الصفحة 23 من 34
الباب الثالث أسئلة صحافية أخرى بالغة الأهمية وأجوبة صوفية وفقهية قاطعة جلية
(سألها أحد الصحافيين العرب وطلب ألا يذكر اسمه) قال:
السؤال الأول
( س ) يقولون: لم ترد كلمة صوفية أو تصوف في كتاب الله، أو على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم أو الصحابة، والله تعالى يقول: (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ)[آخر سورة الحج] ويقول: (وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا)[المائدة:3].
الجواب:
التصوف ليس دينا مستقلا عن الإسلام حتى يواجه الاحتجاج بهذه الآيات، وإنما التصوف مذهب من مذاهب المسلمين، يدور في فلك الإسلام، على أرقى وأنقى معانيه، وكما جاز أن يسمي البعض أنفسهم (أو سماهم الناس) «سلفية» بلا نقد ولا اعتراض، فالحكم هنا وهنا واحد. وهو أشبه بقولهم: مالكي، وشافعي، وحنبلي، وإباضي، وزبدي، ووهابي، وسعودي، وحافقي، وظاهري...إلخ.
فالسلفية، والتسلف، والسلفي، ألفاظ لم ترد إطلاقا لا في الكتاب، ولا في السنة، وهم يختصون أنفسهم بها ولا يرون بذلك بأسا، بل يرونها فخرا وشرفا.
والصوفية، والتصوف، والصوفي، ألفاظ شأنها شأن تلك الألفاظ، سواء بسواء، وحكمها حكمها من كل الوجوه، وليس كل اسم أو وصف لم يأت في القرآن، أو السنة، يحرم التسمي به، وكذلك الألقاب والنسب، فالاعتراض من هذه الوجهة ساقط ذليل، لا يقول به عالم ولا عاقل.
ثم إنه كان اسم (التصوف) غير موجود، بلفظه، فإن المادة والحقيقة موجودة، شأن كل علوم الدين التي وضعت أسمائها في عهد التدوين ثم إن الإسلام محيط شامل لكل أهل القبلة، سواء منهم الطيب والخبيث، فالقاتل من أهل القبلة (أهل لا إله إلا الله) مسلم. وكذلك الزاني، والسارق، والمرابي، والمرتشي، والفاجر، كما أن الصالح، والذاكر، والمخبت، والصابر، والمتوكل، والمجاهد، والمعطاء، والعابد، هو (من أهل لا إله إلا الله)؛ فكل واحد من هؤلاء مسلم عقيدة، وإن اختلف خلقا وعملا أو معاملة.
ومن ثم كان من التشريع القرآني: أن يُعرف الناس بخصائصهم.
وعلى هذا السبيل جاء في القرآن ذكر «المهاجرين والأنصار» وجاء ذكر «الصديقين، والشهداء والصالحين» كما جاء ذكر «السابقين، والمقربين، والمخبتين، والأولين، والآخرين». وفي آية الأحزاب (إِنَّ المُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ)[الأحزاب:35] ذكر الله عشرة أصناف من المسلمين، كما تناثرت في القرآن أوصاف أخرى، لأهل القبلة غير وصف المسلم.
فإذا ذكرنا الناس بخصائصهم فذلك اقتضاء طبيعي حتمي للتعريف والتصنيف، لا يمكن أن يعترض عليه عاقل ولا عالم، فهو من المسلمات البدهية، التي لا تخفيها المغاليط والجهالات، والتعصب الكريه.
فإذا أضفنا إليه «أنه كما رأيت – تشريع قرآني متبع – كانت اللجاجة حوله هرطقة عصبية لا احترام لها، لمخالفتها للمنهج القرآني، ثم لمعقولية الأشياء وطبائعها».
وعلى هذا السنن جاء في القرآن ما هو مدني، وما هو مكي، وعرف الناس كثيرا من الصحابة بخصائص النسبة إلى أوطانهم الأولى، فقالوا: «بلال الحبشي» و«صهيب الرومي»، «سلمان الفارسي». كما ينسب كثير من الناس إلى الحرف والمهن، والوظائف، والأعمال المختلفة، بلا نكير في كافة الأزمنة والأمكنة؛ فالنسبة إذن إلى المذهب أو الدعوة شيء لا بدعة فيه، ولا حرمة، ولا كراهة.
وهكذا يقال كما قدمنا: مسلم شافعي، أو مالكي، أو حنبلي، أو شيعي، أو وهابي، أو مصري، أو شامي، أو يمني، أو مغربي، أو صوفي، أو سلفي، بحكم الاقتضاء الذاتي والقواعد اللغوية والمنهج القرآني والطبيعة الحتمية المحكمة، والضرورة العقلية الحاكمة.
جمعية كذا وكذا:
إن المغرمين بتكرار هذا الاستشكال التافه، هم بعض إخواننا من أتباع بعض الجمعيات المعروفة بمظهرياتها وتطرفها وسطحيتها.
ونحن نسأل هؤلاء الإخوة: هل جاء في القرآن أو السنة مثلا «اسم الجمعية الفلانية، أو العلانية، أو جماعة كذا وكذا».
إن الحكم هنا، هو الحكم هناك، فكيف يكون هنا حلالا، ثم يكون هناك حراما؟
أيها الإخوة: شيئا من العقل... شيئا من العلم... بل شيئا من الأخلاق!!
ومن جهة واقعة: ما هو الشيء الذي يراد باسم التصوف الإسلامي؟
إنه هو: الإيمان، والعمل، والحب، والأخلاق، والعبادة، والتسامي، والدعوة، والجهاد على أرقى مستوياتها جميعا، وهذه العناصر جميعا، وما يتفرع منها أمهات ومقامات التصوف كلها، من الصبر والتوكل، والعفو، والرضا، والشكر، وغيره من أصول منصوص عليها في الكتاب والسنة باتفاق أهل القبلة.
وقد أطلقوا عليها اصطلاحا: لفظ التصوف، فأطلق أنت عليها ما شئت من الأسماء فإن الأسماء لا تغير الحقائق: سمه: تنسكا، أو تبتلا، أو تزكيا، أو ربانية؛ فالناس يتعاملون مع حقائق الأشياء، لا مع أسمائهم!!
أسماء علوم الإسلام:
ثم انظر معي يهدك الله: هل جاء في القرآن أو السنة اسم (علم أصول الدين) أو (علم أصول الفقه) أو (علم مصطلح الحديث) أو (علم الفقه المقارن) أو (علم التفسير) أو (مقارنة الأديان) أو (علم النحو) أو علم (البلاغة) أو (البيان) أو (علم الأخلاق) أو (علم الكلام) أو غيرها من العلوم الدينية، أو العربية، فضلا عن أسماء علم الحضارة والفنون والثقافة، والرياضة، والطب، والفلك، والذرة على تنوعها ومراتبها؟ طبعا لا، ثم لا!!
فلماذا لا يوجه هذا الاعتراض على أسماء هذه العلوم، كما يوجه إلى علم التصوف؟!.
وكيف يجوز الأمر الواحد في جانب، ويمتنع في جانب آخر مع التماثل المطلق في كافة الأركان القياسية والعلمية؟
هذه دعوى متهافتة من البداية والنهاية، دعوى الاضغان، والعصبية، والعنصرية، والمذهبية التي لا عقل لها، ولا علم بها ولا خلق معها، ولا تقوى فيها، والإسلام والعقل – على وسع رحابه – يرفضها وينكرها ولا يرضى عن أصحابها، فليس من ورائها إلا الفتنة وتفتيت الإسلام، وضياع المسلمين، كأنما لم يبق من الموبقات شيء، وهي بغير حدود ولا قيود.
الدخيل والمدسوس في علوم الدين
وقد أكثروا القول بأنه: يجب القضاء على التصوف لما فيه من دخيل ومدسوس.
نقول: فهل نقضي أيضا على (الحديث النبوي) لأنه فيه عشرات الألوف من الدخيل والمدسوس!؟
وهل نقضي على التفسير لأنه بعض كتبه محشو بالعبرانيات، والخرافة، والتهويل، وبلاهة النقل، وسوء التأويل، والشطط، وتأكيد الشعوذة!؟
وهل نقضي على كتب (التوحيد) لما فيها من القضايا المنحرفة، والأفكار المضطربة، والمذاهب المفتونة، والتصورات الضالة، والأقيسة المضللة!؟
وهل نقضي على كتب (الفقه) لأنها متخمة بالفروض المستبعدَة، والخلافات المستكرَهة، والأفكار المعقدة، والحيل المنافقة، والاستخراجات المؤسفة!؟
ثم، هل، وهل، وهل، إلى آخر هذه السلسلة الطويلة!؟
إن المعقول المجهول: أن تطلب التبيان، والنصح والتصحيح، وتجريد هذه العلوم من أمراضها، ومما أصابها من الطفيليات، والحشو والتخلف، والتجمد، والفضول، واللغو، والالتواء، والزغل.
وهذا ما فعله كثير من السلف ي.
وهذا هو ما يجب أن يُطبق على علم التصوف تمامًا، وإلا لم يكن المراد الإصلاح أبدا، إنما هو الهدم والتخريب والتدمير المجنون، الذي لا ينتسب إلى عقل، ولا إلى خلق، ولا إلى علم، ولا إلى دين.
وهذا ما لا يمكن أن يرضاه مسلم يقدَّر معنى شهادة +لا إله إلا اللهَّ_ وما يترتب عليها، وما يتعلق بها في الخصوص والعموم، وفي الحِسِّ والمعنى، وفي الحاضر والمستقبل. واللَّه لا يحب الظالمين.
***
السؤال الثاني
(س) يقول بعضهم ماذا يضر الإسلام لو أننا شطبنا التصوف من بيئة المسلمين؟ (كما جاء في مقال بعض المجلات السلفية).
الجواب:
الإجابة هنا في غاية البساطة؛ فالتصوف كما عرفه أهله بأنه (التخلي عن كل دنيّ، والتحلي بكل سنيّ) حسا، ومعنى، وخصوصا، وعموما، مع الفرد والمجتمع، على ما تقرر في كتاب الله وسنة رسوله، وإن اختلفت المفاهيم والاجتهادات في الفروع، وبخاصة فيما يتعلق بالأخلاق، والآداب، والسلوك، والعبادة، والدعوة.
فالتصوف بهذا المعنى هو: حقيقة الإسلام، وهو ما نعتقده، ونخدمه، ونتعبد به، وندعو إليه، ونكافح دونه، فإذا ما شطبنا كل هذا المعنى من الإسلام، فما الذي يكون قد بقي من الإسلام؟.
أما التصوف بمعنى الحلول والاتحاد والوحدة المحرمة، وبمعنى الطبل، والزمر، والرقص، والخرافة، وتحريف أسماء الله، والتعطل، والتبطل، والقول برفع التكليف، أو مخالفة الشريعة للحقيقة، ودعاوي الولاية، والإتجار بالخوارق، وما إلى ذلك، فنحن والصوفية، الشرعيون جميعا: أول من نادى وينادي بشطبه، كما نادى سلف الصوفية بشطبه، وما تألفت (العشيرة) وجاهدت إلا لهذه الخدمة!!
ولكن إخواننا خصوم التصوف الحق، يشعرون من قرارة نفوسهم بقوته، وصموده، وصحته، وخلوده، فليجأون إلى التهويل والتعميم، والنفخ في (بالونات) القشور، والسطوح، والمجازفة، بإصدار أحكام: الشرك، والردة، والكفر، والزندقة، والفسق، على كل من ليس منهم.
وهم معذرون – عند أنفسهم – بما نعلمه نحن وما يعلمونه، مما تكفي فيه الإشارة عن العبارة.
أعاذنا الله من عبادة: المشالح، واللحى البترولية، واتخاذ الدين وسيلة إلى الدنيا الفانية، ولا قوة إلا بالله.
***
السؤال الثالث
(س) ولكنهم يقولون: إن ما يعترضون فيه على التصوف أمور تتصل«بلا إله إلا اللّه»...بالتوحيد؟
الجواب:
إجماع السلف والخلف على أن «أهل القبلة كلهم موحدون» وما صدر من بعضهم «جهلًا أو تأويلًا، أو اجتهادًا، أو غيره، من عمل أو قول، وخصوصا من المتشابه، تعين أن يحمل على أشرف وأحب وجوهه، وإن كان احتمالا واحدا من تسعة وتسعين احتمالا، فليس من حق أحد أن يخرج أحدا من دين الله إلا أن يكون كفر كفرا «بواحا صراحا» لا يحتمل العذر أو التأويل.
وليس كذلك شأن واحد من الصوفية الأبرار.
ألا ترى كيف غضب رسول ع على ذلك الصحابي الذي قتل رجلا نطق بالشهادتين «تقاة» وهو ع يردد: «أقالها وقتلته؟؟!».
وكيف تبرّأ الرسول من عمل الصحابي الذي قتل من قالوا «صبأنا» يريدون «وحدنا» وخرجنا من الكفر إلى الإيمان([1])، وكيف لم يعترض رسول الله على سيدنا «سعد» عندما جعل عين الماء صدقة على أمه. وقال: «هذه لأم سعد». وكيف أنه ع عصم دماء «المنافقين» بنطق الشهادتين، وهو يعلم أشخاصهم وأسرارهم، وكيف أن الإسلام قرر دفع الحدود بالشبهات([2])، فـ «لأن يخطئ القاضي في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة». والمذاهب الإسلامية أولى بهذه القاعدة.
لهذا كله، كان: كل من نطق بالشهادتين موحدًا، معصوم الدم والمال، وإن جهل وإن عصى([3]).
وأخيرًا: هو من أهل الجنة بنص الأحاديث الثابتة في كل ما قدَّمناه.
أما إنه شيء يتصل بـ «لا إله إلا الله». فهل هناك شيء لا يتصل بها؟
كل شيء عرفه الناس أو يعرفونه، من كل أقوالهم، وأعمالهم، وأحوالهم، وأفكارهم، فهو متصل بـ «لا إله إلا الله» بوجه من الوجوه، وبحقيقة من حقائق الأزل والأبد.
ألم أقل لك: إنها السطحية، والغرور، وإنه التهويل، وإنه الخروج بالأشياء عن أسمائها وأحكامها، وإلباس المسميات غير أسمائها في سبيل تأييد المذهب، وتأكيد العنصرية التي يرفضها الدين والعلم، والخلق، في سبيل العمالة، وبيع الدين، والوطن جميعا.
***
السؤال الرابع
وهنا أذن مؤذن الوقت، فقال السائل الصحفي للشيخ:
بهذه المناسبة: ما رأيكم في الأذان الشرعي، والبدعي؟
فقال الشيخ: أرجو أن نتحدث في هذا بعد الصلاة.
ثم بعد أن ختمت الصلاة، قال الشيخ:
الجواب:
وهذه أيضا من المسائل البسيطة، والدقيقة في الوقت نفسه، لولا ما يثيرونه حولها فليس هناك أذان شرعي، وأذان بدعي، إنه الأذان الإسلامي، فلا يجوز أن يسمى مبتدعا من يذكر الناس بالشهادتين، ويدعوهم إلى الصلاة والفلاح، في الوقت الذي حددته الشريعة، وبالألفاظ الواردة، وإن التوى بها لسانه، أو تجاوز في أسلوب الأداء.
ولكن هناك أذان «منغَّم»، وأنا أميل إلى الأذان البسيط؛ لأنه أسلوب عملي، يستطيع أن يقوم به أكثر الناس بلا تكلف ولا صناعة ولا معاناة، ولكنني أنكر طريقة الأداء التي يتعمدها بعضهم في أداء هذا الأذان البسيط، فيخرج به عن سماحته وحسن هديه، حتى لكأنه في معركة ضارية مع الريح، هي إلى الإزعاج والتحدي والغل أقرب منها إلى الدعوة والتذكير، وليس هذا من أذان الإسلام في شيء على الإطلاق.
إن رسول الله ع أمر صاحب رؤيا الأذان، أن يعلمه بلالًا «لأنه أندى([4]) صوتا». وقد سمع عمر بن عبد العزيز رجلا يفزع الناس بالأذان فقال له: «أذِّن أذانا سمحا، وإلا فاعتزلنا». وقد كان الناس - لعهد النبوة - يضربون المثل بأداء الأذان الجميل من «أبي محذورة» أحد مؤذني رسول الله ع، حتى قال بعض شعرائهم:
بما تلَى من سوره
*
وبالأذان مِن أبي محذوره
لأفعلن فعلةً مشكوره
فقرن حسن تلاوة رسول الله للقرآن بحسن أداء أبي محذورة للأذان
بقي من سؤالك: هل الأذان «جزم» أو «إعراب» !؟
هذا وارد، وهذا وارد، وقد ذكرت الحديث الدال على الإعراب مسندًا مشروحًا في بعض ما كتبتُ قبلًا (بمجلة المسلم)، ثم اطلعت أخيرًا على بحث طيب للأستاذ «ناصر الدين الألباني» وهو من كبار (المتمسلفة) يقرر فيه صحة الأذان بالإعراب، مستدلًا بما استدللت به، مع زيادات أخرى.
والإعراب هنا: معناه، جمع التكبيرتين مع (رفع) أي ضم الراء في التكبيرة الأولى.
أما قولك: «بأي السورتين كان يؤذن لرسول الله؟» فذلك ما لا يجرؤ عالم يخشى الله أن يحدده على التعيين؛ فإنه لم يكن لعهد رسول الله «ريكردر» يسجل الصوت والأداء، فمتى تحقق في الأذان تصحيح الألفاظ، وحسن الإلقاء، فذلك هو المشروع، ولهذا اختلفت طريقة الأداء والأصوات في جميع بلاد المسلمين.
ولقد كنت في صباي أذهب أحيانًا – قبل أذان الوقت – مع بعض لداتي من الأزهر إلى مسجد المرحوم «الشيخ محمود خطاب السبكي» س، لأتمتع ومن معي بسماع الأذان من المرحوم «الشيخ سرحان» مؤذن المسجد وقتئذ، فقد كان يؤذن هذا الأذان البسيط بـ «حال» كما يقول الصوفية: فيتأثر به كل من سمعه، لدرجة البكاء في بعض الأحيان.
أما الأذان «المنغَّم» فلا يجوز إذا خرج بالكلمات عن أصولها المقررة في علمي اللغة والتجويد: «لا شك في ذلك» فهو لهذا مكروه، ولكنه لا يكون كبيرة موبقة، أو بدعة مهلكة.
***
السؤال الخامس
(س) بهذه المناسبة، لاحظت أن إمام الصلاة هنا، لا لحية له، وقد رأيت بعضهم لا يصلي خلف من لا لحية له، بل يريمه بالفسوق؟
الجواب:
لا يوجد مسلم واحد يقول بأن اللحية ليست سنّة، سواء أكان ملتحيا أم لا؛ فسنيتها ثابتة، لا يماري في ذلك أحد إطلاقًا، أما أن تاركها فاسق، فهذا الحكم هو: الفسوق عن العلم وعن السنة معًا وهذا ما حدا به إلى كثرة البيان في هذا الباب.
وفي كتاب (زاد المسلم) وشرحه (فتح المنعم)، ما يؤكد هذا المعنى، عند ذكر إعفاء اللحى وإحفاء الشوارب، وهل هو مما عمت به البلوى؟
إنك تستطيع أن تسمي تارك توفير اللحية «مخالفًا، أو مقصرًا، أو مهملًا، أو متهاونًا، أو حتى عاصيًا».أما أن تقارن بينه وبين مرتكب الكبائر الموبقة، فتسحب عليه حكم الفسق لعدم توفير اللحية، فهذا هو الغلو في الدين بغير حق، وبغير عقل أيضًا، وإلا فبماذا تصف القاتل، والزاني، والسارق، والمرابي، واللائط، وقاطع الطريق؟؟ ونحوهم من المسلمين؟؟
راجع إن شئت مبطلات الصلاة ومفسداتها، في كل مذهب إسلامي، فلن تجد من مبطلاتها، ترك توفير اللحية، فلماذا لا يصلي أحدهم وراء الحليق المتفقَّه، وبخاصة إذا اعترف بالتقصير، مقرًا بالسنية!؟ وحكم السنة: الأجر على العمل، والحرمان منه مع الترك، ولم يقل أحد بأن حكم السنة هو حكم الفرض أبدًا.
إن مما حفظناه عن شيوخنا، قولهم: «إن من السنة إيمانًا، ترك السنة أحيانًا؛ لئلا تأخذ حكم الفرض عيانا»!!.
يا ولدي: أركان الإسلام خمسة، وليس منها توفير اللحية، وأركان الإيمان، وأركان الإحسان (كما صح بها حديث جبريل) ليس منها توفير اللحية. وشروط صحة الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والطهارة، ليس منها اللحية، وكذلك مبطلات العبادات، كلها ليس منها ترك توفير اللحية، على جميع المذاهب، سلفًا وخلفًا، كتابًا وسنة، نصًا واجتهادا.
إذن فهي ليست سنة عبادة إنما هي سنة عادة، وكان العرب على اختلاف أديانهم، وعقائدهم، يطلقون لحاهم، ولا زال الأحبار والرهبان، في الشرائع السماوية والأرضية يطلقون لحاهم، فهي ليست من سنن الإسلام الخاصة به، أو التي يخالف بها سواه، فتكون فرقًا بين المسلم، وغير المسلم أو بين التقي والشقي.
ولا يزال من يسمونهم «الفنانون، والفلاسفة» في عصرنا «والخنافس، والهيبز، والمجاهرون بالفسق، والملحدون، والشيوعيون والرقاصون، والطبالون ومثلهم» يطلقون لحاهم.
فالتغالي بتسمية تاركها فاسقًا، قول بعيد عن الإنصاف العلمي والديني، وعن حب السنة، وعن حب رسول الله عليه السلام، وعن يسر الإسلام ورفقه.
***
السؤال السادس
(س) يظهر أن مفهوم إحفاء الشوارب يختلف من جمعية لأخرى، ومن رجل لآخر؛ فقد شاع في هذه الأيام استئصال الشوارب نهائيًا، مع توفير اللحى بكثافة؟
الجواب:
هذه ظاهرة عجيبة فعلا - فيما أعرف- فإن ألفاظ الأحاديث التي أحفظها في هذا الباب بين «قصوا، وأحفوا» وهما لا يؤديان معنى الحلق أو الإبادة، أو الاستئصال الذي نراه اليوم، فالإحفاء يفسره النص، والمراد به: تقصير الشارب، فقط لما في ذلك من منافع صحية وعملية، ولذا كان مما اختاروه جميعا: أن تظهر أطراف الشفة تحت الشارب أي أن يكون هناك شارب، ولكن لا يتدلى على الفم؛ لأن الشارب علامة كبرى من أهم علامات الرجولة: «والتنسيق بينه وبين اللحية يعطي المهابة، والرجولة، ولهذا شرطوا ارتباط سوالف الشارب باللحية.
يا ولدي: الإسلام: سَمْحٌ هين لين([5])، وهو في نفس الوقت قوي صامد شامخ، وفي الحديث:«إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِى الأَمْرِ كُلِّهِ»([6]) ويقول عليه السلام: «يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا»([7]) ويقول: «لَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا» انظر إلى قوله: «قاربوا» بل إلى قوله ع: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فأتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»([8]).فقد أذن لنا فيما أمر: أن نأتي منه ما استطعنا. وليس بعد هذا تيسير أو رفق وسماحة.
وفي حديث ابن عمر: كنا إذا بايعنا رسول الله ع على السمع والطاعة، قال: «فيما اسْتَطَعْتُمْ...»([9]) والله يقول: (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)[التغابن:16].
فأين هذا مما نرى الآن، وما نجد من عدوانية بغيضة باسم السنة، ومن ضغينة على الناس، وغرور، وحقد، وغل أسود وأحمر، وأزرق، باسمها، على حين يقول الله على لسان المؤمنين (وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا)[الحشر:10]. سماحة الإسلام، هي العلاج ولكن: كيف تكون علاجا، وقد جعلوا منها كآبة وتهجما، وغما، وأغلالا وسعيرا، وسجنا كبيرا، بما يلوون من عنقها، وما يعسرون من يسيرها، وما يفسدون من أحكام الفروض والنوافل والسنن، وما ينقلون من أحكام الأصول إلى الفروع، كأن من شرط إعفاء اللحية: بغض جميع الناس.
ولقد قرأت في الأعداد الأخيرة من مجلة (الدعوة) كلمة لأخينا في الله الشيخ محمد الغزالي السقا تهكما عنيفا على من يظنون أن حقيقة التدين في شعرات تعفى، وشعرات تحفى، واستشهد بقول المتنبي فيما هجا به كافورا ومن حوله:
أغايةُ الدين أن تحفوا شواربكم!؟
يا أمة ضحكت من جهلها الأمم!!
وقد رأينا بأعيننا المرحوم الأستاذ الشيخ محمود خطاب السبكي (مؤسس الجمعية الشرعية)، ورأينا المرحوم الشيخ حامد الفقي (مؤسس أنصار السنة)، ورأينا المرحوم الشيخ رشيد رضا، ورأينا المرحوم الشيخ محمد زاهد الكوثري، ورأينا المرحوم الشيخ مصطفى صبري (آخر مشايخ الإسلام في تركيا لعهد الخلافة)، ورأينا غير واحد من شيوخ الأزهر المرموقين، كالمرحوم الشيخ الخضر الحسين؛ والمراغي، وعشرات لا تحصى من كبار العلماء وأهل الفضل، ورأينا صور من لم ندرك من الأشياخ كالمرحوم الشيخ سليم البشري، ومن قبله الشيخ محمد عبده، فلم نلاحظ أن واحدا منهم استأصل شاربه وأباده نهائيا بهذه الطريقة الحديثة، والتي نقول: إن الجمهور يسميها (مسخا) للسنة والفطرة.
بل يظهر أيضا أن التجديد وصل إلى تصفيف اللحية، فرأينا منها الآن الشكل (العماني) والشكل (الإيراني) والشكل (الهندي) والشكل (البترولي) والشكل (الصيني، والروسي، والأوربي) مما خرج بالموضوع عن المعنى الديني نهائيا.
عودة إلى ظاهرة إبادة الشوارب
ورد بالغ الأهمية
انتشرت هذه الظاهرة انتشارا ملفتا للنظر، فترى الشاب أو الرجل يفتح الله عليه، ويوفقه فيوفر لحيته ويعفيها، ثم يذهب فيستأصل شاربه ويبيده فيبدو للناس خلقا آخر، إن لم يكن كريهًا فهو على الأقل: لافت للنظر.
وكنت أشرت إلى هذا في بعض إجاباتي على أسئلة بعض الصحفيين، وقررت أن الإبادة والاستئصال بهذه الطريقة نوع من (المسخ) الذي لا يتلائم مع تقاليد الإسلام وجماله (ودعوته إلى التوسط والتجمل والتنسيق) فجاءني كتاب من ولدي السيد: الدكتور «عز الدين طه الدالي» يطلب مزيد من التدليل أو الرجوع عن هذا الرأي.
فأقول: إنني لا أزال عند رأيي، وقد قال مالك والشافعي: (إحفاء الشارب مُثلةٌ) وعندهما أن المراد بالإحفاء أو الإنهاك في الحديث، هو أن يؤخذ من الشارب حتى يبدو طرف الشفة فلا يغطيها الشعر، وهذا هو القص، أي الأمر الوسط المفسر لواقع الحكم وحكمة التشريع.
والإسلام دين الوسطية بين الإفراط والتفريط.
وقال أشهب: سألت مالكا عمَّن يُحْفِي شاربه -يعني يستأصله- فقال: «أرى أن يوجع ضربا»، أي أن مالكا يرى هذا الفعل معصية تستوجب التعزير، فوق أنها عندها شنعة، ومسخ، وتشويه، وقبح لافت للنظر. «فصاحبه يبدو لا هو شيخ ولا هو صبي». وجاء عنهتأنه قال لمن يحلق شاربه: «هذه بدعة ظهرت في الناس». أي لمخالفتها للفطرة التي ميزت ظواهر الفرق بين الرجولة والأنوثة، دون تشويه، ولا مثلة، ولا شنعة ولا مسخ، ولا لفت نظر، والله تعالى سوى الإنسان وعدله وخلقه في أحسن تقويم.
وأخرج أحمد، والترمذي، والنسائي، وصححه- قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ شاربه فَلَيْسَ مِنَّا». فهو صريح في أن المراد بالقص والإحفاء، والإنهاك، مجرد الأخذ من الشارب، أي تخفيف كثافة شعره، وهو الكم المشترك بين جميع الأحاديث الواردة في هذا الباب، وهو المناسب للذوق والانسجام.
ويظهر أنها عادة انفرد بها بعض أهل مصر من قديم وقد لامهم المتنبي في ميمته المشهورة التي وجهها إلى «كافور الأخشيد» يقول:
أغاية الدين أن تحفوا شورابكم
*
يا أمة ضحكت من جهلها الأمم
ولذلك قال محدث الصعيد الإمام ابن دقيق العيد: «لا أعلم أحدًا قال بقص الشارب من حيث هو» أي إبادته واستئصاله، فيكون أشبه شيء بالمسخ والمثلة!
والسادة الإمامية يمنعون ذلك منعًا باتًا.
وقد روى عامر بن الزبير، أن أمير المؤمنين عمر، كان إذا غضب فتل شاربه ونفخ، يعني فتل السبالين وهما طرفا الشارب ولا يتأتى ذلك مع استئصال الشارب وإبادته واستهلاكه، ومسخ صورة صاحبه وليس أحد أعرف بالسنة من الخلفاء الراشدين، فظهر أن استهلاك الشارب وإبادته مع إعفاء اللحية، إنما هو نوع من التبدع والغلواء في الدين بغير حق ولا برهان صحيح.
غفر الله لنا جميعا، وهدانا إلى ما يحب ويرضى، وهو الموفق والمستعان.
***
السؤال السابع
(س) ألا ترى أن في ترك أو إهمال توفير اللحى تعطيلا لبعض السنن!؟
الجواب: نعم، ولا أقول أبدا بالترك، ولكنها ليست من السنن الأصول - كما أسلفت- أعني السنن التي ترتبط بالعقيدة أو العبادة، فكم من سنن أخرى معطلة، لا يجرؤ على العمل بها أحد من هؤلاء، فمثلا كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم (قدح) يضعه تحت سريره ليتبول فيه وفي بعض كتب الشمائل: كانت له صلى الله عليه وسلم غدائر يعني ضفائر) !. وكان صلى الله عليه وسلم إذا أكل لعق أصابعه، أو ألعقها غيره.
وكان صلى الله عليه وسلم يكتحل بالإثمد، ويحث عليه.
وكان يضطجع في الفجر بين السنة والفريضة.
وكان، وكان – كما هو ثابت في كتب الشمائل والخصائص وهي سنن معطلة لا يعمل بها منهم أحد.
والملاحظ أن إخواننا هؤلاء، ما شاءوا فعلوا، وما شاءوا تركوا، فما اختلط فعله: جعلوه من سنن العبادة، وإن لم يكن منها.
وما اختاروا تركه، جعلوه من سنن العادة، وإن لم يكن منها، حتى اختلط الأمر على العامة، فلا يميزون بين ما هو دين، وما هو دنيا، وما هو من سنن العادة، أو سنن العبادة.
ومثل هذا بالضبط: ما يجري في أمور البدع، فما شاءوا منها حرموا، وما شاءوا منها أحلوا، وليس لهم في هذا قانون مطرد، إنما هو حب المخالفة، والتنافس في الغلو والتطرف، والتفاني في إكراه الناس على الاقتداء بهم في محاولات الشذوذ والتفرد باسم السنة.
فإذا ضربت مثلا في البدع في جمع القرآن، ثم بإدراجه بين دفتين، ثم بنقط حروفه، ثم بتشكيل كلماته، ثم بترقيمه، ثم ببيان مدنيه ومكيه، مع أسماء سوره، ثم بتقسيمه إلى أجزاء وأحزب وأرباع، ثم بالإشارة إلى أنواع وقوفه، وإلى مكان سجود التلاوة منه، إلى آخر هذه المبتدعات الإيجابية الأصيلة في صميم كتاب الله، وهو أصل الإسلام ودستوره الخالد ثم إذا ذكرت: كيف تحرَّج أبو بكر من مجرد جمع القرآن، وعدَّه بدعة ثم أجازه بعد إلحاح عمرا.
لو عرضت هذا التاريخ في مواطن الكلام على البدع لذهبوا بك المذاهب، وربما عدوه من «المصالح المرسلة»، ومن ذا الذي «ابتدع» لفظ المصالح المرسلة؟ ومن ذا الذي وضع قوانينها؟ إنهم الناس، فكيف يدافع عن البدعة بالبدعة!؟
وهذا هو «الميكروفون» أدخل على الصلوات كلها، وعلى خطب الجمعة، ودروس الوعظ، وتلاوة القرآن إلخ، فكيف جاز هذا، وهو بدعة؟
فالأمر عميق فسيح متشعَّب! نسأل الله السلامة، ولا علاج إلا بسماحة الإسلام ويسره ورفقه والتنزه من وباء دعوى احتكار الصواب، وقذف جمهور المسلمين المخلصين بالجهل والخروج من دين اللّه.
***
السؤال الثامن
(س) لي سؤال فقهي أخير، وهو: أنني أرى في مسجدكم هذا محرابا ويقولون: إن المحاريب محرمة في الإسلام، فما رأيكم؟
الجواب: قبل الرد على هذا السؤال أحب أن أصحح خطأ شائعا، انبنى عليه خطأ آخر؛ فالخطـأ لا يُنْتِج إلا خطأ، وأخيرا لا يصح إلا الصحيح.
فليس ما ترى في مسجدنا، ولا في مساجد المسلمين كلها ما هو «المحراب» على صورته عند أهل الكتاب، إن ما ترى إنما هو علامة اتجاه القبلة، وهو ما تنطبق عليه قوانين «المصالح المرسلة» إن لم نقل أن لها أصلا من عمل رسول الله، بما كان يدل به على القبلة من العصا يغرسها أو الجذع الذي كان يخطب عليه. إلخ.
فليس هو محرابا أبدا، ويجب أن نسمي الأشياء بأسمائها، حتى لا نضل الصواب والثواب.
هذا أولا، أما ثانيًا: فلن أتعرض لمدى صحة أحاديث النهي عن المحاريب، أفرد لها السيوطي جزءا، ورد عليه علماء من آخرهم الشيخ الصديق الغماري ردا علميًا محكمًا.
لكنني سأفترض صحة الحديث جدلا، وأعود بك إلى نصوص القرآن المجيد لنرى، إن كان ما تراه في مساجدنا محرابا فعليا، ينطبق عليه النهي – على فرض صحة الأحاديث وعدم تأويلها – بعيدًا عن خلاف الفقهاء فيه.
المحراب في القرآن، وعند أهل الكتاب، شيء يدخل الناس فيه، فيؤويهم ويرد العيون عنهم، وفيه يتعبدون، وهو يتسع لأكثر من شخص، مع حاجياته، وهو يستر من فيه عن أعين الناس، وهو شيء يخرج الإنسان من داخله ليتحدث إلى الناس في خارجه، وهو شيء مسور مرتفع إلخ، كما ستوضحه النصوص القرآنية المحكمة فيما يأتي: فالله تعالى يقول عن مريم: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾ [آل عمران: 37] فالمحراب هنا شيء يدخل الناس فيه، ليصلوا أو يتصلوا بمن فيه وما فيه.
والله تعالى يقول عن زكريا: ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ المِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ﴾ [مريم:11] «فالمحراب هنا شيء يخرج من في داخله إلى من هم في خارجه ليتحدث إليهم».
ويقول الله تعالى: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا المِحْرَابَ﴾[ص:21]. فهو شيء مرتفع الجدران «يقفز» الناس من فوق سوره ليصلوا إلى داخله، ومن هنا كان فزع داود، عندما لم يدخلوا عليه المحراب من بابه، كما في سورة «ص».
ويقول الله تعالى عن زكريا أيضا: ﴿فَنَادَتْهُ المَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المِحْرَابِ﴾[آل عمران:29]. فهو شيء يقوم القائم في داخله للصلاة والتعبد.
فهل هذه الصورة القرآنية المفصلة للمحراب، تتحقق بأي شكل في«القبلة» التي اتخذها المسلمون للدلالة على اتجاه الكعبة الشريفة، مما يستفيد منه الخاص والعام؟ فهو من المصالح الضرورية التي لا ترفضها قواعد الإسلام العامة، وحسبك هذا في الرد على هذه «الجزئية» التي جعلوها «كلةً» وأطلقوا الاسم على غير مسماه، ولا ضرر فيها ولا ضرار.
على أن بعض الأئمة – كابن الهمام – يرى أنه كان لمسجد الرسول صلى الله عليه وسلم في عهد رسول صلى الله عليه وسلم محراب: أخذًا من حديث (وائل بن حجر – بضم الحاء وسكون الجيم – عند البيهقي، وفيه: «فدَخَلَ الْمِحْرَابَ» قالوا: وهو أحق بالتعويل من حديث عبد المهيمن بن عباس الذي ينفي وجود المحراب في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، مع أنه هو نفسه -روى عند الطبراني- من حديث سهل بن سعد ت، وفيه «فلما بني له محراب: تقدم إليه». فلعله أراد بحديث النفي، كونها على خصوص صورة محاريب أهل الكتاب.
وبيان هذا البحث يرجع فيه إلى تعليق الشيخ الغماري على رسالة السيوطي، وإلى كتاب الشيخ عمر بن عبد الوهاب الجندي، وإلى كلمة الشيخ الكوثري، فهي نص في هذا الموضوع وإن كان ما قلته فيه الكفاية.
أما أنها نوع من التشييد والزخرفة، فقد جدد عثمان ا مسجد رسول الله وبناه «بالحجر الملون» وسقفه «بخشب الساج»، وجاء عمر بن عبد العزيز – على علمه وتقواه وورعه – فزاد في المسجد وجدده وزينه بالرخام والفسيفساء (عام87هـ) والتابعون موجودون، بل وبعض الصحابة، مما جعل لهذا الموضوع مفهوما إسلاميا عمليا، لا يختلف عليه عاقل؛ فالممنوع من الزخرفة هو: ما يشغل الإنسان، ويلهيه عن صلاته، وهذا يختلف باختلاف الأعصار والأمصار، وحضارة المجتمع.
فهل رأيت كيف أنَّ أكثر ما يُثار من هذه الجوانب، زوبعة في فنجان، بل في «كستبان»، وأنه نفخ في الرماد، لا يعقب إلا التشويه.. والعمى، والتيه، والضياع.
وإخواننا هؤلاء، يظنون أنهم وحدهم أهل العلم، وأهل الجنة، وأن الله أعطاهم حق التصرف فيها، والوصاية عليها من دون البشر، ومن لم يكن منهم من المسلمين: فالنار مأواه، مع المجوس والصابئة ولا قوة إلا بالله.
صلى الله عليه وسلم، والقرآن ينزل فيهم، وهم (المنافقون)، فهل معنى هذا أن جميع الصحابة كانوا منحرفين، لوجود المنحرفين فيهم؟
إن المنحرفين موجودون (وسيظلون) في كل طائفة إلى يوم القيامة، وهذه طبيعة التجمعات البشرية، ومنها تجمعات المتمسلفة: مَن سبق، ومَن لحق.
***
الباب الثالث أسئلة صحافية أخرى بالغة الأهمية وأجوبة صوفية وفقهية قاطعة جلية
(سألها أحد الصحافيين العرب وطلب ألا يذكر اسمه) قال:
السؤال الأول
( س ) يقولون: لم ترد كلمة صوفية أو تصوف في كتاب الله، أو على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم أو الصحابة، والله تعالى يقول: (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ)[آخر سورة الحج] ويقول: (وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا)[المائدة:3].
الجواب:
التصوف ليس دينا مستقلا عن الإسلام حتى يواجه الاحتجاج بهذه الآيات، وإنما التصوف مذهب من مذاهب المسلمين، يدور في فلك الإسلام، على أرقى وأنقى معانيه، وكما جاز أن يسمي البعض أنفسهم (أو سماهم الناس) «سلفية» بلا نقد ولا اعتراض، فالحكم هنا وهنا واحد. وهو أشبه بقولهم: مالكي، وشافعي، وحنبلي، وإباضي، وزبدي، ووهابي، وسعودي، وحافقي، وظاهري...إلخ.
فالسلفية، والتسلف، والسلفي، ألفاظ لم ترد إطلاقا لا في الكتاب، ولا في السنة، وهم يختصون أنفسهم بها ولا يرون بذلك بأسا، بل يرونها فخرا وشرفا.
والصوفية، والتصوف، والصوفي، ألفاظ شأنها شأن تلك الألفاظ، سواء بسواء، وحكمها حكمها من كل الوجوه، وليس كل اسم أو وصف لم يأت في القرآن، أو السنة، يحرم التسمي به، وكذلك الألقاب والنسب، فالاعتراض من هذه الوجهة ساقط ذليل، لا يقول به عالم ولا عاقل.
ثم إنه كان اسم (التصوف) غير موجود، بلفظه، فإن المادة والحقيقة موجودة، شأن كل علوم الدين التي وضعت أسمائها في عهد التدوين ثم إن الإسلام محيط شامل لكل أهل القبلة، سواء منهم الطيب والخبيث، فالقاتل من أهل القبلة (أهل لا إله إلا الله) مسلم. وكذلك الزاني، والسارق، والمرابي، والمرتشي، والفاجر، كما أن الصالح، والذاكر، والمخبت، والصابر، والمتوكل، والمجاهد، والمعطاء، والعابد، هو (من أهل لا إله إلا الله)؛ فكل واحد من هؤلاء مسلم عقيدة، وإن اختلف خلقا وعملا أو معاملة.
ومن ثم كان من التشريع القرآني: أن يُعرف الناس بخصائصهم.
وعلى هذا السبيل جاء في القرآن ذكر «المهاجرين والأنصار» وجاء ذكر «الصديقين، والشهداء والصالحين» كما جاء ذكر «السابقين، والمقربين، والمخبتين، والأولين، والآخرين». وفي آية الأحزاب (إِنَّ المُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ)[الأحزاب:35] ذكر الله عشرة أصناف من المسلمين، كما تناثرت في القرآن أوصاف أخرى، لأهل القبلة غير وصف المسلم.
فإذا ذكرنا الناس بخصائصهم فذلك اقتضاء طبيعي حتمي للتعريف والتصنيف، لا يمكن أن يعترض عليه عاقل ولا عالم، فهو من المسلمات البدهية، التي لا تخفيها المغاليط والجهالات، والتعصب الكريه.
فإذا أضفنا إليه «أنه كما رأيت – تشريع قرآني متبع – كانت اللجاجة حوله هرطقة عصبية لا احترام لها، لمخالفتها للمنهج القرآني، ثم لمعقولية الأشياء وطبائعها».
وعلى هذا السنن جاء في القرآن ما هو مدني، وما هو مكي، وعرف الناس كثيرا من الصحابة بخصائص النسبة إلى أوطانهم الأولى، فقالوا: «بلال الحبشي» و«صهيب الرومي»، «سلمان الفارسي». كما ينسب كثير من الناس إلى الحرف والمهن، والوظائف، والأعمال المختلفة، بلا نكير في كافة الأزمنة والأمكنة؛ فالنسبة إذن إلى المذهب أو الدعوة شيء لا بدعة فيه، ولا حرمة، ولا كراهة.
وهكذا يقال كما قدمنا: مسلم شافعي، أو مالكي، أو حنبلي، أو شيعي، أو وهابي، أو مصري، أو شامي، أو يمني، أو مغربي، أو صوفي، أو سلفي، بحكم الاقتضاء الذاتي والقواعد اللغوية والمنهج القرآني والطبيعة الحتمية المحكمة، والضرورة العقلية الحاكمة.
جمعية كذا وكذا:
إن المغرمين بتكرار هذا الاستشكال التافه، هم بعض إخواننا من أتباع بعض الجمعيات المعروفة بمظهرياتها وتطرفها وسطحيتها.
ونحن نسأل هؤلاء الإخوة: هل جاء في القرآن أو السنة مثلا «اسم الجمعية الفلانية، أو العلانية، أو جماعة كذا وكذا».
إن الحكم هنا، هو الحكم هناك، فكيف يكون هنا حلالا، ثم يكون هناك حراما؟
أيها الإخوة: شيئا من العقل... شيئا من العلم... بل شيئا من الأخلاق!!
ومن جهة واقعة: ما هو الشيء الذي يراد باسم التصوف الإسلامي؟
إنه هو: الإيمان، والعمل، والحب، والأخلاق، والعبادة، والتسامي، والدعوة، والجهاد على أرقى مستوياتها جميعا، وهذه العناصر جميعا، وما يتفرع منها أمهات ومقامات التصوف كلها، من الصبر والتوكل، والعفو، والرضا، والشكر، وغيره من أصول منصوص عليها في الكتاب والسنة باتفاق أهل القبلة.
وقد أطلقوا عليها اصطلاحا: لفظ التصوف، فأطلق أنت عليها ما شئت من الأسماء فإن الأسماء لا تغير الحقائق: سمه: تنسكا، أو تبتلا، أو تزكيا، أو ربانية؛ فالناس يتعاملون مع حقائق الأشياء، لا مع أسمائهم!!
أسماء علوم الإسلام:
ثم انظر معي يهدك الله: هل جاء في القرآن أو السنة اسم (علم أصول الدين) أو (علم أصول الفقه) أو (علم مصطلح الحديث) أو (علم الفقه المقارن) أو (علم التفسير) أو (مقارنة الأديان) أو (علم النحو) أو علم (البلاغة) أو (البيان) أو (علم الأخلاق) أو (علم الكلام) أو غيرها من العلوم الدينية، أو العربية، فضلا عن أسماء علم الحضارة والفنون والثقافة، والرياضة، والطب، والفلك، والذرة على تنوعها ومراتبها؟ طبعا لا، ثم لا!!
فلماذا لا يوجه هذا الاعتراض على أسماء هذه العلوم، كما يوجه إلى علم التصوف؟!.
وكيف يجوز الأمر الواحد في جانب، ويمتنع في جانب آخر مع التماثل المطلق في كافة الأركان القياسية والعلمية؟
هذه دعوى متهافتة من البداية والنهاية، دعوى الاضغان، والعصبية، والعنصرية، والمذهبية التي لا عقل لها، ولا علم بها ولا خلق معها، ولا تقوى فيها، والإسلام والعقل – على وسع رحابه – يرفضها وينكرها ولا يرضى عن أصحابها، فليس من ورائها إلا الفتنة وتفتيت الإسلام، وضياع المسلمين، كأنما لم يبق من الموبقات شيء، وهي بغير حدود ولا قيود.
الدخيل والمدسوس في علوم الدين
وقد أكثروا القول بأنه: يجب القضاء على التصوف لما فيه من دخيل ومدسوس.
نقول: فهل نقضي أيضا على (الحديث النبوي) لأنه فيه عشرات الألوف من الدخيل والمدسوس!؟
وهل نقضي على التفسير لأنه بعض كتبه محشو بالعبرانيات، والخرافة، والتهويل، وبلاهة النقل، وسوء التأويل، والشطط، وتأكيد الشعوذة!؟
وهل نقضي على كتب (التوحيد) لما فيها من القضايا المنحرفة، والأفكار المضطربة، والمذاهب المفتونة، والتصورات الضالة، والأقيسة المضللة!؟
وهل نقضي على كتب (الفقه) لأنها متخمة بالفروض المستبعدَة، والخلافات المستكرَهة، والأفكار المعقدة، والحيل المنافقة، والاستخراجات المؤسفة!؟
ثم، هل، وهل، وهل، إلى آخر هذه السلسلة الطويلة!؟
إن المعقول المجهول: أن تطلب التبيان، والنصح والتصحيح، وتجريد هذه العلوم من أمراضها، ومما أصابها من الطفيليات، والحشو والتخلف، والتجمد، والفضول، واللغو، والالتواء، والزغل.
وهذا ما فعله كثير من السلف ي.
وهذا هو ما يجب أن يُطبق على علم التصوف تمامًا، وإلا لم يكن المراد الإصلاح أبدا، إنما هو الهدم والتخريب والتدمير المجنون، الذي لا ينتسب إلى عقل، ولا إلى خلق، ولا إلى علم، ولا إلى دين.
وهذا ما لا يمكن أن يرضاه مسلم يقدَّر معنى شهادة +لا إله إلا اللهَّ_ وما يترتب عليها، وما يتعلق بها في الخصوص والعموم، وفي الحِسِّ والمعنى، وفي الحاضر والمستقبل. واللَّه لا يحب الظالمين.
***
السؤال الثاني
(س) يقول بعضهم ماذا يضر الإسلام لو أننا شطبنا التصوف من بيئة المسلمين؟ (كما جاء في مقال بعض المجلات السلفية).
الجواب:
الإجابة هنا في غاية البساطة؛ فالتصوف كما عرفه أهله بأنه (التخلي عن كل دنيّ، والتحلي بكل سنيّ) حسا، ومعنى، وخصوصا، وعموما، مع الفرد والمجتمع، على ما تقرر في كتاب الله وسنة رسوله، وإن اختلفت المفاهيم والاجتهادات في الفروع، وبخاصة فيما يتعلق بالأخلاق، والآداب، والسلوك، والعبادة، والدعوة.
فالتصوف بهذا المعنى هو: حقيقة الإسلام، وهو ما نعتقده، ونخدمه، ونتعبد به، وندعو إليه، ونكافح دونه، فإذا ما شطبنا كل هذا المعنى من الإسلام، فما الذي يكون قد بقي من الإسلام؟.
أما التصوف بمعنى الحلول والاتحاد والوحدة المحرمة، وبمعنى الطبل، والزمر، والرقص، والخرافة، وتحريف أسماء الله، والتعطل، والتبطل، والقول برفع التكليف، أو مخالفة الشريعة للحقيقة، ودعاوي الولاية، والإتجار بالخوارق، وما إلى ذلك، فنحن والصوفية، الشرعيون جميعا: أول من نادى وينادي بشطبه، كما نادى سلف الصوفية بشطبه، وما تألفت (العشيرة) وجاهدت إلا لهذه الخدمة!!
ولكن إخواننا خصوم التصوف الحق، يشعرون من قرارة نفوسهم بقوته، وصموده، وصحته، وخلوده، فليجأون إلى التهويل والتعميم، والنفخ في (بالونات) القشور، والسطوح، والمجازفة، بإصدار أحكام: الشرك، والردة، والكفر، والزندقة، والفسق، على كل من ليس منهم.
وهم معذرون – عند أنفسهم – بما نعلمه نحن وما يعلمونه، مما تكفي فيه الإشارة عن العبارة.
أعاذنا الله من عبادة: المشالح، واللحى البترولية، واتخاذ الدين وسيلة إلى الدنيا الفانية، ولا قوة إلا بالله.
***
السؤال الثالث
(س) ولكنهم يقولون: إن ما يعترضون فيه على التصوف أمور تتصل«بلا إله إلا اللّه»...بالتوحيد؟
الجواب:
إجماع السلف والخلف على أن «أهل القبلة كلهم موحدون» وما صدر من بعضهم «جهلًا أو تأويلًا، أو اجتهادًا، أو غيره، من عمل أو قول، وخصوصا من المتشابه، تعين أن يحمل على أشرف وأحب وجوهه، وإن كان احتمالا واحدا من تسعة وتسعين احتمالا، فليس من حق أحد أن يخرج أحدا من دين الله إلا أن يكون كفر كفرا «بواحا صراحا» لا يحتمل العذر أو التأويل.
وليس كذلك شأن واحد من الصوفية الأبرار.
ألا ترى كيف غضب رسول ع على ذلك الصحابي الذي قتل رجلا نطق بالشهادتين «تقاة» وهو ع يردد: «أقالها وقتلته؟؟!».
وكيف تبرّأ الرسول من عمل الصحابي الذي قتل من قالوا «صبأنا» يريدون «وحدنا» وخرجنا من الكفر إلى الإيمان([1])، وكيف لم يعترض رسول الله على سيدنا «سعد» عندما جعل عين الماء صدقة على أمه. وقال: «هذه لأم سعد». وكيف أنه ع عصم دماء «المنافقين» بنطق الشهادتين، وهو يعلم أشخاصهم وأسرارهم، وكيف أن الإسلام قرر دفع الحدود بالشبهات([2])، فـ «لأن يخطئ القاضي في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة». والمذاهب الإسلامية أولى بهذه القاعدة.
لهذا كله، كان: كل من نطق بالشهادتين موحدًا، معصوم الدم والمال، وإن جهل وإن عصى([3]).
وأخيرًا: هو من أهل الجنة بنص الأحاديث الثابتة في كل ما قدَّمناه.
أما إنه شيء يتصل بـ «لا إله إلا الله». فهل هناك شيء لا يتصل بها؟
كل شيء عرفه الناس أو يعرفونه، من كل أقوالهم، وأعمالهم، وأحوالهم، وأفكارهم، فهو متصل بـ «لا إله إلا الله» بوجه من الوجوه، وبحقيقة من حقائق الأزل والأبد.
ألم أقل لك: إنها السطحية، والغرور، وإنه التهويل، وإنه الخروج بالأشياء عن أسمائها وأحكامها، وإلباس المسميات غير أسمائها في سبيل تأييد المذهب، وتأكيد العنصرية التي يرفضها الدين والعلم، والخلق، في سبيل العمالة، وبيع الدين، والوطن جميعا.
***
السؤال الرابع
وهنا أذن مؤذن الوقت، فقال السائل الصحفي للشيخ:
بهذه المناسبة: ما رأيكم في الأذان الشرعي، والبدعي؟
فقال الشيخ: أرجو أن نتحدث في هذا بعد الصلاة.
ثم بعد أن ختمت الصلاة، قال الشيخ:
الجواب:
وهذه أيضا من المسائل البسيطة، والدقيقة في الوقت نفسه، لولا ما يثيرونه حولها فليس هناك أذان شرعي، وأذان بدعي، إنه الأذان الإسلامي، فلا يجوز أن يسمى مبتدعا من يذكر الناس بالشهادتين، ويدعوهم إلى الصلاة والفلاح، في الوقت الذي حددته الشريعة، وبالألفاظ الواردة، وإن التوى بها لسانه، أو تجاوز في أسلوب الأداء.
ولكن هناك أذان «منغَّم»، وأنا أميل إلى الأذان البسيط؛ لأنه أسلوب عملي، يستطيع أن يقوم به أكثر الناس بلا تكلف ولا صناعة ولا معاناة، ولكنني أنكر طريقة الأداء التي يتعمدها بعضهم في أداء هذا الأذان البسيط، فيخرج به عن سماحته وحسن هديه، حتى لكأنه في معركة ضارية مع الريح، هي إلى الإزعاج والتحدي والغل أقرب منها إلى الدعوة والتذكير، وليس هذا من أذان الإسلام في شيء على الإطلاق.
إن رسول الله ع أمر صاحب رؤيا الأذان، أن يعلمه بلالًا «لأنه أندى([4]) صوتا». وقد سمع عمر بن عبد العزيز رجلا يفزع الناس بالأذان فقال له: «أذِّن أذانا سمحا، وإلا فاعتزلنا». وقد كان الناس - لعهد النبوة - يضربون المثل بأداء الأذان الجميل من «أبي محذورة» أحد مؤذني رسول الله ع، حتى قال بعض شعرائهم:
بما تلَى من سوره
*
وبالأذان مِن أبي محذوره
لأفعلن فعلةً مشكوره
فقرن حسن تلاوة رسول الله للقرآن بحسن أداء أبي محذورة للأذان
بقي من سؤالك: هل الأذان «جزم» أو «إعراب» !؟
هذا وارد، وهذا وارد، وقد ذكرت الحديث الدال على الإعراب مسندًا مشروحًا في بعض ما كتبتُ قبلًا (بمجلة المسلم)، ثم اطلعت أخيرًا على بحث طيب للأستاذ «ناصر الدين الألباني» وهو من كبار (المتمسلفة) يقرر فيه صحة الأذان بالإعراب، مستدلًا بما استدللت به، مع زيادات أخرى.
والإعراب هنا: معناه، جمع التكبيرتين مع (رفع) أي ضم الراء في التكبيرة الأولى.
أما قولك: «بأي السورتين كان يؤذن لرسول الله؟» فذلك ما لا يجرؤ عالم يخشى الله أن يحدده على التعيين؛ فإنه لم يكن لعهد رسول الله «ريكردر» يسجل الصوت والأداء، فمتى تحقق في الأذان تصحيح الألفاظ، وحسن الإلقاء، فذلك هو المشروع، ولهذا اختلفت طريقة الأداء والأصوات في جميع بلاد المسلمين.
ولقد كنت في صباي أذهب أحيانًا – قبل أذان الوقت – مع بعض لداتي من الأزهر إلى مسجد المرحوم «الشيخ محمود خطاب السبكي» س، لأتمتع ومن معي بسماع الأذان من المرحوم «الشيخ سرحان» مؤذن المسجد وقتئذ، فقد كان يؤذن هذا الأذان البسيط بـ «حال» كما يقول الصوفية: فيتأثر به كل من سمعه، لدرجة البكاء في بعض الأحيان.
أما الأذان «المنغَّم» فلا يجوز إذا خرج بالكلمات عن أصولها المقررة في علمي اللغة والتجويد: «لا شك في ذلك» فهو لهذا مكروه، ولكنه لا يكون كبيرة موبقة، أو بدعة مهلكة.
***
السؤال الخامس
(س) بهذه المناسبة، لاحظت أن إمام الصلاة هنا، لا لحية له، وقد رأيت بعضهم لا يصلي خلف من لا لحية له، بل يريمه بالفسوق؟
الجواب:
لا يوجد مسلم واحد يقول بأن اللحية ليست سنّة، سواء أكان ملتحيا أم لا؛ فسنيتها ثابتة، لا يماري في ذلك أحد إطلاقًا، أما أن تاركها فاسق، فهذا الحكم هو: الفسوق عن العلم وعن السنة معًا وهذا ما حدا به إلى كثرة البيان في هذا الباب.
وفي كتاب (زاد المسلم) وشرحه (فتح المنعم)، ما يؤكد هذا المعنى، عند ذكر إعفاء اللحى وإحفاء الشوارب، وهل هو مما عمت به البلوى؟
إنك تستطيع أن تسمي تارك توفير اللحية «مخالفًا، أو مقصرًا، أو مهملًا، أو متهاونًا، أو حتى عاصيًا».أما أن تقارن بينه وبين مرتكب الكبائر الموبقة، فتسحب عليه حكم الفسق لعدم توفير اللحية، فهذا هو الغلو في الدين بغير حق، وبغير عقل أيضًا، وإلا فبماذا تصف القاتل، والزاني، والسارق، والمرابي، واللائط، وقاطع الطريق؟؟ ونحوهم من المسلمين؟؟
راجع إن شئت مبطلات الصلاة ومفسداتها، في كل مذهب إسلامي، فلن تجد من مبطلاتها، ترك توفير اللحية، فلماذا لا يصلي أحدهم وراء الحليق المتفقَّه، وبخاصة إذا اعترف بالتقصير، مقرًا بالسنية!؟ وحكم السنة: الأجر على العمل، والحرمان منه مع الترك، ولم يقل أحد بأن حكم السنة هو حكم الفرض أبدًا.
إن مما حفظناه عن شيوخنا، قولهم: «إن من السنة إيمانًا، ترك السنة أحيانًا؛ لئلا تأخذ حكم الفرض عيانا»!!.
يا ولدي: أركان الإسلام خمسة، وليس منها توفير اللحية، وأركان الإيمان، وأركان الإحسان (كما صح بها حديث جبريل) ليس منها توفير اللحية. وشروط صحة الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والطهارة، ليس منها اللحية، وكذلك مبطلات العبادات، كلها ليس منها ترك توفير اللحية، على جميع المذاهب، سلفًا وخلفًا، كتابًا وسنة، نصًا واجتهادا.
إذن فهي ليست سنة عبادة إنما هي سنة عادة، وكان العرب على اختلاف أديانهم، وعقائدهم، يطلقون لحاهم، ولا زال الأحبار والرهبان، في الشرائع السماوية والأرضية يطلقون لحاهم، فهي ليست من سنن الإسلام الخاصة به، أو التي يخالف بها سواه، فتكون فرقًا بين المسلم، وغير المسلم أو بين التقي والشقي.
ولا يزال من يسمونهم «الفنانون، والفلاسفة» في عصرنا «والخنافس، والهيبز، والمجاهرون بالفسق، والملحدون، والشيوعيون والرقاصون، والطبالون ومثلهم» يطلقون لحاهم.
فالتغالي بتسمية تاركها فاسقًا، قول بعيد عن الإنصاف العلمي والديني، وعن حب السنة، وعن حب رسول الله عليه السلام، وعن يسر الإسلام ورفقه.
***
السؤال السادس
(س) يظهر أن مفهوم إحفاء الشوارب يختلف من جمعية لأخرى، ومن رجل لآخر؛ فقد شاع في هذه الأيام استئصال الشوارب نهائيًا، مع توفير اللحى بكثافة؟
الجواب:
هذه ظاهرة عجيبة فعلا - فيما أعرف- فإن ألفاظ الأحاديث التي أحفظها في هذا الباب بين «قصوا، وأحفوا» وهما لا يؤديان معنى الحلق أو الإبادة، أو الاستئصال الذي نراه اليوم، فالإحفاء يفسره النص، والمراد به: تقصير الشارب، فقط لما في ذلك من منافع صحية وعملية، ولذا كان مما اختاروه جميعا: أن تظهر أطراف الشفة تحت الشارب أي أن يكون هناك شارب، ولكن لا يتدلى على الفم؛ لأن الشارب علامة كبرى من أهم علامات الرجولة: «والتنسيق بينه وبين اللحية يعطي المهابة، والرجولة، ولهذا شرطوا ارتباط سوالف الشارب باللحية.
يا ولدي: الإسلام: سَمْحٌ هين لين([5])، وهو في نفس الوقت قوي صامد شامخ، وفي الحديث:«إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِى الأَمْرِ كُلِّهِ»([6]) ويقول عليه السلام: «يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا»([7]) ويقول: «لَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا» انظر إلى قوله: «قاربوا» بل إلى قوله ع: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فأتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»([8]).فقد أذن لنا فيما أمر: أن نأتي منه ما استطعنا. وليس بعد هذا تيسير أو رفق وسماحة.
وفي حديث ابن عمر: كنا إذا بايعنا رسول الله ع على السمع والطاعة، قال: «فيما اسْتَطَعْتُمْ...»([9]) والله يقول: (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)[التغابن:16].
فأين هذا مما نرى الآن، وما نجد من عدوانية بغيضة باسم السنة، ومن ضغينة على الناس، وغرور، وحقد، وغل أسود وأحمر، وأزرق، باسمها، على حين يقول الله على لسان المؤمنين (وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا)[الحشر:10]. سماحة الإسلام، هي العلاج ولكن: كيف تكون علاجا، وقد جعلوا منها كآبة وتهجما، وغما، وأغلالا وسعيرا، وسجنا كبيرا، بما يلوون من عنقها، وما يعسرون من يسيرها، وما يفسدون من أحكام الفروض والنوافل والسنن، وما ينقلون من أحكام الأصول إلى الفروع، كأن من شرط إعفاء اللحية: بغض جميع الناس.
ولقد قرأت في الأعداد الأخيرة من مجلة (الدعوة) كلمة لأخينا في الله الشيخ محمد الغزالي السقا تهكما عنيفا على من يظنون أن حقيقة التدين في شعرات تعفى، وشعرات تحفى، واستشهد بقول المتنبي فيما هجا به كافورا ومن حوله:
أغايةُ الدين أن تحفوا شواربكم!؟
يا أمة ضحكت من جهلها الأمم!!
وقد رأينا بأعيننا المرحوم الأستاذ الشيخ محمود خطاب السبكي (مؤسس الجمعية الشرعية)، ورأينا المرحوم الشيخ حامد الفقي (مؤسس أنصار السنة)، ورأينا المرحوم الشيخ رشيد رضا، ورأينا المرحوم الشيخ محمد زاهد الكوثري، ورأينا المرحوم الشيخ مصطفى صبري (آخر مشايخ الإسلام في تركيا لعهد الخلافة)، ورأينا غير واحد من شيوخ الأزهر المرموقين، كالمرحوم الشيخ الخضر الحسين؛ والمراغي، وعشرات لا تحصى من كبار العلماء وأهل الفضل، ورأينا صور من لم ندرك من الأشياخ كالمرحوم الشيخ سليم البشري، ومن قبله الشيخ محمد عبده، فلم نلاحظ أن واحدا منهم استأصل شاربه وأباده نهائيا بهذه الطريقة الحديثة، والتي نقول: إن الجمهور يسميها (مسخا) للسنة والفطرة.
بل يظهر أيضا أن التجديد وصل إلى تصفيف اللحية، فرأينا منها الآن الشكل (العماني) والشكل (الإيراني) والشكل (الهندي) والشكل (البترولي) والشكل (الصيني، والروسي، والأوربي) مما خرج بالموضوع عن المعنى الديني نهائيا.
عودة إلى ظاهرة إبادة الشوارب
ورد بالغ الأهمية
انتشرت هذه الظاهرة انتشارا ملفتا للنظر، فترى الشاب أو الرجل يفتح الله عليه، ويوفقه فيوفر لحيته ويعفيها، ثم يذهب فيستأصل شاربه ويبيده فيبدو للناس خلقا آخر، إن لم يكن كريهًا فهو على الأقل: لافت للنظر.
وكنت أشرت إلى هذا في بعض إجاباتي على أسئلة بعض الصحفيين، وقررت أن الإبادة والاستئصال بهذه الطريقة نوع من (المسخ) الذي لا يتلائم مع تقاليد الإسلام وجماله (ودعوته إلى التوسط والتجمل والتنسيق) فجاءني كتاب من ولدي السيد: الدكتور «عز الدين طه الدالي» يطلب مزيد من التدليل أو الرجوع عن هذا الرأي.
فأقول: إنني لا أزال عند رأيي، وقد قال مالك والشافعي: (إحفاء الشارب مُثلةٌ) وعندهما أن المراد بالإحفاء أو الإنهاك في الحديث، هو أن يؤخذ من الشارب حتى يبدو طرف الشفة فلا يغطيها الشعر، وهذا هو القص، أي الأمر الوسط المفسر لواقع الحكم وحكمة التشريع.
والإسلام دين الوسطية بين الإفراط والتفريط.
وقال أشهب: سألت مالكا عمَّن يُحْفِي شاربه -يعني يستأصله- فقال: «أرى أن يوجع ضربا»، أي أن مالكا يرى هذا الفعل معصية تستوجب التعزير، فوق أنها عندها شنعة، ومسخ، وتشويه، وقبح لافت للنظر. «فصاحبه يبدو لا هو شيخ ولا هو صبي». وجاء عنهتأنه قال لمن يحلق شاربه: «هذه بدعة ظهرت في الناس». أي لمخالفتها للفطرة التي ميزت ظواهر الفرق بين الرجولة والأنوثة، دون تشويه، ولا مثلة، ولا شنعة ولا مسخ، ولا لفت نظر، والله تعالى سوى الإنسان وعدله وخلقه في أحسن تقويم.
وأخرج أحمد، والترمذي، والنسائي، وصححه- قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ شاربه فَلَيْسَ مِنَّا». فهو صريح في أن المراد بالقص والإحفاء، والإنهاك، مجرد الأخذ من الشارب، أي تخفيف كثافة شعره، وهو الكم المشترك بين جميع الأحاديث الواردة في هذا الباب، وهو المناسب للذوق والانسجام.
ويظهر أنها عادة انفرد بها بعض أهل مصر من قديم وقد لامهم المتنبي في ميمته المشهورة التي وجهها إلى «كافور الأخشيد» يقول:
أغاية الدين أن تحفوا شورابكم
*
يا أمة ضحكت من جهلها الأمم
ولذلك قال محدث الصعيد الإمام ابن دقيق العيد: «لا أعلم أحدًا قال بقص الشارب من حيث هو» أي إبادته واستئصاله، فيكون أشبه شيء بالمسخ والمثلة!
والسادة الإمامية يمنعون ذلك منعًا باتًا.
وقد روى عامر بن الزبير، أن أمير المؤمنين عمر، كان إذا غضب فتل شاربه ونفخ، يعني فتل السبالين وهما طرفا الشارب ولا يتأتى ذلك مع استئصال الشارب وإبادته واستهلاكه، ومسخ صورة صاحبه وليس أحد أعرف بالسنة من الخلفاء الراشدين، فظهر أن استهلاك الشارب وإبادته مع إعفاء اللحية، إنما هو نوع من التبدع والغلواء في الدين بغير حق ولا برهان صحيح.
غفر الله لنا جميعا، وهدانا إلى ما يحب ويرضى، وهو الموفق والمستعان.
***
السؤال السابع
(س) ألا ترى أن في ترك أو إهمال توفير اللحى تعطيلا لبعض السنن!؟
الجواب: نعم، ولا أقول أبدا بالترك، ولكنها ليست من السنن الأصول - كما أسلفت- أعني السنن التي ترتبط بالعقيدة أو العبادة، فكم من سنن أخرى معطلة، لا يجرؤ على العمل بها أحد من هؤلاء، فمثلا كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم (قدح) يضعه تحت سريره ليتبول فيه وفي بعض كتب الشمائل: كانت له صلى الله عليه وسلم غدائر يعني ضفائر) !. وكان صلى الله عليه وسلم إذا أكل لعق أصابعه، أو ألعقها غيره.
وكان صلى الله عليه وسلم يكتحل بالإثمد، ويحث عليه.
وكان يضطجع في الفجر بين السنة والفريضة.
وكان، وكان – كما هو ثابت في كتب الشمائل والخصائص وهي سنن معطلة لا يعمل بها منهم أحد.
والملاحظ أن إخواننا هؤلاء، ما شاءوا فعلوا، وما شاءوا تركوا، فما اختلط فعله: جعلوه من سنن العبادة، وإن لم يكن منها.
وما اختاروا تركه، جعلوه من سنن العادة، وإن لم يكن منها، حتى اختلط الأمر على العامة، فلا يميزون بين ما هو دين، وما هو دنيا، وما هو من سنن العادة، أو سنن العبادة.
ومثل هذا بالضبط: ما يجري في أمور البدع، فما شاءوا منها حرموا، وما شاءوا منها أحلوا، وليس لهم في هذا قانون مطرد، إنما هو حب المخالفة، والتنافس في الغلو والتطرف، والتفاني في إكراه الناس على الاقتداء بهم في محاولات الشذوذ والتفرد باسم السنة.
فإذا ضربت مثلا في البدع في جمع القرآن، ثم بإدراجه بين دفتين، ثم بنقط حروفه، ثم بتشكيل كلماته، ثم بترقيمه، ثم ببيان مدنيه ومكيه، مع أسماء سوره، ثم بتقسيمه إلى أجزاء وأحزب وأرباع، ثم بالإشارة إلى أنواع وقوفه، وإلى مكان سجود التلاوة منه، إلى آخر هذه المبتدعات الإيجابية الأصيلة في صميم كتاب الله، وهو أصل الإسلام ودستوره الخالد ثم إذا ذكرت: كيف تحرَّج أبو بكر من مجرد جمع القرآن، وعدَّه بدعة ثم أجازه بعد إلحاح عمرا.
لو عرضت هذا التاريخ في مواطن الكلام على البدع لذهبوا بك المذاهب، وربما عدوه من «المصالح المرسلة»، ومن ذا الذي «ابتدع» لفظ المصالح المرسلة؟ ومن ذا الذي وضع قوانينها؟ إنهم الناس، فكيف يدافع عن البدعة بالبدعة!؟
وهذا هو «الميكروفون» أدخل على الصلوات كلها، وعلى خطب الجمعة، ودروس الوعظ، وتلاوة القرآن إلخ، فكيف جاز هذا، وهو بدعة؟
فالأمر عميق فسيح متشعَّب! نسأل الله السلامة، ولا علاج إلا بسماحة الإسلام ويسره ورفقه والتنزه من وباء دعوى احتكار الصواب، وقذف جمهور المسلمين المخلصين بالجهل والخروج من دين اللّه.
***
السؤال الثامن
(س) لي سؤال فقهي أخير، وهو: أنني أرى في مسجدكم هذا محرابا ويقولون: إن المحاريب محرمة في الإسلام، فما رأيكم؟
الجواب: قبل الرد على هذا السؤال أحب أن أصحح خطأ شائعا، انبنى عليه خطأ آخر؛ فالخطـأ لا يُنْتِج إلا خطأ، وأخيرا لا يصح إلا الصحيح.
فليس ما ترى في مسجدنا، ولا في مساجد المسلمين كلها ما هو «المحراب» على صورته عند أهل الكتاب، إن ما ترى إنما هو علامة اتجاه القبلة، وهو ما تنطبق عليه قوانين «المصالح المرسلة» إن لم نقل أن لها أصلا من عمل رسول الله، بما كان يدل به على القبلة من العصا يغرسها أو الجذع الذي كان يخطب عليه. إلخ.
فليس هو محرابا أبدا، ويجب أن نسمي الأشياء بأسمائها، حتى لا نضل الصواب والثواب.
هذا أولا، أما ثانيًا: فلن أتعرض لمدى صحة أحاديث النهي عن المحاريب، أفرد لها السيوطي جزءا، ورد عليه علماء من آخرهم الشيخ الصديق الغماري ردا علميًا محكمًا.
لكنني سأفترض صحة الحديث جدلا، وأعود بك إلى نصوص القرآن المجيد لنرى، إن كان ما تراه في مساجدنا محرابا فعليا، ينطبق عليه النهي – على فرض صحة الأحاديث وعدم تأويلها – بعيدًا عن خلاف الفقهاء فيه.
المحراب في القرآن، وعند أهل الكتاب، شيء يدخل الناس فيه، فيؤويهم ويرد العيون عنهم، وفيه يتعبدون، وهو يتسع لأكثر من شخص، مع حاجياته، وهو يستر من فيه عن أعين الناس، وهو شيء يخرج الإنسان من داخله ليتحدث إلى الناس في خارجه، وهو شيء مسور مرتفع إلخ، كما ستوضحه النصوص القرآنية المحكمة فيما يأتي: فالله تعالى يقول عن مريم: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾ [آل عمران: 37] فالمحراب هنا شيء يدخل الناس فيه، ليصلوا أو يتصلوا بمن فيه وما فيه.
والله تعالى يقول عن زكريا: ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ المِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ﴾ [مريم:11] «فالمحراب هنا شيء يخرج من في داخله إلى من هم في خارجه ليتحدث إليهم».
ويقول الله تعالى: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا المِحْرَابَ﴾[ص:21]. فهو شيء مرتفع الجدران «يقفز» الناس من فوق سوره ليصلوا إلى داخله، ومن هنا كان فزع داود، عندما لم يدخلوا عليه المحراب من بابه، كما في سورة «ص».
ويقول الله تعالى عن زكريا أيضا: ﴿فَنَادَتْهُ المَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المِحْرَابِ﴾[آل عمران:29]. فهو شيء يقوم القائم في داخله للصلاة والتعبد.
فهل هذه الصورة القرآنية المفصلة للمحراب، تتحقق بأي شكل في«القبلة» التي اتخذها المسلمون للدلالة على اتجاه الكعبة الشريفة، مما يستفيد منه الخاص والعام؟ فهو من المصالح الضرورية التي لا ترفضها قواعد الإسلام العامة، وحسبك هذا في الرد على هذه «الجزئية» التي جعلوها «كلةً» وأطلقوا الاسم على غير مسماه، ولا ضرر فيها ولا ضرار.
على أن بعض الأئمة – كابن الهمام – يرى أنه كان لمسجد الرسول صلى الله عليه وسلم في عهد رسول صلى الله عليه وسلم محراب: أخذًا من حديث (وائل بن حجر – بضم الحاء وسكون الجيم – عند البيهقي، وفيه: «فدَخَلَ الْمِحْرَابَ» قالوا: وهو أحق بالتعويل من حديث عبد المهيمن بن عباس الذي ينفي وجود المحراب في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، مع أنه هو نفسه -روى عند الطبراني- من حديث سهل بن سعد ت، وفيه «فلما بني له محراب: تقدم إليه». فلعله أراد بحديث النفي، كونها على خصوص صورة محاريب أهل الكتاب.
وبيان هذا البحث يرجع فيه إلى تعليق الشيخ الغماري على رسالة السيوطي، وإلى كتاب الشيخ عمر بن عبد الوهاب الجندي، وإلى كلمة الشيخ الكوثري، فهي نص في هذا الموضوع وإن كان ما قلته فيه الكفاية.
أما أنها نوع من التشييد والزخرفة، فقد جدد عثمان ا مسجد رسول الله وبناه «بالحجر الملون» وسقفه «بخشب الساج»، وجاء عمر بن عبد العزيز – على علمه وتقواه وورعه – فزاد في المسجد وجدده وزينه بالرخام والفسيفساء (عام87هـ) والتابعون موجودون، بل وبعض الصحابة، مما جعل لهذا الموضوع مفهوما إسلاميا عمليا، لا يختلف عليه عاقل؛ فالممنوع من الزخرفة هو: ما يشغل الإنسان، ويلهيه عن صلاته، وهذا يختلف باختلاف الأعصار والأمصار، وحضارة المجتمع.
فهل رأيت كيف أنَّ أكثر ما يُثار من هذه الجوانب، زوبعة في فنجان، بل في «كستبان»، وأنه نفخ في الرماد، لا يعقب إلا التشويه.. والعمى، والتيه، والضياع.
وإخواننا هؤلاء، يظنون أنهم وحدهم أهل العلم، وأهل الجنة، وأن الله أعطاهم حق التصرف فيها، والوصاية عليها من دون البشر، ومن لم يكن منهم من المسلمين: فالنار مأواه، مع المجوس والصابئة ولا قوة إلا بالله.
صلى الله عليه وسلم، والقرآن ينزل فيهم، وهم (المنافقون)، فهل معنى هذا أن جميع الصحابة كانوا منحرفين، لوجود المنحرفين فيهم؟
إن المنحرفين موجودون (وسيظلون) في كل طائفة إلى يوم القيامة، وهذه طبيعة التجمعات البشرية، ومنها تجمعات المتمسلفة: مَن سبق، ومَن لحق.
***
أمس في 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
أمس في 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
أمس في 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
أمس في 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
أمس في 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
أمس في 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin