مع الحبيب المصطفى: «وَلاَ شَيءٌ مِنْ مَالِهِ إِلاَّ بِطِيبَةِ نَفْسِهِ»
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
171ـ وقفة مع خطبة حجة الوداع (10)
«وَلاَ شَيءٌ مِنْ مَالِهِ إِلاَّ بِطِيبَةِ نَفْسِهِ»
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: لقد رَبَّى سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَصحَابَهُ الكِرَامَ على مَعرِفَةِ قَدْرِ نِعمَةِ المَالِ، إنْ حَصَّلُوهَا من طَرِيقٍ مُبَاحٍ، وَصَرَفُوهَا في طَرِيقٍ نَافِعٍ، كَمَا حَضَّهُم على سُلُوكِ الوَرَعِ في تَحصِيلِهَا، وعلى سَبِيلِ الجُودِ والكَرَمِ في تَصرِيفِهَا.
هذا سَيِّدُنَا أَبُو بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ كَانَ لَهُ غُلَامٌ يُخْرِجُ لَهُ الْخَرَاجَ، وَكَانَ يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ، فَجَاءَ يَوْماً بِشَيْءٍ فَأَكَلَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ.
فَقَالَ لَهُ الْغُلَامُ: أَتَدْرِي مَا هَذَا؟
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا هُوَ؟
قَالَ: كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لِإِنْسَانٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَا أُحْسِنُ الْكِهَانَةَ، إِلَّا أَنِّي خَدَعْتُهُ، فَلَقِيَنِي فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ هَذَا الَّذِي أَكَلْتَ مِنْهُ.
فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهِ. رواه الإمام البخاري عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنها.
وهذا سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ شَرِبَ لَبَنَاً فَأَعجَبَهُ، فَسَأَلَ الذي سَقَاهُ: من أَينَ هذا اللَّبَنُ؟
فَأَخبَرَهُ أَنَّهُ قَد وَرَدَ على مَاءٍ، فإذا نَعَمٌ من نَعَمِ الصَّدَقَةِ، وهُم يَسقُونَ، فَحَلَبُوا من أَلبَانِهَا، فَجَعَلتُهُ في سِقَائِي، فَهُوَ هذا اللَّبَنُ.
فَأَدخَلَ عُمَرُ يَدَهُ، فَاستَقَاءَ. أَخرَجَهُ في المُوَطَّأُ عن زَيدِ بنِ أَسلَمَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.
أيُّها الإخوة الكرام: كَيفَ لا يَكُونُ هذا حَالَهُم، وقد رَبَّاهُم سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ على الوَرَعِ في الأُمُورِ المَالِيَّةِ، وَخَتَمَ تَربِيَتَهُم على ذلكَ في حَجَّةِ الوَدَاعِ، حَيثُ وَقَفَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في الجُمُوعِ الغَفِيرَةِ، يُوصِيهِم وَصِيَّةَ مُوَدِّعٍ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَلاَ وَإِنَّ الْمُسْلِمَ أَخُو الْمُسْلِمِ، لاَ يَحِلُّ لَهُ دَمُهُ، وَلاَ شَيءٌ مِنْ مَالِهِ إِلاَّ بِطِيبَةِ نَفْسِهِ، أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ».
قَالُوا: نَعَمْ.
قَالَ: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ» رواه الدَّارقطني عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما.
أيُّها الإخوة الكرام: كَم هوَ الفَارِقُ بَينَ قَومٍ يُخرِجُونَ الحَرَامَ من بُطُونِهِم إذا دَخَلَ خَطَأً، وبَينَ قَومٍ يَعرِفُونَ الحَرَامَ حَرَامَاً ويَجتَرِئُونَ على أَخْذِهِ وأَكْلِهِ جِهَارَاً نَهَارَاً، ورُبَّمَا أن يَكُونَ ذلكَ باسمِ الإسلامِ؟
﴿لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾:
أيُّها الإخوة الكرام: يُخَاطِبُ اللهُ تعالى عِبَادَهُ المُؤمِنِينَ بِقَولِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً﴾.
لقد حَثَّنَا الشَّرعُ الحَنِيفُ على مَكَارِمِ الأَخلاقِ، وجَعَلَهَا آيَةً على حُسْنِ الإيمَانِ، ودَلِيلاً على رُسُوخِ اليَقِينِ في القَلبِ، وكُلَّمَا تَعَلَّقَت مَكَارِمُ الأًَخلاقِ بالمُعَامَلَةِ مَعَ النَّاسِ، كُلَّمَا كَانَ الشَّرعُ أَشَدَّ حِرصَاً عَلَيهَا وتَأكِيدَاً وحَضَّاً.
روى الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْروٍ رَضِيَ اللهُ عَنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَرْبَعٌ إِذَا كُنَّ فِيكَ فَلَا عَلَيْكَ مَا فَاتَكَ مِن الدُّنْيَا، حِفْظُ أَمَانَةٍ، وَصِدْقُ حَدِيثٍ، وَحُسْنُ خَلِيقَةٍ، وَعِفَّةٌ فِي طُهْرٍ».
أيُّها الإخوة الكرام: من أَهَمِّ أَسبَابِ الوِقَايَةِ من نَارِ جَهَنَّمَ وعَذَابِهَا، أن يَحفَظَ الإنسَانُ نَفْسَهُ من جَمِيعِ المُحَرَّمَاتِ والمُتشَابِهَاتِ، وهذا ما أَوصَى بِهِ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الأُمَّةَ، روى الإمام أحمد عن كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ أُعِيذُكَ باللهِ مِنْ إِمَارَةِ السُّفَهَاءِ.
قَالَ: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: أُمَرَاءٌ سَيَكُونُونَ مِنْ بَعْدِي، مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ فَصَدَّقَهُمْ بِحَدِيثِهِمْ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَلَيْسُوا مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَرِدُوا عَلَيَّ الْحَوْضَ، وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِحَدِيثِهِمْ، وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَأُولَئِكَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ، وَأُولَئِكَ يَرِدُونَ عَلَيَّ الْحَوْضَ، يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ، الصَّلَاةُ قُرْبَانٌ، وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ، لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ نَبَتَ لَحْمُهُ مِنْ سُحْتٍ ،النَّارُ أَوْلَى بِهِ، يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ، النَّاسُ غَادِيَانِ، فَغَادٍ بَائِعٌ نَفْسَهُ، وَمُوبِقٌ رَقَبَتَهُ، وَغَادٍ مُبْتَاعٌ نَفْسَهُ، وَمُعْتِقٌ رَقَبَتَهُ».
أيُّها الإخوة الكرام: إذا كُنَّا بِحَقِّ نُرِيدُ اتِّبَاعَ سَلَفِ هذهِ الأُمَّةِ فَعَلَينَا بِضَبْطِ أَنفُسِنَا في أَموَالِ النَّاسِ بِضَوَابِطِ الشَّرِيعَةِ، ولا يَغتَرَّ أَحَدُنَا بِصَلاتِهِ وصِيَامِهِ وعِبَادَتِهِ وذِكْرِهِ وأَمْرِهِ بالمَعرُوفِ، إذا لم يَضْبِطْ نَفْسَهُ في تَعَامُلاتِهِ المَالِيَّةِ، هكذا فَهِمَ الصَّالِحُونَ الأَوَّلُونَ، فَقَالَ بَعضُهُم: لو قُمتَ قِيَامَ السَّارِيَةِ ما نَفَعَكَ، حَتَّى تَنظُرَ مَا يَدخُلُ في بَطنِكَ.
«لَا يُبَالِي الْمَرْءُ بِمَا أَخَذَ الْمَالَ»:
أيُّها الإخوة الكرام: عِندَمَا ضَعُفَ اليَقِينُ، وقَلَّتِ المُرَاقَبَةُ للهِ عزَّ وجلَّ، اِجتَرَأَ الكَثِيرُ من النَّاسِ على الحَرَامِ، فَضْلاً عن الشُّبُهَاتِ، وهذا مِصْدَاقُ ما أَخبَرَ بِهِ الصَّادِقُ الأَمِينُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، روى الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يُبَالِي الْمَرْءُ بِمَا أَخَذَ الْمَالَ، أَمِنْ حَلَالٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ؟».
أيُّها الإخوة الكرام: لِيَسْمَعْ كُلُّ من يَأكُلُ الحَرَامَ بِدُونِ مُبَالاةٍ، وكُلُّ من يَأكُلُ أَموَالَ النَّاسِ بالبَاطِلِ، بِأَيِّ صُورَةٍ من الصُّوَرِ، وبِأَيِّ ذَرِيعَةٍ من الذَّرَائِعِ، وبِأَيِّ تُهمَةٍ من التُّهَمِ، إلى حَدِيثِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ، فَذَكَرَ الْغُلُولَ، فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ، ثُمَّ قَالَ: لَا أُلْفِيَنَّ ـ أي: لا أَجِدُ ـ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ ـ صَوْتُ الْبَعِيرِ ـ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَغِثْنِي.
فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئاً، قَدْ أَبْلَغْتُكَ.
لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ ـ صَوْتُ الفَرَسِ عِندَ العَلفِ، وهوَ دُونَ الصَّهِيلِ ـ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَغِثْنِي.
فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئاً، قَدْ أَبْلَغْتُكَ.
لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ ـ صِيَاحُ الغَنَمِ ـ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَغِثْنِي.
فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئاً، قَدْ أَبْلَغْتُكَ.
لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ نَفْسٌ لَهَا صِيَاحٌ ـ مَا يُغَلُّ من الرَّقِيقِ من امرَأَةٍ أو صَبِيٍّ ـ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَغِثْنِي.
فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئاً، قَدْ أَبْلَغْتُكَ.
لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ ـ مَا يُغَلُّ من الثِّيَابِ ـ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَغِثْنِي.
فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئاً، قَدْ أَبْلَغْتُكَ.
لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ ـ أي: الذَّهَبُ والفِضَّةُ ـ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَغِثْنِي.
فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئاً، قَدْ أَبْلَغْتُكَ».
خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: المَالُ الحَرَامُ مَا دَخَلَ قَلبَاً إلا أَظلَمَهُ، ولا خَالَطَ عَمَلاً إلا أَفسَدَهُ، ولا نِظَامَاً إلا خَرَّبَهُ، ومَا فَشَا في قَومٍ إلا أَحَلَّ الغِشَّ مَحَلَّ النُّصْحِ، والخِيَانَةَ مَكَانَ الأَمَانَةِ، والظُّلمَ مَكَانَ العَدْلِ، فهوَ يَهدُرُ الحُقُوقَ، ويُعَطِّلُ المَصَالِحَ، ويُجَرِّئُ الظَّالِمِينَ والمُفسِدِينَ.
أيُّها الإخوة الكرام: حُقُوقُ اللهِ تعالى مَبنِيَّةٌ على التَّيسِيرِ والمُسَامَحَةِ، أمَّا حُقُوقُ العِبَادِ فَمَبنِيَّةٌ على التَّضيِيقِ والمُشَاحَّةِ، لذلكَ نَبَّهَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ على تَعظِيمِ حُقُوقِ العِبَادِ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهُ لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ» رواه الإمام أحمد عَنْ أَبِي حُرَّةَ الرَّقَاشِيِّ عَنْ عَمِّهِ.
وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في حَجَّةِ الوَدَاعِ: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَإِنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أَنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ مِنْهُ» رواه الشيخان عن أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.
وقَالَ كذلكَ في حَجَّةِ الوَدَاعِ: «أَلاَ وَإِنَّ الْمُسْلِمَ أَخُو الْمُسْلِمِ، لاَ يَحِلُّ لَهُ دَمُهُ، وَلاَ شَيءٌ مِنْ مَالِهِ إِلاَّ بِطِيبَةِ نَفْسِهِ، أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ».
قَالُوا: نَعَمْ.
قَالَ: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ».
أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ الذينَ يَأكُلُونَ الحَرَامَ، ويَشرَبُونَ الحَرَامَ، يَجِبُ عَلَيهِم أن يَذْكُرُوا طَعَامَ وشَرَابَ أَهلِ النَّارِ، قال تعالى: ﴿لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ﴾. وقال تعالى: ﴿فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ﴾. والغِسْلِينُ هوَ عُصَارَةُ أَهلِ النَّارِ من الدَّمِ والقَيْحِ والصَّدِيدِ. وقال تعالى: ﴿وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ﴾. وقال تعالى: ﴿وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً﴾. وقال تعالى: ﴿وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ﴾.
اللَّهُمَّ أَغنِنَا بِحَلالِكَ عن حَرَامِكَ، وبِطَاعَتِكَ عن مَعصِيَتِكَ، وبِفَضْلِكَ عَمَّن سِوَاكَ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
171ـ وقفة مع خطبة حجة الوداع (10)
«وَلاَ شَيءٌ مِنْ مَالِهِ إِلاَّ بِطِيبَةِ نَفْسِهِ»
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: لقد رَبَّى سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَصحَابَهُ الكِرَامَ على مَعرِفَةِ قَدْرِ نِعمَةِ المَالِ، إنْ حَصَّلُوهَا من طَرِيقٍ مُبَاحٍ، وَصَرَفُوهَا في طَرِيقٍ نَافِعٍ، كَمَا حَضَّهُم على سُلُوكِ الوَرَعِ في تَحصِيلِهَا، وعلى سَبِيلِ الجُودِ والكَرَمِ في تَصرِيفِهَا.
هذا سَيِّدُنَا أَبُو بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ كَانَ لَهُ غُلَامٌ يُخْرِجُ لَهُ الْخَرَاجَ، وَكَانَ يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ، فَجَاءَ يَوْماً بِشَيْءٍ فَأَكَلَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ.
فَقَالَ لَهُ الْغُلَامُ: أَتَدْرِي مَا هَذَا؟
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا هُوَ؟
قَالَ: كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لِإِنْسَانٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَا أُحْسِنُ الْكِهَانَةَ، إِلَّا أَنِّي خَدَعْتُهُ، فَلَقِيَنِي فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ هَذَا الَّذِي أَكَلْتَ مِنْهُ.
فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهِ. رواه الإمام البخاري عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنها.
وهذا سَيِّدُنَا عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ شَرِبَ لَبَنَاً فَأَعجَبَهُ، فَسَأَلَ الذي سَقَاهُ: من أَينَ هذا اللَّبَنُ؟
فَأَخبَرَهُ أَنَّهُ قَد وَرَدَ على مَاءٍ، فإذا نَعَمٌ من نَعَمِ الصَّدَقَةِ، وهُم يَسقُونَ، فَحَلَبُوا من أَلبَانِهَا، فَجَعَلتُهُ في سِقَائِي، فَهُوَ هذا اللَّبَنُ.
فَأَدخَلَ عُمَرُ يَدَهُ، فَاستَقَاءَ. أَخرَجَهُ في المُوَطَّأُ عن زَيدِ بنِ أَسلَمَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.
أيُّها الإخوة الكرام: كَيفَ لا يَكُونُ هذا حَالَهُم، وقد رَبَّاهُم سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ على الوَرَعِ في الأُمُورِ المَالِيَّةِ، وَخَتَمَ تَربِيَتَهُم على ذلكَ في حَجَّةِ الوَدَاعِ، حَيثُ وَقَفَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في الجُمُوعِ الغَفِيرَةِ، يُوصِيهِم وَصِيَّةَ مُوَدِّعٍ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَلاَ وَإِنَّ الْمُسْلِمَ أَخُو الْمُسْلِمِ، لاَ يَحِلُّ لَهُ دَمُهُ، وَلاَ شَيءٌ مِنْ مَالِهِ إِلاَّ بِطِيبَةِ نَفْسِهِ، أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ».
قَالُوا: نَعَمْ.
قَالَ: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ» رواه الدَّارقطني عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما.
أيُّها الإخوة الكرام: كَم هوَ الفَارِقُ بَينَ قَومٍ يُخرِجُونَ الحَرَامَ من بُطُونِهِم إذا دَخَلَ خَطَأً، وبَينَ قَومٍ يَعرِفُونَ الحَرَامَ حَرَامَاً ويَجتَرِئُونَ على أَخْذِهِ وأَكْلِهِ جِهَارَاً نَهَارَاً، ورُبَّمَا أن يَكُونَ ذلكَ باسمِ الإسلامِ؟
﴿لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾:
أيُّها الإخوة الكرام: يُخَاطِبُ اللهُ تعالى عِبَادَهُ المُؤمِنِينَ بِقَولِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً﴾.
لقد حَثَّنَا الشَّرعُ الحَنِيفُ على مَكَارِمِ الأَخلاقِ، وجَعَلَهَا آيَةً على حُسْنِ الإيمَانِ، ودَلِيلاً على رُسُوخِ اليَقِينِ في القَلبِ، وكُلَّمَا تَعَلَّقَت مَكَارِمُ الأًَخلاقِ بالمُعَامَلَةِ مَعَ النَّاسِ، كُلَّمَا كَانَ الشَّرعُ أَشَدَّ حِرصَاً عَلَيهَا وتَأكِيدَاً وحَضَّاً.
روى الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْروٍ رَضِيَ اللهُ عَنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَرْبَعٌ إِذَا كُنَّ فِيكَ فَلَا عَلَيْكَ مَا فَاتَكَ مِن الدُّنْيَا، حِفْظُ أَمَانَةٍ، وَصِدْقُ حَدِيثٍ، وَحُسْنُ خَلِيقَةٍ، وَعِفَّةٌ فِي طُهْرٍ».
أيُّها الإخوة الكرام: من أَهَمِّ أَسبَابِ الوِقَايَةِ من نَارِ جَهَنَّمَ وعَذَابِهَا، أن يَحفَظَ الإنسَانُ نَفْسَهُ من جَمِيعِ المُحَرَّمَاتِ والمُتشَابِهَاتِ، وهذا ما أَوصَى بِهِ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الأُمَّةَ، روى الإمام أحمد عن كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ أُعِيذُكَ باللهِ مِنْ إِمَارَةِ السُّفَهَاءِ.
قَالَ: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: أُمَرَاءٌ سَيَكُونُونَ مِنْ بَعْدِي، مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ فَصَدَّقَهُمْ بِحَدِيثِهِمْ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَلَيْسُوا مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَرِدُوا عَلَيَّ الْحَوْضَ، وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِحَدِيثِهِمْ، وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَأُولَئِكَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ، وَأُولَئِكَ يَرِدُونَ عَلَيَّ الْحَوْضَ، يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ، الصَّلَاةُ قُرْبَانٌ، وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ، لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ نَبَتَ لَحْمُهُ مِنْ سُحْتٍ ،النَّارُ أَوْلَى بِهِ، يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ، النَّاسُ غَادِيَانِ، فَغَادٍ بَائِعٌ نَفْسَهُ، وَمُوبِقٌ رَقَبَتَهُ، وَغَادٍ مُبْتَاعٌ نَفْسَهُ، وَمُعْتِقٌ رَقَبَتَهُ».
أيُّها الإخوة الكرام: إذا كُنَّا بِحَقِّ نُرِيدُ اتِّبَاعَ سَلَفِ هذهِ الأُمَّةِ فَعَلَينَا بِضَبْطِ أَنفُسِنَا في أَموَالِ النَّاسِ بِضَوَابِطِ الشَّرِيعَةِ، ولا يَغتَرَّ أَحَدُنَا بِصَلاتِهِ وصِيَامِهِ وعِبَادَتِهِ وذِكْرِهِ وأَمْرِهِ بالمَعرُوفِ، إذا لم يَضْبِطْ نَفْسَهُ في تَعَامُلاتِهِ المَالِيَّةِ، هكذا فَهِمَ الصَّالِحُونَ الأَوَّلُونَ، فَقَالَ بَعضُهُم: لو قُمتَ قِيَامَ السَّارِيَةِ ما نَفَعَكَ، حَتَّى تَنظُرَ مَا يَدخُلُ في بَطنِكَ.
«لَا يُبَالِي الْمَرْءُ بِمَا أَخَذَ الْمَالَ»:
أيُّها الإخوة الكرام: عِندَمَا ضَعُفَ اليَقِينُ، وقَلَّتِ المُرَاقَبَةُ للهِ عزَّ وجلَّ، اِجتَرَأَ الكَثِيرُ من النَّاسِ على الحَرَامِ، فَضْلاً عن الشُّبُهَاتِ، وهذا مِصْدَاقُ ما أَخبَرَ بِهِ الصَّادِقُ الأَمِينُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، روى الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يُبَالِي الْمَرْءُ بِمَا أَخَذَ الْمَالَ، أَمِنْ حَلَالٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ؟».
أيُّها الإخوة الكرام: لِيَسْمَعْ كُلُّ من يَأكُلُ الحَرَامَ بِدُونِ مُبَالاةٍ، وكُلُّ من يَأكُلُ أَموَالَ النَّاسِ بالبَاطِلِ، بِأَيِّ صُورَةٍ من الصُّوَرِ، وبِأَيِّ ذَرِيعَةٍ من الذَّرَائِعِ، وبِأَيِّ تُهمَةٍ من التُّهَمِ، إلى حَدِيثِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ، فَذَكَرَ الْغُلُولَ، فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ، ثُمَّ قَالَ: لَا أُلْفِيَنَّ ـ أي: لا أَجِدُ ـ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ ـ صَوْتُ الْبَعِيرِ ـ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَغِثْنِي.
فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئاً، قَدْ أَبْلَغْتُكَ.
لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ ـ صَوْتُ الفَرَسِ عِندَ العَلفِ، وهوَ دُونَ الصَّهِيلِ ـ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَغِثْنِي.
فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئاً، قَدْ أَبْلَغْتُكَ.
لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ ـ صِيَاحُ الغَنَمِ ـ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَغِثْنِي.
فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئاً، قَدْ أَبْلَغْتُكَ.
لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ نَفْسٌ لَهَا صِيَاحٌ ـ مَا يُغَلُّ من الرَّقِيقِ من امرَأَةٍ أو صَبِيٍّ ـ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَغِثْنِي.
فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئاً، قَدْ أَبْلَغْتُكَ.
لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ ـ مَا يُغَلُّ من الثِّيَابِ ـ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَغِثْنِي.
فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئاً، قَدْ أَبْلَغْتُكَ.
لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ ـ أي: الذَّهَبُ والفِضَّةُ ـ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَغِثْنِي.
فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئاً، قَدْ أَبْلَغْتُكَ».
خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: المَالُ الحَرَامُ مَا دَخَلَ قَلبَاً إلا أَظلَمَهُ، ولا خَالَطَ عَمَلاً إلا أَفسَدَهُ، ولا نِظَامَاً إلا خَرَّبَهُ، ومَا فَشَا في قَومٍ إلا أَحَلَّ الغِشَّ مَحَلَّ النُّصْحِ، والخِيَانَةَ مَكَانَ الأَمَانَةِ، والظُّلمَ مَكَانَ العَدْلِ، فهوَ يَهدُرُ الحُقُوقَ، ويُعَطِّلُ المَصَالِحَ، ويُجَرِّئُ الظَّالِمِينَ والمُفسِدِينَ.
أيُّها الإخوة الكرام: حُقُوقُ اللهِ تعالى مَبنِيَّةٌ على التَّيسِيرِ والمُسَامَحَةِ، أمَّا حُقُوقُ العِبَادِ فَمَبنِيَّةٌ على التَّضيِيقِ والمُشَاحَّةِ، لذلكَ نَبَّهَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ على تَعظِيمِ حُقُوقِ العِبَادِ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهُ لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ» رواه الإمام أحمد عَنْ أَبِي حُرَّةَ الرَّقَاشِيِّ عَنْ عَمِّهِ.
وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في حَجَّةِ الوَدَاعِ: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَإِنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أَنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ مِنْهُ» رواه الشيخان عن أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.
وقَالَ كذلكَ في حَجَّةِ الوَدَاعِ: «أَلاَ وَإِنَّ الْمُسْلِمَ أَخُو الْمُسْلِمِ، لاَ يَحِلُّ لَهُ دَمُهُ، وَلاَ شَيءٌ مِنْ مَالِهِ إِلاَّ بِطِيبَةِ نَفْسِهِ، أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ».
قَالُوا: نَعَمْ.
قَالَ: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ».
أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ الذينَ يَأكُلُونَ الحَرَامَ، ويَشرَبُونَ الحَرَامَ، يَجِبُ عَلَيهِم أن يَذْكُرُوا طَعَامَ وشَرَابَ أَهلِ النَّارِ، قال تعالى: ﴿لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ﴾. وقال تعالى: ﴿فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ﴾. والغِسْلِينُ هوَ عُصَارَةُ أَهلِ النَّارِ من الدَّمِ والقَيْحِ والصَّدِيدِ. وقال تعالى: ﴿وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ﴾. وقال تعالى: ﴿وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً﴾. وقال تعالى: ﴿وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ﴾.
اللَّهُمَّ أَغنِنَا بِحَلالِكَ عن حَرَامِكَ، وبِطَاعَتِكَ عن مَعصِيَتِكَ، وبِفَضْلِكَ عَمَّن سِوَاكَ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin