تعالق الفهم مع الرّمز في السياق الصوفي:
يقول الشيخ ولي الله الدهلوي : « التفهيم هو منصب المحدَث، وحدّه حال وعزم ينزل من تطابق الاسم الجامع والنسمة»1 . فالتفهيم في الأصل الصوفي الملزم لفعل الكون الوجودي هو أمر ينزل من اسم الله تعالى وتقدس، وذلك في شكل تلكم الهيأة السارية مع شرط الحال والعزم على النّسمة، والتي لا يمكن أن يتفطّن لها أو إليها إلاّ من قذف الله في قلبه وروحه نورا من نوره؛ فيدرك حينها عالم الأشياء وفق هذا التفهيم الذي يجعل الصوفي يفهم الأسرار انطلاق من خصوصية الاسم الجامع.
ويضيف ابن عربي تخريجة للفهم زيادة عما أشار إليه الدّهلوي، إذ يجعله يتوزع على ثلاث جهات كلها تجعل من الفكر والعقل يسيران وفق مبدأ التأمل مع عالم الأشياء تبعا لمبدأ الرمز السّاري مع شرط المسكوت عنه لا المصرّح به. يقول ابن عربي« الفهم تفتيش، والتفتيش تبديد، والتبديد لا يكون إلا في الأسماء والأغيار،كما أن الحيرة لا تكون إلا فيمن لا يتكيف».2
قد يظن ظان أن مثل هذه التحديدات في شأن الفهم والمتعلق بالتفتيش والتبديد والحيرة والأغيار متداولة عبر السياقات المعرفية قاطبة، والأمر ليس كذلك إذ الفهم القائم في التفتيش الملزم للتبديد وهذا الأخير الملزم والمصاحب للأغيار هي في الأصل حقائق لا يمكن أن تتجسّد في عالم الوجود المعرفي إلا بربط مستلزمات الفهم مع التفهيم وفق ما يتماشى مع حركية الرمز غير المصرّح بها، ولذلك تجد ابن عربي في جل كتاباته يجسِّد هذا النوع من الفهم على حسب ما يقتضيه السياق الصوفي الملزم للسّاق الكوني الوجودي في عالم الذات المتصوفة.
ويقول الشيخ علي بن أنبوجة التيشيتي « الفهم: هو نور يضعه الله تعالى في قلوب الصادقين، يطلعون به على أسرار وحكم ، وهو دون الفراسة وأعلى من الظن ، فينفي كثافة الاستبصار المتولد عن توارد الخواطر».3
في هذا المقام نجد التيشيتي يعطي للفهم بعده الرمزي وفق ذلكم التلزم القائم بين عالم الحقيقة المطلقة -النور الرباني- وواقع الوجود الكوني المعرفي المصاحب للذات المتصوفة؛ فيحصل للذات أن تعيش زمنها الوجودي الكوني وفق مبدأ الرمز، تارة على نية التصريح، وتارة على سبيل التلميح، فهي من ثمة تعيش من جهة وفق ما أشار إليه نبي الرحمة بمبدأ الفراسة، ومن جهة أخرى تتجاوز الفراسة لتصل إلى مقام ما بعد الفراسة وهي الرموز الناتجة عن سر الفهم والتفهيم. الفهم في الذات والتفهيم خارج الذات.
ليأتي أحد المتصوفة الكبار وهو العالم الرباني الغوث الأعظم عبد القادر الكيلاني فيوزع الفهم على مراتب هي في الأصل رموز تختلف منزلتها الروحية الباطنية من مقام إلى آخر، باختلاف ذلكم التلازم التعالقي القائم بين الفهم والرمز وموقع الذات. يقول رحمه الله في هذا الشأن ما بيانه «إذا عملت بهذا الظاهر أداك إلى فهم الباطن، أول ما يفهم سرك ثم يملي قلبك على نفسك، وتملي نفسك على لسانك، ويملي لسانك على الخلق، يتعدى ذلك إليهم لمصالحهم ومنافعهم».4
إنه الفهم القائم على الحقيقة من جهة، والفهم ال ساري مع طبيعة الرمز من جهة أخرى؛ الأمر الذي يجعل الجهة الثانية عندما تتحرك في رحاب الفهم يتحرك ذلكم النور الرباني في عالم الذات؛ فينتقل أمر الذات من أمرها الظاهري المحسوس ليصل إلى تلكم المراتب الذي أشار إليها الكيلاني ، من فهم الباطن، وفهم سر الذات الملزم لسر القلب، وتماشي حال اللسان مع حال النفس، وتماشي حال اللسان مع حال الحق، وهو الحال الذي يجعل الذات المتصوفة نتيجة الفهم أن تدرك تلكم الأبعاد الروحية القائمة في عالم الحق الذي خلقت من أجله.
أما عالمنا الروحي الزاهد الرباني الشيخ عبد القادر الجزائري فإنه يعطي للفهم بعدا وسطيا يربطه بواقع الوحي القرآني الساري مع مبدأ الخبر الوارد عن سيد البشرية محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ يقول ما نصه « أهل طريقنا رضي الله عنهم ما ادعوا الإتيان بشيء في الدين جديد، وإنما ادعوا الفهم الجديد في الدين التّليد، وساعدهم الخبر المروي أنه لا يكمل فقه الرجل حتى يرى للقرآن وجوها كثيرة».5
ولعل هذه العلاقة القائمة بين الرمز الصوفي وواقع السياق الفلسفي الذي يجعل من الحقائق تسير وفق ما يمكن أن نطلق عليه بالماوراء الظاهرة، ليس مقيّدا ومحتكرا لدى التصور الفلسفي الفكري بالنسبة للذين درسوا الفكر الصوفي من الوجهة الرمزية الفلسفية، بل نجد أثره أيضا في كثير من الأسيقة الدينية الإسلامية التي عاجت في زمن النبي عليه الصلاة والسلام؛ حيث أعطى لنا التاريخ الإسلامي عدة نماذج من هذا النوع من الوجود الإنساني الذي تعامل مع الحقائق وفق هذا الرمز الزهدي/ الصوفي الذي يتماشى مع طبيعة الحق الذي ارتضاه الله لنفسه أولا، ثم لعالم الخلق ثانية تبعا لذلكم التوفيق الرباني الذي يقدفه الله تعالى وتقدس لمن يحبه ويرضى عنه.
الهوامش
1 - قطب الدين أحمد ولي الله الدهلوي: التفهيمات الإلهية، مطبعة الهند ، ط .121 – 122 /1962.6
2 - ابن عربي: تاج التراجم - ص . 54
3 - ابن انبوجة التيشيتي: ميزاب الرحمة الربانية في التربية بالطريقة التيجانية. تحقيق: عاصه إبراهيم الكيالي. دار الكتب العلمية، بيروت،.166 .
4 - عبد القادر الكيلاني - الفتح الرباني والفيض الرحماني ، ط ،1منشورات الجمل. كولونيا(ألمانيا.) .6116ص 665 - عبد القادر الجزائري: المواقف في التصوف والوعظ والإرشاد. دار اليقظة العربية. دمشق.
يقول الشيخ ولي الله الدهلوي : « التفهيم هو منصب المحدَث، وحدّه حال وعزم ينزل من تطابق الاسم الجامع والنسمة»1 . فالتفهيم في الأصل الصوفي الملزم لفعل الكون الوجودي هو أمر ينزل من اسم الله تعالى وتقدس، وذلك في شكل تلكم الهيأة السارية مع شرط الحال والعزم على النّسمة، والتي لا يمكن أن يتفطّن لها أو إليها إلاّ من قذف الله في قلبه وروحه نورا من نوره؛ فيدرك حينها عالم الأشياء وفق هذا التفهيم الذي يجعل الصوفي يفهم الأسرار انطلاق من خصوصية الاسم الجامع.
ويضيف ابن عربي تخريجة للفهم زيادة عما أشار إليه الدّهلوي، إذ يجعله يتوزع على ثلاث جهات كلها تجعل من الفكر والعقل يسيران وفق مبدأ التأمل مع عالم الأشياء تبعا لمبدأ الرمز السّاري مع شرط المسكوت عنه لا المصرّح به. يقول ابن عربي« الفهم تفتيش، والتفتيش تبديد، والتبديد لا يكون إلا في الأسماء والأغيار،كما أن الحيرة لا تكون إلا فيمن لا يتكيف».2
قد يظن ظان أن مثل هذه التحديدات في شأن الفهم والمتعلق بالتفتيش والتبديد والحيرة والأغيار متداولة عبر السياقات المعرفية قاطبة، والأمر ليس كذلك إذ الفهم القائم في التفتيش الملزم للتبديد وهذا الأخير الملزم والمصاحب للأغيار هي في الأصل حقائق لا يمكن أن تتجسّد في عالم الوجود المعرفي إلا بربط مستلزمات الفهم مع التفهيم وفق ما يتماشى مع حركية الرمز غير المصرّح بها، ولذلك تجد ابن عربي في جل كتاباته يجسِّد هذا النوع من الفهم على حسب ما يقتضيه السياق الصوفي الملزم للسّاق الكوني الوجودي في عالم الذات المتصوفة.
ويقول الشيخ علي بن أنبوجة التيشيتي « الفهم: هو نور يضعه الله تعالى في قلوب الصادقين، يطلعون به على أسرار وحكم ، وهو دون الفراسة وأعلى من الظن ، فينفي كثافة الاستبصار المتولد عن توارد الخواطر».3
في هذا المقام نجد التيشيتي يعطي للفهم بعده الرمزي وفق ذلكم التلزم القائم بين عالم الحقيقة المطلقة -النور الرباني- وواقع الوجود الكوني المعرفي المصاحب للذات المتصوفة؛ فيحصل للذات أن تعيش زمنها الوجودي الكوني وفق مبدأ الرمز، تارة على نية التصريح، وتارة على سبيل التلميح، فهي من ثمة تعيش من جهة وفق ما أشار إليه نبي الرحمة بمبدأ الفراسة، ومن جهة أخرى تتجاوز الفراسة لتصل إلى مقام ما بعد الفراسة وهي الرموز الناتجة عن سر الفهم والتفهيم. الفهم في الذات والتفهيم خارج الذات.
ليأتي أحد المتصوفة الكبار وهو العالم الرباني الغوث الأعظم عبد القادر الكيلاني فيوزع الفهم على مراتب هي في الأصل رموز تختلف منزلتها الروحية الباطنية من مقام إلى آخر، باختلاف ذلكم التلازم التعالقي القائم بين الفهم والرمز وموقع الذات. يقول رحمه الله في هذا الشأن ما بيانه «إذا عملت بهذا الظاهر أداك إلى فهم الباطن، أول ما يفهم سرك ثم يملي قلبك على نفسك، وتملي نفسك على لسانك، ويملي لسانك على الخلق، يتعدى ذلك إليهم لمصالحهم ومنافعهم».4
إنه الفهم القائم على الحقيقة من جهة، والفهم ال ساري مع طبيعة الرمز من جهة أخرى؛ الأمر الذي يجعل الجهة الثانية عندما تتحرك في رحاب الفهم يتحرك ذلكم النور الرباني في عالم الذات؛ فينتقل أمر الذات من أمرها الظاهري المحسوس ليصل إلى تلكم المراتب الذي أشار إليها الكيلاني ، من فهم الباطن، وفهم سر الذات الملزم لسر القلب، وتماشي حال اللسان مع حال النفس، وتماشي حال اللسان مع حال الحق، وهو الحال الذي يجعل الذات المتصوفة نتيجة الفهم أن تدرك تلكم الأبعاد الروحية القائمة في عالم الحق الذي خلقت من أجله.
أما عالمنا الروحي الزاهد الرباني الشيخ عبد القادر الجزائري فإنه يعطي للفهم بعدا وسطيا يربطه بواقع الوحي القرآني الساري مع مبدأ الخبر الوارد عن سيد البشرية محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ يقول ما نصه « أهل طريقنا رضي الله عنهم ما ادعوا الإتيان بشيء في الدين جديد، وإنما ادعوا الفهم الجديد في الدين التّليد، وساعدهم الخبر المروي أنه لا يكمل فقه الرجل حتى يرى للقرآن وجوها كثيرة».5
ولعل هذه العلاقة القائمة بين الرمز الصوفي وواقع السياق الفلسفي الذي يجعل من الحقائق تسير وفق ما يمكن أن نطلق عليه بالماوراء الظاهرة، ليس مقيّدا ومحتكرا لدى التصور الفلسفي الفكري بالنسبة للذين درسوا الفكر الصوفي من الوجهة الرمزية الفلسفية، بل نجد أثره أيضا في كثير من الأسيقة الدينية الإسلامية التي عاجت في زمن النبي عليه الصلاة والسلام؛ حيث أعطى لنا التاريخ الإسلامي عدة نماذج من هذا النوع من الوجود الإنساني الذي تعامل مع الحقائق وفق هذا الرمز الزهدي/ الصوفي الذي يتماشى مع طبيعة الحق الذي ارتضاه الله لنفسه أولا، ثم لعالم الخلق ثانية تبعا لذلكم التوفيق الرباني الذي يقدفه الله تعالى وتقدس لمن يحبه ويرضى عنه.
الهوامش
1 - قطب الدين أحمد ولي الله الدهلوي: التفهيمات الإلهية، مطبعة الهند ، ط .121 – 122 /1962.6
2 - ابن عربي: تاج التراجم - ص . 54
3 - ابن انبوجة التيشيتي: ميزاب الرحمة الربانية في التربية بالطريقة التيجانية. تحقيق: عاصه إبراهيم الكيالي. دار الكتب العلمية، بيروت،.166 .
4 - عبد القادر الكيلاني - الفتح الرباني والفيض الرحماني ، ط ،1منشورات الجمل. كولونيا(ألمانيا.) .6116ص 665 - عبد القادر الجزائري: المواقف في التصوف والوعظ والإرشاد. دار اليقظة العربية. دمشق.
25/11/2024, 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
25/11/2024, 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
25/11/2024, 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
25/11/2024, 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
25/11/2024, 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
25/11/2024, 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin