الصفحة 6 من 20
مقدمة الكتاب
اعلم أنَّ الله تعالى لمَّا أراد إتمام عموم نعمته وإفاضة فيض رحمته، واقتضى فضله العظيم أن يمن على العباد بوجود معرفته، وعَلِمَ سبحانه وتعالى عَجْزَ عقول عموم العباد عن التقلي من ربوبيته؛ جعل الأنبياء والرسل لهم الاستعداد العام لقبول ما يرد من إلهيته، يَتَلَقَّوْنَ منه بما أودع فيهم من سر خصوصيته، ويَلْقَوْنَ عنه جمعًا للعباد على أحديته؛ فهم برازخ الأنوار، ومعادن الأسرار، رحمة مهداة، ومِنَّة مصفاة، حرر أسرارهم في أزله من رق الأغيار، وصانهم بوجود عنايته من الركون إلى الآثار، لا يحبون إلا إياه، ولا يعبدون ربًّا سواه، يلقي الروح من أمره عليهم، ويواصل الأمداد بالتأييد إليهم، وما زال فلك النبوة والرسالة دائرًا إلى أن عاد الأمر من حيث الابتداء، وخُتِمَ بمن له كمال الاصطفاء، وهو نبينا محمد >، هو السيد الكامل القائم، الفاتح الخاتم، نور الأنوار وسر الأسرار والمبجل في هذه الدار وفي تلك الدار على المخلوقات، أعلى المخلوقات منارًا وأتممهم فخارًا، دل على ذلك الكتاب المبين، قال الله سبحانه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾([1])، ومن رحم به غيره فهو أفضل من غيره، والعالم كل موجود سوى الله تعالى.
وأما تفضيله على بني آدم خصوصًا، فمن قوله >: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ»([2]).
وأما تفضيله على آدم —، فمن قوله >: «كُنْتُ نَبِيًّا وَآدَمُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطَّينِ»([3]).
ومن قوله: «آدَمُ فَمَنْ دَونَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، تَحْتَ لِوَائِي»([4]).
وقوله: «إِنِّي أَوَّلُ شَافِعٍ، وَإِنِّي مُشَفَّعٌ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ عَنْهُ»([5]).
وحديث الشفاعة المشهور الذي أخبرنا به الشيخ الإمام الحافظ بغية المحدثين، شرف الدين أبو محمد عبد المؤمن بن خلف بن أبي الحسن الدمياطي، بقراءتي عليه، أو قرئ عليه وأنا أسمع، قال: أخبرنا الشيخان الإمام فخر الدين، وفخر القضاة أبو الفضل أحمد بن عبد العزيز الجباب التميمي، وأبو التقي صالح بن شجاع بن سيدهم المُدْلِجِيِّ الكِنَائِيِّ، قالا: أخبرنا الشريف أبو المفاخر سعيد بن الحسين بن محمد بن سعيد العباس المَأموني، قال: أخبرنا أبو عبد الله الفُرَاوِيُّ، قال: أخبرنا عبد الغافر الفارسي، قال: أخبرنا أبو أحمد محمد بن عيسى بن عمرويه الْجُلُودِيُّ، قال: أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان الفقيه، قال: حدثنا أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري، قال: حدثنا أبو الربيع العَتَكِيُّ، قال: حدثنا حماد بن زيد، قال حدثنا مَعْبِد بن هلال الغَنَوِي، وحدثنا سعيد بن منصور واللفظ له، قال: حدثنا حماد بن زيد، قال: حدثنا معبد بن هلال الغنوي، قال انطلقنا إلى أنس بن مالك، وتشفعنا بثابت، فانتهينا إليه وهو يصلي الضحى، فاستأذن لنا ثابت، فدخلنا عليه، وأجلس ثابتًا معه على سريره، فقال له: يا أبا حمزة، إن إخوانك من أهل البصرة يسألونك أن تُحَدِّثَهُم حديث الشفاعة.
قال: حدثنا محمد >، قال: «إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم إلى بعض؛ فيأتون آدم —، فيقولون: اشفع لذريتك. فيقول: لست لها، ولكن عليكم بإبراهيم —؛ فإنه خليل الله. فيأتون إبراهيم —، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بموسى —؛ فإنه كليم الله. فيأتون موسى فيقول: لست لها، ولكن عليكم بعيسى —؛ فإنه روح الله وحكمته. فيأتون عيسى — فيقول: لست لها، ولكن عليكم بمحمد >. فيأتوني، فأقول: أنا لها. فأنطلق فأستأذن على ربي، فيؤذن لي؛ فأقوم بين يديه، فأحمده بمحامد لا أقدر عليه إلا أن يلهمنيه الله عزَّ وجلَّ ثم أَخِرُّ له ساجدًا، فيقال لي: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يُسمع لك، وسل تُعْطَ، واشفع تُشفَّعْ. فأقول: أمتي أمتي. فيقال: انطلق، فمن كان في قلبه مثقال حبة من بُرَّة أو شعيرة من إيمان فأخرجه منها. فأنطلق فأفعل، ثم أرجَعُ إلى ربي، فأحمد بتلك المحامد، ثم أَخِرُّ له ساجدًا، فيقال لي: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تُشفَّع. فأقول: أمتي أمتي. فيقال: انطلق، فمن كان في قلبه مثقال حبَّة من خردل من إيمان فأخرجه منها.
فأنطلق فأفعل، ثم أعود إلى ربي، فأحمد بتلك المحامد، ثم أخِرُّ له ساجدًا، فيقال لي: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تُشفَّع. فأقول: يا رب، أمتي أمتي. فيقال لي: انطلق، فمن كان في قلبه أدنى أدنى من مثقال حبَّة من خردل من الإيمان فأخرجه من النار. فأنطلق فأفعل»([6]).
هذا حديث أنس الذي أنبأنا به فخرجنا من عنده، فلما كنا بظهر الجبانة، قلنا: لو دخلنا إلى الحسن نُسَلِّمُ عليه! وهو مستخف في دار أبي خليفة، فدخلنا وسلمنا عليه، قلنا له: يا أبا سعيد، خرجنا من عند أخيك أبي حمزة؛ فلم نسمع بمثل حديث حَدَّثَنَا به في الشفاعة، قال: هيه! فحدثناه الحديث، فقال: هيه! قلنا: ما زادنا. قال: قد حدثنا به منذ عشرين سنة، وهو يومئذ جمع، ولقد ترك شيئًا ما أدري أنسي الشيخ أم كره أن يحدثكم به. قلنا له: حدثنا. فضحك وقال: خلق الإنسان من عجل، ما ذكرت لكم هذا إلا وأنا أريد أن أحدثكموه. ثم قال: «أرجع إلى ربي في الرابعة، فأحمده بتلك المحامد، فأخر له ساجدًا، فيقول لي مثل ما قال في الأول، فأقول يا رب ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله. قال: ليس ذلك إليك، ولكن وعزتي وكبريائي وعظمتي، لأخرجن من النار من قال: لا إله إلا الله»، فأشهد على الحسن أنه حَدَّثَنَا به أنه سمع أنس بن مالك قرأه قبل عشرين سنة، وهو يومئذ جمع.
فانظر رحمك الله ما تضمنه هذا الحديث من فخامة قدره > وجلالة أمره، وأن أكابر الرسل والأنبياء لم ينازعوه في هذه الرتبة التي هي الشفاعة العامة في كل من ضمه المحشر.
فإن قلت: فما بال آدم أحال على نوح في حديث، وعلى إبراهيم في هذا، ودَلَّ نوح على إبراهيم، وإبراهيم على موسى، وموسى على عيسى، وعيسى على محمد >، ولم تكن الدلالة على محمد > من الأول.
فاعلم: أنَّه لو وقعت الدلالة على رسول الله > من الأول، لم يتبين من هذا الحديث أن غيره لا يكون له هذه الرتبة، فأراد الله سبحانه وتعالى أن يدل كل واحد على من بعده، كل واحد يقول: «لست لها»، مسلمًا للرتبة غير
مُدَّعٍ لها، حتى أتوا عيسى — فدل على رسول الله >، فقال: «أنا لها...» وفي الحديث من الفوائد أن الإيمان يزيد وينقص، وفيه من الفوائد أن المعارف لا تتناهى؛ لقوله: «لا أقدر على شيء إلا أن يلهمنيه الله عز وجل»([7])، ويشهد له قوله >: «ولا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك»([8])، ويشهد له قوله سبحانه وتعالى: ﴿...وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه:110]، إلى غير ذلك من الفوائد التي لو تكلمنا عليها خرجنا عن غرض الكتاب.
ولقد سمعت شيخنا أبا العباس } يقول: جميع الأنبياء خلقوا من الرحمة، ونبينا > هو عين الرحمة، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:107]، فدعا > إلى الله تعالى بالبصيرة الواضحة والبينة الفائقة، وقرَّب المدارك، وبَيَّنَ المسالك، وحَثَّ على سلوك سبيل الهدى، واجتناب سبيل الردى، فما ترك شيئًا يقرب إلى الله إلا ودعا إليه، ولا أدبًا يصلح أن يكون العبد به مع الله تعالى إلا حث عليه، ولا شيئًا يشغل عن الله تعالى إلا حذر العباد منه، ولا عملًا يقطعهم عن الله تعالى إلا وأخرجهم عنه، لا يألو نصحًا في تخليص العباد من أوحال القطيعة ومواطن الهلكة، إلى أن تَرَحَّلَ ليل الشرك وانقضت أغباره، وأضاء نهار الإيمان وأشرقت أنواره؛ فرفع > من الدين لواءه، وتَمَّمَ نظامه، وقرر فرائضه وأحكامه، وبَيَّنَ حلاله وحرامه.
وكما بين للعباد الأحكام، كذلك فتح لهم باب الأفهام، حتى قال الراوي: لقد تركنا رسول الله >، وإن الطير ليتحرك في السماء فنستفيد منه علمًا بحق، قال الله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ...﴾ [البقرة:256]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿...اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا...﴾ [المائدة:3].
وقال >: «تركتها بيضاء نقية»؛ فجزاه الله خير ما يجزي نبيًا عن أمته.
ولما أكمل > البيان لسبيل الرشاد، وظهر المسالك الموصلة إلى الله
تعالى للعباد، توفاه الله تعالى إلى الدار التي هي خير له وأولى، بعد أن خُير فاختار الرفيق الأعلى، ثم جعل الله تعالى الدعاة في أمته أبدًا ودائمًا سرمدًا، بما ورثوا منه وأخذوا عنه، وقد شهد لهم الحق بذلك، وجعلهم أهلًا لما هنالك.
قال الله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي...﴾ [يوسف:108].
قال الشيخ أبو العباس }: أي معاينة تعين سبيل كل أحد من الأتباع فتحمله عليها، ودليل ما قال الشيخ } اختلاف وصاياه > لأصحابه على حسب اختلاف سبيلهم، فقال لبلال }: «أنفق بلالًا ولا تخشَ من ذي العرش إقلالًا»([9]).
وقال لآخر أراد أن ينخلع عن ماله كله: «أمسك عليك مالك؛ فإنك إن تدع ورثتك أغنياء، خير لك من أن تدعهم عالة يتكففون الناس»([10]).
وقال رجل: أوصني. فقال >: «استحِ من الله كما تستحي من رجل صالح من قومك».
وقال له آخر: أوصني. فقال له >: «لا تغضب»([11]).
وسمعت شيخنا أبا العباس يقول: «فتح الحق سبحانه وتعالى بقوله: ﴿...وَمَنِ اتَّبَعَنِي...﴾ باب البصائر للأتباع»، يريد الشيخ أن قول الله سبحانه وتعالى:
﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي...﴾ [يوسف:108]؛ أي ومن اتبعني يدعو إلى الله على بصيرة على ما يقتضيه اللسان؛ لأنك إذا قلت: «زيد يدعو إلى السلطان على نصيحة هو وأتباعه» أي وأتباعه يدعو إليه نصيحة، إذا ثبت هذا؛ فالرسول > يدعو على بصيرة الرسالة الكاملة، والأولياء يدعون على حسب بصائرهم قطبانية وصديقية وولاية، وقد قال >: «العلماء ورثة الأنبياء»([12]).
وقال >: «فإنَّ الأنبياء لا يُوَرِّثُون دينارًا ولا درهمًا، وإنما يورثون العلم».
وقال >: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل»([13])، وها هنا نكتة، وهو أنه > لم يقل علماء أمتي كرسل بني إسرائيل، فمن الناس من ظَنَّ أن النبي > هو الذي نُبِّئَ في نفسه، والرسول هو الذي أرسل لغيره، وليس الأمر كما ظن هذا القائل، وإن كان كذلك؛ فلم خَصَّ الأنبياء دون الرسل بالذكر في قوله: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل»! ومما يدلك على بطلان هذا المذهب، قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ...﴾ [الحج:52].
فدل على أنَّ حكم الإرسال يعمهما، وإنما الفرق ما قال بعض أهل العلم أن النبي لا يأتي بشريعة جديدة، وإنما يجيء مقرِّرًا لشرع من كان قبله، كيوشع بن نون؛ فإنه إنما أتى مقررًا لشريعة موسى —، وآمرًا بالعمل بما في التوراة، ولم يأتِ بشرع جديد، والرسول -كموسى —- إنما أتى بشرع جديد وهو ما تضمنته التوراة، فقال >: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل»؛ أي: يأتون مقرِّرين ومؤكدين وآمرين بما جئت به، لا أنهم يأتون بشرع جديد.
مقدمة الكتاب
اعلم أنَّ الله تعالى لمَّا أراد إتمام عموم نعمته وإفاضة فيض رحمته، واقتضى فضله العظيم أن يمن على العباد بوجود معرفته، وعَلِمَ سبحانه وتعالى عَجْزَ عقول عموم العباد عن التقلي من ربوبيته؛ جعل الأنبياء والرسل لهم الاستعداد العام لقبول ما يرد من إلهيته، يَتَلَقَّوْنَ منه بما أودع فيهم من سر خصوصيته، ويَلْقَوْنَ عنه جمعًا للعباد على أحديته؛ فهم برازخ الأنوار، ومعادن الأسرار، رحمة مهداة، ومِنَّة مصفاة، حرر أسرارهم في أزله من رق الأغيار، وصانهم بوجود عنايته من الركون إلى الآثار، لا يحبون إلا إياه، ولا يعبدون ربًّا سواه، يلقي الروح من أمره عليهم، ويواصل الأمداد بالتأييد إليهم، وما زال فلك النبوة والرسالة دائرًا إلى أن عاد الأمر من حيث الابتداء، وخُتِمَ بمن له كمال الاصطفاء، وهو نبينا محمد >، هو السيد الكامل القائم، الفاتح الخاتم، نور الأنوار وسر الأسرار والمبجل في هذه الدار وفي تلك الدار على المخلوقات، أعلى المخلوقات منارًا وأتممهم فخارًا، دل على ذلك الكتاب المبين، قال الله سبحانه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾([1])، ومن رحم به غيره فهو أفضل من غيره، والعالم كل موجود سوى الله تعالى.
وأما تفضيله على بني آدم خصوصًا، فمن قوله >: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ»([2]).
وأما تفضيله على آدم —، فمن قوله >: «كُنْتُ نَبِيًّا وَآدَمُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطَّينِ»([3]).
ومن قوله: «آدَمُ فَمَنْ دَونَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، تَحْتَ لِوَائِي»([4]).
وقوله: «إِنِّي أَوَّلُ شَافِعٍ، وَإِنِّي مُشَفَّعٌ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ عَنْهُ»([5]).
وحديث الشفاعة المشهور الذي أخبرنا به الشيخ الإمام الحافظ بغية المحدثين، شرف الدين أبو محمد عبد المؤمن بن خلف بن أبي الحسن الدمياطي، بقراءتي عليه، أو قرئ عليه وأنا أسمع، قال: أخبرنا الشيخان الإمام فخر الدين، وفخر القضاة أبو الفضل أحمد بن عبد العزيز الجباب التميمي، وأبو التقي صالح بن شجاع بن سيدهم المُدْلِجِيِّ الكِنَائِيِّ، قالا: أخبرنا الشريف أبو المفاخر سعيد بن الحسين بن محمد بن سعيد العباس المَأموني، قال: أخبرنا أبو عبد الله الفُرَاوِيُّ، قال: أخبرنا عبد الغافر الفارسي، قال: أخبرنا أبو أحمد محمد بن عيسى بن عمرويه الْجُلُودِيُّ، قال: أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان الفقيه، قال: حدثنا أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري، قال: حدثنا أبو الربيع العَتَكِيُّ، قال: حدثنا حماد بن زيد، قال حدثنا مَعْبِد بن هلال الغَنَوِي، وحدثنا سعيد بن منصور واللفظ له، قال: حدثنا حماد بن زيد، قال: حدثنا معبد بن هلال الغنوي، قال انطلقنا إلى أنس بن مالك، وتشفعنا بثابت، فانتهينا إليه وهو يصلي الضحى، فاستأذن لنا ثابت، فدخلنا عليه، وأجلس ثابتًا معه على سريره، فقال له: يا أبا حمزة، إن إخوانك من أهل البصرة يسألونك أن تُحَدِّثَهُم حديث الشفاعة.
قال: حدثنا محمد >، قال: «إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم إلى بعض؛ فيأتون آدم —، فيقولون: اشفع لذريتك. فيقول: لست لها، ولكن عليكم بإبراهيم —؛ فإنه خليل الله. فيأتون إبراهيم —، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بموسى —؛ فإنه كليم الله. فيأتون موسى فيقول: لست لها، ولكن عليكم بعيسى —؛ فإنه روح الله وحكمته. فيأتون عيسى — فيقول: لست لها، ولكن عليكم بمحمد >. فيأتوني، فأقول: أنا لها. فأنطلق فأستأذن على ربي، فيؤذن لي؛ فأقوم بين يديه، فأحمده بمحامد لا أقدر عليه إلا أن يلهمنيه الله عزَّ وجلَّ ثم أَخِرُّ له ساجدًا، فيقال لي: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يُسمع لك، وسل تُعْطَ، واشفع تُشفَّعْ. فأقول: أمتي أمتي. فيقال: انطلق، فمن كان في قلبه مثقال حبة من بُرَّة أو شعيرة من إيمان فأخرجه منها. فأنطلق فأفعل، ثم أرجَعُ إلى ربي، فأحمد بتلك المحامد، ثم أَخِرُّ له ساجدًا، فيقال لي: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تُشفَّع. فأقول: أمتي أمتي. فيقال: انطلق، فمن كان في قلبه مثقال حبَّة من خردل من إيمان فأخرجه منها.
فأنطلق فأفعل، ثم أعود إلى ربي، فأحمد بتلك المحامد، ثم أخِرُّ له ساجدًا، فيقال لي: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تُشفَّع. فأقول: يا رب، أمتي أمتي. فيقال لي: انطلق، فمن كان في قلبه أدنى أدنى من مثقال حبَّة من خردل من الإيمان فأخرجه من النار. فأنطلق فأفعل»([6]).
هذا حديث أنس الذي أنبأنا به فخرجنا من عنده، فلما كنا بظهر الجبانة، قلنا: لو دخلنا إلى الحسن نُسَلِّمُ عليه! وهو مستخف في دار أبي خليفة، فدخلنا وسلمنا عليه، قلنا له: يا أبا سعيد، خرجنا من عند أخيك أبي حمزة؛ فلم نسمع بمثل حديث حَدَّثَنَا به في الشفاعة، قال: هيه! فحدثناه الحديث، فقال: هيه! قلنا: ما زادنا. قال: قد حدثنا به منذ عشرين سنة، وهو يومئذ جمع، ولقد ترك شيئًا ما أدري أنسي الشيخ أم كره أن يحدثكم به. قلنا له: حدثنا. فضحك وقال: خلق الإنسان من عجل، ما ذكرت لكم هذا إلا وأنا أريد أن أحدثكموه. ثم قال: «أرجع إلى ربي في الرابعة، فأحمده بتلك المحامد، فأخر له ساجدًا، فيقول لي مثل ما قال في الأول، فأقول يا رب ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله. قال: ليس ذلك إليك، ولكن وعزتي وكبريائي وعظمتي، لأخرجن من النار من قال: لا إله إلا الله»، فأشهد على الحسن أنه حَدَّثَنَا به أنه سمع أنس بن مالك قرأه قبل عشرين سنة، وهو يومئذ جمع.
فانظر رحمك الله ما تضمنه هذا الحديث من فخامة قدره > وجلالة أمره، وأن أكابر الرسل والأنبياء لم ينازعوه في هذه الرتبة التي هي الشفاعة العامة في كل من ضمه المحشر.
فإن قلت: فما بال آدم أحال على نوح في حديث، وعلى إبراهيم في هذا، ودَلَّ نوح على إبراهيم، وإبراهيم على موسى، وموسى على عيسى، وعيسى على محمد >، ولم تكن الدلالة على محمد > من الأول.
فاعلم: أنَّه لو وقعت الدلالة على رسول الله > من الأول، لم يتبين من هذا الحديث أن غيره لا يكون له هذه الرتبة، فأراد الله سبحانه وتعالى أن يدل كل واحد على من بعده، كل واحد يقول: «لست لها»، مسلمًا للرتبة غير
مُدَّعٍ لها، حتى أتوا عيسى — فدل على رسول الله >، فقال: «أنا لها...» وفي الحديث من الفوائد أن الإيمان يزيد وينقص، وفيه من الفوائد أن المعارف لا تتناهى؛ لقوله: «لا أقدر على شيء إلا أن يلهمنيه الله عز وجل»([7])، ويشهد له قوله >: «ولا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك»([8])، ويشهد له قوله سبحانه وتعالى: ﴿...وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه:110]، إلى غير ذلك من الفوائد التي لو تكلمنا عليها خرجنا عن غرض الكتاب.
ولقد سمعت شيخنا أبا العباس } يقول: جميع الأنبياء خلقوا من الرحمة، ونبينا > هو عين الرحمة، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:107]، فدعا > إلى الله تعالى بالبصيرة الواضحة والبينة الفائقة، وقرَّب المدارك، وبَيَّنَ المسالك، وحَثَّ على سلوك سبيل الهدى، واجتناب سبيل الردى، فما ترك شيئًا يقرب إلى الله إلا ودعا إليه، ولا أدبًا يصلح أن يكون العبد به مع الله تعالى إلا حث عليه، ولا شيئًا يشغل عن الله تعالى إلا حذر العباد منه، ولا عملًا يقطعهم عن الله تعالى إلا وأخرجهم عنه، لا يألو نصحًا في تخليص العباد من أوحال القطيعة ومواطن الهلكة، إلى أن تَرَحَّلَ ليل الشرك وانقضت أغباره، وأضاء نهار الإيمان وأشرقت أنواره؛ فرفع > من الدين لواءه، وتَمَّمَ نظامه، وقرر فرائضه وأحكامه، وبَيَّنَ حلاله وحرامه.
وكما بين للعباد الأحكام، كذلك فتح لهم باب الأفهام، حتى قال الراوي: لقد تركنا رسول الله >، وإن الطير ليتحرك في السماء فنستفيد منه علمًا بحق، قال الله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ...﴾ [البقرة:256]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿...اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا...﴾ [المائدة:3].
وقال >: «تركتها بيضاء نقية»؛ فجزاه الله خير ما يجزي نبيًا عن أمته.
ولما أكمل > البيان لسبيل الرشاد، وظهر المسالك الموصلة إلى الله
تعالى للعباد، توفاه الله تعالى إلى الدار التي هي خير له وأولى، بعد أن خُير فاختار الرفيق الأعلى، ثم جعل الله تعالى الدعاة في أمته أبدًا ودائمًا سرمدًا، بما ورثوا منه وأخذوا عنه، وقد شهد لهم الحق بذلك، وجعلهم أهلًا لما هنالك.
قال الله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي...﴾ [يوسف:108].
قال الشيخ أبو العباس }: أي معاينة تعين سبيل كل أحد من الأتباع فتحمله عليها، ودليل ما قال الشيخ } اختلاف وصاياه > لأصحابه على حسب اختلاف سبيلهم، فقال لبلال }: «أنفق بلالًا ولا تخشَ من ذي العرش إقلالًا»([9]).
وقال لآخر أراد أن ينخلع عن ماله كله: «أمسك عليك مالك؛ فإنك إن تدع ورثتك أغنياء، خير لك من أن تدعهم عالة يتكففون الناس»([10]).
وقال رجل: أوصني. فقال >: «استحِ من الله كما تستحي من رجل صالح من قومك».
وقال له آخر: أوصني. فقال له >: «لا تغضب»([11]).
وسمعت شيخنا أبا العباس يقول: «فتح الحق سبحانه وتعالى بقوله: ﴿...وَمَنِ اتَّبَعَنِي...﴾ باب البصائر للأتباع»، يريد الشيخ أن قول الله سبحانه وتعالى:
﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي...﴾ [يوسف:108]؛ أي ومن اتبعني يدعو إلى الله على بصيرة على ما يقتضيه اللسان؛ لأنك إذا قلت: «زيد يدعو إلى السلطان على نصيحة هو وأتباعه» أي وأتباعه يدعو إليه نصيحة، إذا ثبت هذا؛ فالرسول > يدعو على بصيرة الرسالة الكاملة، والأولياء يدعون على حسب بصائرهم قطبانية وصديقية وولاية، وقد قال >: «العلماء ورثة الأنبياء»([12]).
وقال >: «فإنَّ الأنبياء لا يُوَرِّثُون دينارًا ولا درهمًا، وإنما يورثون العلم».
وقال >: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل»([13])، وها هنا نكتة، وهو أنه > لم يقل علماء أمتي كرسل بني إسرائيل، فمن الناس من ظَنَّ أن النبي > هو الذي نُبِّئَ في نفسه، والرسول هو الذي أرسل لغيره، وليس الأمر كما ظن هذا القائل، وإن كان كذلك؛ فلم خَصَّ الأنبياء دون الرسل بالذكر في قوله: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل»! ومما يدلك على بطلان هذا المذهب، قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ...﴾ [الحج:52].
فدل على أنَّ حكم الإرسال يعمهما، وإنما الفرق ما قال بعض أهل العلم أن النبي لا يأتي بشريعة جديدة، وإنما يجيء مقرِّرًا لشرع من كان قبله، كيوشع بن نون؛ فإنه إنما أتى مقررًا لشريعة موسى —، وآمرًا بالعمل بما في التوراة، ولم يأتِ بشرع جديد، والرسول -كموسى —- إنما أتى بشرع جديد وهو ما تضمنته التوراة، فقال >: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل»؛ أي: يأتون مقرِّرين ومؤكدين وآمرين بما جئت به، لا أنهم يأتون بشرع جديد.
10/11/2024, 21:08 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الرابعة: قوانين الميراث تفضل الرجال على النساء ـ د.نضير خان
10/11/2024, 21:05 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الثالثة: شهادة المرأة لا تساوي سوى نصف رجل ـ د.نضير خان
10/11/2024, 21:02 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الثانية: المرأة لا تستطيع الطلاق ـ د.نضير خان
10/11/2024, 20:59 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الأولى: الإسلام يوجه الرجال لضرب زوجاتهم ـ د.نضير خان
10/11/2024, 20:54 من طرف Admin
» كتاب: المرأة في المنظور الإسلامي ـ إعداد لجنة من الباحثين
10/11/2024, 20:05 من طرف Admin
» كتاب: (درة العشاق) محمد صلى الله عليه وسلم ـ الشّاعر غازي الجَمـل
9/11/2024, 17:10 من طرف Admin
» كتاب: الحب في الله ـ محمد غازي الجمل
9/11/2024, 17:04 من طرف Admin
» كتاب "قطائف اللطائف من جواهر المعارف" - الجزء الأول ـ إعداد: غازي الجمل
9/11/2024, 16:59 من طرف Admin
» كتاب "قطائف اللطائف من جواهر المعارف" - الجزء الثاني ـ إعداد: غازي الجمل
9/11/2024, 16:57 من طرف Admin
» كتاب : الفتن ـ نعيم بن حماد المروزي
7/11/2024, 09:30 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (1) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:12 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (2) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:10 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (3) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:06 من طرف Admin
» كتاب: تحفة المشتاق: أربعون حديثا في التزكية والأخلاق ـ محب الدين علي بن محمود بن تقي المصري
19/10/2024, 11:00 من طرف Admin