الصفحة 15 من 20
الباب الثامن - في كلامه في الحقائق والمقامات وكشفه فيها للأمور المعضلات
قال }: الشوق على قسمين: شوق على الغيبة لا يسكن إلا بلقاء الحبيب وهو شوق النفوس, وشوق الأرواح على الحضور والمعاينة, فإذا رفعك إلى محل المحاضرة والشهود المسلوب عن العلل؛ فذاك مقام التعريف إيمانًا حقيقيًّا، وذاك ميدان تَنَزُّلِ أسرار الأزل, فإذا أنزلك إلى محل المشاغرة والجهاد؛ فذاك مقام التكليف المقيد بالعلل، وهو الإسلام الحقيقي وذلك ميدان تجلي حقائق الأبدية.
والمحقق من لا يبالي بأي صفة يكون؛ لأنَّ صفتك تميل لا أنت، والصفة من العين للعين وهو ظهورك، والاسم اللسان وهو نطقك, والاسم حقيقة الصفة، والصفة حقيقة الوجود, والأسرار متنزلة عن الوجودية للصديقية, والحقائق متجلية عن الصفات بالولاية لأهل العلوم الظاهرة عن الاسم بالدليل لأهل السعاية, وإليه بالإشارة بقوله —: «يا أبا جحيفة، سائلِ العلماء, وخالطِ الحكماء، وجالسِ الكبراء»([1])؛ فالعالم يدلك بالعلم من الأسماء ونهايته الجنة، والحكيم المقرب يحمله باليقين وبالحقائق من الصفات ونهايته منازل القرابة، وإليه الإشارة بقوله تعالى: ﴿...اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ...﴾([2])، والكبير يَدُلُّك بالأسرار من الوجود على كبير الصفاء والنزاهة، ونهايته إلى الله.
وتجتمع المراتب الثلاثة في الكبير، فيحمل قومًا بالعلم، وقومًا بالحقائق، وقومًا بالأسرار، وهم الأنبياء, وأبدال الرسل وهم البصراء, ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى الله عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي...﴾ [يوسف:108]؛ أي على معاينة يعاين لكل صنف طريقهم، فيحملهم عليها وهي النيابة، وأما هو فقد انفرد بحالة لا تُعرف لعظيم قربه.
وَغَنَّى لِي مُنَى قَلْبِي
* وَغَنَّيْتُ كَمَا غَنَّى
وَكُنَّا حِينَمَا كَانُوا
* وَكَانُوا حِينَمَا كُنَّا
وقال }: أوقات العبد أربعة لا خامس لها: النعمة، والبلية, والطاعة، والمعصية، ولله عليك في كل وقت منها سَهْمٌ من العبودية يقتضيه الحق منك بحكم الربوبية؛ فمن كان وقته الطاعة فسبيله شهود المنة من الله
عليه؛ إذ هداه لها ووَفَّقَهُ للقيام بها، ومن كان وقته المعصية فسبيله الاستغفار والتوبة، ومن كان وقته النعمة فسبيله الشكر، وهو فرح القلب بالله، ومن كان وقته البَلِيَّةَ فسبيله الرضا بالقضاء والصبر, والرضا رضا النفس عن الشهوات، والصبر مشتق من الإصبار, وهو الغرض للسهام، وكذلك الصابر ينصب نفسه غرضًا لسهام القضاء, فإن ثبت لها فهو صابر، والصبر ثبات القلب بين يدي الرب، قال رسول الله >: «من أُعْطِيَ فشكر, وابْتُلِيَ فصبر, وظلم فغفر, وعمل فاستغفر» ثم سكت، فقال: يا رسول الله، ماذا له؟ فقال: ﴿أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام:82]؛ أي لهم الأمن في الآخرة، وهم مهتدون في الدنيا.
وقال }: الناس على قسمين: قوم وصلوا بكرامة الله إلى طاعة الله، وقوم وصلوا بطاعة الله إلى كرامة الله، قال سبحانه وتعالى: ﴿...يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾([3]).
ومعنى كلام الشيخ هذا: أن من الناس من حَرَّكَ اللهُ همته لطلب الوصول إليه، فصار يطوي بهما نفسه، ويبدأ طبعه إلى أن وصل إلى حضرة ربه، يصدق على هذا قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا...﴾([4]).
ومن الناس من فاجأته عناية الله من غير طلب ولا استعداد, ويشهد لذلك قوله: ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاء...﴾ [آل عمران:74]، والأول حال السالكين، والثاني حال المجذوبين؛ فمن كان مبدأه المعاملهْ فنهايته المواصلهْ، ومن كان مبدأه المواصلهْ رد إلى وجود المعاملهْ.
ولا تظن أن المجذوب لا طريق له، بل له طريق طَوَتْهَا عناية الله له، فسلكها مسرعًا إلى الله عَجِلًا، وكثيرًا ما تسمع عند مراجعات المنتسبين للطريق أن السالك أَتَمُّ من المجذوب؛ لأن السالك عرف الطريق وما توصل إليه، والمجذوب ليس كذلك، وهذا بناء منهم على أن المجذوب لا طريق له, وليس الأمر كما زعموا؛ فإن المجذوب طُوِيَتْ له الطريق ولم تُطْوَ عنه، ومن طُوِيَتْ له الطريق لم تَفُتْهُ ولم تَغِبْ عنه, وإنما فاتَه متاعبها وطول أمدها، والمجذوب كمن طُوِيَتْ له الأرض إلى مكة، والسالك كالسائر إليها على أكوار المطايا.
وقال }: العارف لا دنيا له؛ لأن دنياه لآخرته وآخرته لربه.
وقال }: الزاهد جاء من الدنيا إلى الآخرة، والعارف جاء من الآخرة إلى الدنيا.
وقال }: الزاهد غريب في الدنيا؛ لأنَّ الآخرة وطنه, والعارف غريب في الآخرة؛ فإنه عند الله.
فإن قلت: ما معنى الغرابة في كلام الشيخ هذا؟ وما معناها في الحديث الوارد: «بدأ الدين غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ؛ فطوبى للغرباء»؟.
فاعلم أن الغربة المذكورة في الحديث معناها قلة من يعين على القيام بالحق, فيكون القائم به غريبًا؛ لفِقدان المساعدة وعدم المعاضدة، ولا يُنهض القائمَ حينئذ إلا قوةُ إيمانه ووفور إيقانه؛ فلذلك قال رسول الله >: «بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ؛ فطوبى للغرباء»([5])، يريد > أنهم قاموا بأمر الله في بلاده وعباده؛ حيث تقاعدت هِمَمُ النَّاسِ عن القيام به.
وأما الغربة في كلام الشيخ فمعناها أن الزاهد يكشف عن ملك الآخرة, فتبقى الآخرة موطن قلبه ومعشش روحه, فيكون غريبًا في الدنيا؛ إذ ليست وطنًا لقلبه، عاين الدار الآخرة فأخذ قلبه فيما عاين من ثوابها ونوالها, وفيما شهد من عقوبتها ونَكَالها، فاستغرب في هذه الدار.
وأما العارف فإنه غريب في الآخرة؛ فإنه كشف له عن صفات معروفة، فأخذ قلبه فيما هنالك؛ فصار غريبًا في الآخرة؛ لأن سِرَّه مع الله بلا أين؛ فهؤلاء العباد تصير الحضرة معشش قلوبهم، إليها يأوون وفيها يسكنون؛ فإن تَنَزَّلُوا إلى سماء الحقوق أو أرض الحظوظ فبالإذن والتمكين والرسوخ في اليقين، فلم ينزلوا إلى الحظوظ بالشهوة والمتعة، ولا إلى الحقوق بسوء الأدب والغفلة، بل كانوا في ذلك كله بآداب الله وآداب رسله وأنبيائه متأدبين، وبما اقتضى منهم مولاهم عاملين.
وقال }: الخوف على قسمين: خوف العامة، وخوف الخاصة؛ فخوف العامة: على أجسادهم من النار، وخوف الخاصة: على خِلَعِهِم التي كساهم اللهُ أن تُدَنَّسَ بالمخالفة.
ومعنى كلام الشيخ هو: أن العامة لم تنفذ
بصائرهم إلى شهود خِلَع الحق عليهم، من: إيمان، وإسلام، ومعرفة، توحيد، ومحبة، وعلموا أن الله تعالى قد تواعد أهل معصيته بعقوبته، فخافوا من الوقع في المعصية؛ لِئَلَّا يكون ذلك سبب وقوع العقوبة بهم؛ فكان خوفهم إشفاقًا على نفوسهم من عقوبة الله، وأما أهل الخصوصية فأعطاهم الحق من نوره ما أشهدهم به ما كساهم من خِلَعِ مننه؛ فعملوا على صيانتها ليقدموا عليه بها، لم تدنس ولم تتغير، طاهرة نقية مشرفة بهية, وفهموا معنى قوله: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ [المدثر:4]؛ فطهروا ملابس إيمانهم وإيقانهم من دنس غفلتهم وعصيانهم، وفهموا أيضًا قوله تعالى: ﴿يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾([6])؛ فعبروا الدنيا، وقد رفعوا ملابس المنن؛ خشية أن تدنس بأوساخها؛ كي يقدموا عليه بخلعه التي أنعم الله بها عليهم, وينهضوا له بالوفاء فيما انقضى منهم، وبالإمامة والصيانة فيما اسْتَأْمَنَهُم، وكان بعض العارفين ينشد شرعًا:
قَالُوا غَدًا الْعِيدُ مَاذَا أَنْتَ لَابِسُهُ
*
فَقُلْتُ خِلْعَةَ سَاقٍ حُبُّهُ جَرَعَا
فَقْرٌ وَصَبْرٌ هُمَا ثَوْبَانِ تَحْتَهُمَا
*
قَلْبٌ يَرَى إِلْفَهُ الْأَعْيَادَ وَالْجُمَعَا
الْعِيدُ لِي مَأْتَمٌ إِنْ غِبْتَ يَا أَمَلِي
َ
*
وَالْعِيدُ مَا كُنْتَ لِي مَرْأًى وَمُسْتَمَعَا
أَحْرَى المَلَابِسِ أَنْ تَلْقَى الْحَبِيبَ بِهِ
*
يَوْمَ التَّزَاوُرِ بِالثَّوْبِ الَّذِي خَلَعَا
وقال }: العامة إذا خُوِّفُوا خَافوا, وإذا رُجوا رَجَوْا, والخاصة متى خُوِّفوا رَجَوْا, ومتى رجوا خافوا.
ومعنى كلام الشيخ هذا: أنَّ العامة واقفون مع ظواهر الأمر, فإذا خوفوا خافوا؛ إذ ليس لهم نفوذ إلى ما وراء العبارة بنور الفهم كما لأهل الله، وأهل الله إذا خُوِّفُوا رَجُوا، عالِمِين أن من وراء خوفهم وما به خُوِّفُوا أوصاف المَرْجُوِّ الذي لا ينبغي أن يقنط من رحمته ولا أن يُؤَيِّسَ من منته، فاحتالوا على أوصاف كرمه؛ علمًا منهم أنه ما خَوَّفَهُم إلا لِيَجْمَعَهُم عليه, وليردهم بذلك إليه، وإذا رُجوا خافوا، يخافون غيب مشيئته الذي هو من وراء رجاهم, وخافوا أن يكون ما أظهر من الرجاء اختبار لعقولهم, هل تقف على ظاهر الرجاء، أو تنفذ إلى ما بطن في مشيئته؛ فلذلك استثارَ الرجاءُ خوفَهم وحكمَهم في القبض والبسط, كما قال الشيخ في الخوف والرجاء، غير أن البسط مَزِلَّةُ أقدام الرجاء؛ فهو موجب لمزيد حذرهم وكثرة لجأهم، قال بعضهم: «فتح لي باب من
البسط فانبسطت، فحجبت عن مقامي ثلاثين سنة».
وكان الشيخ أبو العباس } يُنشد شعرًا:
وَاقْطَعِ السَّيْرَ إِلَيْهِ وَمِيلَا
* فَإِذَا مَا نِلْتَ مِنْهُ وُصُولَا
فَاقْرَعِ الْبَابَ قَلِيلًا قَلِيلَا
*
وَاحْذَرِ الْبَسْطَ وَنَادِي يَا مُجِيبْ
مِنْ عَلَى بُعْدٍ يُنَادِي مِنْ قَرِيبْ
فقوله: «واحذر البسط»؛ لما قدمناه؛ فإنه رزق من الأنوار بسط، فيخشى على العبد أن يبغيه وجوده، قال الله سبحانه: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ...﴾([7]).
والقبض أقرب إلى وجود السلامة؛ لأنه وطن العبد؛ إذ هو في أَسْرِ قبضة الله، وإحاطة الحق محيطة به، ومن أين يكون للعبد البسط وهذا شأنه! والبسط خروج عن حكم وقته, والقبض هو اللائق بهذه الدار؛ إذ هي وطن التكليف وإبهام الخاتمة, وعدم العلم بالسابقة والمطالبة بحقوق الله تعالى.
وأخبرني بعض الصوفية، قال: رأى شيخنا شيخه في المنام بعد موته مقبوضًا, فقال له: «يا أستاذ، ما لَك مقبوضًا؟!» قال له: «يا بني، القبض والبسط مقامان، من لم يوفهما في الدنيا وَفَّاهُمَا في الآخرة», وكان هذا الشيخ الغالب عليه في حياته البسط, وقوله: «من على بعد»؛ أي من شهود عدم استحقاق الإجابة، أو «من على بعد من دعوا»؛ أي لأضاف الربوبية، أو «من على بعد»: بوجود شهود الإساءة.
وقال الشيخ الحسن: ما طلبت من الله حاجة إلا قطعت إساءتي أمامي.
فإن قلت: فحديث الثلاثة الذين دخلوا الغار, فانحطت عليهم صخرة فسدت باب الغار, فقالوا: «ليذكر كل واحد منكم أرجى عمله»؛ فذكر أحدهم بِرَّه بأبويه, والآخر عفافه عن ابنة عمه مع حبه إياها والتمكن منها، وذكر الآخر تثميره لأجر أجيرٍ أجرَه، فلما وجده دفع ذلك كله إليه؛ فكشف الله ما نزل بهم، وزالت الصخرة عن فم الغار فخرجوا، [هذا معنى الحديث مختصرًا، رواه مسلم والبخاري في صحيحيهما وغيرهما من الأئمة].
فالعلم أن هؤلاء الثلاثة لم يذكر طاعتهم إلا وقد شهدوها فضلًا من الله عليهم, فتوسلوا إلى نعمته بنعمته، كما أخبر الله عن زكريا: ﴿...وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا﴾([8]).
فتوسل إلى الله بسابق حسن عوائده فيه، وسألت امرأة بعض الملوك فقالت: «إنك أحسنت إلينا عام أول, ونحن محتاجون لإحسانك إلينا العام»، فقال: «أهلًا بمنن توسل لإحساننا بإحساننا», وأعطاها وأجزل لها العطاء.
ومن فتح له هذا الباب جاز له الإخبار بطاعته ووجود معاملته؛ لأنه حينئذ متحدث بنعم الله سبحانه.
وقد كان بعض السلف يصبح, فيقول: «صليت البارحة كذا وكذا ركعة، وتلوت كذا وكذا سورة», فيقال له: «أما تخشى من الرياء؟»، فيقول: «ويحكم! وهل رأيتم من يرائي يفعل غيره!»، وكان يفعل مثل ذلك، فيقال له: «لم لا تكتم ذلك؟»، فيقول: «ألم يقل الحق سبحانه: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾([9]) وأنتم تقولون لا تتحدث!».
وقال }: كان الإنسان بعد أن لم يكن، وسيفنى بعد أن كان، ومن كلا طرفيه عدم؛ فهو عدم.
ومعنى كلام الشيخ هذا أن الكائنات لا يثبت لها رتبة الوجود المطلق؛ لأن الوجود الحق، إنما هو لله، وله الأحديه فيه, فالعدم وصفه في نفسه.
وقد قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي }: الصوفي من يرى الخلق لا موجودين ولا معدومين، حسب ما هم عليه في علم رب العالمين.
وقال أيضًا -وقد تقدم-: إنَّا لا نرى أحدًا من الخلق، هل في الوجود أحد سوى الملك الحق؟ وإن كان لا بد كالهباء في الهواء، إن فتشته لم تجدْ شيئًا.
وفي كتاب «الحكم»، من كلامنا: «العوالم ثابتة بإثباته، ممحوة لأحديته ذاته».
وقال الشيخ أبو الحسن }: كان لي صاحب كثيرًا ما يأتيني بالتوحيد, فقلت له: إن أردت التي لا لوم فيها؛ فليكن الفرق على لسانك موجودًا، والجمع في باطنك مشهودًا، وأشبه شيء بوجود الكائنات إذا نظرت إليها بعين البصيرة وجند الظلال، والظل لا موجود باعتبار جميع مراتب الوجود، ولا معدود باعتبار جميع مراتب العدم, وإذا ثبتت ظلية الآثار لم تنسخ أحديته المؤثر؛ إذ الشيء إنما يشنع بمثله, ويضم إلى شكله كذلك أيضًا من شهد ظلية الآثار لم تعوقه عن الله؛ فإن ظلال الأشجار في الأنهار لا تعوق السفن عن التَّسْيَار, من ها هنا يتبين لك أيضا أن الحجاب
ليس أمرًا وجوديًّا بينك وبين الله, ولو كان بينك وبينه حجاب وجودي؛ لَلَزِمَ أن يكون أقرب إليك منه، لا شيء أقرب من الله, فرجعت حقيقة الحجاب إلى توهم الحجاب، فما حجبك عن الله وجود موجود معه؛ إذ لا موجود معه، وإنما حجبك عنه توهم وجود معه, وذلك كرجل بات في مكان وأرد البراز, فسمع صوت الرياح في كُوَّةٍ هناك فظنه زئير الأسد, فمنعه ذلك عن البراز، فلما أصبح لم يجد هناك أسدًا، وإنما الريح انضغطت في تلك الكوة، فما حجبه وجود أسد, وإنما حجبه توهم الأسد.
وسمعته يقول: لو عذب الله الخلق أجمع لم ينلك من عذابهم شيء، ولو نَعَّمَهُم أجمع لم ينكل من نعيمهم شيء, فكأنك في الوجود وحدك.
ثم أنشد شعرًا:
أَنْتَ الْمُخَاطَبُ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ
*
فَاجْنَحْ إِلَيْ يُلْمَحْ لَكَ الْبُرْهَانُ
وسمعته يقول: دخلت على الشيخ وفي نفسي أن آكل السخن وألبس الخشن، فقالي لي: «يا أبا العباس، اعرف الله وكن كيف شئت».
ودخل على الشيخ أبي الحسن فقير عليه ملابس شعر, فلما فرغ الشيخ من كلامه، دنا من الشيخ وأمسك ملبسه, وقال: «يا سيدي، ما عبد الله بهذا اللباس الذي عليك», فأمسك الشيخ ملبسه فوجد خشونته, فقال: «ولا عبد الله بهذا اللباس الذي عليك، لباسي يقول: أنا غني عنكم فلا تعطوني، ولباسك يقول: أنا فقير إليكم فأعطوني».
وهكذا طريق الشيخ أبي العباس } وشيخه أبي الحسن، وطريقة أصحابهما الإعراض عن لبس زي ينادي علي سِرِّ اللابس بالإفشاء, ويفصح عن طريقه بالإبداء، ومن لبس الزي فقد ادعى.
ولا تفهم -رحمك الله- أنَّا نعيب بهذا القول على من لبس زي الفقراء، بل قصدنا أنه لا يلزم كل من كان له نصيب مِمَّا للقول أن يلبس ملابس الفقراء؛ فلا حرج على اللابس ولا على غير اللابس إذا كان من المحسنين، ﴿...مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ...﴾ [التوبة:91]، وأما لبس اللباس اللين وأكل الطعام الشهي وشرب الماء البارد -فليس القصد إليه بالذي يوجب العتب من الله إذا كان معه الشكر لله.
وقد قال الشيخ أبو الحسن: «يا بني، برد الماء؛ فإنك إذا شربت الماء السخن، فقلت: الحمد لله. تقولها بكزازة، وإذا شربت الماء البارد، فقلت: الحمد لله؛ استجاب كل عضو فيك بالحمد لله», ﴿فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ...﴾ [القصص:24]،
الباب الثامن - في كلامه في الحقائق والمقامات وكشفه فيها للأمور المعضلات
قال }: الشوق على قسمين: شوق على الغيبة لا يسكن إلا بلقاء الحبيب وهو شوق النفوس, وشوق الأرواح على الحضور والمعاينة, فإذا رفعك إلى محل المحاضرة والشهود المسلوب عن العلل؛ فذاك مقام التعريف إيمانًا حقيقيًّا، وذاك ميدان تَنَزُّلِ أسرار الأزل, فإذا أنزلك إلى محل المشاغرة والجهاد؛ فذاك مقام التكليف المقيد بالعلل، وهو الإسلام الحقيقي وذلك ميدان تجلي حقائق الأبدية.
والمحقق من لا يبالي بأي صفة يكون؛ لأنَّ صفتك تميل لا أنت، والصفة من العين للعين وهو ظهورك، والاسم اللسان وهو نطقك, والاسم حقيقة الصفة، والصفة حقيقة الوجود, والأسرار متنزلة عن الوجودية للصديقية, والحقائق متجلية عن الصفات بالولاية لأهل العلوم الظاهرة عن الاسم بالدليل لأهل السعاية, وإليه بالإشارة بقوله —: «يا أبا جحيفة، سائلِ العلماء, وخالطِ الحكماء، وجالسِ الكبراء»([1])؛ فالعالم يدلك بالعلم من الأسماء ونهايته الجنة، والحكيم المقرب يحمله باليقين وبالحقائق من الصفات ونهايته منازل القرابة، وإليه الإشارة بقوله تعالى: ﴿...اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ...﴾([2])، والكبير يَدُلُّك بالأسرار من الوجود على كبير الصفاء والنزاهة، ونهايته إلى الله.
وتجتمع المراتب الثلاثة في الكبير، فيحمل قومًا بالعلم، وقومًا بالحقائق، وقومًا بالأسرار، وهم الأنبياء, وأبدال الرسل وهم البصراء, ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى الله عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي...﴾ [يوسف:108]؛ أي على معاينة يعاين لكل صنف طريقهم، فيحملهم عليها وهي النيابة، وأما هو فقد انفرد بحالة لا تُعرف لعظيم قربه.
وَغَنَّى لِي مُنَى قَلْبِي
* وَغَنَّيْتُ كَمَا غَنَّى
وَكُنَّا حِينَمَا كَانُوا
* وَكَانُوا حِينَمَا كُنَّا
وقال }: أوقات العبد أربعة لا خامس لها: النعمة، والبلية, والطاعة، والمعصية، ولله عليك في كل وقت منها سَهْمٌ من العبودية يقتضيه الحق منك بحكم الربوبية؛ فمن كان وقته الطاعة فسبيله شهود المنة من الله
عليه؛ إذ هداه لها ووَفَّقَهُ للقيام بها، ومن كان وقته المعصية فسبيله الاستغفار والتوبة، ومن كان وقته النعمة فسبيله الشكر، وهو فرح القلب بالله، ومن كان وقته البَلِيَّةَ فسبيله الرضا بالقضاء والصبر, والرضا رضا النفس عن الشهوات، والصبر مشتق من الإصبار, وهو الغرض للسهام، وكذلك الصابر ينصب نفسه غرضًا لسهام القضاء, فإن ثبت لها فهو صابر، والصبر ثبات القلب بين يدي الرب، قال رسول الله >: «من أُعْطِيَ فشكر, وابْتُلِيَ فصبر, وظلم فغفر, وعمل فاستغفر» ثم سكت، فقال: يا رسول الله، ماذا له؟ فقال: ﴿أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام:82]؛ أي لهم الأمن في الآخرة، وهم مهتدون في الدنيا.
وقال }: الناس على قسمين: قوم وصلوا بكرامة الله إلى طاعة الله، وقوم وصلوا بطاعة الله إلى كرامة الله، قال سبحانه وتعالى: ﴿...يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾([3]).
ومعنى كلام الشيخ هذا: أن من الناس من حَرَّكَ اللهُ همته لطلب الوصول إليه، فصار يطوي بهما نفسه، ويبدأ طبعه إلى أن وصل إلى حضرة ربه، يصدق على هذا قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا...﴾([4]).
ومن الناس من فاجأته عناية الله من غير طلب ولا استعداد, ويشهد لذلك قوله: ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاء...﴾ [آل عمران:74]، والأول حال السالكين، والثاني حال المجذوبين؛ فمن كان مبدأه المعاملهْ فنهايته المواصلهْ، ومن كان مبدأه المواصلهْ رد إلى وجود المعاملهْ.
ولا تظن أن المجذوب لا طريق له، بل له طريق طَوَتْهَا عناية الله له، فسلكها مسرعًا إلى الله عَجِلًا، وكثيرًا ما تسمع عند مراجعات المنتسبين للطريق أن السالك أَتَمُّ من المجذوب؛ لأن السالك عرف الطريق وما توصل إليه، والمجذوب ليس كذلك، وهذا بناء منهم على أن المجذوب لا طريق له, وليس الأمر كما زعموا؛ فإن المجذوب طُوِيَتْ له الطريق ولم تُطْوَ عنه، ومن طُوِيَتْ له الطريق لم تَفُتْهُ ولم تَغِبْ عنه, وإنما فاتَه متاعبها وطول أمدها، والمجذوب كمن طُوِيَتْ له الأرض إلى مكة، والسالك كالسائر إليها على أكوار المطايا.
وقال }: العارف لا دنيا له؛ لأن دنياه لآخرته وآخرته لربه.
وقال }: الزاهد جاء من الدنيا إلى الآخرة، والعارف جاء من الآخرة إلى الدنيا.
وقال }: الزاهد غريب في الدنيا؛ لأنَّ الآخرة وطنه, والعارف غريب في الآخرة؛ فإنه عند الله.
فإن قلت: ما معنى الغرابة في كلام الشيخ هذا؟ وما معناها في الحديث الوارد: «بدأ الدين غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ؛ فطوبى للغرباء»؟.
فاعلم أن الغربة المذكورة في الحديث معناها قلة من يعين على القيام بالحق, فيكون القائم به غريبًا؛ لفِقدان المساعدة وعدم المعاضدة، ولا يُنهض القائمَ حينئذ إلا قوةُ إيمانه ووفور إيقانه؛ فلذلك قال رسول الله >: «بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ؛ فطوبى للغرباء»([5])، يريد > أنهم قاموا بأمر الله في بلاده وعباده؛ حيث تقاعدت هِمَمُ النَّاسِ عن القيام به.
وأما الغربة في كلام الشيخ فمعناها أن الزاهد يكشف عن ملك الآخرة, فتبقى الآخرة موطن قلبه ومعشش روحه, فيكون غريبًا في الدنيا؛ إذ ليست وطنًا لقلبه، عاين الدار الآخرة فأخذ قلبه فيما عاين من ثوابها ونوالها, وفيما شهد من عقوبتها ونَكَالها، فاستغرب في هذه الدار.
وأما العارف فإنه غريب في الآخرة؛ فإنه كشف له عن صفات معروفة، فأخذ قلبه فيما هنالك؛ فصار غريبًا في الآخرة؛ لأن سِرَّه مع الله بلا أين؛ فهؤلاء العباد تصير الحضرة معشش قلوبهم، إليها يأوون وفيها يسكنون؛ فإن تَنَزَّلُوا إلى سماء الحقوق أو أرض الحظوظ فبالإذن والتمكين والرسوخ في اليقين، فلم ينزلوا إلى الحظوظ بالشهوة والمتعة، ولا إلى الحقوق بسوء الأدب والغفلة، بل كانوا في ذلك كله بآداب الله وآداب رسله وأنبيائه متأدبين، وبما اقتضى منهم مولاهم عاملين.
وقال }: الخوف على قسمين: خوف العامة، وخوف الخاصة؛ فخوف العامة: على أجسادهم من النار، وخوف الخاصة: على خِلَعِهِم التي كساهم اللهُ أن تُدَنَّسَ بالمخالفة.
ومعنى كلام الشيخ هو: أن العامة لم تنفذ
بصائرهم إلى شهود خِلَع الحق عليهم، من: إيمان، وإسلام، ومعرفة، توحيد، ومحبة، وعلموا أن الله تعالى قد تواعد أهل معصيته بعقوبته، فخافوا من الوقع في المعصية؛ لِئَلَّا يكون ذلك سبب وقوع العقوبة بهم؛ فكان خوفهم إشفاقًا على نفوسهم من عقوبة الله، وأما أهل الخصوصية فأعطاهم الحق من نوره ما أشهدهم به ما كساهم من خِلَعِ مننه؛ فعملوا على صيانتها ليقدموا عليه بها، لم تدنس ولم تتغير، طاهرة نقية مشرفة بهية, وفهموا معنى قوله: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ [المدثر:4]؛ فطهروا ملابس إيمانهم وإيقانهم من دنس غفلتهم وعصيانهم، وفهموا أيضًا قوله تعالى: ﴿يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾([6])؛ فعبروا الدنيا، وقد رفعوا ملابس المنن؛ خشية أن تدنس بأوساخها؛ كي يقدموا عليه بخلعه التي أنعم الله بها عليهم, وينهضوا له بالوفاء فيما انقضى منهم، وبالإمامة والصيانة فيما اسْتَأْمَنَهُم، وكان بعض العارفين ينشد شرعًا:
قَالُوا غَدًا الْعِيدُ مَاذَا أَنْتَ لَابِسُهُ
*
فَقُلْتُ خِلْعَةَ سَاقٍ حُبُّهُ جَرَعَا
فَقْرٌ وَصَبْرٌ هُمَا ثَوْبَانِ تَحْتَهُمَا
*
قَلْبٌ يَرَى إِلْفَهُ الْأَعْيَادَ وَالْجُمَعَا
الْعِيدُ لِي مَأْتَمٌ إِنْ غِبْتَ يَا أَمَلِي
َ
*
وَالْعِيدُ مَا كُنْتَ لِي مَرْأًى وَمُسْتَمَعَا
أَحْرَى المَلَابِسِ أَنْ تَلْقَى الْحَبِيبَ بِهِ
*
يَوْمَ التَّزَاوُرِ بِالثَّوْبِ الَّذِي خَلَعَا
وقال }: العامة إذا خُوِّفُوا خَافوا, وإذا رُجوا رَجَوْا, والخاصة متى خُوِّفوا رَجَوْا, ومتى رجوا خافوا.
ومعنى كلام الشيخ هذا: أنَّ العامة واقفون مع ظواهر الأمر, فإذا خوفوا خافوا؛ إذ ليس لهم نفوذ إلى ما وراء العبارة بنور الفهم كما لأهل الله، وأهل الله إذا خُوِّفُوا رَجُوا، عالِمِين أن من وراء خوفهم وما به خُوِّفُوا أوصاف المَرْجُوِّ الذي لا ينبغي أن يقنط من رحمته ولا أن يُؤَيِّسَ من منته، فاحتالوا على أوصاف كرمه؛ علمًا منهم أنه ما خَوَّفَهُم إلا لِيَجْمَعَهُم عليه, وليردهم بذلك إليه، وإذا رُجوا خافوا، يخافون غيب مشيئته الذي هو من وراء رجاهم, وخافوا أن يكون ما أظهر من الرجاء اختبار لعقولهم, هل تقف على ظاهر الرجاء، أو تنفذ إلى ما بطن في مشيئته؛ فلذلك استثارَ الرجاءُ خوفَهم وحكمَهم في القبض والبسط, كما قال الشيخ في الخوف والرجاء، غير أن البسط مَزِلَّةُ أقدام الرجاء؛ فهو موجب لمزيد حذرهم وكثرة لجأهم، قال بعضهم: «فتح لي باب من
البسط فانبسطت، فحجبت عن مقامي ثلاثين سنة».
وكان الشيخ أبو العباس } يُنشد شعرًا:
وَاقْطَعِ السَّيْرَ إِلَيْهِ وَمِيلَا
* فَإِذَا مَا نِلْتَ مِنْهُ وُصُولَا
فَاقْرَعِ الْبَابَ قَلِيلًا قَلِيلَا
*
وَاحْذَرِ الْبَسْطَ وَنَادِي يَا مُجِيبْ
مِنْ عَلَى بُعْدٍ يُنَادِي مِنْ قَرِيبْ
فقوله: «واحذر البسط»؛ لما قدمناه؛ فإنه رزق من الأنوار بسط، فيخشى على العبد أن يبغيه وجوده، قال الله سبحانه: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ...﴾([7]).
والقبض أقرب إلى وجود السلامة؛ لأنه وطن العبد؛ إذ هو في أَسْرِ قبضة الله، وإحاطة الحق محيطة به، ومن أين يكون للعبد البسط وهذا شأنه! والبسط خروج عن حكم وقته, والقبض هو اللائق بهذه الدار؛ إذ هي وطن التكليف وإبهام الخاتمة, وعدم العلم بالسابقة والمطالبة بحقوق الله تعالى.
وأخبرني بعض الصوفية، قال: رأى شيخنا شيخه في المنام بعد موته مقبوضًا, فقال له: «يا أستاذ، ما لَك مقبوضًا؟!» قال له: «يا بني، القبض والبسط مقامان، من لم يوفهما في الدنيا وَفَّاهُمَا في الآخرة», وكان هذا الشيخ الغالب عليه في حياته البسط, وقوله: «من على بعد»؛ أي من شهود عدم استحقاق الإجابة، أو «من على بعد من دعوا»؛ أي لأضاف الربوبية، أو «من على بعد»: بوجود شهود الإساءة.
وقال الشيخ الحسن: ما طلبت من الله حاجة إلا قطعت إساءتي أمامي.
فإن قلت: فحديث الثلاثة الذين دخلوا الغار, فانحطت عليهم صخرة فسدت باب الغار, فقالوا: «ليذكر كل واحد منكم أرجى عمله»؛ فذكر أحدهم بِرَّه بأبويه, والآخر عفافه عن ابنة عمه مع حبه إياها والتمكن منها، وذكر الآخر تثميره لأجر أجيرٍ أجرَه، فلما وجده دفع ذلك كله إليه؛ فكشف الله ما نزل بهم، وزالت الصخرة عن فم الغار فخرجوا، [هذا معنى الحديث مختصرًا، رواه مسلم والبخاري في صحيحيهما وغيرهما من الأئمة].
فالعلم أن هؤلاء الثلاثة لم يذكر طاعتهم إلا وقد شهدوها فضلًا من الله عليهم, فتوسلوا إلى نعمته بنعمته، كما أخبر الله عن زكريا: ﴿...وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا﴾([8]).
فتوسل إلى الله بسابق حسن عوائده فيه، وسألت امرأة بعض الملوك فقالت: «إنك أحسنت إلينا عام أول, ونحن محتاجون لإحسانك إلينا العام»، فقال: «أهلًا بمنن توسل لإحساننا بإحساننا», وأعطاها وأجزل لها العطاء.
ومن فتح له هذا الباب جاز له الإخبار بطاعته ووجود معاملته؛ لأنه حينئذ متحدث بنعم الله سبحانه.
وقد كان بعض السلف يصبح, فيقول: «صليت البارحة كذا وكذا ركعة، وتلوت كذا وكذا سورة», فيقال له: «أما تخشى من الرياء؟»، فيقول: «ويحكم! وهل رأيتم من يرائي يفعل غيره!»، وكان يفعل مثل ذلك، فيقال له: «لم لا تكتم ذلك؟»، فيقول: «ألم يقل الحق سبحانه: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾([9]) وأنتم تقولون لا تتحدث!».
وقال }: كان الإنسان بعد أن لم يكن، وسيفنى بعد أن كان، ومن كلا طرفيه عدم؛ فهو عدم.
ومعنى كلام الشيخ هذا أن الكائنات لا يثبت لها رتبة الوجود المطلق؛ لأن الوجود الحق، إنما هو لله، وله الأحديه فيه, فالعدم وصفه في نفسه.
وقد قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي }: الصوفي من يرى الخلق لا موجودين ولا معدومين، حسب ما هم عليه في علم رب العالمين.
وقال أيضًا -وقد تقدم-: إنَّا لا نرى أحدًا من الخلق، هل في الوجود أحد سوى الملك الحق؟ وإن كان لا بد كالهباء في الهواء، إن فتشته لم تجدْ شيئًا.
وفي كتاب «الحكم»، من كلامنا: «العوالم ثابتة بإثباته، ممحوة لأحديته ذاته».
وقال الشيخ أبو الحسن }: كان لي صاحب كثيرًا ما يأتيني بالتوحيد, فقلت له: إن أردت التي لا لوم فيها؛ فليكن الفرق على لسانك موجودًا، والجمع في باطنك مشهودًا، وأشبه شيء بوجود الكائنات إذا نظرت إليها بعين البصيرة وجند الظلال، والظل لا موجود باعتبار جميع مراتب الوجود، ولا معدود باعتبار جميع مراتب العدم, وإذا ثبتت ظلية الآثار لم تنسخ أحديته المؤثر؛ إذ الشيء إنما يشنع بمثله, ويضم إلى شكله كذلك أيضًا من شهد ظلية الآثار لم تعوقه عن الله؛ فإن ظلال الأشجار في الأنهار لا تعوق السفن عن التَّسْيَار, من ها هنا يتبين لك أيضا أن الحجاب
ليس أمرًا وجوديًّا بينك وبين الله, ولو كان بينك وبينه حجاب وجودي؛ لَلَزِمَ أن يكون أقرب إليك منه، لا شيء أقرب من الله, فرجعت حقيقة الحجاب إلى توهم الحجاب، فما حجبك عن الله وجود موجود معه؛ إذ لا موجود معه، وإنما حجبك عنه توهم وجود معه, وذلك كرجل بات في مكان وأرد البراز, فسمع صوت الرياح في كُوَّةٍ هناك فظنه زئير الأسد, فمنعه ذلك عن البراز، فلما أصبح لم يجد هناك أسدًا، وإنما الريح انضغطت في تلك الكوة، فما حجبه وجود أسد, وإنما حجبه توهم الأسد.
وسمعته يقول: لو عذب الله الخلق أجمع لم ينلك من عذابهم شيء، ولو نَعَّمَهُم أجمع لم ينكل من نعيمهم شيء, فكأنك في الوجود وحدك.
ثم أنشد شعرًا:
أَنْتَ الْمُخَاطَبُ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ
*
فَاجْنَحْ إِلَيْ يُلْمَحْ لَكَ الْبُرْهَانُ
وسمعته يقول: دخلت على الشيخ وفي نفسي أن آكل السخن وألبس الخشن، فقالي لي: «يا أبا العباس، اعرف الله وكن كيف شئت».
ودخل على الشيخ أبي الحسن فقير عليه ملابس شعر, فلما فرغ الشيخ من كلامه، دنا من الشيخ وأمسك ملبسه, وقال: «يا سيدي، ما عبد الله بهذا اللباس الذي عليك», فأمسك الشيخ ملبسه فوجد خشونته, فقال: «ولا عبد الله بهذا اللباس الذي عليك، لباسي يقول: أنا غني عنكم فلا تعطوني، ولباسك يقول: أنا فقير إليكم فأعطوني».
وهكذا طريق الشيخ أبي العباس } وشيخه أبي الحسن، وطريقة أصحابهما الإعراض عن لبس زي ينادي علي سِرِّ اللابس بالإفشاء, ويفصح عن طريقه بالإبداء، ومن لبس الزي فقد ادعى.
ولا تفهم -رحمك الله- أنَّا نعيب بهذا القول على من لبس زي الفقراء، بل قصدنا أنه لا يلزم كل من كان له نصيب مِمَّا للقول أن يلبس ملابس الفقراء؛ فلا حرج على اللابس ولا على غير اللابس إذا كان من المحسنين، ﴿...مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ...﴾ [التوبة:91]، وأما لبس اللباس اللين وأكل الطعام الشهي وشرب الماء البارد -فليس القصد إليه بالذي يوجب العتب من الله إذا كان معه الشكر لله.
وقد قال الشيخ أبو الحسن: «يا بني، برد الماء؛ فإنك إذا شربت الماء السخن، فقلت: الحمد لله. تقولها بكزازة، وإذا شربت الماء البارد، فقلت: الحمد لله؛ استجاب كل عضو فيك بالحمد لله», ﴿فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ...﴾ [القصص:24]،
أمس في 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin