الصفحة 41 من 61
مشروعية الاجتهاد في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مسألة البردة والدلائل ونحوهما
1- أمر محكم:
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم نوع من الذكر والدعاء، فهي حزب وورد ينطبق عليها من الأحكام ما ينطبق عليهما مما قدمنا، وقد عرفت بما لا شك فيه مشروعية قراءة الأحزاب والأوراد، وأنها في مرتبة تردد بين الوجوب والاستحباب على الأقل. فكذلك شأن الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء بسواء.
وقد أمرنا القرآن أمرًا محكمًا بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم بأسلوب بياني ترغيبي رفيع([1]) وفيه طلب شرف القدوة والتشبيه والتشبه بالحق سبحانه وتعالى والملأ الأعلى، وفيه تأكيد مدى اهتمام الحق وملائكته بهذه الصلاة لما فيها من السر والبركة، فإنما هي منقبة وفضيلة مقدسة، وهي لا تنبغي إلا للمؤمن الذي خصته الآية بالخطاب، وبالتالي لا ينبغي أن يفوته فضلها. وأن صورة الصلاة وأسلوبها أمر موسع في الحال والمقال، متروك للكفاية والاجتهاد في حدود التأصيل الشرعي العام.
ولا شك أن الأداء بالوارد له فضله العظيم، وهو لا يتعارض البتة مع الأداء بما تسكن إليه النفس ويطئن المتعبد إلى ممارسته من منظوم ومنثور كما قدمنا.
فإنه لم يأت نهي صريح أو ضمني عن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم بغير الوراد، بل إن إطلاق الأمر في الآية فيه معنى الاجتهاد في الاختيار والتحديد.
وهكذا مدح الله من عزروه ونصروه صلى الله عليه وسلم، والتعزير هنا هو التقدير، والتوقير، والتمجيد.
2- التأصيل الشرعي:
والتأصيل الشرعي هنا مُبَيَّنٌ كل البيان:
أولًا: في قوله صلى الله عليه وسلم: «لاَ تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى الْمَسِيح ابْنَ مَرْيَمَ»([2]).
ثانيًا: في قوله صلى الله عليه وسلم لوفد أطروه: «قُولُوا بِقَوْلِكُمْ وَلاَ يَسْتَجْرِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ»([3]).
والمراد هنا وهنا: ألا نرفعه إلى درجة الألوهية، كما استجرى الشيطان النصارى، فقالوا بذلك عن عيسى زورًا وبهتانًا. ثم نمدحه بعد ذلك بكل ما يفيضه الله على أحبائه.
ثالثًا: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن حضره من الشعراء أن يمتدحه بكل ما جادت به قرائحهم. واستمع صلى الله عليه وسلم إلى ذلك من أمثال عمه العباس، وشاعره حسان، وحاديه ابن رواحة، وخادمه أنس وغيرهم، بل لقد أثاب صلى الله عليه وسلم من مدحه إثابة حسية ومعنوية كما حدث في أمر كعب ابن زهير، فكان عفوه صلى الله عليه وسلم عنه إثابة معنوية، وكان إلقاؤه البردة عليه إثابة حسية.
وهكذا يصبح الاجتهاد في الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم ومحاولة إحسانها وتجوديها، والتسامي بلفظها ومعناها؛ سنة إقرارية على الأقل، سواء أكانت من الشعر أم من النثر.
وهذه قصة عائشة وقد مدحته صلى الله عليه وسلم ببعض أقوال الشعراء، فتهلل ورضي، ولم ينهها.
قال الحافظ السخاوي: وقد روينا عن ابن مسدي ما نصه: وقد روى في كيفية الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة، وذهب جماعة من الصحابة فمن بعدهم إلى أن الباب لا يتوقف فيه مع المنصوص، واحتجوا بقول ابن مسعود: أحسنوا الصلاة على نبيكم، فإنكم لا تدرون فلعل ذلك يعرض عليه([4]).
نقول: وقد أخرج هذا الحديث الحافظ الديلمي في مسند الفردوس مرفوعًا من رواية ابن مسعود، كما ذكره في القول البديع، وفي غيره مرفوعًا أيضًا.
وقال بعضهم: هو موقوف على ابن مسعود.
وحتى لو كان موقوفًا لكان الأخذ به أمثل وأفضل لكثرة ما صح من الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم في أن صلاة المصلين عليه صلى الله عليه وسلم تبلغه وهو يسمعها ويرد السلام. فإنه صلى الله عليه وسلم حي حياة برزخية أرقى وأنقى من الحياة الدنيا، وقد جاء في هذا الشأن عدد من صحاح الأحاديث، ربما ذكرنا بعضها في البحوث الآتية. تأمل: كيف تخاطبه أنت في صلاتك مخاطبة الحي الحاضر السامع الموجود معك، فتقول في التشهد (السلام عليك أيها النبي) بصيغة الخطاب التي لا تكون إلا للحي المخاطب الموجود بالفعل في المجلس، فلو لم يكن هذا السلام يبلغه لكانت مشروعيته هنا عبثًا على الأقل، والصلاة منزهة عن العبث.
3- بين الدلائل والبردة:
وقد تتبعنا -طوق جهدنا- ما جاء في هذا الباب فلم نقع على حديث يمنع الاجتهاد في الصلاة والسلام عليه شعرًا أو نثرًا، بقدر ما يفيضه الحب على لسان المحب، وما يصوغه الإيمان على لسان المؤمن من عبارات فيها روائح الجنة، ونفحات السماء.
فالحملة على هذا الجانب استدراج خبيث إلى النزول بالمستوى النبوي وتهوينه، أو هو عند حسن الظن جمود عقلي كريه، وخمود عاطفي موبق، وعبادة وثنية لظواهر الألفاظ.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أمور:
أولًا: يجازف بعضهم بتحريم قراءة دلائل الخيرات في الصلاة على النبي، وأمثلها مما ألفه الأشياخ والأئمة، وأنت بعد أن عرفت ما قدمنا لن تجد الأمر محلًا من معقولية الأشياء، وإنما هي المجازفة والولع بالمخالفة، والتعلق بالدعاوي الزائفة، والآراء التالفة، والاتجار بالدين في طلب الدنيا، والتحكم بفرض الرأي الواحد.
ولا شك أن الإمام الجزولي لا يتحمل قط مسؤولية ما دسوه عليه في مقدمة كتابه الدلائل من الأحاديث الموضوعة ونحوها. فإن الناس حاولوا الدس في القرآن والنبي حي، والوحي ينزل، وما قصة الغرانيق بمجهولة، ولقد سوا على الرسول آلاف الأحاديث المكذوبة، ودسوا في علوم الدين كالفقه، والتوحيد، والتفسير، والتصوف وغيره ما هو مشهور، فكيف لا يدسون على الجزولي بعد أن مات، وهم قد دسوا على الشعراني وهو حي يرزق؟!
ثانيًا: تكتم العصبية أنفاس بعضهم وعقله وقلبه فيحرم قراءة بردة البوصيري في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحكم على مؤلفها وتاليها بالكفر والإشراك من أجل نحو قوله رضى الله عنه:
1- يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به
* سواك عند حلول الحادث العمم
2- ولن يضيق رسول الله جاهك بي
* إذ الكريم تجلّىٰ باسم منتقم
3- فإن من وجودك الدنيا وضرتُها
* ومن علومك علم اللوح والقلم
وكذلك من أجل نحو قوله أيضًا:
إن لم يكن في معادي آخذًا بيدي
* فضلًا وإلا فقل: يا زلة القدم؟
حاشاه أن يحرم الراجي مكارمه
* أو يرجع الجار منه غير محترم
والمسألة أقل من زوبعة في فنجان أو كستبان فإن الحزبية والحقد، والتعصب للتقليد، وضيق الأفق، والتأزم والتعقيد الذي يعانيه هؤلاء الناس ينزع من نفوسهم صفات السماحة، واليسر، والترفق، والمرونة، وشفافية العاطفة، وحسن الظن بالناس، ودقة الحكم على الأشياء بما هم فيه من لزوجة الذوق، والغثيان الفكري، والوجدان المتهرئ.
إن البوصيري يخاطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورسول الله حي، كما ثبت في الصحاح([5])، وروحه منطلقة في برزخها، وكما نخاطبه نحن في تشهد صلواتنا يخاطبه أحبابه في أشعارهم ومنثوراتهم، المكتوبة أو المنطوقة على حد سواء.
وكما شرع لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نخاطب الموتى، ونسلم عليهم، ونبشرهم باللحاق بهم، وغير ذلك تحدث البوصيري مع روح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائلًا:
1- يا أكرم الخلق إني مذنب، فلا تحرمني شفاعتك، فليس لي من شفيع سواك ألوذ به عند حلول الهول الأعظم يوم القيامة.
وفي حديث رَبِيعَة الأَسْلَمِيّ قال -رضى الله عنه- لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ، قال صلى الله عليه وسلم: «أَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ». وهو في صحيح مسلم([6]) وربيعة. هنا يطلب من الرسول مباشرة مرافقته في الجنة فيرد الرسول عليه بهذا الكلام الرفيع. مع أن الرسول لا يملك ما طلبه منه الرجل.
فمحادثة البوصيري لروح رسول الله وطلبه الشفاعة أمر عادي مستحب على الأقل، ولعل البوصيري كان في مقام الكشف والشهود فخاطب مرئيًا له موجودًا محسوسًا بالنسبة له، فلا شيء عليه بهذا ولا بهذا، ولا يزال الناس في المشارق والمغارب يخاطبون الرسول في خطبهم ومحاضراتهم وأشعارهم خطاب الخاضر الموجود، فيقولون مثلًا: كنت كذا وكذا يا رسول الله، وما هو من هذا المعنى مما لا يحصى.
ولا يزال وسوف يزال يدور على الألسنة.
2- وفي البيت الثاني: يقرر البوصيري أن جاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند الله جاه رحيب لا يضيق بفضل الشفاعة للمذنب -بإذن الله- يوم يتجلى الحق تعالى بصفة الانتقام والعدل فخشعت له الأصوات، وعنت والوجوه، ويقال له -صلى الله عليه وسلم-: اشفع تشفع.
3- وفي البيت الثالث: يقرر أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يجود بكل ما يعطيه من شؤون الآخرة والدنيا، حسية كانت أو معنوية كالبذل والعطاء من شؤون الدنيا، والتربية والتوجيه من شؤون الآخرة، أو أنه يجود بالخير في الدنيا على الطالبين، وبالشفاعة عند الله للمذنبين إن شاء الله. كما يقرر أن الله تعالى عَلَّمَ رسوله -صلى الله عليه وسلم- ما شاء من أسرار اللوح والقلم، كالذي جاء على لسانه -صلى الله عليه وسلم- من أعلام النبوة والإخبار بالغيب. وحسبك القرآن الكريم وما يحمله من غيوب اللوح والقلم التي تتجلى يومًا بعد يوم. فكان ذلك علمًا من علومه -صلى الله عليه وسلم-.
4- وفي البيت الرابع: يخشى البوصيري ألا تناله شفاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- معبرًا عنها بالأخذ باليد، فإنه إن لم تصبه تدركه الشفاعة زلت قدمه في النار.
5- وفي البيت الخامس: يطمئن البوصيري نفسه على أنه سينال هذه المنية من الشفاعة بفضل الله، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحرم طالبًا من مكارمه، ولم يرد جارًا عن بابه إلا وهو محترم مجبور الحال، وهو بذلك أولى في الآخرة بما له من منزلة.
وبعد: فلسنا في هذه الأبيات التي أقاموا عليها الدنيا ولم يقعدوها ومنعوا من أجلها دخول مطبوع البردة إلى بيوتهم وبلادهم، لسنا نرى فيها إلا الخير، والأدب، وحسن الظن بالله ورسوله في توحيد مطلق، وأمل فياض، وأدب رفيع.
ولكن الله له في خلقه شؤون، إن هؤلاء الذين يمنعون أن يدخل مطبوع البردة أو الدلائل إلى بلادهم هم الذين يستوردون صور العرايا والمجلات الماجنة، ويرحبون بالانحلال في أبشع صوره المقروءة، والمكتوبة، والمصورة تدخل بيوتهم وعلى نسائهم وأولادهم بوسائل الإعلام دون أي نكير وباسم الدين.
([1]) وهو قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب:56].
([2]) أخرجه البخاري: (3445) عن عمر رضى الله عنه.
([3]) أخرجه أبو داود (4806) عن مطرف بن عبد الله.
([4]) حلية الأولياء: (271/4).
([5]) في الحديث الثابت: «إن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء»، أما حياة البرزخ فلا شك فيها.
([6]) صحيح مسلم: (489/226).
مشروعية الاجتهاد في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مسألة البردة والدلائل ونحوهما
1- أمر محكم:
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم نوع من الذكر والدعاء، فهي حزب وورد ينطبق عليها من الأحكام ما ينطبق عليهما مما قدمنا، وقد عرفت بما لا شك فيه مشروعية قراءة الأحزاب والأوراد، وأنها في مرتبة تردد بين الوجوب والاستحباب على الأقل. فكذلك شأن الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء بسواء.
وقد أمرنا القرآن أمرًا محكمًا بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم بأسلوب بياني ترغيبي رفيع([1]) وفيه طلب شرف القدوة والتشبيه والتشبه بالحق سبحانه وتعالى والملأ الأعلى، وفيه تأكيد مدى اهتمام الحق وملائكته بهذه الصلاة لما فيها من السر والبركة، فإنما هي منقبة وفضيلة مقدسة، وهي لا تنبغي إلا للمؤمن الذي خصته الآية بالخطاب، وبالتالي لا ينبغي أن يفوته فضلها. وأن صورة الصلاة وأسلوبها أمر موسع في الحال والمقال، متروك للكفاية والاجتهاد في حدود التأصيل الشرعي العام.
ولا شك أن الأداء بالوارد له فضله العظيم، وهو لا يتعارض البتة مع الأداء بما تسكن إليه النفس ويطئن المتعبد إلى ممارسته من منظوم ومنثور كما قدمنا.
فإنه لم يأت نهي صريح أو ضمني عن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم بغير الوراد، بل إن إطلاق الأمر في الآية فيه معنى الاجتهاد في الاختيار والتحديد.
وهكذا مدح الله من عزروه ونصروه صلى الله عليه وسلم، والتعزير هنا هو التقدير، والتوقير، والتمجيد.
2- التأصيل الشرعي:
والتأصيل الشرعي هنا مُبَيَّنٌ كل البيان:
أولًا: في قوله صلى الله عليه وسلم: «لاَ تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى الْمَسِيح ابْنَ مَرْيَمَ»([2]).
ثانيًا: في قوله صلى الله عليه وسلم لوفد أطروه: «قُولُوا بِقَوْلِكُمْ وَلاَ يَسْتَجْرِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ»([3]).
والمراد هنا وهنا: ألا نرفعه إلى درجة الألوهية، كما استجرى الشيطان النصارى، فقالوا بذلك عن عيسى زورًا وبهتانًا. ثم نمدحه بعد ذلك بكل ما يفيضه الله على أحبائه.
ثالثًا: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن حضره من الشعراء أن يمتدحه بكل ما جادت به قرائحهم. واستمع صلى الله عليه وسلم إلى ذلك من أمثال عمه العباس، وشاعره حسان، وحاديه ابن رواحة، وخادمه أنس وغيرهم، بل لقد أثاب صلى الله عليه وسلم من مدحه إثابة حسية ومعنوية كما حدث في أمر كعب ابن زهير، فكان عفوه صلى الله عليه وسلم عنه إثابة معنوية، وكان إلقاؤه البردة عليه إثابة حسية.
وهكذا يصبح الاجتهاد في الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم ومحاولة إحسانها وتجوديها، والتسامي بلفظها ومعناها؛ سنة إقرارية على الأقل، سواء أكانت من الشعر أم من النثر.
وهذه قصة عائشة وقد مدحته صلى الله عليه وسلم ببعض أقوال الشعراء، فتهلل ورضي، ولم ينهها.
قال الحافظ السخاوي: وقد روينا عن ابن مسدي ما نصه: وقد روى في كيفية الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة، وذهب جماعة من الصحابة فمن بعدهم إلى أن الباب لا يتوقف فيه مع المنصوص، واحتجوا بقول ابن مسعود: أحسنوا الصلاة على نبيكم، فإنكم لا تدرون فلعل ذلك يعرض عليه([4]).
نقول: وقد أخرج هذا الحديث الحافظ الديلمي في مسند الفردوس مرفوعًا من رواية ابن مسعود، كما ذكره في القول البديع، وفي غيره مرفوعًا أيضًا.
وقال بعضهم: هو موقوف على ابن مسعود.
وحتى لو كان موقوفًا لكان الأخذ به أمثل وأفضل لكثرة ما صح من الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم في أن صلاة المصلين عليه صلى الله عليه وسلم تبلغه وهو يسمعها ويرد السلام. فإنه صلى الله عليه وسلم حي حياة برزخية أرقى وأنقى من الحياة الدنيا، وقد جاء في هذا الشأن عدد من صحاح الأحاديث، ربما ذكرنا بعضها في البحوث الآتية. تأمل: كيف تخاطبه أنت في صلاتك مخاطبة الحي الحاضر السامع الموجود معك، فتقول في التشهد (السلام عليك أيها النبي) بصيغة الخطاب التي لا تكون إلا للحي المخاطب الموجود بالفعل في المجلس، فلو لم يكن هذا السلام يبلغه لكانت مشروعيته هنا عبثًا على الأقل، والصلاة منزهة عن العبث.
3- بين الدلائل والبردة:
وقد تتبعنا -طوق جهدنا- ما جاء في هذا الباب فلم نقع على حديث يمنع الاجتهاد في الصلاة والسلام عليه شعرًا أو نثرًا، بقدر ما يفيضه الحب على لسان المحب، وما يصوغه الإيمان على لسان المؤمن من عبارات فيها روائح الجنة، ونفحات السماء.
فالحملة على هذا الجانب استدراج خبيث إلى النزول بالمستوى النبوي وتهوينه، أو هو عند حسن الظن جمود عقلي كريه، وخمود عاطفي موبق، وعبادة وثنية لظواهر الألفاظ.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أمور:
أولًا: يجازف بعضهم بتحريم قراءة دلائل الخيرات في الصلاة على النبي، وأمثلها مما ألفه الأشياخ والأئمة، وأنت بعد أن عرفت ما قدمنا لن تجد الأمر محلًا من معقولية الأشياء، وإنما هي المجازفة والولع بالمخالفة، والتعلق بالدعاوي الزائفة، والآراء التالفة، والاتجار بالدين في طلب الدنيا، والتحكم بفرض الرأي الواحد.
ولا شك أن الإمام الجزولي لا يتحمل قط مسؤولية ما دسوه عليه في مقدمة كتابه الدلائل من الأحاديث الموضوعة ونحوها. فإن الناس حاولوا الدس في القرآن والنبي حي، والوحي ينزل، وما قصة الغرانيق بمجهولة، ولقد سوا على الرسول آلاف الأحاديث المكذوبة، ودسوا في علوم الدين كالفقه، والتوحيد، والتفسير، والتصوف وغيره ما هو مشهور، فكيف لا يدسون على الجزولي بعد أن مات، وهم قد دسوا على الشعراني وهو حي يرزق؟!
ثانيًا: تكتم العصبية أنفاس بعضهم وعقله وقلبه فيحرم قراءة بردة البوصيري في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحكم على مؤلفها وتاليها بالكفر والإشراك من أجل نحو قوله رضى الله عنه:
1- يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به
* سواك عند حلول الحادث العمم
2- ولن يضيق رسول الله جاهك بي
* إذ الكريم تجلّىٰ باسم منتقم
3- فإن من وجودك الدنيا وضرتُها
* ومن علومك علم اللوح والقلم
وكذلك من أجل نحو قوله أيضًا:
إن لم يكن في معادي آخذًا بيدي
* فضلًا وإلا فقل: يا زلة القدم؟
حاشاه أن يحرم الراجي مكارمه
* أو يرجع الجار منه غير محترم
والمسألة أقل من زوبعة في فنجان أو كستبان فإن الحزبية والحقد، والتعصب للتقليد، وضيق الأفق، والتأزم والتعقيد الذي يعانيه هؤلاء الناس ينزع من نفوسهم صفات السماحة، واليسر، والترفق، والمرونة، وشفافية العاطفة، وحسن الظن بالناس، ودقة الحكم على الأشياء بما هم فيه من لزوجة الذوق، والغثيان الفكري، والوجدان المتهرئ.
إن البوصيري يخاطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورسول الله حي، كما ثبت في الصحاح([5])، وروحه منطلقة في برزخها، وكما نخاطبه نحن في تشهد صلواتنا يخاطبه أحبابه في أشعارهم ومنثوراتهم، المكتوبة أو المنطوقة على حد سواء.
وكما شرع لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نخاطب الموتى، ونسلم عليهم، ونبشرهم باللحاق بهم، وغير ذلك تحدث البوصيري مع روح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائلًا:
1- يا أكرم الخلق إني مذنب، فلا تحرمني شفاعتك، فليس لي من شفيع سواك ألوذ به عند حلول الهول الأعظم يوم القيامة.
وفي حديث رَبِيعَة الأَسْلَمِيّ قال -رضى الله عنه- لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ، قال صلى الله عليه وسلم: «أَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ». وهو في صحيح مسلم([6]) وربيعة. هنا يطلب من الرسول مباشرة مرافقته في الجنة فيرد الرسول عليه بهذا الكلام الرفيع. مع أن الرسول لا يملك ما طلبه منه الرجل.
فمحادثة البوصيري لروح رسول الله وطلبه الشفاعة أمر عادي مستحب على الأقل، ولعل البوصيري كان في مقام الكشف والشهود فخاطب مرئيًا له موجودًا محسوسًا بالنسبة له، فلا شيء عليه بهذا ولا بهذا، ولا يزال الناس في المشارق والمغارب يخاطبون الرسول في خطبهم ومحاضراتهم وأشعارهم خطاب الخاضر الموجود، فيقولون مثلًا: كنت كذا وكذا يا رسول الله، وما هو من هذا المعنى مما لا يحصى.
ولا يزال وسوف يزال يدور على الألسنة.
2- وفي البيت الثاني: يقرر البوصيري أن جاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند الله جاه رحيب لا يضيق بفضل الشفاعة للمذنب -بإذن الله- يوم يتجلى الحق تعالى بصفة الانتقام والعدل فخشعت له الأصوات، وعنت والوجوه، ويقال له -صلى الله عليه وسلم-: اشفع تشفع.
3- وفي البيت الثالث: يقرر أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يجود بكل ما يعطيه من شؤون الآخرة والدنيا، حسية كانت أو معنوية كالبذل والعطاء من شؤون الدنيا، والتربية والتوجيه من شؤون الآخرة، أو أنه يجود بالخير في الدنيا على الطالبين، وبالشفاعة عند الله للمذنبين إن شاء الله. كما يقرر أن الله تعالى عَلَّمَ رسوله -صلى الله عليه وسلم- ما شاء من أسرار اللوح والقلم، كالذي جاء على لسانه -صلى الله عليه وسلم- من أعلام النبوة والإخبار بالغيب. وحسبك القرآن الكريم وما يحمله من غيوب اللوح والقلم التي تتجلى يومًا بعد يوم. فكان ذلك علمًا من علومه -صلى الله عليه وسلم-.
4- وفي البيت الرابع: يخشى البوصيري ألا تناله شفاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- معبرًا عنها بالأخذ باليد، فإنه إن لم تصبه تدركه الشفاعة زلت قدمه في النار.
5- وفي البيت الخامس: يطمئن البوصيري نفسه على أنه سينال هذه المنية من الشفاعة بفضل الله، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحرم طالبًا من مكارمه، ولم يرد جارًا عن بابه إلا وهو محترم مجبور الحال، وهو بذلك أولى في الآخرة بما له من منزلة.
وبعد: فلسنا في هذه الأبيات التي أقاموا عليها الدنيا ولم يقعدوها ومنعوا من أجلها دخول مطبوع البردة إلى بيوتهم وبلادهم، لسنا نرى فيها إلا الخير، والأدب، وحسن الظن بالله ورسوله في توحيد مطلق، وأمل فياض، وأدب رفيع.
ولكن الله له في خلقه شؤون، إن هؤلاء الذين يمنعون أن يدخل مطبوع البردة أو الدلائل إلى بلادهم هم الذين يستوردون صور العرايا والمجلات الماجنة، ويرحبون بالانحلال في أبشع صوره المقروءة، والمكتوبة، والمصورة تدخل بيوتهم وعلى نسائهم وأولادهم بوسائل الإعلام دون أي نكير وباسم الدين.
([1]) وهو قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب:56].
([2]) أخرجه البخاري: (3445) عن عمر رضى الله عنه.
([3]) أخرجه أبو داود (4806) عن مطرف بن عبد الله.
([4]) حلية الأولياء: (271/4).
([5]) في الحديث الثابت: «إن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء»، أما حياة البرزخ فلا شك فيها.
([6]) صحيح مسلم: (489/226).
25/11/2024, 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
25/11/2024, 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
25/11/2024, 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
25/11/2024, 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
25/11/2024, 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
25/11/2024, 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin