الصفحة 11 من 20
الباب الرابع - في علمه وزهده وورعه ورفع همته وحلمه وصبره وسداد طريقته
كان } لا يُتَحَدَّثُ معه في علم من العلوم إلا تحدث معك فيه، حتى يقول السامع له: «إنه لا يحسن غير هذا العلم»؛ سَيَّمَا علم التفسير والحديث، وكان يقول: «شاركنا الفقهاء فيما هم فيه، ولم يشاركونا فيما نحن فيه»، وكان كتابه في أصول الدين «الإرشاد»، وفي الحديث كتاب «المصابيح»، وفي الفقه «التهذيب» و«الرسالة»، وفي التفسير كتاب ابن عطية.
ولقد كان يقرأ عليه بعض المغرقين في العربية فيرد عليه اللحن، وأما علوم المعارف والأسرار فقطب رحاها، وشمس ضحاها، تقول إذا سمعت كلامه: «هذا كلام من ليس وطنه إلا غيب الله»، هو بأخبار أهل السماء أعلم منه بأخبار أهل الأرض.
وسمعت أن الشيخ أبا الحسن قال عنه: «أبو العباس بطرق السماء أعرف منه بطرق الأرض».
كنت سمعته لا يتحدث إلا في العقل الأكبر، والاسم الأعظم وشعبه الأربع، والأسماء والحروف، ودوائر الأولياء، ومقامات الموقنين والأملاك المقربين عند العرش، وعلوم الأسرار، وأمداد الأذكار، ويوم المقادير، وشأن التدبير، وعلم البدء، وعلم المشيئة، وشأن القبضة، ورجال القبضة، وعلوم الإفراد، وما سيكون يوم القيامة من أفعال الله مع عباده من حلمه وإنعامهْ، ووجود انتقامهْ، حتى لقد سمعته يقول: «واللهِ لولا ضعفُ العقول لأخبرت بما يكون غدًا من رحمة الله».
وإن تنزل إلى علوم المعاملة ففي الزمن اليسير لجاجة الخلق إلى ذلك، ولذلك تَقِلُّ أتباع مَن هذه علومه، وقد يكثر المشترون للمَرجان، وقَلَّ أن يجتمع على شراء الياقوت اثنان؛ ولذلك كان يقول: «أتباع أهل الحق قليلون»، وقد قال الله سبحانه: ﴿...وَقَلِيلٌ مَا هُمْ...﴾([1])، وقال سبحانه: ﴿...وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾([2])، وقال: ﴿...وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾([3])، وقال في أهل الكهف: ﴿...مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ...﴾([4])؛ فأولياء الله أهل كهف الإيواء، فقليل من يعرفهم.
وقد سمعته يقول: «معرفة الولي أصعب من معرفة الله؛ فإن الله معروف
بكماله وجماله، ومتى تعرف مخلوقًا مثلك، يأكل كما تأكل ويشرب كما تشرب!».
وأما زهده في الدنيا؛ فيستدل على الزهد في الدنيا بالزهد في الرياسة، ويستدل على الزهد في الاجتماع بأهلها، ولقد مكث } بالإسكندرية ستًّا وثلاثين سنة، ما أري وجهَ متوليها، ولا أرسل إليه، وطلب ذلك المتولي بالإسكندرية الاجتماع به؛ فأبى الشيخ ذلك، وقال له الزكي الأسواني: «يا سيدي، متولي الإسكندرية قال: إنه يؤثر الاجتماع بك ويأخذ بيدك؛ فتكون شيخه»، فقال الشيخ: «يا زكي، لست ممن يُلعب به، واللهِ إني ألقى الله ولا يراني ولا أراه» فكان الأمر كذلك.
وكان إذا نزل بلدة وقيل له: «متولي البلدة يريد أن يأتيك غدًا» سافر هو ليلًا، ولقد كان يأتي إليه متولي الثغر وناظره ومشد الدواوين بها، قليلة إتيانهم، يغلب القبض عليه، ولا ينبسط الكلام كحاله في عدم حضورهم، حتى كنا نقول: «ليت ذلك الكلام الذي كان في غيبتهم كان ليلة حضورهم»، ولقد أتى إليه الشجاعي في بحبوحة عزه وتمكنه من السلطنة؛ فما ألوى إليه عِنَانَ هِمَّتِهِ، ولا فَوَّقَ إليه سهام عزيمته، حتى لقد بلغني أن الزكي الأسواني لمَّا استعرض الشجاعي حوائجه، قال الشيخ: «يا سيدي، اطلب منه أرضًا يزرعها أصحابك»، فقال: «يا زكي، هذا مما لا يكون أبدًا».
ومن زهده أنه خرج من الدنيا وما وضع حجرًا على حجر، ولا اتَّخَذَ بستانًا، ولا استنتج سببًا من أسباب الدنيا، ولا خَلَّفَ وراءه رزقه، مع أن الزهد وصف من أوصاف القلوب، يصف الله به قلب من أحبه، ولكن له علامات تدل عليه.
وقال الشيخ أبو الحسن }: رأيت الصديق في المنام، فقال لي: «أتدري ما علامة خروج حب الدنيا من قلبه؟».
قلت: «لا أدري»، قال: «علامة خروج حب الدنيا من القلب بذلها عند الوجد ووجود الراحة منها عند الفقد».
وقال الشيخ أبو العباس: رأيت عمر بن الخطاب } في المنام، فقلت: «يا أمير المؤمنين، ما علامة حب الدنيا؟»، قال: «خوف المَذَمَّةِ وحُبُّ الثناء»، فإذا كان علامة حبها خوف المذمة وحب الثناء؛ فعلامة الزهد فيها وبغضها ألَّا يخاف المذمة ولا يحب الثناء.
وأما ورعه؛ فلقد أخبرني بعض أصحابه أنه دخل يومًا بيت واحد من الجماعة في البرج الذي هو فيه، فوجده يضرب فيه وتِدًا، قال: فاتفق
للشيخ من الحرج الأمر الكبير، قال: «كيف يحل لك أن تتصرف في الحبس بأمر لم يؤذن لك فيه!».
وكان يقول: «واللهِ ما دخل بطني حرام قط»، وكان يقول: «الوَرِعُ مَن وَرَّعَهُ الله».
وقال }: عزم علينا بعض صلحاء الإسكندرية في بستان له بالرمل، فخرجت أنا وجماعةٌ من صلحاء الثغر، ولم يخرج معنا صاحب البستان في ذلك الوقت، بل وصف المكان، فتجارينا -ونحن خارجون- الكلام في الورع، فكُلٌّ قال شيئًا، فقلت لهم: «إنما الورع من وَرَّعَه الله» فلما أتينا إلى البستان، وكان زمن ثمرة التوت؛ فكلهم أسرع إلى الأكل وأكل، وكنت كلما جئت لآكل أجد وجعًا في بطني فأرجع، فينقطع الوجع عني، فعلت ذلك مرارًا؛ فجلست ولم آكل شيئًا، فهم يأكلون وإذا بإنسان يصيح: «كيف يحل لكم أن تأكلوا من ثمرة بستاني بغير إذني؟»، فإذا هم قد غلطوا بالبستان، فقلت لهم: «ألم أقل لكم الورع من ورعه الله؟».
واعلم -رحمك الله- أنَّ ورع الخصوص لا يفهمه إلا قليل؛ فإنَّ من جملة ورعهم تَوَرُّعُهُم من أن يسكنوا لغيره، أو يميلوا بالحب لغيره، أو تمتد أطماعهم بالطمع في غير فضله وخيره.
ومن ورعهم: ورعُهُم عن الوقف مع الوسائط والأسباب وخلع الأنداد والأرباب.
ومن ورعهم: ورعُهم عن الوقوف مع العادات، والاعتماد على الطاعات، والسكون إلى أنوار التجليات.
ومن ورعهم: ورعُهُم عن أن تَفْتِنَهُمُ الدُّنْيَا أو توقفهم الآخرة، تورعوا عن الدنيا وفاءً، وعن الوقوف مع الآخرة صفاءً.
قال الشيخ عثمان بن عاشوراء: خرجت من بغداد أريد الموصل، فأنا أسير وإذ بالدنيا قد عُرِضَت عليَّ بعزها وجاهها ورفعتها ومراكبها وملابسها ومن بناتها ومشتهياتها؛ فأعرضتُ عنها، فعرضت عليَّ الجنةُ بحورها وقصورها وأنهارها وثمارها؛ فلم أشتغل بها، فقيل لي: «يا عثمان، لو وقفت مع الأولى لحجبناك عن الثانية، ولو وقفت مع الثانية لحجبناك عنها؛ فها نحن لك وقسطُك من الدارين يأتيك».
وقال الشيخ عبد الرحمن المغربي، وكان مقيمًا بشرقِيِّ الإسكندرية: حججت سنة من السنين، فلما قضيت الحج عزمت عليَّ بالرجوع إلى الإسكندرية، فإذا علي يقول لي: «إنك العام القابل عندنا»، فقلت: «إذا كنت العام القابل ها هنا فلا أعود إلى الإسكندرية، فخطر لي الذهاب إلى اليمن؛ فأتيت إلى عَدَنَ، فأنا يومًا على
ساحلها أمشي، وإذا أنا بالتجار قد أخرجوا بضائعهم ومتاجرهم، ثم نظرت فإذا رجل قد فرش سجادة على البحر ومشى على الماء، فقلت في نفسي: «لم تصلح للدنيا ولا للآخرة»، فإذا علي يقول لي: «من لا يصلح للدنيا ولا للآخرة يصلح لنا».
وقال الشيخ أبو الحسن: «الورع([5]) نعم الطريق لمن عُجِّلَ ميراثه وأُجِّلَ ثوابه»؛ فقد انتهى بهم الورع إلى الأخذ من الله وعن الله، والقول بالله، والعمل لله وبالله، على البَيِّنَةِ الواضحة والبصيرة الفائقة؛ فهم في عموم أوقاتهم وسائر أحوالهم، لا يدبرون ولا يختارون، ولا يريدون، ولا يتفكرون ولا ينظرون، ولا ينطقون ولا ينبسطون، ولا يمشون ولا يتحركون إلا بالله من حيث يعلمون، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر؛ فهم مجموعون في عين الجمع، لا يتفرقون فيما هو أعلى ولا فيما هو أدنى.
وأما أدنى الأدنى فالله يورعهم عنه ثوابًا لورعهم، مع الحفظ لمنازلات الشرع عليهم، ومن لم يكن لعلمه وعمله ميراث؛ فهو محجوب بدنيا أو مصروف بدعوى، وميراثه التَّعَزُّزُ لخلقه، والاستكبار على مثله، والدال على الله بعمله؛ فهذا هو الخسران المبين، والعياذ بالله العظيم من ذلك.
والأكياس يتورعون عن هذا الورع ويستعيذون بالله منه، ومن لم يزدد بعمله وعلمه افتقارًا لربه وتواضعًا لخلقه؛ فهو هالك، فسبحان من قطع كثيرًا من الصالحين بصلاحهم عن مُصْلِحِهِم، كما قطع كثيرًا من المفسدين بفسادهم عن مُوجِدِهِم، فاستعذ بالله؛ إنه هو السميع العليم.
فانظر -فَهَّمَك الله سبل أوليائه ومَنَّ عليك بمتابعة أحبابه- هذا الورع الذي ذكره الشيخ }، هل كان يصل فهمك إلى مثل هذا النوع من الورع؟ ألا ترى قوله: «فقد انتهى بهم الورع إلى الأخذ من الله وعن الله، والقول بالله،
والعمل لله وبالله، على البينة الواضحة والبصيرة الفائقة»؛ فهذا هو ورع الأبدال، والصديقين لا ورع المتنطعين الذي ينشأ عن سوء الظن وغلبة الوهم.
وأما رفع همته فكان ظاهرًا من ذلك بالعجب العجاب، وقد تقدم من رفع همته عن ولاة الأمور، مع استعراضهم لحوائجه وتطارحهم عليه، قال يومًا لأصحابه: جاءني الطواشي بهاء الدين -وهو مشد الديوان إذ ذاك- والفقيه شمس الدين الخطيب -وهو يومئذ ناظر الأجياش- فقال لي: «إن هذه القلعة تحتاج إلى حُصر وزيت وقناديل، وتحتاج الفقهاءُ فيها إلى ما يأكلون، ونحن حكام الوقت، نُطْلِقُ لها شيئًا كل شهر»؛ فقلت لهم: حتى أشاور أصحابي، وأنتم أصحابي، فماذا تشيرون؟ فلم يرجع إليه أحد جوابًا، فأعاد الأمر مرارًا، فلم يجبه أحد؛ فقال: «اللهم أغننا عنهم، ولا تغننا بهم؛ إنك على كل شيء قدير»، ولم يجبهم إلى ما ذكروا، ومات الشيخ رحمه الله تعالى، وليس للمكان مُرَتَّبٌ ولا مَعْلُومٌ.
وسمعته يقول: «واللهِ ما رأيت العز إلا في رفع الهمة عن الخلق».
وسمعته يقول: «رأيت كلبًا في المحجة، ومعي شيء من الخبز؛ فوضعته بين يديه؛ فلم يلتفت إليه فقربته من فمه، فإذا علي يقول لي: أُفٍّ لمن يكون الكلب أزهد منه».
وسمعته يقول: خرجت يومًا أشتري حاجة من بعض من يعرفني بنصف درهم، فقلت في نفسي: «ولعله لا يأخذه مني»، فإذا علي يقول لي: «السلامة في الدينْ بترك الطمع في المخلوقينْ».
قال: فأتيت إلى الموضع الذي كنت مقيمًا به، ودخلت وأغلقت الباب، وأنا جالس وإنسان قد فتح الباب علي بمِرَّةٍ، وقال: «بماذا تكون السلامة في الدين؟»، قال: فقلت له: «بترك الطمع في المخلوقين»، فأخذها كأنما كانت ضَالَّةً وجدها؛ فتبين من حاله أن الشيخ كان قد قال له: «اذهب إلى موضع كذا، فاكتل لك ثلاث ويبات»، فذهب فاكتال لنفسه إردبًّا، فبلغ ذلك الشيخ، فقال: «فرغوا ما اكتاله في موضعه، وأعطُوه ثلاث ويبات التي كُنَّا أعطيناه إياها».
وقال } عن الطمع: «ثلاثة أحرف كلها مجوفة، فهو بطر كله؛ فلذلك صاحبه لا يشبع أبدًا».
وكان يقول: «للناس أسباب، وسببنا نحن الإيمان والتقوى، قال الله
سبحانه: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ...﴾([6])».
تنبيه وإعلام:
اعلم أنَّ رفع الهمة عن الخلق شأن أهل الطريق وصفة أهل التحقيق، ولقد سئل الجنيد }: أيزني العارف؟ فقال: ﴿...وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَقْدُورًا﴾ [الأحزاب:38].
ولعَمْرِي لو سئل: أيطمع العارف في غير الله؟ لقال: «لا، وإنما مراد الحق سبحانه أن يفرده العباد في كل شيء؛ حبًّا وثقة وتوكلًا وخوفًا ورجاء، وذلك الذي تستحقه فرديته، وكان بعض العارفين ينشد شعرًا:
حَرَامٌ عَلَى مَنْ وَحَّدَ اللهَ رَبَّهُ
* وَأَفْرَدَهُ أَنْ يَجْتَدِي أَحَدًا رِفْدَا
وَيَا صَاحِبِي قِفْ لِي مَعَ الْحَقِّ وَقْفَةً
* أَمُوتَ بِهَا وَجْدًا وَأَحْيَا بِهَا وَجْدَا
وَقُلْ لِمُلُوكِ الْأَرْضِ تَجْهَدُ جُهْدَهَا
* فَذَا الْمُلْكُ مُلْكٌ لَا يُبَاعُ وَلَا يُهْدَى
ورفع الهمة إنما ينشأ عن صدق الثقة بالله، وصدق الثقة بالله إنما ينشأ عن الإيمان بالله على سبيل المعاينة والمواجهة؛ فيوجب لهم إيمانهم الاعتزاز بالله، قال الله تعالى: ﴿...وَللهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ...﴾([7]).
والنصرَ من الله، قال سبحانه: ﴿...وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ﴾([8]).
والنجاة من العوارض الصادرة عن الله، قال الله تعالى: ﴿...كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ المُؤْمِنِينَ﴾([9]).
فعز المؤمن بثقته بمولاه، ونصرته على نفسه وهواه، ونجاتُه من العوارض ألَّا تقطعه عن سبيل هُداه، وشعار أهل الإرادة ودثارُهم الاكتفاءُ بالله ورفع الهمة عمَّا سوى الله، وصيانة ملابس الإيمان من أن تدنس بالميل إلى الأكوان أو الطمع في غير الملك المنان، ولنا في هذا المعنى شعر:
بَكَرَتْ تَلُومُ عَلَى زَمَانٍ أَجْحَفَا
* فَصَدَفْتُ عَنْهَا عَلَّهَا أَنْ تَصْدِفَا
لَا تُكْثِرَنْ عَتَبًا لِدَهْرِكَ إِنَّهُ
* مَا إِنْ يُطَالَبُ بِالصَّفَاءِ وَلَا الْوَفَا
مَا ضَرَّ بِي إِنْ كُنْتُ فِيهِ خَامِلًا
* فَالْبَدْرُ بَدْرٌ إِنْ بَدَا أَوْ إِنْ خَفَا
اللهُ يَعْلَمُ أَنَّنِي ذُو هِمَّةٍ
* تَأْبَى الدَّنَايَا عِفَّةً وَتَظَرُّفَا
لِمَ لَا أَصُونُ عَنِ الْوَرَى دِيبَاجَتِي
* وَأُرِيهِمُ عِزَّ الْمُلُوكِ وَأَشْرُفَا
أَأُرِيهِمُ أَنِّي الْفَقِيرُ إِلَيْهِمُ
* وَجَمِيعُهُمْ لَا يَسْتَطِيعُ تَصَرُّفَا
أَمْ كَيْفَ أَسْأَلُ رِزْقَهُ مِنْ خَلْقِهِ
* هَذَا لَعَمْرِي إِنْ فَعَلْتُ هُوَ الْجَفَا
شَكْوَى الضَّعِيفِ إِلَى ضَعِيفٍ مِثْلِهِ
* عَجْزٌ أَقَامِ بِحَامِلِيهِ عَلَى شَفَا
فَاسْتَرْزِقِ اللهَ الَّذِي إِحْسَانُهُ
* عَمَّ الْبَرِيَّةَ مَنَّةً وَتَلَطُّفَا
وَالْجَأْ إِلَيْهِ تَجِدْهُ فِيمَا تَرْتَجِى
* لَا تَعْدُ عَنْ أَبْوَابِهِ مُتَحَرِّفَا
والذي يوجب لك رفع الهمة عَمَّا سوى الله، عِلمُك بأنه لم يخرجك إلى مملكته إلا وقد كفاك ومنحك وأعطاك؛ فلم يبق لك حاجة عند غيره، فإذا كان قد اقتضى لهم الفهم عن الله أن يكتفوا بعلمه عن مسألته، كيف لا يوجب لهم الفهمُ الاكتفاء بعلمه عن سؤال خليقته، ومن فاتحه الحق سبحانه بشيء؛ فما فاتح به أحباءه، فقد اقتضى منه ورفع همته إليه كما اقتضاه من غيره وأولى، ألم تسمع قوله سبحانه: ﴿وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ المَثَانِي وَالقُرْآَنَ العَظِيمَ﴾([10]).
لا يمدون عينيك، وكيف لا تكون منته فيك، ومواهبه وفواتح عنايته وخصائص ولايته ناهية لك عن التعلق بغيره؟! وكان بعض العارفين ينشد شعرًا:
أَبَعْدَ نُفُوذِي فِي عُلُومِ الْحَقَائِقِ
* وَبَعْدَ انْبِسَاطِي فِي مَوَاهِبِ خَالِقِي
وَفِي حِينِ إِشْرَافِي عَلَى مَلَكُوتِهِ
* أَرَى بَاسِطًا كَفًّا إِلَى غَيْرِ رَازِقِ
وإن كل ذي رتبة من المخلوقين، لا يرضى منك أن تنسب له رتبة تضيف المنع والعطاء والولاية والعزل فيها لغيره، أفيرضى لك الحق سبحانه أن تعترف له بربوبيته، وتضيف آثارها لغيره! فاحذر أن تكون من الذين قال فيهم سبحانه: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾([11])، وقبيح أن تكون في دار ضيافته وتوجه وجه طمعك لغيره، ولنا في هذا المعنى شعر:
أَيَحْسُنُ بِي َأَنِّي نَزِيلُ ذُرَاكُمُ
* أُوَجِّهُ يَوْمًا لِلْعِبَادِ رَجَائِي
بَلَى إنَّنِي أَلْوِي إِلَيْكَ بِهِمَّةٍ
* أُخَلِّفُ فَيهَا مَا سَوَاكَ وَرَائِي
لا تطلب ممن هو بعيد عنك، وتترك الطلب من مولى هو أقرب إليك من حبل الوريد، ألم تسمع إلى قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ...﴾([12]).
وقال: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ﴾([13]).
وقال: ﴿...وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ...﴾([14]).
وقال: ﴿...ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ...﴾([15]).
وقال: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ...﴾([16]).
كل ذلك ليجمع هِمَمَ عباده عليه؛ كي لا يرفعوا حوائجهم إلا إليه.
وأما حلمه؛ فكان من شأنه أنه لا ينتقم لنفسه ولا ينتصر لها، ولقد دخلت عليه يومًا فقال لي: ما تقول في فلان؟ -رجل كان قد آذى الشيخ الأذى البالغ- أتى إلى أصحاب فلان بعضُ من كان له الأمر في ذلك الزمن، وكان يتردد إلى الشيخ؛ فقالوا: «يا سيدي، هذا الرجل الذي آذاك نسعى في ضربه وإشهاره في البلدتين مصر والقاهرة؛ فماذا تقول أنت؟» قلت له: «مصلحة»، فقال كالمنكر: «لأي شيء قلت ذاك؟» قلتُ: «نتشفى منه»، قال: «أنا ما أتشفى من أحد» قلت: «إنما أردت الأتباع»، قال: «ولا تحمل أتباعي على التشفي»، فأطرقت خجلًا، فما توجه أحد بالأذى لنا بعد ذلك.
فنزلت به نازلة فَمَا هَمَّت نفسي بالتشفي منه إلا وذكرت كلام الشيخ: «أنا لا أتشفى من أحد»، حتى كأني سمعته ذلك الوقت؛ فتخمد النفس عن التشفي بذلك.
واتفق بعد مدة نحو الخمس عشرة سنة، أن الذي كان يسعى في أذية الشيخ سعى في أذيتنا، واتفق له نازلة؛ فصاننا الله من التشفي منه وسلم، وكان الشيخ يقول لي: «هذا الذي استشرتك فيه، سيتفق لك معه مثل ما اتفق لي؛ فافعل مثل ما فعلت معه»، وهكذا هو كلام الأكابر يطوى في صحائف قلوب المريدين، حتى إذا جاء وقته أظهره الله سبحانه، كأنك قد سمعته ذلك الوقت، وربما أحضر الله بفكرك شيخك الذي خاطبك اللهُ بهيئته وزِيِّهِ، وربما تمثل لك في الخيال المنتصل، وربما حضر بوجوده الحِسِّيِّ عند وجود النوازل مُثَبِّتًا للمريد ومعلمًا.
وسمعته } يقول: «ما سمعتموه مني ففهمتموه، فاستودعوه الله يَرُدُّهث عليكم وقت الحاجة، وما لم تفهموه فوكلوه إلى الله؛ يتولَّ الله بيانه».
فكلام الأكابر مردودٌ على المريدين وقت حاجتهم، فيظن المريد أنه
ما أخذ ولقد أخذ، ولكن للحكمة بَذْرٌ ونباتٌ، ووقت البَذْرُ غير وقت النبات، وقد يُبْذَرُ فيك بَذْرَ الحكمة، ويبقى النباتُ متوقفًا على مجيء سحابة ماطرة، فإذا جاءت أظهرت ما كان في الأرض كامنًا؛ فتبقى الودائع مطوية في العباد، حتى تجيء أوقاتها.
وبلغني عن الشيخ أبي الحسن أنه كان يقول: «لا حجاب إلا الوقت».
وسمعته يومًا يقول: «كان إذا آذاني إنسان يَهْلِكُ للوقت، وأنا الآن لست كذلك» فرآني } مستشرفًا لسبب ذلك فقال: «اتسعت المعرفة».
وسمعته يقول: «لحوم الأولياء مسمومة».
واعلم -علمك الله من العلم الذي يدل عليك، وجعلك من الدائمين بين يديه- أن انتصار الحق لأوليائه، ليس ذلك لأنهم طلبوه من الله، ولكن لمَّا صدقوا التوكل عليه، وأرجعوا الأمر إليه؛ انتصر الحق لهم، ألم تسمع قوله: ﴿...وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ﴾([17])، وقوله سبحانه: ﴿....وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ...﴾([18]).
ولا تقولن: «هم من ينتصر لنفسه منك»، بل عدهم ممن ينتصر الله له؛ فإنه الغالب الذي لا يُغلب، والقادر الذي لا يَعجِز، والقهار الذي لا قِبَلَ لأهل السماوات والأرض بِذَرَّةٍ من بلائه، ولو وضع ذرة من ذرات قهره على الجبال لأذابتها.
ومعنى قول الشيْخ: «اتسعت المعرفة»: أن المُريدَ في مبدأ إراداتِه بهمته وفي نهايته بوجود معرفته، فإذا كان في مبدأ إرادته توجه بصدق الهمة إلى الله، لاجئًا إليه في الانتقام مِمَّنْ أذاه، فينتصر الحق له؛ لتوجهه بصدق الهمة في طلب النصرة، ولضيق عطنه عن الصبر عن تأخر الانتقام له.
والعارف اتَّسَعَ عليه بحر المعرفة، فانطوت همته وإشاءته وتدبيره، وإشاءة الحق له وتدبيره إياه، ومن غلب عليه شهود المشيئة؛ فأي همة تبقى له!.
وأيضًا إنه إذا أُخِّرَتْ عقوبة من أذاه، شهد حسن اختبار مولاه، فلم يعجل له الانتصار؛ لأنه لا يخشى عليه ما يخشى على المريد من عدم الصبر إذا أخر الانتقام له.
وأيضًا إن العارف لو توجه لطلب الانتقام ممن ظلمه، قامت الرأفة والرحمة القائمان به؛ لتخلقه بخلقِ معروفه، فمنعاه من الانتصار وإن كان على ذلك قادرًا، وكيف ينتصر من يرى الله فعالًا فيهم!.
ثم أولياء الله إذا ظُلِمُوا على طبقات: داعٍ يدعو على من ظلمه استثار الأذى منه القرح، واستخرج منه الاضطرار؛ فهذا الذي لا يُرَدُّ دعاؤه، ومنه قوله —: «واتق
الباب الرابع - في علمه وزهده وورعه ورفع همته وحلمه وصبره وسداد طريقته
كان } لا يُتَحَدَّثُ معه في علم من العلوم إلا تحدث معك فيه، حتى يقول السامع له: «إنه لا يحسن غير هذا العلم»؛ سَيَّمَا علم التفسير والحديث، وكان يقول: «شاركنا الفقهاء فيما هم فيه، ولم يشاركونا فيما نحن فيه»، وكان كتابه في أصول الدين «الإرشاد»، وفي الحديث كتاب «المصابيح»، وفي الفقه «التهذيب» و«الرسالة»، وفي التفسير كتاب ابن عطية.
ولقد كان يقرأ عليه بعض المغرقين في العربية فيرد عليه اللحن، وأما علوم المعارف والأسرار فقطب رحاها، وشمس ضحاها، تقول إذا سمعت كلامه: «هذا كلام من ليس وطنه إلا غيب الله»، هو بأخبار أهل السماء أعلم منه بأخبار أهل الأرض.
وسمعت أن الشيخ أبا الحسن قال عنه: «أبو العباس بطرق السماء أعرف منه بطرق الأرض».
كنت سمعته لا يتحدث إلا في العقل الأكبر، والاسم الأعظم وشعبه الأربع، والأسماء والحروف، ودوائر الأولياء، ومقامات الموقنين والأملاك المقربين عند العرش، وعلوم الأسرار، وأمداد الأذكار، ويوم المقادير، وشأن التدبير، وعلم البدء، وعلم المشيئة، وشأن القبضة، ورجال القبضة، وعلوم الإفراد، وما سيكون يوم القيامة من أفعال الله مع عباده من حلمه وإنعامهْ، ووجود انتقامهْ، حتى لقد سمعته يقول: «واللهِ لولا ضعفُ العقول لأخبرت بما يكون غدًا من رحمة الله».
وإن تنزل إلى علوم المعاملة ففي الزمن اليسير لجاجة الخلق إلى ذلك، ولذلك تَقِلُّ أتباع مَن هذه علومه، وقد يكثر المشترون للمَرجان، وقَلَّ أن يجتمع على شراء الياقوت اثنان؛ ولذلك كان يقول: «أتباع أهل الحق قليلون»، وقد قال الله سبحانه: ﴿...وَقَلِيلٌ مَا هُمْ...﴾([1])، وقال سبحانه: ﴿...وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾([2])، وقال: ﴿...وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾([3])، وقال في أهل الكهف: ﴿...مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ...﴾([4])؛ فأولياء الله أهل كهف الإيواء، فقليل من يعرفهم.
وقد سمعته يقول: «معرفة الولي أصعب من معرفة الله؛ فإن الله معروف
بكماله وجماله، ومتى تعرف مخلوقًا مثلك، يأكل كما تأكل ويشرب كما تشرب!».
وأما زهده في الدنيا؛ فيستدل على الزهد في الدنيا بالزهد في الرياسة، ويستدل على الزهد في الاجتماع بأهلها، ولقد مكث } بالإسكندرية ستًّا وثلاثين سنة، ما أري وجهَ متوليها، ولا أرسل إليه، وطلب ذلك المتولي بالإسكندرية الاجتماع به؛ فأبى الشيخ ذلك، وقال له الزكي الأسواني: «يا سيدي، متولي الإسكندرية قال: إنه يؤثر الاجتماع بك ويأخذ بيدك؛ فتكون شيخه»، فقال الشيخ: «يا زكي، لست ممن يُلعب به، واللهِ إني ألقى الله ولا يراني ولا أراه» فكان الأمر كذلك.
وكان إذا نزل بلدة وقيل له: «متولي البلدة يريد أن يأتيك غدًا» سافر هو ليلًا، ولقد كان يأتي إليه متولي الثغر وناظره ومشد الدواوين بها، قليلة إتيانهم، يغلب القبض عليه، ولا ينبسط الكلام كحاله في عدم حضورهم، حتى كنا نقول: «ليت ذلك الكلام الذي كان في غيبتهم كان ليلة حضورهم»، ولقد أتى إليه الشجاعي في بحبوحة عزه وتمكنه من السلطنة؛ فما ألوى إليه عِنَانَ هِمَّتِهِ، ولا فَوَّقَ إليه سهام عزيمته، حتى لقد بلغني أن الزكي الأسواني لمَّا استعرض الشجاعي حوائجه، قال الشيخ: «يا سيدي، اطلب منه أرضًا يزرعها أصحابك»، فقال: «يا زكي، هذا مما لا يكون أبدًا».
ومن زهده أنه خرج من الدنيا وما وضع حجرًا على حجر، ولا اتَّخَذَ بستانًا، ولا استنتج سببًا من أسباب الدنيا، ولا خَلَّفَ وراءه رزقه، مع أن الزهد وصف من أوصاف القلوب، يصف الله به قلب من أحبه، ولكن له علامات تدل عليه.
وقال الشيخ أبو الحسن }: رأيت الصديق في المنام، فقال لي: «أتدري ما علامة خروج حب الدنيا من قلبه؟».
قلت: «لا أدري»، قال: «علامة خروج حب الدنيا من القلب بذلها عند الوجد ووجود الراحة منها عند الفقد».
وقال الشيخ أبو العباس: رأيت عمر بن الخطاب } في المنام، فقلت: «يا أمير المؤمنين، ما علامة حب الدنيا؟»، قال: «خوف المَذَمَّةِ وحُبُّ الثناء»، فإذا كان علامة حبها خوف المذمة وحب الثناء؛ فعلامة الزهد فيها وبغضها ألَّا يخاف المذمة ولا يحب الثناء.
وأما ورعه؛ فلقد أخبرني بعض أصحابه أنه دخل يومًا بيت واحد من الجماعة في البرج الذي هو فيه، فوجده يضرب فيه وتِدًا، قال: فاتفق
للشيخ من الحرج الأمر الكبير، قال: «كيف يحل لك أن تتصرف في الحبس بأمر لم يؤذن لك فيه!».
وكان يقول: «واللهِ ما دخل بطني حرام قط»، وكان يقول: «الوَرِعُ مَن وَرَّعَهُ الله».
وقال }: عزم علينا بعض صلحاء الإسكندرية في بستان له بالرمل، فخرجت أنا وجماعةٌ من صلحاء الثغر، ولم يخرج معنا صاحب البستان في ذلك الوقت، بل وصف المكان، فتجارينا -ونحن خارجون- الكلام في الورع، فكُلٌّ قال شيئًا، فقلت لهم: «إنما الورع من وَرَّعَه الله» فلما أتينا إلى البستان، وكان زمن ثمرة التوت؛ فكلهم أسرع إلى الأكل وأكل، وكنت كلما جئت لآكل أجد وجعًا في بطني فأرجع، فينقطع الوجع عني، فعلت ذلك مرارًا؛ فجلست ولم آكل شيئًا، فهم يأكلون وإذا بإنسان يصيح: «كيف يحل لكم أن تأكلوا من ثمرة بستاني بغير إذني؟»، فإذا هم قد غلطوا بالبستان، فقلت لهم: «ألم أقل لكم الورع من ورعه الله؟».
واعلم -رحمك الله- أنَّ ورع الخصوص لا يفهمه إلا قليل؛ فإنَّ من جملة ورعهم تَوَرُّعُهُم من أن يسكنوا لغيره، أو يميلوا بالحب لغيره، أو تمتد أطماعهم بالطمع في غير فضله وخيره.
ومن ورعهم: ورعُهُم عن الوقف مع الوسائط والأسباب وخلع الأنداد والأرباب.
ومن ورعهم: ورعُهم عن الوقوف مع العادات، والاعتماد على الطاعات، والسكون إلى أنوار التجليات.
ومن ورعهم: ورعُهُم عن أن تَفْتِنَهُمُ الدُّنْيَا أو توقفهم الآخرة، تورعوا عن الدنيا وفاءً، وعن الوقوف مع الآخرة صفاءً.
قال الشيخ عثمان بن عاشوراء: خرجت من بغداد أريد الموصل، فأنا أسير وإذ بالدنيا قد عُرِضَت عليَّ بعزها وجاهها ورفعتها ومراكبها وملابسها ومن بناتها ومشتهياتها؛ فأعرضتُ عنها، فعرضت عليَّ الجنةُ بحورها وقصورها وأنهارها وثمارها؛ فلم أشتغل بها، فقيل لي: «يا عثمان، لو وقفت مع الأولى لحجبناك عن الثانية، ولو وقفت مع الثانية لحجبناك عنها؛ فها نحن لك وقسطُك من الدارين يأتيك».
وقال الشيخ عبد الرحمن المغربي، وكان مقيمًا بشرقِيِّ الإسكندرية: حججت سنة من السنين، فلما قضيت الحج عزمت عليَّ بالرجوع إلى الإسكندرية، فإذا علي يقول لي: «إنك العام القابل عندنا»، فقلت: «إذا كنت العام القابل ها هنا فلا أعود إلى الإسكندرية، فخطر لي الذهاب إلى اليمن؛ فأتيت إلى عَدَنَ، فأنا يومًا على
ساحلها أمشي، وإذا أنا بالتجار قد أخرجوا بضائعهم ومتاجرهم، ثم نظرت فإذا رجل قد فرش سجادة على البحر ومشى على الماء، فقلت في نفسي: «لم تصلح للدنيا ولا للآخرة»، فإذا علي يقول لي: «من لا يصلح للدنيا ولا للآخرة يصلح لنا».
وقال الشيخ أبو الحسن: «الورع([5]) نعم الطريق لمن عُجِّلَ ميراثه وأُجِّلَ ثوابه»؛ فقد انتهى بهم الورع إلى الأخذ من الله وعن الله، والقول بالله، والعمل لله وبالله، على البَيِّنَةِ الواضحة والبصيرة الفائقة؛ فهم في عموم أوقاتهم وسائر أحوالهم، لا يدبرون ولا يختارون، ولا يريدون، ولا يتفكرون ولا ينظرون، ولا ينطقون ولا ينبسطون، ولا يمشون ولا يتحركون إلا بالله من حيث يعلمون، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر؛ فهم مجموعون في عين الجمع، لا يتفرقون فيما هو أعلى ولا فيما هو أدنى.
وأما أدنى الأدنى فالله يورعهم عنه ثوابًا لورعهم، مع الحفظ لمنازلات الشرع عليهم، ومن لم يكن لعلمه وعمله ميراث؛ فهو محجوب بدنيا أو مصروف بدعوى، وميراثه التَّعَزُّزُ لخلقه، والاستكبار على مثله، والدال على الله بعمله؛ فهذا هو الخسران المبين، والعياذ بالله العظيم من ذلك.
والأكياس يتورعون عن هذا الورع ويستعيذون بالله منه، ومن لم يزدد بعمله وعلمه افتقارًا لربه وتواضعًا لخلقه؛ فهو هالك، فسبحان من قطع كثيرًا من الصالحين بصلاحهم عن مُصْلِحِهِم، كما قطع كثيرًا من المفسدين بفسادهم عن مُوجِدِهِم، فاستعذ بالله؛ إنه هو السميع العليم.
فانظر -فَهَّمَك الله سبل أوليائه ومَنَّ عليك بمتابعة أحبابه- هذا الورع الذي ذكره الشيخ }، هل كان يصل فهمك إلى مثل هذا النوع من الورع؟ ألا ترى قوله: «فقد انتهى بهم الورع إلى الأخذ من الله وعن الله، والقول بالله،
والعمل لله وبالله، على البينة الواضحة والبصيرة الفائقة»؛ فهذا هو ورع الأبدال، والصديقين لا ورع المتنطعين الذي ينشأ عن سوء الظن وغلبة الوهم.
وأما رفع همته فكان ظاهرًا من ذلك بالعجب العجاب، وقد تقدم من رفع همته عن ولاة الأمور، مع استعراضهم لحوائجه وتطارحهم عليه، قال يومًا لأصحابه: جاءني الطواشي بهاء الدين -وهو مشد الديوان إذ ذاك- والفقيه شمس الدين الخطيب -وهو يومئذ ناظر الأجياش- فقال لي: «إن هذه القلعة تحتاج إلى حُصر وزيت وقناديل، وتحتاج الفقهاءُ فيها إلى ما يأكلون، ونحن حكام الوقت، نُطْلِقُ لها شيئًا كل شهر»؛ فقلت لهم: حتى أشاور أصحابي، وأنتم أصحابي، فماذا تشيرون؟ فلم يرجع إليه أحد جوابًا، فأعاد الأمر مرارًا، فلم يجبه أحد؛ فقال: «اللهم أغننا عنهم، ولا تغننا بهم؛ إنك على كل شيء قدير»، ولم يجبهم إلى ما ذكروا، ومات الشيخ رحمه الله تعالى، وليس للمكان مُرَتَّبٌ ولا مَعْلُومٌ.
وسمعته يقول: «واللهِ ما رأيت العز إلا في رفع الهمة عن الخلق».
وسمعته يقول: «رأيت كلبًا في المحجة، ومعي شيء من الخبز؛ فوضعته بين يديه؛ فلم يلتفت إليه فقربته من فمه، فإذا علي يقول لي: أُفٍّ لمن يكون الكلب أزهد منه».
وسمعته يقول: خرجت يومًا أشتري حاجة من بعض من يعرفني بنصف درهم، فقلت في نفسي: «ولعله لا يأخذه مني»، فإذا علي يقول لي: «السلامة في الدينْ بترك الطمع في المخلوقينْ».
قال: فأتيت إلى الموضع الذي كنت مقيمًا به، ودخلت وأغلقت الباب، وأنا جالس وإنسان قد فتح الباب علي بمِرَّةٍ، وقال: «بماذا تكون السلامة في الدين؟»، قال: فقلت له: «بترك الطمع في المخلوقين»، فأخذها كأنما كانت ضَالَّةً وجدها؛ فتبين من حاله أن الشيخ كان قد قال له: «اذهب إلى موضع كذا، فاكتل لك ثلاث ويبات»، فذهب فاكتال لنفسه إردبًّا، فبلغ ذلك الشيخ، فقال: «فرغوا ما اكتاله في موضعه، وأعطُوه ثلاث ويبات التي كُنَّا أعطيناه إياها».
وقال } عن الطمع: «ثلاثة أحرف كلها مجوفة، فهو بطر كله؛ فلذلك صاحبه لا يشبع أبدًا».
وكان يقول: «للناس أسباب، وسببنا نحن الإيمان والتقوى، قال الله
سبحانه: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ...﴾([6])».
تنبيه وإعلام:
اعلم أنَّ رفع الهمة عن الخلق شأن أهل الطريق وصفة أهل التحقيق، ولقد سئل الجنيد }: أيزني العارف؟ فقال: ﴿...وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَقْدُورًا﴾ [الأحزاب:38].
ولعَمْرِي لو سئل: أيطمع العارف في غير الله؟ لقال: «لا، وإنما مراد الحق سبحانه أن يفرده العباد في كل شيء؛ حبًّا وثقة وتوكلًا وخوفًا ورجاء، وذلك الذي تستحقه فرديته، وكان بعض العارفين ينشد شعرًا:
حَرَامٌ عَلَى مَنْ وَحَّدَ اللهَ رَبَّهُ
* وَأَفْرَدَهُ أَنْ يَجْتَدِي أَحَدًا رِفْدَا
وَيَا صَاحِبِي قِفْ لِي مَعَ الْحَقِّ وَقْفَةً
* أَمُوتَ بِهَا وَجْدًا وَأَحْيَا بِهَا وَجْدَا
وَقُلْ لِمُلُوكِ الْأَرْضِ تَجْهَدُ جُهْدَهَا
* فَذَا الْمُلْكُ مُلْكٌ لَا يُبَاعُ وَلَا يُهْدَى
ورفع الهمة إنما ينشأ عن صدق الثقة بالله، وصدق الثقة بالله إنما ينشأ عن الإيمان بالله على سبيل المعاينة والمواجهة؛ فيوجب لهم إيمانهم الاعتزاز بالله، قال الله تعالى: ﴿...وَللهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ...﴾([7]).
والنصرَ من الله، قال سبحانه: ﴿...وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ﴾([8]).
والنجاة من العوارض الصادرة عن الله، قال الله تعالى: ﴿...كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ المُؤْمِنِينَ﴾([9]).
فعز المؤمن بثقته بمولاه، ونصرته على نفسه وهواه، ونجاتُه من العوارض ألَّا تقطعه عن سبيل هُداه، وشعار أهل الإرادة ودثارُهم الاكتفاءُ بالله ورفع الهمة عمَّا سوى الله، وصيانة ملابس الإيمان من أن تدنس بالميل إلى الأكوان أو الطمع في غير الملك المنان، ولنا في هذا المعنى شعر:
بَكَرَتْ تَلُومُ عَلَى زَمَانٍ أَجْحَفَا
* فَصَدَفْتُ عَنْهَا عَلَّهَا أَنْ تَصْدِفَا
لَا تُكْثِرَنْ عَتَبًا لِدَهْرِكَ إِنَّهُ
* مَا إِنْ يُطَالَبُ بِالصَّفَاءِ وَلَا الْوَفَا
مَا ضَرَّ بِي إِنْ كُنْتُ فِيهِ خَامِلًا
* فَالْبَدْرُ بَدْرٌ إِنْ بَدَا أَوْ إِنْ خَفَا
اللهُ يَعْلَمُ أَنَّنِي ذُو هِمَّةٍ
* تَأْبَى الدَّنَايَا عِفَّةً وَتَظَرُّفَا
لِمَ لَا أَصُونُ عَنِ الْوَرَى دِيبَاجَتِي
* وَأُرِيهِمُ عِزَّ الْمُلُوكِ وَأَشْرُفَا
أَأُرِيهِمُ أَنِّي الْفَقِيرُ إِلَيْهِمُ
* وَجَمِيعُهُمْ لَا يَسْتَطِيعُ تَصَرُّفَا
أَمْ كَيْفَ أَسْأَلُ رِزْقَهُ مِنْ خَلْقِهِ
* هَذَا لَعَمْرِي إِنْ فَعَلْتُ هُوَ الْجَفَا
شَكْوَى الضَّعِيفِ إِلَى ضَعِيفٍ مِثْلِهِ
* عَجْزٌ أَقَامِ بِحَامِلِيهِ عَلَى شَفَا
فَاسْتَرْزِقِ اللهَ الَّذِي إِحْسَانُهُ
* عَمَّ الْبَرِيَّةَ مَنَّةً وَتَلَطُّفَا
وَالْجَأْ إِلَيْهِ تَجِدْهُ فِيمَا تَرْتَجِى
* لَا تَعْدُ عَنْ أَبْوَابِهِ مُتَحَرِّفَا
والذي يوجب لك رفع الهمة عَمَّا سوى الله، عِلمُك بأنه لم يخرجك إلى مملكته إلا وقد كفاك ومنحك وأعطاك؛ فلم يبق لك حاجة عند غيره، فإذا كان قد اقتضى لهم الفهم عن الله أن يكتفوا بعلمه عن مسألته، كيف لا يوجب لهم الفهمُ الاكتفاء بعلمه عن سؤال خليقته، ومن فاتحه الحق سبحانه بشيء؛ فما فاتح به أحباءه، فقد اقتضى منه ورفع همته إليه كما اقتضاه من غيره وأولى، ألم تسمع قوله سبحانه: ﴿وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ المَثَانِي وَالقُرْآَنَ العَظِيمَ﴾([10]).
لا يمدون عينيك، وكيف لا تكون منته فيك، ومواهبه وفواتح عنايته وخصائص ولايته ناهية لك عن التعلق بغيره؟! وكان بعض العارفين ينشد شعرًا:
أَبَعْدَ نُفُوذِي فِي عُلُومِ الْحَقَائِقِ
* وَبَعْدَ انْبِسَاطِي فِي مَوَاهِبِ خَالِقِي
وَفِي حِينِ إِشْرَافِي عَلَى مَلَكُوتِهِ
* أَرَى بَاسِطًا كَفًّا إِلَى غَيْرِ رَازِقِ
وإن كل ذي رتبة من المخلوقين، لا يرضى منك أن تنسب له رتبة تضيف المنع والعطاء والولاية والعزل فيها لغيره، أفيرضى لك الحق سبحانه أن تعترف له بربوبيته، وتضيف آثارها لغيره! فاحذر أن تكون من الذين قال فيهم سبحانه: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾([11])، وقبيح أن تكون في دار ضيافته وتوجه وجه طمعك لغيره، ولنا في هذا المعنى شعر:
أَيَحْسُنُ بِي َأَنِّي نَزِيلُ ذُرَاكُمُ
* أُوَجِّهُ يَوْمًا لِلْعِبَادِ رَجَائِي
بَلَى إنَّنِي أَلْوِي إِلَيْكَ بِهِمَّةٍ
* أُخَلِّفُ فَيهَا مَا سَوَاكَ وَرَائِي
لا تطلب ممن هو بعيد عنك، وتترك الطلب من مولى هو أقرب إليك من حبل الوريد، ألم تسمع إلى قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ...﴾([12]).
وقال: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ﴾([13]).
وقال: ﴿...وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ...﴾([14]).
وقال: ﴿...ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ...﴾([15]).
وقال: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ...﴾([16]).
كل ذلك ليجمع هِمَمَ عباده عليه؛ كي لا يرفعوا حوائجهم إلا إليه.
وأما حلمه؛ فكان من شأنه أنه لا ينتقم لنفسه ولا ينتصر لها، ولقد دخلت عليه يومًا فقال لي: ما تقول في فلان؟ -رجل كان قد آذى الشيخ الأذى البالغ- أتى إلى أصحاب فلان بعضُ من كان له الأمر في ذلك الزمن، وكان يتردد إلى الشيخ؛ فقالوا: «يا سيدي، هذا الرجل الذي آذاك نسعى في ضربه وإشهاره في البلدتين مصر والقاهرة؛ فماذا تقول أنت؟» قلت له: «مصلحة»، فقال كالمنكر: «لأي شيء قلت ذاك؟» قلتُ: «نتشفى منه»، قال: «أنا ما أتشفى من أحد» قلت: «إنما أردت الأتباع»، قال: «ولا تحمل أتباعي على التشفي»، فأطرقت خجلًا، فما توجه أحد بالأذى لنا بعد ذلك.
فنزلت به نازلة فَمَا هَمَّت نفسي بالتشفي منه إلا وذكرت كلام الشيخ: «أنا لا أتشفى من أحد»، حتى كأني سمعته ذلك الوقت؛ فتخمد النفس عن التشفي بذلك.
واتفق بعد مدة نحو الخمس عشرة سنة، أن الذي كان يسعى في أذية الشيخ سعى في أذيتنا، واتفق له نازلة؛ فصاننا الله من التشفي منه وسلم، وكان الشيخ يقول لي: «هذا الذي استشرتك فيه، سيتفق لك معه مثل ما اتفق لي؛ فافعل مثل ما فعلت معه»، وهكذا هو كلام الأكابر يطوى في صحائف قلوب المريدين، حتى إذا جاء وقته أظهره الله سبحانه، كأنك قد سمعته ذلك الوقت، وربما أحضر الله بفكرك شيخك الذي خاطبك اللهُ بهيئته وزِيِّهِ، وربما تمثل لك في الخيال المنتصل، وربما حضر بوجوده الحِسِّيِّ عند وجود النوازل مُثَبِّتًا للمريد ومعلمًا.
وسمعته } يقول: «ما سمعتموه مني ففهمتموه، فاستودعوه الله يَرُدُّهث عليكم وقت الحاجة، وما لم تفهموه فوكلوه إلى الله؛ يتولَّ الله بيانه».
فكلام الأكابر مردودٌ على المريدين وقت حاجتهم، فيظن المريد أنه
ما أخذ ولقد أخذ، ولكن للحكمة بَذْرٌ ونباتٌ، ووقت البَذْرُ غير وقت النبات، وقد يُبْذَرُ فيك بَذْرَ الحكمة، ويبقى النباتُ متوقفًا على مجيء سحابة ماطرة، فإذا جاءت أظهرت ما كان في الأرض كامنًا؛ فتبقى الودائع مطوية في العباد، حتى تجيء أوقاتها.
وبلغني عن الشيخ أبي الحسن أنه كان يقول: «لا حجاب إلا الوقت».
وسمعته يومًا يقول: «كان إذا آذاني إنسان يَهْلِكُ للوقت، وأنا الآن لست كذلك» فرآني } مستشرفًا لسبب ذلك فقال: «اتسعت المعرفة».
وسمعته يقول: «لحوم الأولياء مسمومة».
واعلم -علمك الله من العلم الذي يدل عليك، وجعلك من الدائمين بين يديه- أن انتصار الحق لأوليائه، ليس ذلك لأنهم طلبوه من الله، ولكن لمَّا صدقوا التوكل عليه، وأرجعوا الأمر إليه؛ انتصر الحق لهم، ألم تسمع قوله: ﴿...وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ﴾([17])، وقوله سبحانه: ﴿....وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ...﴾([18]).
ولا تقولن: «هم من ينتصر لنفسه منك»، بل عدهم ممن ينتصر الله له؛ فإنه الغالب الذي لا يُغلب، والقادر الذي لا يَعجِز، والقهار الذي لا قِبَلَ لأهل السماوات والأرض بِذَرَّةٍ من بلائه، ولو وضع ذرة من ذرات قهره على الجبال لأذابتها.
ومعنى قول الشيْخ: «اتسعت المعرفة»: أن المُريدَ في مبدأ إراداتِه بهمته وفي نهايته بوجود معرفته، فإذا كان في مبدأ إرادته توجه بصدق الهمة إلى الله، لاجئًا إليه في الانتقام مِمَّنْ أذاه، فينتصر الحق له؛ لتوجهه بصدق الهمة في طلب النصرة، ولضيق عطنه عن الصبر عن تأخر الانتقام له.
والعارف اتَّسَعَ عليه بحر المعرفة، فانطوت همته وإشاءته وتدبيره، وإشاءة الحق له وتدبيره إياه، ومن غلب عليه شهود المشيئة؛ فأي همة تبقى له!.
وأيضًا إنه إذا أُخِّرَتْ عقوبة من أذاه، شهد حسن اختبار مولاه، فلم يعجل له الانتصار؛ لأنه لا يخشى عليه ما يخشى على المريد من عدم الصبر إذا أخر الانتقام له.
وأيضًا إن العارف لو توجه لطلب الانتقام ممن ظلمه، قامت الرأفة والرحمة القائمان به؛ لتخلقه بخلقِ معروفه، فمنعاه من الانتصار وإن كان على ذلك قادرًا، وكيف ينتصر من يرى الله فعالًا فيهم!.
ثم أولياء الله إذا ظُلِمُوا على طبقات: داعٍ يدعو على من ظلمه استثار الأذى منه القرح، واستخرج منه الاضطرار؛ فهذا الذي لا يُرَدُّ دعاؤه، ومنه قوله —: «واتق
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin