الصفحة 59 من 61
مناجاة الحق
مناجاة الحق(*)([1])
فصل: نذكر فيه مناجاة الحق -سبحانه وتعالى- لعبده على ألسنة هواتف الحقائق في شأن التدبير والرزق.
أيها العبد، ألقِ سمعك وأنت شهيد يأتِك منى المزيد، وأصغ يسمع قلبك؛ فأنا عنك لست ببعيد.
أيها العبد، كنت لك بتدبيري لك من قبل أن تكون لنفسك؛ فكن لنفسك بألَّا تكون لها، وتوليت رعايتها قبل ظهورك، وأنا الآن في الرعاية لها.
أيها العبد، أنا المنفرد بالخلق والتصوير، وأنا المنفرد بالحكم والتدبير، لم تشركني في خلقي وتصويري، فلا تشاركني في حكمي وتدبيري، أنا المدبر لملكي وليس لي فيه ظهير، وأنا المنفرد بحكمي فلا أحتاج فيه إلى وزير.
أيها العبد، من كان لك بتدبيره قبل الإيجاد فلا تنازعه في المراد، ومن عودك حسن النظر منه لك تقابله بالعناد.
أيها العبد، عودتك حسن النظر مني لك؛ فكن على إسقاط التدبير منك معي.
أيها العبد، أَشَكًّا بعد وجود التجربة، وَحَيْرَةً بعد وجود البيان، وضلالًا بعد وضوح الهدى! أما يحيلك على علمك بأنه لا مدبر لك غيري! أما يجنبك من المنازعة لي ما سبق من وجود خيري!.
أيها العبد، انظر نسبة وجودك من أكواني تَرَ أنك متلاشٍ في الفاني، فما ظنك بما ليس بفاني! وقد سلمت إلى قيامي بمملكتي، وأنت من مملكتي فلا تنازع ربوبيتي، ولا تضادد بتدبيرك مع وجود إلهيتي.
أيها العبد، أما يكفيك أني أكفيك! أما يوجب سكونك لي سوابق عوائدي فيك!.
أيها العبد، متى أحوجتك إليك حتى تحتال عليك! ومتى وكلت شيئًا من مملكتي لغيري حتى أكل ذلك إليك!.
أيها العبد، أعدت لك وجودي من قبل أن أظهرك لوجودي، وظهرت بقدرتي في كل شيء، فكيف يمكنك جحودي!.
أيها العبد، متى خاب من كنت له مدبرًا، ومتى خُذِلَ من كنت له منتصرًا!.
أيها العبد، لتشغلك خدمتي عن طلب قسمتي، وليمنعك حسن الظن بي عن اتهام ربوبيتي!.
أيها العبد، لا ينبغي أن يتهم محسن، ولا أن ينازع مقتدر، ولا أن يضاد قهار، ولا أن يعترض على حكم حكيم، ولا أن يعال هم مع لطيف!.
أيها العبد، لقد فاز بالنجح من خرج عن الإرادة معي، ولقد دَلَّ على يسر الأمر من احتال عليَّ، ولقد ظفر بكنز الغنى من صدق في الفاقة إِلَيَّ، ولقد استوجب النصر مني عبد إذا تحرك بي، ولقد استمسك بأقوى الأسباب من استمسك بسببي، إني آليت على نفسي أن أجازي أهل التدبير بوجود التكدير، وأن أهدم ما شيدوا، وأحل ما عقدوا، وأن أكلهم إليهم، وأن أحيلهم عليهم، ممنوعين من روح الرضا ونعيم التفويض، فلو ما فهموا عني لاقتنعوا بتدبيري لهم عن تدبيرهم لأنفسهم برعايتي لهم عن رعايتهم إياها، فإذا كنت أسلك بهم سبيل الرضا، وأنهج بهم منهج أهل الهدى، وأسعى بهم في طريق بيضاء، وأجعل عنايتي بهم واقية لهم من كل ما يخافون، وجالبة لهم جميع ما يرجون، وذلك عَلَيَّ يسير.
أيها العبد، نريد منك أن تريدنا ولا تريد معنا، ونختار لك أن تختارنا ولا تختار معنا، ونرضى لك أن ترضانا، ولا نرضى لك أن ترضى سوانا.
أيها العبد، إن قضيت لك فلا رادَّ في ظهور فضل عليك، وإن قضيت عليك؛ فلأني أريد أن أورد في قضائي أسرار لطفي إليك.
أيها العبد، لا تجعل جزاء ما أظهرت فيك من نعمتي وجود منازعتي، ولا تجعل عوض ما أحسنت لك بالعقل الذي مَيَّزْتُكَ به وجود مضاددتي.
أيها العبد، كلما سلمت لي تدبير أرضي وسمائي، وانفرادي فيهما بحكمي وقضائي -سلم وجودك لي فإنك لي، ولا تدبر معي فإنك معي، واتخذني وكيلًا، وثق بي وكيلًا أعطك عطاء جزيلًا، وأهبك فخرًا جليلًا.
أيها العبد، إني حكمت في أزلي أنه لا يجتمع في قلب عبدي ضياء التسليم لي وظلمة المنازعة معي؛ فمتى كان واحد منها لم يكن الآخر معه؛ فاختر لنفسك.
ويحك، إنا أَجْلَلْنَا قدرك أن تشتغل بأمر نفسك؛ فلا تصغر قدرك يا من رفعناه، ولا تذلن بحوالتك على غيري يا من أعززناه، ويحك! أنت أَجَلُّ عندنا من أن تشتغل بغيرنا!.
لحضرتي خلقتك، وإليها خطبتك، وبجواذب عنايتي لها جذبتك، فإن اشتغلت بنفسك حجبتك، وإن اتبعت هواها طردتك، وإن خرجت عنها قَرَّبْتُكْ، وإن توددت لي بإعراضك عَمَّا سواي أجبتك.
أيها العبد، أما كفاك لو اكتفيت، وهداك لو اهتديت، إني أنا الذي خلقت فسويت، وتَصَدَّقْتُ فأعطيت، أما يمنعك ذلك من منازعتي فيما قضيت، ومعارضتي فيما أتيت.
أيها العبد، ما آمن بي من نازعني، ولا وَحَّدَنِي من دَبَّرَ معي، ولا رضي بي من شكا ما أنزلت به إلى غيري، ولا اختارني من اختار معي، وما امتثل أمري من لم يستسلم لقهري، ولا عرفني من لم يفوض أمره إِلَيَّ، ولقد جهلني من لم يتوكل عَلَيَّ.
أيها العبد، يكفيك من الجهل أن تسكن لما في يدك ولا تسكن لما في يدي، وأن أختار لك أن تختارني فتختار عَلَيَّ، ويحك! لا تجتمع عبودية واختيار، ولا ظلم وأنوار، ولا توجهك لي وتوجهك للآثار، فإما أنا لك أو أنت لنفسك؛ فاختر على بيان، ولا تستبدل الهدى بالخسران.
أيها العبد، لو طلبت مني التدبير لنفسك جهلت، فكيف إذا دبرت لها! ولو اخترت معي ما أنصفت، فكيف إذا اخترت عَلَيَّ!.
أيها العبد، لو أذنت لك أن تدبر كان يجب أن تستحي من أن تدبر، وكيف وقد أمرتك ألا تدبر! يا مهمومًا بنفسه، لو ألقيتها إلينا لاسترحت.
ويحك، أعباء التدبير لا يحملها إلا الربوبية ولا تقوى عليها البشرية!.
ويحك، أنت محمول فلا تكن حاملًا، أردنا راحتك فلا تكن متعبًا لنفسك! من دبرك في ظلمات الأحشاء، وأعطاك بعد الوجود ما تشاء، لا ينبغي لك أن تنازعه فيما يشاء.
أيها العبد، أمرتك بخدمتي، وضمنت لك قسمتي، فأهملت ما أمرت، وشككت فيما ضمنت، ولم أكتفِ لك بالضمان حتى أقسمت، ولم أكتفِ بالقسم حتى مثلت، وخاطبت عبادًا يفهمون، فقلت: ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ﴾ [الذاريات: 22-24]، ولقد اكتفى بوصفي العارفون، واحتال على كرمي الموقنون، فلو لم يكن وعدي لعلموا أني لا أقطع عنهم واردات رفدي، ولو لم يكن ضماني لوثقوا بوجود إحساني، وقد رزقت من غفل عني وعصاني، فكيف لا أرزق من أطاعني ورعاني!.
ويحك، الفارس للشجرة هو ساقيها، والممد للخليقة هو باريها ويكفيها أنه كافيها ومكافيها!.
متى كان الإيجاد، وعليَّ دوام الإمداد!.
متى كان الخلق، وعليَّ دوام الرزق!.
ويحك، هل تدعو لدارك إلا من تريد أن تطعمه، وهل تنسب لنفسك إلا من تحب أن تكرمه!.
أيها العبد، اجعل همك في مكان همك برزقك، فإن ما حملته عنك فلا تتعبن به، وما حملته أنت فكن أنت به، أندخلك داري ونمنعك إبراري!.
أنبرزك لكوني، ونمعنك وجود عوني!.
أنخرجك إلى وجودي، ونمنعك جودي!.
أأطالبك بحقِّي، وأمنعك وجود رزقي!.
أأقتضي منك خدمتي، ولا أقضي لك بقسمتي!.
ويحك، عندي لك هباتٌ شتَّى، وفيك أظهرت رحمتي وما قنعت لك بالدنيا، وما ادَّخَرْتُ لك جنتي، وما اكتفيت لك بذلك حتى أتحفتك برؤيتي، فإذا كانت هكذا فعالي فكيف تشك في أفضالي!.
أيها العبد، لا بد لنعمتي من آخذ، ولفضلي من قابل، وأنا الغني عن الانتفاع بالمنافع، لما دَلَّ عليه الدليل القاطع، فلو سألتني أن أمنعك رزقي ما أجبتك، ولو سألتني أن أحرمك من فضلي ما أحرمتك([2])، فكيف وأنت دائمًا تسألني، وكثيرًا ما تطلب مني!.
فاستحِ مني إن كنت لا تستحي مني، وافهم عني، ولقد أُعْطِيَ كل العطاء من فهم عني.
أيها العبد، تخيرني ولا تتخير عَلَيَّ، وَوَجِّهْ قلبك بالصدق إِلَيَّ؛ فإنك إن تفعل أريك غرائب لطفي وبدائع جودي، وأمتع سرك بشهودي، ولقد أظهرت الطريق لأهل التحقيق، وبَيّنْتُ معالم الهدى لذوي التوفيق، فبِحَقٍّ سلم إِلَيَّ الموقنون، وببيانٍ تَوَكَّلَ عَلَيَّ المؤمنون، علموا أني لهم خير من أنفسهم لأنفسهم، وأن تدبيري لهم أجدى عليهم من تدبيرهم لها؛ فأذعنوا لربوبيتي مستسلمين، وطرحوا أنفسهم بين يديَّ مفوضين، فعوضتهم عوض ذلك راحةً في نفوسهم، ونورًا في عقولهم، ومعرفة في قلوبهم وَتَحَقُّقًا([3]) بقربي في أسرارهم.
هذا في هذه الدار، ولهم عندي إذا قدموا على أن أُجِلَّ منصبهم، وأُعْلِي محلهم، وأنشر ألوية المجد عليهم، ولهم إذا أدخلتهم داري ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
أيها العبد، الوقت الذي أنت تستقبله لم أطالبك فيه بالخدمة؛ فكيف تطالبني فيه بالقسمة؟! فإذا كلفتك تكلفت لك، وإذا استخدمتك أطعمتك، واعلم أني لا أنساك وإن نسيتني، وأني ذكرتك قبل أن ذكرتني، وأن رزقي عليك دائم وإن عصيتني.
فإذا كنت كذلك في إعراضك عني، فكيف ترى أن أكون لك في إقبالك عَلَيَّ!.
ما قدرتني حق قدري إن لم تسلِّم لقهري، ولا رعيت حق بِرِّي إن لم تمتثل أمري؛ فلا تعرض عني فإنك لا تجد من تستبدل مني، ولا تغتنِ بغيري، فإن أحدًا لا يغنيك عني، أنا الخالق بقدرتي، وأنا الباسط لك منتي، فكما أنه لا خالق غيري كذلك لا رازق غيري، أأخلق وأحيل على غيري، وأنا المتفضل وأمنع العباد وجود خيري! فثق أيها العبد بي فأنا رب العباد، واخرج عن مرادك معي أُبَلِّغْكَ عين المراد، واذكر سوابق لطفي ولا تَنْسَ حق الوداد.
(*) العنوان من عمل المحقق.
([2]) وفي نسخة: ما حرمتك.
([3]) وفي مخطوطة (1): تحقيقًا.
مناجاة الحق
مناجاة الحق(*)([1])
فصل: نذكر فيه مناجاة الحق -سبحانه وتعالى- لعبده على ألسنة هواتف الحقائق في شأن التدبير والرزق.
أيها العبد، ألقِ سمعك وأنت شهيد يأتِك منى المزيد، وأصغ يسمع قلبك؛ فأنا عنك لست ببعيد.
أيها العبد، كنت لك بتدبيري لك من قبل أن تكون لنفسك؛ فكن لنفسك بألَّا تكون لها، وتوليت رعايتها قبل ظهورك، وأنا الآن في الرعاية لها.
أيها العبد، أنا المنفرد بالخلق والتصوير، وأنا المنفرد بالحكم والتدبير، لم تشركني في خلقي وتصويري، فلا تشاركني في حكمي وتدبيري، أنا المدبر لملكي وليس لي فيه ظهير، وأنا المنفرد بحكمي فلا أحتاج فيه إلى وزير.
أيها العبد، من كان لك بتدبيره قبل الإيجاد فلا تنازعه في المراد، ومن عودك حسن النظر منه لك تقابله بالعناد.
أيها العبد، عودتك حسن النظر مني لك؛ فكن على إسقاط التدبير منك معي.
أيها العبد، أَشَكًّا بعد وجود التجربة، وَحَيْرَةً بعد وجود البيان، وضلالًا بعد وضوح الهدى! أما يحيلك على علمك بأنه لا مدبر لك غيري! أما يجنبك من المنازعة لي ما سبق من وجود خيري!.
أيها العبد، انظر نسبة وجودك من أكواني تَرَ أنك متلاشٍ في الفاني، فما ظنك بما ليس بفاني! وقد سلمت إلى قيامي بمملكتي، وأنت من مملكتي فلا تنازع ربوبيتي، ولا تضادد بتدبيرك مع وجود إلهيتي.
أيها العبد، أما يكفيك أني أكفيك! أما يوجب سكونك لي سوابق عوائدي فيك!.
أيها العبد، متى أحوجتك إليك حتى تحتال عليك! ومتى وكلت شيئًا من مملكتي لغيري حتى أكل ذلك إليك!.
أيها العبد، أعدت لك وجودي من قبل أن أظهرك لوجودي، وظهرت بقدرتي في كل شيء، فكيف يمكنك جحودي!.
أيها العبد، متى خاب من كنت له مدبرًا، ومتى خُذِلَ من كنت له منتصرًا!.
أيها العبد، لتشغلك خدمتي عن طلب قسمتي، وليمنعك حسن الظن بي عن اتهام ربوبيتي!.
أيها العبد، لا ينبغي أن يتهم محسن، ولا أن ينازع مقتدر، ولا أن يضاد قهار، ولا أن يعترض على حكم حكيم، ولا أن يعال هم مع لطيف!.
أيها العبد، لقد فاز بالنجح من خرج عن الإرادة معي، ولقد دَلَّ على يسر الأمر من احتال عليَّ، ولقد ظفر بكنز الغنى من صدق في الفاقة إِلَيَّ، ولقد استوجب النصر مني عبد إذا تحرك بي، ولقد استمسك بأقوى الأسباب من استمسك بسببي، إني آليت على نفسي أن أجازي أهل التدبير بوجود التكدير، وأن أهدم ما شيدوا، وأحل ما عقدوا، وأن أكلهم إليهم، وأن أحيلهم عليهم، ممنوعين من روح الرضا ونعيم التفويض، فلو ما فهموا عني لاقتنعوا بتدبيري لهم عن تدبيرهم لأنفسهم برعايتي لهم عن رعايتهم إياها، فإذا كنت أسلك بهم سبيل الرضا، وأنهج بهم منهج أهل الهدى، وأسعى بهم في طريق بيضاء، وأجعل عنايتي بهم واقية لهم من كل ما يخافون، وجالبة لهم جميع ما يرجون، وذلك عَلَيَّ يسير.
أيها العبد، نريد منك أن تريدنا ولا تريد معنا، ونختار لك أن تختارنا ولا تختار معنا، ونرضى لك أن ترضانا، ولا نرضى لك أن ترضى سوانا.
أيها العبد، إن قضيت لك فلا رادَّ في ظهور فضل عليك، وإن قضيت عليك؛ فلأني أريد أن أورد في قضائي أسرار لطفي إليك.
أيها العبد، لا تجعل جزاء ما أظهرت فيك من نعمتي وجود منازعتي، ولا تجعل عوض ما أحسنت لك بالعقل الذي مَيَّزْتُكَ به وجود مضاددتي.
أيها العبد، كلما سلمت لي تدبير أرضي وسمائي، وانفرادي فيهما بحكمي وقضائي -سلم وجودك لي فإنك لي، ولا تدبر معي فإنك معي، واتخذني وكيلًا، وثق بي وكيلًا أعطك عطاء جزيلًا، وأهبك فخرًا جليلًا.
أيها العبد، إني حكمت في أزلي أنه لا يجتمع في قلب عبدي ضياء التسليم لي وظلمة المنازعة معي؛ فمتى كان واحد منها لم يكن الآخر معه؛ فاختر لنفسك.
ويحك، إنا أَجْلَلْنَا قدرك أن تشتغل بأمر نفسك؛ فلا تصغر قدرك يا من رفعناه، ولا تذلن بحوالتك على غيري يا من أعززناه، ويحك! أنت أَجَلُّ عندنا من أن تشتغل بغيرنا!.
لحضرتي خلقتك، وإليها خطبتك، وبجواذب عنايتي لها جذبتك، فإن اشتغلت بنفسك حجبتك، وإن اتبعت هواها طردتك، وإن خرجت عنها قَرَّبْتُكْ، وإن توددت لي بإعراضك عَمَّا سواي أجبتك.
أيها العبد، أما كفاك لو اكتفيت، وهداك لو اهتديت، إني أنا الذي خلقت فسويت، وتَصَدَّقْتُ فأعطيت، أما يمنعك ذلك من منازعتي فيما قضيت، ومعارضتي فيما أتيت.
أيها العبد، ما آمن بي من نازعني، ولا وَحَّدَنِي من دَبَّرَ معي، ولا رضي بي من شكا ما أنزلت به إلى غيري، ولا اختارني من اختار معي، وما امتثل أمري من لم يستسلم لقهري، ولا عرفني من لم يفوض أمره إِلَيَّ، ولقد جهلني من لم يتوكل عَلَيَّ.
أيها العبد، يكفيك من الجهل أن تسكن لما في يدك ولا تسكن لما في يدي، وأن أختار لك أن تختارني فتختار عَلَيَّ، ويحك! لا تجتمع عبودية واختيار، ولا ظلم وأنوار، ولا توجهك لي وتوجهك للآثار، فإما أنا لك أو أنت لنفسك؛ فاختر على بيان، ولا تستبدل الهدى بالخسران.
أيها العبد، لو طلبت مني التدبير لنفسك جهلت، فكيف إذا دبرت لها! ولو اخترت معي ما أنصفت، فكيف إذا اخترت عَلَيَّ!.
أيها العبد، لو أذنت لك أن تدبر كان يجب أن تستحي من أن تدبر، وكيف وقد أمرتك ألا تدبر! يا مهمومًا بنفسه، لو ألقيتها إلينا لاسترحت.
ويحك، أعباء التدبير لا يحملها إلا الربوبية ولا تقوى عليها البشرية!.
ويحك، أنت محمول فلا تكن حاملًا، أردنا راحتك فلا تكن متعبًا لنفسك! من دبرك في ظلمات الأحشاء، وأعطاك بعد الوجود ما تشاء، لا ينبغي لك أن تنازعه فيما يشاء.
أيها العبد، أمرتك بخدمتي، وضمنت لك قسمتي، فأهملت ما أمرت، وشككت فيما ضمنت، ولم أكتفِ لك بالضمان حتى أقسمت، ولم أكتفِ بالقسم حتى مثلت، وخاطبت عبادًا يفهمون، فقلت: ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ﴾ [الذاريات: 22-24]، ولقد اكتفى بوصفي العارفون، واحتال على كرمي الموقنون، فلو لم يكن وعدي لعلموا أني لا أقطع عنهم واردات رفدي، ولو لم يكن ضماني لوثقوا بوجود إحساني، وقد رزقت من غفل عني وعصاني، فكيف لا أرزق من أطاعني ورعاني!.
ويحك، الفارس للشجرة هو ساقيها، والممد للخليقة هو باريها ويكفيها أنه كافيها ومكافيها!.
متى كان الإيجاد، وعليَّ دوام الإمداد!.
متى كان الخلق، وعليَّ دوام الرزق!.
ويحك، هل تدعو لدارك إلا من تريد أن تطعمه، وهل تنسب لنفسك إلا من تحب أن تكرمه!.
أيها العبد، اجعل همك في مكان همك برزقك، فإن ما حملته عنك فلا تتعبن به، وما حملته أنت فكن أنت به، أندخلك داري ونمنعك إبراري!.
أنبرزك لكوني، ونمعنك وجود عوني!.
أنخرجك إلى وجودي، ونمنعك جودي!.
أأطالبك بحقِّي، وأمنعك وجود رزقي!.
أأقتضي منك خدمتي، ولا أقضي لك بقسمتي!.
ويحك، عندي لك هباتٌ شتَّى، وفيك أظهرت رحمتي وما قنعت لك بالدنيا، وما ادَّخَرْتُ لك جنتي، وما اكتفيت لك بذلك حتى أتحفتك برؤيتي، فإذا كانت هكذا فعالي فكيف تشك في أفضالي!.
أيها العبد، لا بد لنعمتي من آخذ، ولفضلي من قابل، وأنا الغني عن الانتفاع بالمنافع، لما دَلَّ عليه الدليل القاطع، فلو سألتني أن أمنعك رزقي ما أجبتك، ولو سألتني أن أحرمك من فضلي ما أحرمتك([2])، فكيف وأنت دائمًا تسألني، وكثيرًا ما تطلب مني!.
فاستحِ مني إن كنت لا تستحي مني، وافهم عني، ولقد أُعْطِيَ كل العطاء من فهم عني.
أيها العبد، تخيرني ولا تتخير عَلَيَّ، وَوَجِّهْ قلبك بالصدق إِلَيَّ؛ فإنك إن تفعل أريك غرائب لطفي وبدائع جودي، وأمتع سرك بشهودي، ولقد أظهرت الطريق لأهل التحقيق، وبَيّنْتُ معالم الهدى لذوي التوفيق، فبِحَقٍّ سلم إِلَيَّ الموقنون، وببيانٍ تَوَكَّلَ عَلَيَّ المؤمنون، علموا أني لهم خير من أنفسهم لأنفسهم، وأن تدبيري لهم أجدى عليهم من تدبيرهم لها؛ فأذعنوا لربوبيتي مستسلمين، وطرحوا أنفسهم بين يديَّ مفوضين، فعوضتهم عوض ذلك راحةً في نفوسهم، ونورًا في عقولهم، ومعرفة في قلوبهم وَتَحَقُّقًا([3]) بقربي في أسرارهم.
هذا في هذه الدار، ولهم عندي إذا قدموا على أن أُجِلَّ منصبهم، وأُعْلِي محلهم، وأنشر ألوية المجد عليهم، ولهم إذا أدخلتهم داري ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
أيها العبد، الوقت الذي أنت تستقبله لم أطالبك فيه بالخدمة؛ فكيف تطالبني فيه بالقسمة؟! فإذا كلفتك تكلفت لك، وإذا استخدمتك أطعمتك، واعلم أني لا أنساك وإن نسيتني، وأني ذكرتك قبل أن ذكرتني، وأن رزقي عليك دائم وإن عصيتني.
فإذا كنت كذلك في إعراضك عني، فكيف ترى أن أكون لك في إقبالك عَلَيَّ!.
ما قدرتني حق قدري إن لم تسلِّم لقهري، ولا رعيت حق بِرِّي إن لم تمتثل أمري؛ فلا تعرض عني فإنك لا تجد من تستبدل مني، ولا تغتنِ بغيري، فإن أحدًا لا يغنيك عني، أنا الخالق بقدرتي، وأنا الباسط لك منتي، فكما أنه لا خالق غيري كذلك لا رازق غيري، أأخلق وأحيل على غيري، وأنا المتفضل وأمنع العباد وجود خيري! فثق أيها العبد بي فأنا رب العباد، واخرج عن مرادك معي أُبَلِّغْكَ عين المراد، واذكر سوابق لطفي ولا تَنْسَ حق الوداد.
(*) العنوان من عمل المحقق.
([2]) وفي نسخة: ما حرمتك.
([3]) وفي مخطوطة (1): تحقيقًا.
أمس في 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
أمس في 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
أمس في 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
أمس في 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
أمس في 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
أمس في 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin