: التصوف استعمال كل خلق سني، وترك كل خلق دني ([3]).وعرفه فقال: التصوف: ذكرٌ مع اجتماع، ووجدٌ مع استماع، وعملٌ مع إتباع.
وعرفه الشيخ معروف الكرخي فقال: التصوف الأخذ بالحقائق واليأس مما في أيدي الخلائق ([4]).
وعرفه الإمام الغزالي فقال: التصوف: هو تجريد القلب لله تعالى واحتقار ما سواه، أي تخليص القلب لله تعالى، واعتقاد ما سواه اعتقاداً لا يضر ولا ينفع، فلا يعوِّل إلا على الله، فالمراد باحتقار ما سواه اعتقاد انه لا يضر ولا ينفع، وليس المراد الازدراء والتنقيص ([5]).
وعرفه سيدي الشيخ عبد القادر الجيلاني فقال: التصوف : الصدق مع الحق، وحسن الخلق مع الخلق ([6]).
وعرفه الشيخ محيي الدين بن عربي فقال: التصوف: هو الوقف مع الآداب الشرعية ظاهراً وباطناً.
ونقل عنه تعريفاً آخر: التصوف: خلق فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في التصوف ([7]).
ونقل عنه تعريفاً آخر: الوقوف مع الآداب الشرعية ظاهراً وباطناً، وهي مكارم الأخلاق، وهو أن تعامل كل شيء بما يليق به مما تحمده بك ([8]).
وعرفه الإمام أبو الحسن الشاذلي فقال: التصوف: تدريب النفس على العبودية، وردها لأحكام الربوبية ([9]).
وعرفه الإمام الشبلي فقال: التصوف الجلوس مع الله بلا هم([10]).
وعرفه الإمام الداراني فقال: التصوف أن تجري على الصوفي أعمال لا يعلمها إلا الحق وان يكون دائما مع الحق على حال لا يعلمها إلا هو ([11]).
وعرفه شيخ الإسلام زكريا الأنصاري فقال: التصوف علم يعرف به أحوال تزكية النفوس، وتصفية الأخلاق، وتعمير الظاهر والباطن، لنيل السعادة الأبدية([12]).
وعرفه الإمام الكتاني فقال: التصوف خلق فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في التصوف ([13]).
وعرفه الشيخ أحمد بن زروق فقال: التصوف علم قصد لإصلاح القلوب وإفرادها لله تعالى عما سواه، والفقه لإصلاح العمل، وحفظ النظام وظهور الحكمة بالأحكام والأصول وعلم التوحيد لتحقيق المقدمات بالبراهين، وتحلية الإيمان بالإيقان، كالطب لحفظ الأبدان، وكالنحو لإصلاح اللسان إلى غير ذلك([14]).
وعرفه ابن عجيبة فقال: التصوف هو علم يعرف به كيفية السلوك إلى حضرة ملك الملوك , وتصفية البواطن من الرذائل وتحليتها بأنواع الفضائل وأوله علم وأوسطه عمل وآخره موهبة ([15]).
وعرفه سمنون فقال: التصوف أن لا تملك شيئا ولا يملكك شي ([16]).
وعرفه عمرو بن عثمان المكي فقال: التصوف أن يكون العبد في كل وقت بما هو أولى به في الوقت ([17]).
وعرفه أبو عمر بن الجنيد فقال: التصوف الصبر تحت الأمر والنهي ([18]).
وعرفه ابن خلدون في مقدمته فقال: العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى والإعراض عن زخرف الدنيا والزهد فيما يقبل علية الجمهور من لذة ومال وجاه والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة.
وقالوا في تعريفات الصوفي:
يقول سيدي الشيخ عبد القادر الجيلاني: الصوفي: فهو في الأصل صوفي على وزن فوعل، مأخوذة من المصافاه، يعني عبد صافاه الحق عز وجل، ولهذا قيل: الصوفي من كان صافياً من آفات النفس، خالياً من مذموماتها، سالكاً لحميد مذاهبه، ملازماً للحقائق، غير ساكن بقلبه إلى أحدٍ من الخلائق([19]).
قال سيدي الإمام الرفاعي الكبير: الصوفي من صفى سره من كدورات الأكوان، وما رأى لنفسه على غيره مزية ([20]). وقال في حكمه: الصوفي: لا يسلك غير طريق الرسول المكرم صلى الله عليهِ وآله وسلم فلا يجعل حركاته وسكناته إلا مبنية عليه.
وقال الإمام أبو علي الروذباري: الصوفي: هو من لبس الصوف على الصفاء وأطعمه الهوى ذوق الجفاء وكانت الدنيا منه على القفا وسلك منهاج المصطفى صلى الله عليهِ وآله وسلم([21]).
وقال سيدي الإمام السهروردي: الصوفي هو الذي يكون دائم التصفية ولا يزال يصفي الأوقات من شوب الأكدار بتصفية القلب عن شوب النفس ويعينه على كل هذا دوام افتقاره إلى مولاه فبدوام الافتقار ينقي الكدر وكلما تحركت النفس وظهرت بصفة من صفاتها أدركها ببصيرته النافذة وفر منها لربه فهو قائم بربه على قلبه وقائم بقلبه على نفسه قال الله تعالى ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ﴾ وهذه القوامية لله على النفس هي التحقق بالتصوف ([22]).
وقال الإمام سهل بن عبد الله التستري: الصوفي: من صفا من الكدر وامتلأ من الفكر وانقطع إلى الله من البشر واستوى عنده الذهب والمدر ([23]).
وقال ذو النون المصري: رأيت امرأة ببعض سواحل الشام فقلت لها: من أين أقبلت رحمك الله ؟ قالت: من عند قوم تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً، قلت: وأين تريدين؟ قالت إلى رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله قلت : صفيهم لي فأنشأت تقول:
قوم همومهم بالله قد علقت
فما لهم همم تسموا إلى أحد
فمطلب القوم مولاهم وسيدهم
يا حسن مطلبهم للواحد الصمد
ما إن تنازعهم دنيا ولا شرف
من المطاعم واللذات والولد
ولا للبس ثياب فائق أنقٍ
ولا لروح سرور حل في بلد
إلا مسارعة في إثر منزلة
قد قارب الخطو فيها باعد الأبد([24]).
ويؤثر أن ذو النون المصري سئل عن الصوفي فقال: الصوفي إذا نطق أبان منطقه عن الحقائق وإذا سكت نطقت عنه الجوارح بقطع العلائق أي أن الصوفي بين حالتين إما أن يتكلم أو يلزم الصمت فأن تكلم لم يقل إلا حقا وإن سكت عن الكلام نطقت جوارحه فهو مشغول بالله في الحالتين حالة نطقه وحالة سكونه
وقال السرَّاج: إذا قيل لك : الصوفية من هم في الحقيقة؟ صفهم لنا فقل: هم العلماء بالله وبأحكام الله، العاملون بما علمهم الله تعالى، المتحققون بما استعملهم الله عز وجل([25]).
وقيل الصوفية: أوفر الناس حظاً في الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلَّم لى الله عليه وسلم وأحقهم بإحياء سنته، والتخلق بأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلَّم لى الله عليه وسلم من حسن الاقتداء به وإحياء سنته([26]).
والخلاصة:
بعد أن بينا كل هذه التعريفات للتصوف والصوفي يتجلى بوضوح أن التصوف علم جليل القدر، عظيم الشأن، نابع من مشكاة النبوة وتعاليمها، فهو تارة يأتي بمعنى الزهد، وتارة بمعنى الأخلاق، وتارة بمعنى الصفاء، وتارة بمعنى المجاهدة، وتارة بمعنى الاستقامة، وتارة بمعنى التسليم، وتارة بمعنى الإخلاص، وتارة بمعنى ترك التكلف، وكل هذا يدور حول معنى واحد وهو تزكية النفس وجعلها كما يريد الحق عز وجل، وهذا هو التصوف الصحيح.
نقلا عن كتاب الدرر الجلية
في أصول الطريقة القادرية العلية
للشيخ مخلف العلي القادري
أمس في 17:10 من طرف Admin
» كتاب: الحب في الله ـ محمد غازي الجمل
أمس في 17:04 من طرف Admin
» كتاب "قطائف اللطائف من جواهر المعارف" - الجزء الأول ـ إعداد: غازي الجمل
أمس في 16:59 من طرف Admin
» كتاب "قطائف اللطائف من جواهر المعارف" - الجزء الثاني ـ إعداد: غازي الجمل
أمس في 16:57 من طرف Admin
» كتاب : الفتن ـ نعيم بن حماد المروزي
7/11/2024, 09:30 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (1) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:12 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (2) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:10 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (3) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:06 من طرف Admin
» كتاب: تحفة المشتاق: أربعون حديثا في التزكية والأخلاق ـ محب الدين علي بن محمود بن تقي المصري
19/10/2024, 11:00 من طرف Admin
» كتاب: روح الأرواح ـ ابن الجوزي
19/10/2024, 10:51 من طرف Admin
» كتاب: هدية المهديين ـ العالم يوسف اخي چلبي
19/10/2024, 09:54 من طرف Admin
» كتاب: نخبة اللآلي لشرح بدء الأمالي ـ محمد بن سليمان الحلبي الريحاوي
19/10/2024, 09:50 من طرف Admin
» كتاب: الحديقة الندية شرح الطريقة المحمدية - عبد الغني النابلسي ـ ج1
19/10/2024, 09:18 من طرف Admin
» كتاب: البريقة شرح الطريقة ـ لمحمد الخادمي ـ ج2
19/10/2024, 08:56 من طرف Admin
» كتاب: البريقة شرح الطريقة ـ لمحمد الخادمي ـ ج1
19/10/2024, 08:55 من طرف Admin