وقفات مع النفس
كنت مرة (مع)([1]) الشيخ أبي العباس المرسي -رضي الله تعالى عنه- فقلت: في نفسي أشياء. فقال الشيخ: إن كانت النفس لك فاصنع بها ما شئت ولن تستطيع ذلك. ثم قال: النفس كالمرأة كلما أكثرت خصامها أكثرت خصامك، فسلمها إلى ربها يفعل بها ما يشاء، فربما تعبت في تربيتها فلا تنقاد لك، فالمسلم من أسلم نفسه لله؛ بدليل قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ﴾([2]).
إذا أحبَّكَ مولاك أعرض الناس عنك حتى لا تشتغل بهم عنه، وقطع علائقك من المخلوقين حتى ترجع إليه.
كم تطلب نفسك إلى الطاعة وهي تتقاعد، إنما تحتاج إلى مصالحة نفسك في الابتداء، فإذا ذاقت المنة جاءت اختيارًا؛ فالحلاوة التي كانت تجدها في المعصية ترجع تجدها في الطاعة.
مثالُ الإيمان في القلب كالشجرة([3]) الخضراء، فإذا كثرت عليها المعاصي يبست وفرغ مددها، فمن أَحَبَّ القيامَ بالواجبات فليترك المُحَرَّمَات، ومن تَرَكَ المكروهات أُعِينَ على تحصيل الخيرات، ومن تَرَكَ المباحَاتِ وسعَ عليه توسعةً لا يسعها عقله وأباح له حضرته، ومن ترك استماع ما حرَّمَ عليه أسمعه كلامه.
ولكن ما أهونَ القُرْبة التي فيها هوى نفسك! وما أثقل ما ليس فيه هوًى!.
مثاله أن تحُجَّ تَنَفُّلًا فإن قيل لك: تصدق بذلك. شقَّ عليك؛ لأن أمر الحج يُرَى فللنفس فيه حَظٌّ، والصدقة تُطْوَى وتُنْسَى، وكذلك دَرْسُكَ العِلْمَ لِغَيْرِ اللهِ؛ فإنك تدرس العلم كله ونفسك طيبةٌ بذلك، فإذا قيل لك: صَلِّ باللَّيْلِ ركعتين شقَّ ذلك عليك؛ لأن الركعتين بينك وبين الله تعالى ليس فيهما للنفس حظ، والقراءة والدرس للنفس فيهما حظُّ مشاركة للناس؛ فلأجل ذلك خَفَّ عليها.
قال بعضهم: تاقت نفسي إلى التزوُّج فرأيت المحراب قد انْشَقَّ وخرج منه نعل من ذهبٍ مكلل باللؤلؤ، فقيل لي: هذا نعلها، فكيف وجهها؟! فانقطعت شهوة النكاح من قلبي.
من هُيِّئَتْ له المنازل لم يرضَ بالقعود على المزابل، فاعمل الأعمال الصالحة بينَكَ وبين اللهِ سرًّا ولا تُطْلِعْ عليهَا أهلَكَ، واجعله مدَّخَرًا عنده تجده يوم القيامة؛ فإن النفس لها تمتع بذكر العمل.
صام بعضهم أربعين سنة ولم يُعْلِمْ بها أهلَه.
لا تُنْفِقْ أنفاسك في غير طاعة الله، ولا تنظر إلى صغير النفس؛ بل انظر إلى مقدارِه وإلى ما يعطي الله فيه للعبد، فالأنفاس جواهر، وهل رأيت أحدًا يرمي جوهرة على المزبلة؟! أفتصلح ظاهرك وتفسد باطنك! فمثالك كالمجذوم لبس ثيابًا جديدة حسنةً ويخرج منه في الباطن القيح والصديد، فأنت تصلح قالبك وهو ما ينظر إليه الناس، ولا تصلح قلبك الذي هو لربك.
الحكمة كالقَيْدِ إن قيدت بها نفسك استرحْتَ، وإن رميتَهَا تسيبت ويخاف عليك، مثال ذلك كالمجنون في بيتِكَ يخربه ويقطع الثياب، فإذا قيدتَه استرحت، وإذا طرحت القيد في البيت وخرجت فالضرر باقٍ.
يا أيها الشيخ، قد أفنيتَ عمرك فاستدرك مِمَّا فاتك، قد لبست البياض وهو الشيب، والبياض لا يحمل الدنس.
مثال القلب كالمرآة، ومثال النَّفْسِ كالنَّفَسِ كُلَّمَا تنفست النفس على المرآة سودتها.
قلب الفاجر كمرآة العجوز التي ضعفت همتها أن تجلوها وتنظر فيها، وقلب العارف كمرآة العروس كل يوم تنظر فيها فلا تزال مصقولة([4]).
([1]) ليست في المخطوطة وهي زيادة ليستقيم الكلام.
([2]) من الآية [111]، من سورة التوبة وتمامها: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ =
= وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ﴾.
([3]) في المخطوطة المصورة فالشجرة، والصحيح معنى المثبت.
([4]) أي إن العارف لا زال يراقب قلبه ويتتبعه، ويعرف منه وينكر، ويصلحه بالمعارف والطاعات، ويصقله بالأنوار؛ بخلافِ الفاجر فهو لا يَعْبَأُ بِهَذَا، وقد أفسد قلبه بالمعاصي والإعراض عن رَبِّهِ والغفلة، وقصرت هِمَّتُهُ عن أن يتناول الطاعات، ويكون مَعْدِنًا للأفكار والأسرار.
كنت مرة (مع)([1]) الشيخ أبي العباس المرسي -رضي الله تعالى عنه- فقلت: في نفسي أشياء. فقال الشيخ: إن كانت النفس لك فاصنع بها ما شئت ولن تستطيع ذلك. ثم قال: النفس كالمرأة كلما أكثرت خصامها أكثرت خصامك، فسلمها إلى ربها يفعل بها ما يشاء، فربما تعبت في تربيتها فلا تنقاد لك، فالمسلم من أسلم نفسه لله؛ بدليل قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ﴾([2]).
إذا أحبَّكَ مولاك أعرض الناس عنك حتى لا تشتغل بهم عنه، وقطع علائقك من المخلوقين حتى ترجع إليه.
كم تطلب نفسك إلى الطاعة وهي تتقاعد، إنما تحتاج إلى مصالحة نفسك في الابتداء، فإذا ذاقت المنة جاءت اختيارًا؛ فالحلاوة التي كانت تجدها في المعصية ترجع تجدها في الطاعة.
مثالُ الإيمان في القلب كالشجرة([3]) الخضراء، فإذا كثرت عليها المعاصي يبست وفرغ مددها، فمن أَحَبَّ القيامَ بالواجبات فليترك المُحَرَّمَات، ومن تَرَكَ المكروهات أُعِينَ على تحصيل الخيرات، ومن تَرَكَ المباحَاتِ وسعَ عليه توسعةً لا يسعها عقله وأباح له حضرته، ومن ترك استماع ما حرَّمَ عليه أسمعه كلامه.
ولكن ما أهونَ القُرْبة التي فيها هوى نفسك! وما أثقل ما ليس فيه هوًى!.
مثاله أن تحُجَّ تَنَفُّلًا فإن قيل لك: تصدق بذلك. شقَّ عليك؛ لأن أمر الحج يُرَى فللنفس فيه حَظٌّ، والصدقة تُطْوَى وتُنْسَى، وكذلك دَرْسُكَ العِلْمَ لِغَيْرِ اللهِ؛ فإنك تدرس العلم كله ونفسك طيبةٌ بذلك، فإذا قيل لك: صَلِّ باللَّيْلِ ركعتين شقَّ ذلك عليك؛ لأن الركعتين بينك وبين الله تعالى ليس فيهما للنفس حظ، والقراءة والدرس للنفس فيهما حظُّ مشاركة للناس؛ فلأجل ذلك خَفَّ عليها.
قال بعضهم: تاقت نفسي إلى التزوُّج فرأيت المحراب قد انْشَقَّ وخرج منه نعل من ذهبٍ مكلل باللؤلؤ، فقيل لي: هذا نعلها، فكيف وجهها؟! فانقطعت شهوة النكاح من قلبي.
من هُيِّئَتْ له المنازل لم يرضَ بالقعود على المزابل، فاعمل الأعمال الصالحة بينَكَ وبين اللهِ سرًّا ولا تُطْلِعْ عليهَا أهلَكَ، واجعله مدَّخَرًا عنده تجده يوم القيامة؛ فإن النفس لها تمتع بذكر العمل.
صام بعضهم أربعين سنة ولم يُعْلِمْ بها أهلَه.
لا تُنْفِقْ أنفاسك في غير طاعة الله، ولا تنظر إلى صغير النفس؛ بل انظر إلى مقدارِه وإلى ما يعطي الله فيه للعبد، فالأنفاس جواهر، وهل رأيت أحدًا يرمي جوهرة على المزبلة؟! أفتصلح ظاهرك وتفسد باطنك! فمثالك كالمجذوم لبس ثيابًا جديدة حسنةً ويخرج منه في الباطن القيح والصديد، فأنت تصلح قالبك وهو ما ينظر إليه الناس، ولا تصلح قلبك الذي هو لربك.
الحكمة كالقَيْدِ إن قيدت بها نفسك استرحْتَ، وإن رميتَهَا تسيبت ويخاف عليك، مثال ذلك كالمجنون في بيتِكَ يخربه ويقطع الثياب، فإذا قيدتَه استرحت، وإذا طرحت القيد في البيت وخرجت فالضرر باقٍ.
يا أيها الشيخ، قد أفنيتَ عمرك فاستدرك مِمَّا فاتك، قد لبست البياض وهو الشيب، والبياض لا يحمل الدنس.
مثال القلب كالمرآة، ومثال النَّفْسِ كالنَّفَسِ كُلَّمَا تنفست النفس على المرآة سودتها.
قلب الفاجر كمرآة العجوز التي ضعفت همتها أن تجلوها وتنظر فيها، وقلب العارف كمرآة العروس كل يوم تنظر فيها فلا تزال مصقولة([4]).
([1]) ليست في المخطوطة وهي زيادة ليستقيم الكلام.
([2]) من الآية [111]، من سورة التوبة وتمامها: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ =
= وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ﴾.
([3]) في المخطوطة المصورة فالشجرة، والصحيح معنى المثبت.
([4]) أي إن العارف لا زال يراقب قلبه ويتتبعه، ويعرف منه وينكر، ويصلحه بالمعارف والطاعات، ويصقله بالأنوار؛ بخلافِ الفاجر فهو لا يَعْبَأُ بِهَذَا، وقد أفسد قلبه بالمعاصي والإعراض عن رَبِّهِ والغفلة، وقصرت هِمَّتُهُ عن أن يتناول الطاعات، ويكون مَعْدِنًا للأفكار والأسرار.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin