الصفحة 58 من 61
أمثلة للمدبرين مع الله تعالى
أمثلة للمدبرين مع الله تعالى(*)([1])
فصل: نذكر فيه أمثلة التدبير مع الله، والمدبرين معه، وأمثلة الرزق وضمان الحق تعالى له؛ فإن بالمثال يتبين الحال مَثَلُ المدبر مع الله، كمن بنى بناءه على شاطىء البحر، كلما اجتهد في بنائه كثرت عليه الأمواج؛ فتداعى جميع أنحائه، كذلك المدبر مع الله تعالى يبني مباني التدبير وتهدمها واردات المقادير؛ لأجل ذلك قيل: «يدبر المدبر، والقضاء يضحك»، وقال الشاعر:
متى يبلغ البنيان يومًا تمامه
* إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم!
مثال آخر: مثل المدبر مع الله تعالى كرجل جاء إلى رمال متراكمة، فوضع عليها بناءه، فجاءت العواصف فنسفت الرمال فتهدم ما بناه، كما قيل:
وعهودهم بالرمل قد دَرَسَتْ
* وكذاك ما يبنى على الرمل
مثال آخر: مثل المدبر مع الله تعالى كمثل ولد سافر مع والده، فسارا ليلًا، والأب لإشفاقه على الولد يراقبه من حيث لا يراه الولد، والولد لا يرى الوالد للظلمة الحائلة بينهما، فالولد مهموم بأمر نفسه كيف يفعل في شأنه، فإذا طلع القمر ورأى قرب الأب منه سكن جأشه وهدأ روعه؛ لأنه رأى قرب أبيه منه، فاغتنى بتدبيره له عن تدبيره لنفسه كذلك المدبر مع الله تعالى لنفسه إنما دبر؛ لأنه في ليل القطيعة؛ فلم يشهد قرب الله تعالى منه، فلو طلع قمر التوحيد أو شمس المعرفة -لرأى قرب الحق تعالى منه، فاستحى أن يدبر معه، واغتنى بتدبير الله تعالى له عن تدبيره لنفسه.
مثال آخر: التدبير شجرة تسقى بماء سوء الظن، وثمرتها القطيعة عن الله تعالى؛ إذ لو حسن العبد ظنه بربه لماتت شجرة التدبير من قلبه لانقطاع غذائها، وإنما كان ثمرتها القطيعة عن الله تعالى؛ لأن من دبر لنفسه فقد اكتفى بعقله ورضي بتدبيره، واحتال على وجوده، فعقوبته أن يحال عليه، وأن يمنع واردات المنن أن تصل إليه.
مثال آخر: مثل المدبر مع الله كعبد أرسله سيده إلى بلد له ليصنع له فيها قماشًا، فدخل العبد تلك البلدة فقال: «أين أسكن؟ ومن أتزوج؟»، فاشتغل بذلك، وصرف همته لما هنالك، وعطل ما أمره به السيد، حيث دعا سيده إليه فجزاؤه من سيده أن جازاه بالقطيعة ووجود الحجبة؛ لاشتغاله بأمر نفسه عن حق سيده، كذلك أنت أيها المؤمن أخرجك الحق إلى هذه الدار، وأمرك فيها بخدمته، وقام لك بوجود التدبير لك منه؛ فإن اشتغلت بتدبير نفسك عن حق سيدك فقد عدلت عن سبيل الهدى وسلكت مسلك الردى.
مثال آخر: مثل المدبر مع الله تعالى، والذي لا يدبر كعبدين للمالك؛ أما أحدهما: فمشتغل بأوامر سيده، ولا يلتفت إلى ملبس ولا مأكل، بل إنما تهمه خدمه السيد؛ فأغفله ذلك عن التفرغ لحظوظ نفسه ومهماتها، وعبد آخر: كيفما طلبه السيد وجده في غسل ثيابه، وسياسة مركوبه، وتحسين زيه.
فالعبد الأول: أولى بإقبال السيد من العبد الثاني المشتغل بحظوظ نفسه ومهماتها عن حقوق سيده، والعبد إنما اشتري للسيد لا لنفسه، وكذلك العبد البصير لا تراه إلا مشغولًا بحقوق الله تعالى، ومراقبة أوامره عن محابِّ نفسه ومهماتها، فلما كان كذلك قام له الحق تعالى بكل أمره، وتوجه له بجزيل عطائه لصدقه في توكله: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾([2])، والغافل ليس كذلك لا تجده إلا في تحصيل أسباب دنياه، وفي الأشياء التي توصله إلى هواه، قائمًا بوجود التدبير من نفسه لنفسه، محالًا عليها، مقطوعًا به عن وجود حسن الثقة، وصدق التوكل.
مثال آخر: مثل المدبر مع الله تعالى كالظل المنبسط في عدم استواء الشمس، فإذا استوت الشمس فني ذلك الظل، حتى لا يبقى منه إلا بقية رسم لا تمحوه المقابلة، كذلك شمس المعرفة إذا قابلت القلوب محت منها وجود التدبير، إلا بقاء رسم من تدبير العبد، أبقي فيه ليجرى عليه التكليف.
مثال آخر: مثل المدبر مع الله تعالى لنفسه كرجل باع دارًا أو عبدًا، ثم بعد المبايعة وإتمامها جاء البائع إلى المشتري فقال له: «لا تبنِ فيها شيئًا، أو اهدم منها بيت كذا، أو افعل فيها كذا»، أو جاء البائع ليفعل ذلك فيقال له: «أنت قد بعت وليس لك بعد البيع تصرف فيما بعته؛ إذ ليس بعد المبايعة منازعة»، وقد قال -سبحانه وتعالى-: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ﴾([3])؛ فعلى المؤمن أن يسلم نفسه لله وما انتسب إليها؛ لأنه أنشأها، ولأنه اشتراها، ومن لازم التسليم ترك التدبير لما أنت له مسلم كما بَيَّنَّاه.
وأما الرزق فمثال رزق العبد في هذه الدار كمثل سيد قال لعبده: الزم هذه الدار قائمًا فيها بخدمة كذا. فلم يكن للسيد ليأمره بذلك إلا وهو يطعمه ويسقيه ويكسبه، ويقوم له بوجود الكفايهْ ولا يهمله من الرعايهْ، كذلك العبد أمره الله تعالى في الدنيا بالطاعة والموافقة، وضمن له وجود القسمة، فليقم العبد بخدمته؛ فإن السيد قائم عليه بمنته قال الله تعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾([4])، وقد تقدم بيانه.
مثال آخر: مثل العبد مع الله تعالى في هذه الدنيا كالطفل مع أمه، ولم تكن الأم لتدع ولدها من كفالتها، ولا أن تخرجه من رعايتها، وكذلك المؤمن مع الله تعالى قائم له الحق تعالى بحسن الكفالة؛ فهو سائق إليه المنن ودافع عنه المحن.
رأى رسول الله -عليه الصلاة والسلام- امرأة معها ولدها فقال: «أترون أن هذه طارحة ولدها في النار؟»، فقالوا: «لا يا رسول الله»، فقال -عليه الصلاة والسلام-: «الله أرحم بعبده المؤمن من هذه بولدها»([5]).
مثال آخر: مثل العبد في الدنيا كمثل عبد قال له سيده: اذهب إلى أرض كذا أو كذا، واحكم أمرك لأن تسافر من تلك الأرض في برية كذا وخذ أهبتك وعدتك. فإذا أذن له السيد في ذلك فمعلوم أنه قد أباح له أن يأكل ما يستعين به على إقامة بنيته ليسعى في طلب العدة، وليقوم بوجود الأهبة، كذلك العبد أوجده الحق في هذه الدار، وأمره أن يتزود منها لمعاده، فقال الحق تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾([6])؛ فمعلوم أنه إذا أمره بالزاد للآخرة فقد أباح له أن يأخذ من الدنيا ما يستعين به على تزوده واستعداده، وتأهبه لميعاده.
مثال آخر: مثل العبد مع الله تعالى كمثل سيد له بستان، أمر عبده أن يكون فيه غارسًا وزارعًا وقائمًا بمصلحته، فإن كان ذلك العبد حين أمر بذاك قام بما طلبه السيد منه لا يخرج عنه؛ فليس السيد بلائم له، ولا مانع إياه من أكله من ذلك البستان، فإنه إذا أكل منه عمل فيه، لكن على العبد أن يأكل ما يستعين به على الخدمة، وألَّا يأكل أكل التمتع والتشهي.
مثال آخر: مثل العبد مع الله كمثل والد غرس غرسًا كثيرًا، وبنى ربعًا كثيرًا، وبنى ربعًا كبيرًا، فقيل له: «لمن فعلت هذا؟»، فقال: «لولد عساه أن يحدث لي»، فهيأ للولد ما يحتاج إليه قبل وجوده؛ حبًّا منه له، أفترى إذا أعد له الأب قبل وجوده، أيمنعه إياه بعد وجوده!
كذلك العبد مع الله تعالى، هيأ له الحق المنة من قبل أن يخلقه في هذه الدار؛ لأن المنة سابقة لوجودك إن فهمت، ألا ترى أنه سبق عطاؤه إياك وجودك، ومنته عليك ظهورك؛ إذ هو أعطى في الأزل قبل أن يكون العبد، ويكون منه له عمل، فما قسمه لك في الأزل وادَّخَرَهُ لك ليس بمانعه عنك، أهو هيأ لك قبل الوجود ويمنعك لما وجدت!.
مثال آخر: مثل العبد مع الله تعالى كمثل أجير أتى به ملك إلى داره، وأمره بأن يعمل له عملًا؛ فما كان الملك ليأتي بالأجير فيستخدمه في هذه الدار، ويتركه من غير تغذية؛ إذ هو أكرم من ذلك، كذلك العبد مع الله تعالى فالدنيا دار الله، والأجير هو أنت والعمل هو الطاعة، والأجرة هي الجنة، ولم يكن الله ليأمرك بالعمل، ثم لا يسوق لك ما به تستعين عليه.
مثال آخر: مثل العبد مع الله تعالى كمثل ضيف نزل على ملك
كريم في داره، فحق على ذلك الضيف ألَّا يهتم بمأكل ولا مشرب؛ لأنه إن فعل ذلك كان تهمة للملك وسوء ظن منه به، وقد تقدم ذلك من قول الشيخ أبي مدين -رحمه الله-: «كذلك الدنيا دار الله، والعباد فيها ضيوفه، ولم يكن الله تعالى ليأمر بالضيافة على لسان رسوله -عليه الصلاة والسلام- ويكون لها تاركًا؛ فالمتهم فيها بمأكل ومشرب ممقوت في نظر الملك؛ إذ لولا شَكُّهُ في الله لما كان يهتم بشأنه».
مثال آخر: مثل العبد مع الله تعالى كمثل عبد أمره الملك أن يقيم في أرض كذا يحارب العدو الذي هنالك، وأن يبذل عزمه في مجاهدته، وأن يدوم على محاربته؛ فمعلوم أنه إذا أمره بذلك أنه يبيح له أن يأكل من إهداء تلك البلدة ومخازنها بالأمانة؛ ليستعين بذلك على محاربة العدو الذي أمره الملك بمحاربته، كذلك العباد أمرهم الحق بمحاربة الشيطان بقوله: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ﴾ [الحج: 78]، وقال: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا﴾ [فاطر: 6]، فلما أمرهم بمحاربته أذن لهم أن يتناولوا من منته ما يستعينون به على محاربة الشيطان؛ إذ لو تركت المأكل والمشرب لم يمكنك أن تقوم لطاعته ولا أن تنهض بخدمته؛ فقد تضمن أمر الملك بالمجاهدة إباحة تناول ما هو منسوب للمالك مما هو معد لك، ولكن على طريق الأمانة محفوفًا بالصيانة.
مثال آخر: مثل العبد مع الله تعالى كشجرة غرسها غارس طالبًا نموها ونتاجها، فقد علمت الشجرة -إن يكن لها علم أو علمنا ذلك فيها- أنه ما كان ليغرسها ويمنعها السقي، كيف وهو حريص على نتاجها مريد لنمائها! كذلك أنت -أيها العبد- شجرةٌ اللهُ غارسُك، وهو ساقيك في كل وقت قائم لك بوجود التغذية؛ فلا تتهمه أن يغرس شجرة وجودك، ثم يمنعك من السقيا بعد الغرس؛ فإنه ليس بغافل.
مثال آخر: مثل العبد مع الله تعالى كمثل ملك له عبيد بنى دارًا وأحسنها وبَهَّجَهَا، وتولى غراسها، وكمل المشتهيات فيها في غير الموطن الذي العبيد فيه، وهو يريد أن ينقلهم إليها، أترى إذا كان هذا غايته بهم فيما ادخره لهم عنده، وهَيَّأَهُ لهم بعد الرحلة، أيمنعهم ها هنا أن يتناولوا من منته وفضلات طعامه، وهو قد هيأ لهم الأمر العظيم والفضل الجسيم!
كذلك العباد مع الله، جعلهم في الدنيا وهيأ لهم الجنة كما هيأ لهم الآخرة، وهو يريد أن يمنعهم من الدنيا ما يقوم به وجوههم؛ ولذلك قال تعالى: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ﴾([7])، وقال تعالى: ﴿كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا﴾([8])، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا﴾([9])، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾([10]).
فإذا ادخر لك الباقي ومنَّ به عليك، لا يمنعك الفاني؛ فإن منعك منه، فإنما منعك ما لم يقسمه لك، وما لم يقسمه لك فليس لك، فكان ذلك المنع لك منه عطاء ونظرًا -علم أن فيه مصلحة وجودك ونظام أمرك، كما يقطع توالي الماء عن الشجرة؛ لئلا يتلفها دوام السقيا.
مثال آخر: مثل المتهم بأمر دنياه الغافل عن التزود لآخرته، كمثل إنسان هاجمه سبع، وقد كاد أن يفترسه، ووقع عليه ذباب فاشتغل بذب ذلك الذباب، ودفعه عن التحرز من الأسد؛ فهذا عبد أحمق فاقد وجود العقل، ولو كان بالعقل متصفًا لشغله أمر الأسد وصولته وهجومه عليه عن الفكرة في أمر الذباب والاشتغال به، كذلك المتهم بأمر دنياه الغافل عن التزود لأخراه، دَلَّ ذلك منه على وجود حمقه؛ إذ لو كان فاهمًا عاقلًا لتأهب للدار الآخرة التي هو مسئول عنها وموقوف فيها، ولا يشتغل بالاهتمام بأمر الرزق؛ فإن الاهتمام بالنسبة إلى الآخرة كنسبة الذباب إلى مفاجأة الأسد وهجومه.
مثال آخر: مثل العبد مع الله تعالى، كمثل الطفل مع أبيه، لا يعول مع الأب همًّا، ولا يخشى عدمًا؛ لعلمه أن الأب قائم له بوجود الكفالة؛ فطيبت الثقة به عيشه، وأزال الاعتماد على أبيه غمه، كذلك العبد المؤمن مع الله تعالى لا يعول الهموم، ولا ترد بساحة قلبه الغموم من شأن الرزق لعلمه بأن الحق لا يدعه، وعن فضله لا يقطعه، ومن جوده وإحسانه لا يمنعه.
مثال آخر: مثل العبد مع الله تعالى كعبد له سيد غني متصف بالثروة والإحسان إلى عبيده، وغير معروف بالمنع، موصوف بالجود والعطاء، والعبد بفضله واثق، ولإحسانه رامق، علم من سيده الغنى؛ فأخرجه ذلك عن وجود العناء، وهذا بعينه كان سبب توبة شقيق([11]) البلخي رحمه الله، قال: عبرت في زمن مجاعة فوجدت غلامًا منبسطًا منشرحًا ليس عنده علم مما الناس فيه؛ فقلت له: «يا فتى، أما تعلم ما الناس فيه!»، فقال: «وما أبالي ولمولاي قرية خالصة يدخل إلينا كل يوم ما نحتاج إليه!»، فقلت في نفسي: «إن كان لسيد هذا قرية خالصة، فمولاي له خزائن السماوات والأرض؛ فأنا أولى بالثقة من هذا بسيده»، وهو كان سبب انتباهي.
مثال آخر: مثل العبد المتسبب المرزوق في وجود السبب، كمثل عبد قال له السيد: «اعمل وكل من عملك»، ومثال المتجرد كمثل عبد قال له السيد: «الزم أنت خدمتي، وأنا أسوق إليك منتي».
مثال آخر: مثل العبد النافذ إلى الله تعالى في الأسباب بمثابة الرجل يقعد تحت الميزاب إذا أمطرت السماء، فهو يشكر الله تعالى وحده، ولا يلزم من قعوده تحت الميزاب أن يضيف المطر له، بل علم أنه إن لم يكن فيه لم يجد شيئًا، كذلك الأسباب ميازيب المنن؛ فمن دخل في الأسباب، وهمته مطلعة بالله تعالى لا بها لم يضره ذلك، ولم يخش عليه القطيعة فيما هنالك، ومثل الواقف مع الأسباب الغافل عن وليها، كمثل البهيمة يعبر عليها مالكها فلا تلتفت إليه، وهو المالك لها، والمعطي لسائسها ما ينفق عليها، فإذا عبر سائسها بصبصت بعينها وتَشَوَّفَتْ إليه؛ لاعتيادها منه أنه يتولى طعمتها؛ فالعبد كذلك لأنه أجرى عليه الإحسان على أيدي الخلق يشهد ذلك منهم، ولم يخرجه عنهم؛ فهو كالبهيمة أحسن حالًا منه: ﴿أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ﴾([12]).
مثال آخر: مثل الواقف مع الأسباب والنافذ إلى الله فيها، كمثل رجلين دخلا حمَّامًا، أحدهما وافر العقل، والآخر غالب عليه البلاهة، فاستوقف الماء، فأما العاقل فيعلم أن له مصرفًا من ورائه يصرفه ومجريًا يجريه، فيرجع إليه ليرسل له منه ما كان قطعه، أو يفعل ما يشاء، وأما الآخر: فيأتي إلى الأنبوب، فيقول: «أيها الأنبوب، اسكب لنا ماء، ما لك قطعتني ماءك!».
فيقال له: «إنك لأحمق، وهل الأنبوب يسمع شيئًا أو يفعل شيئًا! إنما هي محل ومجرى يظهر فيها ما أجرى فيها».
ومثال العبد المدخر كعبد للملك، جعله في بستانه ليقوم بإصلاح شأنه؛ فللعبد أن يأكل من ثمرات ذلك البستان ما يتقوى به على الغراس، والزراعة فيه، وليس له أن يدخر؛ لأنَّ ثمرة ذلك البستان دائمة، وسيده غني قادر، فإن ادخر بغير إذن سيده إمساكًا على نفسه، وتهمة لسيده فقد خان.
ومثال العبد الذي لا يدخر، كعبد هو في بستان السيد أو في داره علم أنه لا ينساه سيده ولا يهمله، بل يبذل له خيره، ويوصل إليه بره فاغتنى بسيده عن الادخار معه، وبغناه عن أن يحتاج، وأن يعتمد على شيء دونه؛ فهذا العبد حري أن يواجه بالإقبال وأن يسعف بالنوال.
مثال آخر: المدخر بالأمانة كعبد للملك لا يرى أن له مع سيده شيئًا، لا يعتمد ادخار ما في يده ولا بذله، بل لا يختار إلا ما اختاره السيد له، فإذا فهم هذا العبد أن الإمساك مراد سيده، أمسك لسيده لا لنفسه حتى يتخير موضع صرفه، فيكون له صارفًا حين يفهم عن سيده إرادة صرفه، فهذا بإمساكه غير ملوم؛ لأنه أمسك لسيده لا لنفسه، كذلك أهل المعرفة بالله تعالى، إن بذلوا فلله، وإن أمسكوه فلله، يبتغون ما فيه رضاه، ولا يريدون ببذلهم وإمساكهم إلا إياه؛ فهم خزان أمناء، وعبيد كبراء، وأحرار كرماء، قد حررهم الحق تعالى من رق الآثار، فلم يميلوا إليها بحب، ولا أقبلوا عليها بود.
منعهم من ذلك ما أسكن في قلوبهم من حب الله ووده، وما امتلأت به صدورهم من عظمته ومجده، وليس الممسك لله بدون الباذل له؛ فصارت الأشياء في أيديهم كهي في خزائن الله من قبل أن تصل إليهم؛ علمًا منهم أن الله تعالى يملكهم ويملك ما ملكهم، ومن لم يحسن الإمساك لله لم يحسن البذل له، فافهم!.
(*) العنوان من عمل المحقق.
([2]) الآية: 3 من سورة الطلاق.
([3]) الآية: 111 من سورة التوبة.
([4]) الآية: 132 من سورة طه.
([5]) هذا الحديث حديث صحيح أخرجه الطبراني في معجمه الصغير، سبق أن أخرجناه من قبل.
([6]) الآية: 197 من سورة البقرة.
([7]) الآية: 60 من سورة البقرة.
([8]) الآية: 15 من سورة سبأ.
([9]) الآية: 51 من سورة (المؤمنون).
([10]) الآية: 172 من سورة البقرة.
([11]) وهو أبو علي شقيق بن إبراهيم البلخي، من مشايخ خراسان، أخذ الفقه عن أبي حنيفة يقول عنه الشعراني في «طبقاته الكبرى» الجزء الأول، ص65.
([12]) الآية: 179 من سورة الأعراف.
أمثلة للمدبرين مع الله تعالى
أمثلة للمدبرين مع الله تعالى(*)([1])
فصل: نذكر فيه أمثلة التدبير مع الله، والمدبرين معه، وأمثلة الرزق وضمان الحق تعالى له؛ فإن بالمثال يتبين الحال مَثَلُ المدبر مع الله، كمن بنى بناءه على شاطىء البحر، كلما اجتهد في بنائه كثرت عليه الأمواج؛ فتداعى جميع أنحائه، كذلك المدبر مع الله تعالى يبني مباني التدبير وتهدمها واردات المقادير؛ لأجل ذلك قيل: «يدبر المدبر، والقضاء يضحك»، وقال الشاعر:
متى يبلغ البنيان يومًا تمامه
* إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم!
مثال آخر: مثل المدبر مع الله تعالى كرجل جاء إلى رمال متراكمة، فوضع عليها بناءه، فجاءت العواصف فنسفت الرمال فتهدم ما بناه، كما قيل:
وعهودهم بالرمل قد دَرَسَتْ
* وكذاك ما يبنى على الرمل
مثال آخر: مثل المدبر مع الله تعالى كمثل ولد سافر مع والده، فسارا ليلًا، والأب لإشفاقه على الولد يراقبه من حيث لا يراه الولد، والولد لا يرى الوالد للظلمة الحائلة بينهما، فالولد مهموم بأمر نفسه كيف يفعل في شأنه، فإذا طلع القمر ورأى قرب الأب منه سكن جأشه وهدأ روعه؛ لأنه رأى قرب أبيه منه، فاغتنى بتدبيره له عن تدبيره لنفسه كذلك المدبر مع الله تعالى لنفسه إنما دبر؛ لأنه في ليل القطيعة؛ فلم يشهد قرب الله تعالى منه، فلو طلع قمر التوحيد أو شمس المعرفة -لرأى قرب الحق تعالى منه، فاستحى أن يدبر معه، واغتنى بتدبير الله تعالى له عن تدبيره لنفسه.
مثال آخر: التدبير شجرة تسقى بماء سوء الظن، وثمرتها القطيعة عن الله تعالى؛ إذ لو حسن العبد ظنه بربه لماتت شجرة التدبير من قلبه لانقطاع غذائها، وإنما كان ثمرتها القطيعة عن الله تعالى؛ لأن من دبر لنفسه فقد اكتفى بعقله ورضي بتدبيره، واحتال على وجوده، فعقوبته أن يحال عليه، وأن يمنع واردات المنن أن تصل إليه.
مثال آخر: مثل المدبر مع الله كعبد أرسله سيده إلى بلد له ليصنع له فيها قماشًا، فدخل العبد تلك البلدة فقال: «أين أسكن؟ ومن أتزوج؟»، فاشتغل بذلك، وصرف همته لما هنالك، وعطل ما أمره به السيد، حيث دعا سيده إليه فجزاؤه من سيده أن جازاه بالقطيعة ووجود الحجبة؛ لاشتغاله بأمر نفسه عن حق سيده، كذلك أنت أيها المؤمن أخرجك الحق إلى هذه الدار، وأمرك فيها بخدمته، وقام لك بوجود التدبير لك منه؛ فإن اشتغلت بتدبير نفسك عن حق سيدك فقد عدلت عن سبيل الهدى وسلكت مسلك الردى.
مثال آخر: مثل المدبر مع الله تعالى، والذي لا يدبر كعبدين للمالك؛ أما أحدهما: فمشتغل بأوامر سيده، ولا يلتفت إلى ملبس ولا مأكل، بل إنما تهمه خدمه السيد؛ فأغفله ذلك عن التفرغ لحظوظ نفسه ومهماتها، وعبد آخر: كيفما طلبه السيد وجده في غسل ثيابه، وسياسة مركوبه، وتحسين زيه.
فالعبد الأول: أولى بإقبال السيد من العبد الثاني المشتغل بحظوظ نفسه ومهماتها عن حقوق سيده، والعبد إنما اشتري للسيد لا لنفسه، وكذلك العبد البصير لا تراه إلا مشغولًا بحقوق الله تعالى، ومراقبة أوامره عن محابِّ نفسه ومهماتها، فلما كان كذلك قام له الحق تعالى بكل أمره، وتوجه له بجزيل عطائه لصدقه في توكله: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾([2])، والغافل ليس كذلك لا تجده إلا في تحصيل أسباب دنياه، وفي الأشياء التي توصله إلى هواه، قائمًا بوجود التدبير من نفسه لنفسه، محالًا عليها، مقطوعًا به عن وجود حسن الثقة، وصدق التوكل.
مثال آخر: مثل المدبر مع الله تعالى كالظل المنبسط في عدم استواء الشمس، فإذا استوت الشمس فني ذلك الظل، حتى لا يبقى منه إلا بقية رسم لا تمحوه المقابلة، كذلك شمس المعرفة إذا قابلت القلوب محت منها وجود التدبير، إلا بقاء رسم من تدبير العبد، أبقي فيه ليجرى عليه التكليف.
مثال آخر: مثل المدبر مع الله تعالى لنفسه كرجل باع دارًا أو عبدًا، ثم بعد المبايعة وإتمامها جاء البائع إلى المشتري فقال له: «لا تبنِ فيها شيئًا، أو اهدم منها بيت كذا، أو افعل فيها كذا»، أو جاء البائع ليفعل ذلك فيقال له: «أنت قد بعت وليس لك بعد البيع تصرف فيما بعته؛ إذ ليس بعد المبايعة منازعة»، وقد قال -سبحانه وتعالى-: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ﴾([3])؛ فعلى المؤمن أن يسلم نفسه لله وما انتسب إليها؛ لأنه أنشأها، ولأنه اشتراها، ومن لازم التسليم ترك التدبير لما أنت له مسلم كما بَيَّنَّاه.
وأما الرزق فمثال رزق العبد في هذه الدار كمثل سيد قال لعبده: الزم هذه الدار قائمًا فيها بخدمة كذا. فلم يكن للسيد ليأمره بذلك إلا وهو يطعمه ويسقيه ويكسبه، ويقوم له بوجود الكفايهْ ولا يهمله من الرعايهْ، كذلك العبد أمره الله تعالى في الدنيا بالطاعة والموافقة، وضمن له وجود القسمة، فليقم العبد بخدمته؛ فإن السيد قائم عليه بمنته قال الله تعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾([4])، وقد تقدم بيانه.
مثال آخر: مثل العبد مع الله تعالى في هذه الدنيا كالطفل مع أمه، ولم تكن الأم لتدع ولدها من كفالتها، ولا أن تخرجه من رعايتها، وكذلك المؤمن مع الله تعالى قائم له الحق تعالى بحسن الكفالة؛ فهو سائق إليه المنن ودافع عنه المحن.
رأى رسول الله -عليه الصلاة والسلام- امرأة معها ولدها فقال: «أترون أن هذه طارحة ولدها في النار؟»، فقالوا: «لا يا رسول الله»، فقال -عليه الصلاة والسلام-: «الله أرحم بعبده المؤمن من هذه بولدها»([5]).
مثال آخر: مثل العبد في الدنيا كمثل عبد قال له سيده: اذهب إلى أرض كذا أو كذا، واحكم أمرك لأن تسافر من تلك الأرض في برية كذا وخذ أهبتك وعدتك. فإذا أذن له السيد في ذلك فمعلوم أنه قد أباح له أن يأكل ما يستعين به على إقامة بنيته ليسعى في طلب العدة، وليقوم بوجود الأهبة، كذلك العبد أوجده الحق في هذه الدار، وأمره أن يتزود منها لمعاده، فقال الحق تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾([6])؛ فمعلوم أنه إذا أمره بالزاد للآخرة فقد أباح له أن يأخذ من الدنيا ما يستعين به على تزوده واستعداده، وتأهبه لميعاده.
مثال آخر: مثل العبد مع الله تعالى كمثل سيد له بستان، أمر عبده أن يكون فيه غارسًا وزارعًا وقائمًا بمصلحته، فإن كان ذلك العبد حين أمر بذاك قام بما طلبه السيد منه لا يخرج عنه؛ فليس السيد بلائم له، ولا مانع إياه من أكله من ذلك البستان، فإنه إذا أكل منه عمل فيه، لكن على العبد أن يأكل ما يستعين به على الخدمة، وألَّا يأكل أكل التمتع والتشهي.
مثال آخر: مثل العبد مع الله كمثل والد غرس غرسًا كثيرًا، وبنى ربعًا كثيرًا، وبنى ربعًا كبيرًا، فقيل له: «لمن فعلت هذا؟»، فقال: «لولد عساه أن يحدث لي»، فهيأ للولد ما يحتاج إليه قبل وجوده؛ حبًّا منه له، أفترى إذا أعد له الأب قبل وجوده، أيمنعه إياه بعد وجوده!
كذلك العبد مع الله تعالى، هيأ له الحق المنة من قبل أن يخلقه في هذه الدار؛ لأن المنة سابقة لوجودك إن فهمت، ألا ترى أنه سبق عطاؤه إياك وجودك، ومنته عليك ظهورك؛ إذ هو أعطى في الأزل قبل أن يكون العبد، ويكون منه له عمل، فما قسمه لك في الأزل وادَّخَرَهُ لك ليس بمانعه عنك، أهو هيأ لك قبل الوجود ويمنعك لما وجدت!.
مثال آخر: مثل العبد مع الله تعالى كمثل أجير أتى به ملك إلى داره، وأمره بأن يعمل له عملًا؛ فما كان الملك ليأتي بالأجير فيستخدمه في هذه الدار، ويتركه من غير تغذية؛ إذ هو أكرم من ذلك، كذلك العبد مع الله تعالى فالدنيا دار الله، والأجير هو أنت والعمل هو الطاعة، والأجرة هي الجنة، ولم يكن الله ليأمرك بالعمل، ثم لا يسوق لك ما به تستعين عليه.
مثال آخر: مثل العبد مع الله تعالى كمثل ضيف نزل على ملك
كريم في داره، فحق على ذلك الضيف ألَّا يهتم بمأكل ولا مشرب؛ لأنه إن فعل ذلك كان تهمة للملك وسوء ظن منه به، وقد تقدم ذلك من قول الشيخ أبي مدين -رحمه الله-: «كذلك الدنيا دار الله، والعباد فيها ضيوفه، ولم يكن الله تعالى ليأمر بالضيافة على لسان رسوله -عليه الصلاة والسلام- ويكون لها تاركًا؛ فالمتهم فيها بمأكل ومشرب ممقوت في نظر الملك؛ إذ لولا شَكُّهُ في الله لما كان يهتم بشأنه».
مثال آخر: مثل العبد مع الله تعالى كمثل عبد أمره الملك أن يقيم في أرض كذا يحارب العدو الذي هنالك، وأن يبذل عزمه في مجاهدته، وأن يدوم على محاربته؛ فمعلوم أنه إذا أمره بذلك أنه يبيح له أن يأكل من إهداء تلك البلدة ومخازنها بالأمانة؛ ليستعين بذلك على محاربة العدو الذي أمره الملك بمحاربته، كذلك العباد أمرهم الحق بمحاربة الشيطان بقوله: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ﴾ [الحج: 78]، وقال: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا﴾ [فاطر: 6]، فلما أمرهم بمحاربته أذن لهم أن يتناولوا من منته ما يستعينون به على محاربة الشيطان؛ إذ لو تركت المأكل والمشرب لم يمكنك أن تقوم لطاعته ولا أن تنهض بخدمته؛ فقد تضمن أمر الملك بالمجاهدة إباحة تناول ما هو منسوب للمالك مما هو معد لك، ولكن على طريق الأمانة محفوفًا بالصيانة.
مثال آخر: مثل العبد مع الله تعالى كشجرة غرسها غارس طالبًا نموها ونتاجها، فقد علمت الشجرة -إن يكن لها علم أو علمنا ذلك فيها- أنه ما كان ليغرسها ويمنعها السقي، كيف وهو حريص على نتاجها مريد لنمائها! كذلك أنت -أيها العبد- شجرةٌ اللهُ غارسُك، وهو ساقيك في كل وقت قائم لك بوجود التغذية؛ فلا تتهمه أن يغرس شجرة وجودك، ثم يمنعك من السقيا بعد الغرس؛ فإنه ليس بغافل.
مثال آخر: مثل العبد مع الله تعالى كمثل ملك له عبيد بنى دارًا وأحسنها وبَهَّجَهَا، وتولى غراسها، وكمل المشتهيات فيها في غير الموطن الذي العبيد فيه، وهو يريد أن ينقلهم إليها، أترى إذا كان هذا غايته بهم فيما ادخره لهم عنده، وهَيَّأَهُ لهم بعد الرحلة، أيمنعهم ها هنا أن يتناولوا من منته وفضلات طعامه، وهو قد هيأ لهم الأمر العظيم والفضل الجسيم!
كذلك العباد مع الله، جعلهم في الدنيا وهيأ لهم الجنة كما هيأ لهم الآخرة، وهو يريد أن يمنعهم من الدنيا ما يقوم به وجوههم؛ ولذلك قال تعالى: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ﴾([7])، وقال تعالى: ﴿كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا﴾([8])، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا﴾([9])، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾([10]).
فإذا ادخر لك الباقي ومنَّ به عليك، لا يمنعك الفاني؛ فإن منعك منه، فإنما منعك ما لم يقسمه لك، وما لم يقسمه لك فليس لك، فكان ذلك المنع لك منه عطاء ونظرًا -علم أن فيه مصلحة وجودك ونظام أمرك، كما يقطع توالي الماء عن الشجرة؛ لئلا يتلفها دوام السقيا.
مثال آخر: مثل المتهم بأمر دنياه الغافل عن التزود لآخرته، كمثل إنسان هاجمه سبع، وقد كاد أن يفترسه، ووقع عليه ذباب فاشتغل بذب ذلك الذباب، ودفعه عن التحرز من الأسد؛ فهذا عبد أحمق فاقد وجود العقل، ولو كان بالعقل متصفًا لشغله أمر الأسد وصولته وهجومه عليه عن الفكرة في أمر الذباب والاشتغال به، كذلك المتهم بأمر دنياه الغافل عن التزود لأخراه، دَلَّ ذلك منه على وجود حمقه؛ إذ لو كان فاهمًا عاقلًا لتأهب للدار الآخرة التي هو مسئول عنها وموقوف فيها، ولا يشتغل بالاهتمام بأمر الرزق؛ فإن الاهتمام بالنسبة إلى الآخرة كنسبة الذباب إلى مفاجأة الأسد وهجومه.
مثال آخر: مثل العبد مع الله تعالى، كمثل الطفل مع أبيه، لا يعول مع الأب همًّا، ولا يخشى عدمًا؛ لعلمه أن الأب قائم له بوجود الكفالة؛ فطيبت الثقة به عيشه، وأزال الاعتماد على أبيه غمه، كذلك العبد المؤمن مع الله تعالى لا يعول الهموم، ولا ترد بساحة قلبه الغموم من شأن الرزق لعلمه بأن الحق لا يدعه، وعن فضله لا يقطعه، ومن جوده وإحسانه لا يمنعه.
مثال آخر: مثل العبد مع الله تعالى كعبد له سيد غني متصف بالثروة والإحسان إلى عبيده، وغير معروف بالمنع، موصوف بالجود والعطاء، والعبد بفضله واثق، ولإحسانه رامق، علم من سيده الغنى؛ فأخرجه ذلك عن وجود العناء، وهذا بعينه كان سبب توبة شقيق([11]) البلخي رحمه الله، قال: عبرت في زمن مجاعة فوجدت غلامًا منبسطًا منشرحًا ليس عنده علم مما الناس فيه؛ فقلت له: «يا فتى، أما تعلم ما الناس فيه!»، فقال: «وما أبالي ولمولاي قرية خالصة يدخل إلينا كل يوم ما نحتاج إليه!»، فقلت في نفسي: «إن كان لسيد هذا قرية خالصة، فمولاي له خزائن السماوات والأرض؛ فأنا أولى بالثقة من هذا بسيده»، وهو كان سبب انتباهي.
مثال آخر: مثل العبد المتسبب المرزوق في وجود السبب، كمثل عبد قال له السيد: «اعمل وكل من عملك»، ومثال المتجرد كمثل عبد قال له السيد: «الزم أنت خدمتي، وأنا أسوق إليك منتي».
مثال آخر: مثل العبد النافذ إلى الله تعالى في الأسباب بمثابة الرجل يقعد تحت الميزاب إذا أمطرت السماء، فهو يشكر الله تعالى وحده، ولا يلزم من قعوده تحت الميزاب أن يضيف المطر له، بل علم أنه إن لم يكن فيه لم يجد شيئًا، كذلك الأسباب ميازيب المنن؛ فمن دخل في الأسباب، وهمته مطلعة بالله تعالى لا بها لم يضره ذلك، ولم يخش عليه القطيعة فيما هنالك، ومثل الواقف مع الأسباب الغافل عن وليها، كمثل البهيمة يعبر عليها مالكها فلا تلتفت إليه، وهو المالك لها، والمعطي لسائسها ما ينفق عليها، فإذا عبر سائسها بصبصت بعينها وتَشَوَّفَتْ إليه؛ لاعتيادها منه أنه يتولى طعمتها؛ فالعبد كذلك لأنه أجرى عليه الإحسان على أيدي الخلق يشهد ذلك منهم، ولم يخرجه عنهم؛ فهو كالبهيمة أحسن حالًا منه: ﴿أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ﴾([12]).
مثال آخر: مثل الواقف مع الأسباب والنافذ إلى الله فيها، كمثل رجلين دخلا حمَّامًا، أحدهما وافر العقل، والآخر غالب عليه البلاهة، فاستوقف الماء، فأما العاقل فيعلم أن له مصرفًا من ورائه يصرفه ومجريًا يجريه، فيرجع إليه ليرسل له منه ما كان قطعه، أو يفعل ما يشاء، وأما الآخر: فيأتي إلى الأنبوب، فيقول: «أيها الأنبوب، اسكب لنا ماء، ما لك قطعتني ماءك!».
فيقال له: «إنك لأحمق، وهل الأنبوب يسمع شيئًا أو يفعل شيئًا! إنما هي محل ومجرى يظهر فيها ما أجرى فيها».
ومثال العبد المدخر كعبد للملك، جعله في بستانه ليقوم بإصلاح شأنه؛ فللعبد أن يأكل من ثمرات ذلك البستان ما يتقوى به على الغراس، والزراعة فيه، وليس له أن يدخر؛ لأنَّ ثمرة ذلك البستان دائمة، وسيده غني قادر، فإن ادخر بغير إذن سيده إمساكًا على نفسه، وتهمة لسيده فقد خان.
ومثال العبد الذي لا يدخر، كعبد هو في بستان السيد أو في داره علم أنه لا ينساه سيده ولا يهمله، بل يبذل له خيره، ويوصل إليه بره فاغتنى بسيده عن الادخار معه، وبغناه عن أن يحتاج، وأن يعتمد على شيء دونه؛ فهذا العبد حري أن يواجه بالإقبال وأن يسعف بالنوال.
مثال آخر: المدخر بالأمانة كعبد للملك لا يرى أن له مع سيده شيئًا، لا يعتمد ادخار ما في يده ولا بذله، بل لا يختار إلا ما اختاره السيد له، فإذا فهم هذا العبد أن الإمساك مراد سيده، أمسك لسيده لا لنفسه حتى يتخير موضع صرفه، فيكون له صارفًا حين يفهم عن سيده إرادة صرفه، فهذا بإمساكه غير ملوم؛ لأنه أمسك لسيده لا لنفسه، كذلك أهل المعرفة بالله تعالى، إن بذلوا فلله، وإن أمسكوه فلله، يبتغون ما فيه رضاه، ولا يريدون ببذلهم وإمساكهم إلا إياه؛ فهم خزان أمناء، وعبيد كبراء، وأحرار كرماء، قد حررهم الحق تعالى من رق الآثار، فلم يميلوا إليها بحب، ولا أقبلوا عليها بود.
منعهم من ذلك ما أسكن في قلوبهم من حب الله ووده، وما امتلأت به صدورهم من عظمته ومجده، وليس الممسك لله بدون الباذل له؛ فصارت الأشياء في أيديهم كهي في خزائن الله من قبل أن تصل إليهم؛ علمًا منهم أن الله تعالى يملكهم ويملك ما ملكهم، ومن لم يحسن الإمساك لله لم يحسن البذل له، فافهم!.
(*) العنوان من عمل المحقق.
([2]) الآية: 3 من سورة الطلاق.
([3]) الآية: 111 من سورة التوبة.
([4]) الآية: 132 من سورة طه.
([5]) هذا الحديث حديث صحيح أخرجه الطبراني في معجمه الصغير، سبق أن أخرجناه من قبل.
([6]) الآية: 197 من سورة البقرة.
([7]) الآية: 60 من سورة البقرة.
([8]) الآية: 15 من سورة سبأ.
([9]) الآية: 51 من سورة (المؤمنون).
([10]) الآية: 172 من سورة البقرة.
([11]) وهو أبو علي شقيق بن إبراهيم البلخي، من مشايخ خراسان، أخذ الفقه عن أبي حنيفة يقول عنه الشعراني في «طبقاته الكبرى» الجزء الأول، ص65.
([12]) الآية: 179 من سورة الأعراف.
أمس في 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
أمس في 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
أمس في 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
أمس في 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
أمس في 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
أمس في 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin