مقدمات في التزكية وسبيلها (3)
المقدمة الثالثة
زاد السائر إلى الله والدار الآخرة
لا بد لكل سائر إلى الله والدار الآخرة من عَلَمٍ يهديه، وزاد من العلم والهدى يقويه، مع حذره الدائم من قطاع الطرق، وآفات السير المهلكة الشاغلة،فمن ذلك:
الأول: العلم والعمل:
فمن زاده قوة العلم، مع قوة العمل، يقول ابن القيم - رحمه الله -: "السائر إلى الله تعالى والدار الآخرة، بل كل سائر إلى مقصد، لا يتم سيره ولا يصل إلى مقصوده إلا بقوتين: قوة علمية، وقوة عملية.
فبالقوة العلمية يبصر منازل الطريق، ومواضع السلوك فيقصدها سائراً فيها، ويجتنب أسباب الهلاك ومواضع العطب وطرق المهالك المنحرفة عن الطريق الموصل، فقوته العلمية كنور عظيم بيده يمشى به في ليلة عظيمة مظلمة شديدة الظلمة، فهو يبصر بذلك النور ما يقع الماشي في الظلمة في مثله من الوهاد والمتالف ويعثر به من الأحجار والشوك وغيره، ويبصر بذلك النور أيضاً أعلام الطريق وأدلتها المنصوبة عليها فلا يضل عنها، فيكشف له النور عن الأمرين: أعلام الطريق، ومعطبها.
وبالقوة العملية يسير حقيقة، بل السير هو حقيقة القوة العملية، فإن السير هو عمل المسافر، وكذلك السائر إلى ربه إذا أبصر الطريق وأعلامها وأبصر المعاثر والوهاد والطرق الناكبة عنها فقد حصل له شطر السعادة والفلاح.
وبقى عليه الشطر الآخر وهو أن يضع عصاه على عاتقه ويشمر مسافراً في الطريق قاطعاً منازلها منزلة بعد منزلة، فكلما قطع مرحلة استعد لقطع الأُخرى واستشعر القرب من المنزل فهانت عليه مشقة السفر، وكلما سكنت نفسه من كلال السير ومواصلة الشد والرحيل وعدها قرب التلاقي وبرد العيش عند الوصول، فيحدث لها ذلك نشاطاً وفرحاً وهمة".
الثاني: اليقين والصدق:
فيكون السائر إلى الله صاحب يقين وصدق وإخلاص، لأن فيها هدايته وسعادته ونجاته كما قال ابن القيم: "ومتى وصل اليقين إلى القلب امتلأ نورا وإشراقا، وانتفى عنه كل ريب وشك وسخط وهم وغم، فامتلأ محبة لله، وخوفا منه، ورضي به، وشكرا له، وتوكلا عليه، وإنابة إليه".
ويقول أيضًا: "ليس للعبد شيء أنفع من صدقه ربه في جميع أموره مع صدق العزيمة فيصدقه في عزمه وفي فعله، قال تعالى: ﴿فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ﴾ فسعادته في صدق العزيمة وصدق الفعل فصدق العزيمة جمعها وجزمها وعدم التردد فيها بل تكون عزيمة لا يشوبها تردد ولا تلوّم.
فإذا صدقت عزيمته، بقي عليه صدق الفعل وهو: استفراغ الوسع وبذل الجهد فيه وأن لا يتخلّف عنه بشيء من ظاهره وباطنه فعزيمة القصد تمنعه من ضعف الإرادة والهمّة، وصدق الفعل يمنعه من الكسل والفتور، ومن صدق الله في جميع أموره صنع الله له فوق ما يصنع لغيره، وهذا الصدق معنى يلتئم من صحّة الإخلاص وصدق التوكّل, فأصدق الناس من صحّ إخلاصه وتوكّله".
الثالث: الصبر:
فلا سبيل لنيل المطلوب، وحصول المرغوب، والتقرب إلى المحبوب إلا به، فعماد العبادات عليه، وزاد الاستعانة به، وأصل المحبة به، ولهذا مدح الله الصبر في كتابه، ومدح الصابرين، وأثنى عليهم، وبشرهم بالبشرى والسعادة بغير حساب، فهو من أعلى المنازل للسائرين، وأتم السبل الموصلة إلى باب الجنة، وقد أخبر سبحانه أن الإمامة في الدين تنال بالصبر واليقين كما قال سبحانه: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ [السجدة: 24]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10]. وقال سبحانه: ﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 155 - 157]. وقال تعالى: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾ [هود: 11]، وقال سبحانه: ﴿ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 146]. وقال سبحانه: ﴿ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 46].
وجاء في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يقول الله تعالى: " مَا لِعَبْدِي المُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ إذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا ثُمَّ احْتَسَبَهُ إلاَّ الجنَّة " رواه البخاري، وعن عائشة - رضي الله عنها - أنها سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الطاعون: "فأخبرها أنه كان عذاباً يبعثه الله -تعالى- على من يشاء، فجعله الله تعالى رحمةً للمؤمنين، فليس من عبدٍ يقع في الطاعون فيمكث في بلده صابراً محتسباً يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد" رواه البخاري.
وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله عز وجل قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة يريد عينيه" رواه البخاري. وعن عطاء بن أبي رباحٍ قال: قال لي ابن عباسٍ - رضي الله عنهما -: ألا أريك امرأةً من أهل الجنة؟ فقلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إني أصرع، وإني أتكشف، فادع الله تعالى لي قال: "إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله تعالى أن يعافيك"، فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشف، فادع الله أن لا أتكشف، فدعا لها. متفقٌ عليه.
وعن أبي سعيدٍ وأبي هريرة - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصبٍ ولا همٍ ولا حزنٍ ولا أذىً ولا غمٍ، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه" متفقٌ عليه. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من يرد الله به خيراً يصب منه" رواه البخاري.
والصبر درجات وأنواع: فمنه الصبر على الابتلاء والمقدور، والصبر على المطلوب والمأمور، والصبر عن المحرم والمحظور، ومتى كان السائر إلى الله صابرًا محتسبًا فيها جميعًا، راغبًا في الآخرة صادقًا، كان من أهل الصبر والإمامة والبشرى.
الرابع: الثبات على التفرد في الطريق:
وكذلك لا يستوحش بتفرده في الطريق، ولا يُضعِف همته بالالتفات خلفه، أو رؤية المثبطين والقاعدين، بل يكون صادق الهمة، صادق الإرادة، ولا يرى غير مقصوده ومراده، قال سفيان بن عيينة: "اسلكوا سبل الحق، ولا تستوحشوا من قلة أهلها".
وقال بعض الصالحين: انفرادك في طريق طلبك دليل على صدق الطلب، وقال الفضيل بن عياض -رحمه الله-: "الزم طريق الهدى، ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة، ولا تغتر بكثرة الهالكين"، وقال سليمان الداراني: لو شك الناس كلهم في الحق ما شككت فيه وحدي، أي: لو كل من على ظهر الأرض شكوا في الحق ولم يؤمنوا به أو لم يعملوا له ما شككت فيه وحدي، ولبثت أنا وحدي على هذا الحق.
الخامس: ملازمة طريق السنة، وترك طريق البدعة:
ومن زاده كمال اتباعه للشرع وملازمة السنة، والحذر من البدع وطرقها، ومجالسة أهلها، وإلا فسيره على غير بصيرة ولا هدى، وقد جاء في الحديث الصحيح: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد"، بل وهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد تبرأ منه فقال: "ومن رغب عن سنتي فليس مني".
وسئل الحسن بن علي الجوزجاني: كيف الطريق إلى الله؟ قال: أصح الطرق وأعمرها وأبعدها من الشبه اتباع الكتاب والسنة قولا وفعلا وعقدا ونية، لأن الله يقول: وإن تطيعوه تهتدوا"، فسأله كيف طريق اتباع السنة؟ قال: بمجانبة البدع، واتباع ما اجتمع عليه الصدر الأول من علماء الإسلام وأهله، والتباعد عن مجالس الكلام وأهله، ولزوم طريقة الاقتداء والاتباع، بذلك أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله تعالى: "ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا".
وقال أبو الحسن الوراق: لا يصل العبد إلى الله إلا بالله، وبموافقة حبيبه - صلى الله عليه وسلم - في شرائعه، ومن جعل الطريق إلى الوصول في غير الاقتداء، يضل من حيث إنه مهتد. وقد ذكر ابن سعد - رحمه الله - في طبقاته أن أبا بكر - رضي الله عنه - قال: "أيها الناس إنما أنا متّبع، ولست بمبتدع، فإن أحسنت فأعينوني، وإن زغت فقوِّموني".
وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: "اتّبعوا ولا تبتدعوا فقد كُفيتم، كل بدعة ضلالة". وقد تبرأ ابن عمر من "القدرية" حيث قال لمن سأله عنهم: "فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني".
وقال الإمام الشافعي - رحمه الله -: "حُكْمي في أصحاب الكلام أن يُضربوا بالجريد، ويُحملوا على الإبل، ويُطاف بهم في العشائر والقبائل، ويُقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأخذ في الكلام".
وقال أيوب السختياني: "ما ازداد صاحب بدعة اجتهادا إلا ازداد من الله بعدًا". وقال حذيفة بن اليمان: كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا تعبدوها.
وقال الإمام أحمد - رحمه الله -: "أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والاقتداء وترك البدع، وكل بدعة ضلالة، وترك الخصومات، والجلوس مع أصحاب الأهواء، وترك المراء والجدال والخصومات في الدين".
وقال الإمام مالك - رحمه الله -: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - ، خان الرسالة؛ لأن الله يقول: "اليوم أكملت لكم دينكم" فما لم يكن يومئذ دينا فلن يكون اليوم دينا.
وعن سفيان الثوري قال: "من جالس صاحب بدعة لم يسلم من إحدى ثلاث: إما أن يكون فتنة لغيره، وإما أن يقع بقلبه شيء يزل به فيدخله النار، وإما أن يقول: والله لا أبالي ما تكلموا به، وإني واثق بنفسي، فمن يأمن بغير الله طرفة عين على دينه سلبه إياه"، وقال سفيان الثوري: "إن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية لأن البدعة لا يتاب منها والمعصية يتاب منها". وقال حسان بن عطية المحاربي: "ما أحدث قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم مثلها، ثم لم يعدها إليهم إلى يوم القيامة".
السادس: ملازمة التقوى في السر والعلن:
لأن التقوى فيها معنى صيانة النفس والقلب والجوارح عن المعاصي والمحرمات، وعن مواطن الفتن والشبهات، وفيها معنى المراقبة وحفظ جناب الله – تعالى -، والتقوى تكون للقلب، وتكون للجوارح، فيصون العبد نفسه ظاهرًا وباطنًا بتقوى الله وحفظ الحرمات، وقد قال الله - تعالى – آمرًا عباده بها: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقوا الله حقَّ تقاته ﴾ [آل عمران 102]، وقال تعالى: ﴿ فاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ [التغابن: 16]، وقال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ﴾ [الأحزاب: 70]. بل وجعل التقوى خير الزاد للعبد المؤمن، فقال تعالى: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 197]. كما جعلها الله لباس الباطن الأكمل، فقال تعالى: ﴿ يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 26].
وجاء في السنة عن أبي سعيدٍ الخدري - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الدنيا حلوةٌ خضرةٌ، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء" رواه مسلم. وجاء في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى" رواه مسلم، وجاء في مواعظ الشعر والتذكير:
تزود من التقوى فإنك لا تدري
إذا جنَّ ليلٌ هل تعيش إلى الفجرِ
فكم من فتى أمسى وأصبح ضاحكًا
وقد نُسِجَتْ أكفانُه وهو لا يدري
وكم من عروس زينوها لزوجها
وقد قبضت أرواحُهم ليلة القدرِ
وكم من صغارٍ يُرتجى طول عمرهم
وقد أُدخلت أجسادُهم ظلمة القبرِ
وكم من صحيح مات من غير علةٍ
وكم من سقيم عاش حينًا من الدهر
وقال الإمام ابن رجب: وأصل التقوى: أن يعلم العبد ما يتقى ثم يتقى. وقال بكر بن خنيس: كيف يكون متقيا من لا يدري ما يتقي.
وقال الحسن - رحمه الله -: ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيراً من الحلال مخافة الحرام. وقال الثوري: إنما سمّوا متقين لأنهم اتقوا ما لا يُتقى" ما لا يُتقى عادة أو ما لا يتقيه أكثر الناس". وقال ابن المعتز:
خَلِّ الذنوبَ صغيرها
وكبيرها ذاك التقى
واصنع كَمَاشٍ فوق أرض
الشوك يَحْذرُ ما يرى
لا تحقِرنَّ صغيرةً
إن الجبالَ من الحصى
وعن الشافعي أنه قال:
يريد المرء أن يعلى مناه
ويأبى الله إلا ما أرادا
يقول المرء فائدتي ومالي
وتقوى الله أفضل ما استفادا
وقال معروف: إذا كنت لا تحسن تتقي: أكلت الربا. وإذا كنت لا تحسن تتقي: لقيتك امرأة فلم تغض بصرك. وإذا كنت لا تحسن تتقي: وضعت سيفك على عاتقك أي: شهرت سيفك وقاتلت في الفتنة.
وقال الإمام أحمد - رحمه الله -: "التقوى هي ترك ما تهوى لما تخشى " فتترك هواك لأن لك خشية من العذاب ويوم طويل، و قيل أيضاً في التقوى: " أن لا يراك حيث نهاك ولا يفتقدك حيث أمرك". وقال القرطبي - رحمه الله -: الأمر بالتقوى كان عاماً لجميع الأمم.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في حديث "اتقِ الله حيثما كنت": "ما أعلم وصية أنفع من وصية الله ورسوله لمن عقلها واتبعها، قال تعالى: "وَلَقَدْ وَصّيْنَا الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيّاكُمْ أَنِ اتّقُواْ اللّهَ"، ووصى النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذاً لما بعثه إلى اليمن فقال: "يا معاذ اتق الله حيثما، كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن".وقال ابن القيم: "التقوى ثلاث مراتب:
إحداها: حمية القلب والجوارح عن الآثام والمحرّمات.
الثانية: حميتها عن المكروهات.
الثالثة: الحمية عن الفضول وما لا يعني.
فالأولى تعطي العبد حياته, والثانية تفيد صحته وقوته, والثالثة تكسبه سروره وفرحه وبهجته".
وأما ثمرات التقوى فكثيرة: وقد قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق: 2، 3]، وقال تعالى: ﴿ إنْ تَتَّقُوا الله يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُم وَالله ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الأنفال: 29].
السابع: دوام الافتقار إلى الله:
ومن زاده أن يكون دائم الذل والافتقار إلى ربه في جميع أحواله، بالدعاء والاستعانة به على كل أموره، وهذا من معالم العبودية ولبها، قال شيح الإسلام: وإذا توجه إلى الله بصدق الافتقار إليه واستغاث به مخلصا له الدين أجاب دعاءه وأزال ضرره وفتح له أبواب الرحمة فمثل هذا قد ذاق من حقيقة التوكل والدعاء لله ما لم يذقه غيره، وقال أبو حفص: أحسن ما يتوسل به العبد إلى الله: دوام الافتقار إليه على جميع الأحوال وملازمة السنة في جميع الأفعال وطلب القوت من وجه حلال. وقال سهل التستري: ليس بين العبد وبين ربه طريق أقرب إليه من الافتقار.
وقال ابن القيم: وما أتي من أتي، إلا من قبل إضاعة الشكر وإهمال الافتقار والدعاء، ولا ظفر من ظفر بمشيئة الله وعونه، إلا بقيامة بالشكر وصدق الافتقار والدعاء.
هذا بعض من الزاد، وأعلام الهدى والرشاد في طريق الصالحين، ذكرته على سبيل الإشارة والاختصار، ولنشرع الآن في بيان جملة أخرى من جوامع أعلام الهداية على الطريق للسائرين، وعظيم زاد المتقين المهتدين، المشتاقين إلى جنات رب العالمين، جعلنا الله من أهلها، ورزقنا إصابة الفردوس الأعلى منها، وجواره فيها.
المقدمة الثالثة
زاد السائر إلى الله والدار الآخرة
لا بد لكل سائر إلى الله والدار الآخرة من عَلَمٍ يهديه، وزاد من العلم والهدى يقويه، مع حذره الدائم من قطاع الطرق، وآفات السير المهلكة الشاغلة،فمن ذلك:
الأول: العلم والعمل:
فمن زاده قوة العلم، مع قوة العمل، يقول ابن القيم - رحمه الله -: "السائر إلى الله تعالى والدار الآخرة، بل كل سائر إلى مقصد، لا يتم سيره ولا يصل إلى مقصوده إلا بقوتين: قوة علمية، وقوة عملية.
فبالقوة العلمية يبصر منازل الطريق، ومواضع السلوك فيقصدها سائراً فيها، ويجتنب أسباب الهلاك ومواضع العطب وطرق المهالك المنحرفة عن الطريق الموصل، فقوته العلمية كنور عظيم بيده يمشى به في ليلة عظيمة مظلمة شديدة الظلمة، فهو يبصر بذلك النور ما يقع الماشي في الظلمة في مثله من الوهاد والمتالف ويعثر به من الأحجار والشوك وغيره، ويبصر بذلك النور أيضاً أعلام الطريق وأدلتها المنصوبة عليها فلا يضل عنها، فيكشف له النور عن الأمرين: أعلام الطريق، ومعطبها.
وبالقوة العملية يسير حقيقة، بل السير هو حقيقة القوة العملية، فإن السير هو عمل المسافر، وكذلك السائر إلى ربه إذا أبصر الطريق وأعلامها وأبصر المعاثر والوهاد والطرق الناكبة عنها فقد حصل له شطر السعادة والفلاح.
وبقى عليه الشطر الآخر وهو أن يضع عصاه على عاتقه ويشمر مسافراً في الطريق قاطعاً منازلها منزلة بعد منزلة، فكلما قطع مرحلة استعد لقطع الأُخرى واستشعر القرب من المنزل فهانت عليه مشقة السفر، وكلما سكنت نفسه من كلال السير ومواصلة الشد والرحيل وعدها قرب التلاقي وبرد العيش عند الوصول، فيحدث لها ذلك نشاطاً وفرحاً وهمة".
الثاني: اليقين والصدق:
فيكون السائر إلى الله صاحب يقين وصدق وإخلاص، لأن فيها هدايته وسعادته ونجاته كما قال ابن القيم: "ومتى وصل اليقين إلى القلب امتلأ نورا وإشراقا، وانتفى عنه كل ريب وشك وسخط وهم وغم، فامتلأ محبة لله، وخوفا منه، ورضي به، وشكرا له، وتوكلا عليه، وإنابة إليه".
ويقول أيضًا: "ليس للعبد شيء أنفع من صدقه ربه في جميع أموره مع صدق العزيمة فيصدقه في عزمه وفي فعله، قال تعالى: ﴿فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ﴾ فسعادته في صدق العزيمة وصدق الفعل فصدق العزيمة جمعها وجزمها وعدم التردد فيها بل تكون عزيمة لا يشوبها تردد ولا تلوّم.
فإذا صدقت عزيمته، بقي عليه صدق الفعل وهو: استفراغ الوسع وبذل الجهد فيه وأن لا يتخلّف عنه بشيء من ظاهره وباطنه فعزيمة القصد تمنعه من ضعف الإرادة والهمّة، وصدق الفعل يمنعه من الكسل والفتور، ومن صدق الله في جميع أموره صنع الله له فوق ما يصنع لغيره، وهذا الصدق معنى يلتئم من صحّة الإخلاص وصدق التوكّل, فأصدق الناس من صحّ إخلاصه وتوكّله".
الثالث: الصبر:
فلا سبيل لنيل المطلوب، وحصول المرغوب، والتقرب إلى المحبوب إلا به، فعماد العبادات عليه، وزاد الاستعانة به، وأصل المحبة به، ولهذا مدح الله الصبر في كتابه، ومدح الصابرين، وأثنى عليهم، وبشرهم بالبشرى والسعادة بغير حساب، فهو من أعلى المنازل للسائرين، وأتم السبل الموصلة إلى باب الجنة، وقد أخبر سبحانه أن الإمامة في الدين تنال بالصبر واليقين كما قال سبحانه: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ [السجدة: 24]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10]. وقال سبحانه: ﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 155 - 157]. وقال تعالى: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾ [هود: 11]، وقال سبحانه: ﴿ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 146]. وقال سبحانه: ﴿ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 46].
وجاء في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يقول الله تعالى: " مَا لِعَبْدِي المُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ إذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا ثُمَّ احْتَسَبَهُ إلاَّ الجنَّة " رواه البخاري، وعن عائشة - رضي الله عنها - أنها سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الطاعون: "فأخبرها أنه كان عذاباً يبعثه الله -تعالى- على من يشاء، فجعله الله تعالى رحمةً للمؤمنين، فليس من عبدٍ يقع في الطاعون فيمكث في بلده صابراً محتسباً يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد" رواه البخاري.
وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله عز وجل قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة يريد عينيه" رواه البخاري. وعن عطاء بن أبي رباحٍ قال: قال لي ابن عباسٍ - رضي الله عنهما -: ألا أريك امرأةً من أهل الجنة؟ فقلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إني أصرع، وإني أتكشف، فادع الله تعالى لي قال: "إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله تعالى أن يعافيك"، فقالت: أصبر، فقالت: إني أتكشف، فادع الله أن لا أتكشف، فدعا لها. متفقٌ عليه.
وعن أبي سعيدٍ وأبي هريرة - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصبٍ ولا همٍ ولا حزنٍ ولا أذىً ولا غمٍ، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه" متفقٌ عليه. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من يرد الله به خيراً يصب منه" رواه البخاري.
والصبر درجات وأنواع: فمنه الصبر على الابتلاء والمقدور، والصبر على المطلوب والمأمور، والصبر عن المحرم والمحظور، ومتى كان السائر إلى الله صابرًا محتسبًا فيها جميعًا، راغبًا في الآخرة صادقًا، كان من أهل الصبر والإمامة والبشرى.
الرابع: الثبات على التفرد في الطريق:
وكذلك لا يستوحش بتفرده في الطريق، ولا يُضعِف همته بالالتفات خلفه، أو رؤية المثبطين والقاعدين، بل يكون صادق الهمة، صادق الإرادة، ولا يرى غير مقصوده ومراده، قال سفيان بن عيينة: "اسلكوا سبل الحق، ولا تستوحشوا من قلة أهلها".
وقال بعض الصالحين: انفرادك في طريق طلبك دليل على صدق الطلب، وقال الفضيل بن عياض -رحمه الله-: "الزم طريق الهدى، ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة، ولا تغتر بكثرة الهالكين"، وقال سليمان الداراني: لو شك الناس كلهم في الحق ما شككت فيه وحدي، أي: لو كل من على ظهر الأرض شكوا في الحق ولم يؤمنوا به أو لم يعملوا له ما شككت فيه وحدي، ولبثت أنا وحدي على هذا الحق.
الخامس: ملازمة طريق السنة، وترك طريق البدعة:
ومن زاده كمال اتباعه للشرع وملازمة السنة، والحذر من البدع وطرقها، ومجالسة أهلها، وإلا فسيره على غير بصيرة ولا هدى، وقد جاء في الحديث الصحيح: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد"، بل وهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد تبرأ منه فقال: "ومن رغب عن سنتي فليس مني".
وسئل الحسن بن علي الجوزجاني: كيف الطريق إلى الله؟ قال: أصح الطرق وأعمرها وأبعدها من الشبه اتباع الكتاب والسنة قولا وفعلا وعقدا ونية، لأن الله يقول: وإن تطيعوه تهتدوا"، فسأله كيف طريق اتباع السنة؟ قال: بمجانبة البدع، واتباع ما اجتمع عليه الصدر الأول من علماء الإسلام وأهله، والتباعد عن مجالس الكلام وأهله، ولزوم طريقة الاقتداء والاتباع، بذلك أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله تعالى: "ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا".
وقال أبو الحسن الوراق: لا يصل العبد إلى الله إلا بالله، وبموافقة حبيبه - صلى الله عليه وسلم - في شرائعه، ومن جعل الطريق إلى الوصول في غير الاقتداء، يضل من حيث إنه مهتد. وقد ذكر ابن سعد - رحمه الله - في طبقاته أن أبا بكر - رضي الله عنه - قال: "أيها الناس إنما أنا متّبع، ولست بمبتدع، فإن أحسنت فأعينوني، وإن زغت فقوِّموني".
وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: "اتّبعوا ولا تبتدعوا فقد كُفيتم، كل بدعة ضلالة". وقد تبرأ ابن عمر من "القدرية" حيث قال لمن سأله عنهم: "فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني".
وقال الإمام الشافعي - رحمه الله -: "حُكْمي في أصحاب الكلام أن يُضربوا بالجريد، ويُحملوا على الإبل، ويُطاف بهم في العشائر والقبائل، ويُقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأخذ في الكلام".
وقال أيوب السختياني: "ما ازداد صاحب بدعة اجتهادا إلا ازداد من الله بعدًا". وقال حذيفة بن اليمان: كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا تعبدوها.
وقال الإمام أحمد - رحمه الله -: "أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والاقتداء وترك البدع، وكل بدعة ضلالة، وترك الخصومات، والجلوس مع أصحاب الأهواء، وترك المراء والجدال والخصومات في الدين".
وقال الإمام مالك - رحمه الله -: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - ، خان الرسالة؛ لأن الله يقول: "اليوم أكملت لكم دينكم" فما لم يكن يومئذ دينا فلن يكون اليوم دينا.
وعن سفيان الثوري قال: "من جالس صاحب بدعة لم يسلم من إحدى ثلاث: إما أن يكون فتنة لغيره، وإما أن يقع بقلبه شيء يزل به فيدخله النار، وإما أن يقول: والله لا أبالي ما تكلموا به، وإني واثق بنفسي، فمن يأمن بغير الله طرفة عين على دينه سلبه إياه"، وقال سفيان الثوري: "إن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية لأن البدعة لا يتاب منها والمعصية يتاب منها". وقال حسان بن عطية المحاربي: "ما أحدث قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم مثلها، ثم لم يعدها إليهم إلى يوم القيامة".
السادس: ملازمة التقوى في السر والعلن:
لأن التقوى فيها معنى صيانة النفس والقلب والجوارح عن المعاصي والمحرمات، وعن مواطن الفتن والشبهات، وفيها معنى المراقبة وحفظ جناب الله – تعالى -، والتقوى تكون للقلب، وتكون للجوارح، فيصون العبد نفسه ظاهرًا وباطنًا بتقوى الله وحفظ الحرمات، وقد قال الله - تعالى – آمرًا عباده بها: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقوا الله حقَّ تقاته ﴾ [آل عمران 102]، وقال تعالى: ﴿ فاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ [التغابن: 16]، وقال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ﴾ [الأحزاب: 70]. بل وجعل التقوى خير الزاد للعبد المؤمن، فقال تعالى: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 197]. كما جعلها الله لباس الباطن الأكمل، فقال تعالى: ﴿ يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 26].
وجاء في السنة عن أبي سعيدٍ الخدري - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الدنيا حلوةٌ خضرةٌ، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء" رواه مسلم. وجاء في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى" رواه مسلم، وجاء في مواعظ الشعر والتذكير:
تزود من التقوى فإنك لا تدري
إذا جنَّ ليلٌ هل تعيش إلى الفجرِ
فكم من فتى أمسى وأصبح ضاحكًا
وقد نُسِجَتْ أكفانُه وهو لا يدري
وكم من عروس زينوها لزوجها
وقد قبضت أرواحُهم ليلة القدرِ
وكم من صغارٍ يُرتجى طول عمرهم
وقد أُدخلت أجسادُهم ظلمة القبرِ
وكم من صحيح مات من غير علةٍ
وكم من سقيم عاش حينًا من الدهر
وقال الإمام ابن رجب: وأصل التقوى: أن يعلم العبد ما يتقى ثم يتقى. وقال بكر بن خنيس: كيف يكون متقيا من لا يدري ما يتقي.
وقال الحسن - رحمه الله -: ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيراً من الحلال مخافة الحرام. وقال الثوري: إنما سمّوا متقين لأنهم اتقوا ما لا يُتقى" ما لا يُتقى عادة أو ما لا يتقيه أكثر الناس". وقال ابن المعتز:
خَلِّ الذنوبَ صغيرها
وكبيرها ذاك التقى
واصنع كَمَاشٍ فوق أرض
الشوك يَحْذرُ ما يرى
لا تحقِرنَّ صغيرةً
إن الجبالَ من الحصى
وعن الشافعي أنه قال:
يريد المرء أن يعلى مناه
ويأبى الله إلا ما أرادا
يقول المرء فائدتي ومالي
وتقوى الله أفضل ما استفادا
وقال معروف: إذا كنت لا تحسن تتقي: أكلت الربا. وإذا كنت لا تحسن تتقي: لقيتك امرأة فلم تغض بصرك. وإذا كنت لا تحسن تتقي: وضعت سيفك على عاتقك أي: شهرت سيفك وقاتلت في الفتنة.
وقال الإمام أحمد - رحمه الله -: "التقوى هي ترك ما تهوى لما تخشى " فتترك هواك لأن لك خشية من العذاب ويوم طويل، و قيل أيضاً في التقوى: " أن لا يراك حيث نهاك ولا يفتقدك حيث أمرك". وقال القرطبي - رحمه الله -: الأمر بالتقوى كان عاماً لجميع الأمم.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في حديث "اتقِ الله حيثما كنت": "ما أعلم وصية أنفع من وصية الله ورسوله لمن عقلها واتبعها، قال تعالى: "وَلَقَدْ وَصّيْنَا الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيّاكُمْ أَنِ اتّقُواْ اللّهَ"، ووصى النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذاً لما بعثه إلى اليمن فقال: "يا معاذ اتق الله حيثما، كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن".وقال ابن القيم: "التقوى ثلاث مراتب:
إحداها: حمية القلب والجوارح عن الآثام والمحرّمات.
الثانية: حميتها عن المكروهات.
الثالثة: الحمية عن الفضول وما لا يعني.
فالأولى تعطي العبد حياته, والثانية تفيد صحته وقوته, والثالثة تكسبه سروره وفرحه وبهجته".
وأما ثمرات التقوى فكثيرة: وقد قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق: 2، 3]، وقال تعالى: ﴿ إنْ تَتَّقُوا الله يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُم وَالله ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الأنفال: 29].
السابع: دوام الافتقار إلى الله:
ومن زاده أن يكون دائم الذل والافتقار إلى ربه في جميع أحواله، بالدعاء والاستعانة به على كل أموره، وهذا من معالم العبودية ولبها، قال شيح الإسلام: وإذا توجه إلى الله بصدق الافتقار إليه واستغاث به مخلصا له الدين أجاب دعاءه وأزال ضرره وفتح له أبواب الرحمة فمثل هذا قد ذاق من حقيقة التوكل والدعاء لله ما لم يذقه غيره، وقال أبو حفص: أحسن ما يتوسل به العبد إلى الله: دوام الافتقار إليه على جميع الأحوال وملازمة السنة في جميع الأفعال وطلب القوت من وجه حلال. وقال سهل التستري: ليس بين العبد وبين ربه طريق أقرب إليه من الافتقار.
وقال ابن القيم: وما أتي من أتي، إلا من قبل إضاعة الشكر وإهمال الافتقار والدعاء، ولا ظفر من ظفر بمشيئة الله وعونه، إلا بقيامة بالشكر وصدق الافتقار والدعاء.
هذا بعض من الزاد، وأعلام الهدى والرشاد في طريق الصالحين، ذكرته على سبيل الإشارة والاختصار، ولنشرع الآن في بيان جملة أخرى من جوامع أعلام الهداية على الطريق للسائرين، وعظيم زاد المتقين المهتدين، المشتاقين إلى جنات رب العالمين، جعلنا الله من أهلها، ورزقنا إصابة الفردوس الأعلى منها، وجواره فيها.
25/11/2024, 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
25/11/2024, 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
25/11/2024, 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
25/11/2024, 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
25/11/2024, 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
25/11/2024, 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin