مع الحبيب المصطفى: «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ»
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
108ـ «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ»
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: الدُّورُ ثَلاثَةٌ، دَارُ الدُّنيا، ودَارُ البَرزَخِ، ودَارُ الآخِرَةِ، فَدَارُ الدُّنيا يَقولُ اللهُ تعالى فيها: ﴿وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِين﴾.ودَارُ البَرزَخِ يَقولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فيها: «إِنَّمَا الْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ» رواه الترمذي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ. ودَارُ الآخِرَةِ هيَ دَارُ المَقَرِّ التي يَقومُ فيها النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمينَ، وهيَ الدَّارُ الحَقيقِيَّةُ، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون﴾.
لذلكَ كانَ لِزاماً على كُلِّ عَاقِلٍ لَبيبٍ أن يَتَفَكَّرَ في دَارِ البَرزَخِ ودَارِ الآخِرَةِ، لأنَّ المَوتَ لا بُدَّ منهُ، وكَأسُ المَنِيَّةِ تَذَوُّقُهُ حَتْمٌ على كُلِّ حَيٍّ، فهل يَنتَظِرُ الصَّحيحُ إلا السَّقَمَ، والكَبيرُ إلا الهَرَمَ، والمَوجودُ إلا العَدَمَ، كُلُّ هذا جُعِلَ في الحَياةِ الدُّنيا، قال تعالى: ﴿وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِير﴾. وقال تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَان * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَام﴾. وقال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُور﴾.
أيُّها الإخوة الكرام: أكثِروا من ذِكْرِ هاذِمِ اللَّذَّاتِ، وتَذَكَّروا المَوتَ، ولا يَكُنْ تَذَكُّرُ المَوتِ من أجلِ فِراقِ نَعيمِ الدُّنيا، أو من أجلِ فِراقِ الأحِبَّةِ، ولْيَكُنْ من أجلِ فِراقِ العَمَلِ إلى دَارِ القَرارِ، من أجلِ فِراقِ الزَّادِ إلى المُنقَلَبِ والمَصيرِ.
ثِمَارُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وخاصَّةً عِندَ المَوتِ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد كانَ سَيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ من حُبِّهِ للنَّاسِ يأمُرُهُم أن يَقولوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَيَقولُ: «يا أيُّها النَّاسُ، قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ تُفلِحوا، فَلَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُهَا مِرَاراً وَالنَّاسُ مُتَصَفُّونَ عَلَيْهِ يَتَّبِعُونَهُ، وَإِذَا وَرَاءَهُ رَجُلٌ أَحْوَلُ ذُو غَدِيرَتَيْنِ ـ ضَفَائِر الشَّعر ـ وَضِيءُ الْوَجْهِ ـ من الحُسن والجَمَال ـ، يَقُولُ : إِنَّهُ صَابِئٌ كَاذِبٌ، مَرَّتَيْنِ فَسَأَلْتُ مَنْ هَذَا ، فَقَالُوا : هَذَا عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ. رواه الإمام أحمد والطبراني عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
لأنَّ كَلِمَةَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ في الحَياةِ الدُّنيا تَرفَعُ قَائِلَها، وفي البَرزَخِ تَجعَلُ قَبرَهُ رَوضَةً من رِياضِ الجَنَّةِ، وفي الآخِرَةِ تُنقِذُهُ من نارِ جَهَنَّمَ.
ومن صُوَرِ حُبِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لأُمَّتِهِ أنَّهُ كانَ يَأمُرُهُم أن يُلَقِّنوا مَوتاهُم هذهِ الكَلِمَةَ.
روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ».
وفي رِوايَةٍ للطَّبَرَانِيِّ في الكَبيرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ شَهَادَةَ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، فَمَنْ قَالَهَا عِنْدَ مَوْتِهِ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ».
قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، فَمَنْ قَالَهَا فِي صِحَّةٍ؟
قَالَ: «تِلْكَ أَوْجَبُ وَأَوْجَبُ».
ثُمَّ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ جِيءَ بِالسَّمَاوَاتِ وَالأَرَضِينَ وَمَنْ فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ وَمَا تَحْتَهُنَّ، فَوُضِعَتْ فِي كِفَّةِ الْمِيزَانِ، وَوُضِعَتْ شَهَادَةُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ فِي الْكِفَّةِ الأُخْرَى لَرَجَحَتْ بِهِنَّ».
وفي رِوايَةٍ أُخرى للطَّبَرَانِيِّ أيضاً في الكَبيرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَقُولُوا: الثَّبَاتَ الثَّبَاتَ، وَلا قُوَّةَ إِلا بالله».
وروى الحاكم والإمام أحمد وأبو داود عَنْ مُعَاذٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ».
وفي الحَديثِ المُتَّفَقِ عَلَيهِ عن أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ نَائِمٌ عَلَيْهِ ثَوْبٌ أَبْيَضُ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَإِذَا هُوَ نَائِمٌ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ وَقَدْ اسْتَيْقَظَ، فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ.
فَقَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ».
قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟
قَالَ: «وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ».
قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟
قَالَ: «وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ ـ ثَلَاثًا ـ».
ثُمَّ قَالَ فِي الرَّابِعَةِ: «عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي ذَرٍّ».
قَالَ: فَخَرَجَ أَبُو ذَرٍّ وَهُوَ يَقُولُ: وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ.
الحِرصُ على كَلِمَةِ التَّوحيدِ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد كانَ سَيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَريصاً كُلَّ الحِرصِ على أُمَّتِهِ أن يَقولوا كَلِمَةَ التَّوحيدِ في حَالِ حَياتِهِم، وعِندَ مَوتِهِم، أن تَكونَ بِدَايَتُهُم عَلَيها ونِهايَتُهُم عَلَيها، لأنَّ هذهِ الكَلِمَةَ هيَ عُنوانُ التَّوحيدِ، وضِدُّ الشِّركِ، فإذا قالَها المُسلِمُ من أعماقِ قَلبِهِ مَعَ الإخلاصِ فيها لله تعالى تَطَايَرَت عنهُ ذُنوبُهُ، فهيَ الكَلِمَةُ التي تَجُبُّ ما قَبلَها.
كَلِمَةُ التَّوحيدِ أعظَمُ كَلِمَةٍ، والشِّركُ أخطَرُ ذَنبٍ، وتَدَبَّروا قَولَ الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين * بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِين﴾.
إنَّها أعظَمُ آيَةٍ تَدُلُّ على عِظَمِ كَلِمَةِ التَّوحيدِ، وخُطورَةِ ضِدِّها، فالخِطابُ لِسَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ولمن سَبَقَهُ من الأنبِياءِ والمُرسَلينَ عَلَيهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، ولكن لِنَعلَمْ قَولَ القَائِلِ:
مـا كانَ في الـقُرآنِ من نَــذَارَةٍ *** إلى الـنَّـبِـيِّ صَـاحِـبِ البِشَارَة
فَـكُـنْ لَـبـيـباً وافـهَمِ الإشارَةَ *** إيَّاكَ أعني واسمَعي يـا جَارَة
أيُّها الإخوة الكرام: لقد أكَّدَتِ الآيَةُ الكَريمَةُ على خُطورَةِ الإشراكِ بالله تعالى، لأنَّ الشِّركَ يُضَيِّعُ ويُفسِدُ ويُبطِلُ جَميعَ الأعمالِ من صَلاةٍ وصِيامٍ وزَكاةٍ وحَجٍّ وعُمرَةٍ وصَدَقَةٍ وتَربِيَةٍ وأمرٍ بِالمَعروف ونَهْيٍ عن المُنكَرِ، ومن الشِّركِ بالله تعالى أن يَستَحِلَّ الإنسانُ ما حَرَّمَ اللهُ عزَّ وجلَّ، أو أن يُحَرِّمَ ما أحَلَّ اللهُ عزَّ وجلَّ.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: اِتَّقوا اللهَ، واتَّقوا يَوماً تُرجَعونَ فيهِ إلى الله، واتَّقوا يَوماً تَأتي كُلُّ نَفسٍ تُجادِلُ عن نَفسِها، ثمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفسٍ ما عَمِلَت وهُم لا يُظلَمونَ.
وتَذَكَّروا قَولَ الله تعالى: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً﴾. لقد كُنَّا أمواتاً فأحيانا اللهُ عزَّ وجلَّ، ثمَّ سَوفَ يُميتُنا وإلَيهِ يُرجِعُنا.
حُـكْمُ الْمَنِيَّةِ فِي الْبَرِيَّةِ جَارِي *** مَـا هَـذِهِ الـدُّنْيَا بِـدَارِ قَـرَارِ
فمَا يُرَى الْإِنْسَانُ فِيهَا مُخْبِراً *** حَتَّى يُرَى خَبَراً مِن الْأَخْبَارِ
أيُّها الإخوة الكرام: حافِظوا على كَلِمَةِ التَّوحيدِ، وذلكَ بِتَحليلِ ما أحَلَّ اللهُ تعالى، وبِتَحريمِ ما حَرَّمَ اللهُ تعالى، ولَقِّنوها مَوتاكُم، فالسَّعيدُ من عاشَ عَلَيها وماتَ عَلَيها، وقولوا: جَزَى اللهُ عنَّا سَيِّدَنا مُحَمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خَيرَ ما جَزَى نَبِيَّاً عن أُمَّتِهِ.
لقد أتعَبَ نَفسَهُ الشَّريفَةَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حتَّى يُعَلِّمَها للنَّاسِ ويَموتوا عَلَيها لِيَفوزوا بِسَعادَةِ الدَّارَينِ، فهل نُلزِمُ أنفُسَنا بهذهِ الكَلِمَةِ ونُلزِمُ من أحبَبْناهُ بها؟
اللَّهُمَّ اختُم لنا بِخَاتِمَةٍ حَسَنَةٍ حتَّى نَلقاكَ وأنتَ رَاضٍ عنَّا يا أرحَمَ الرَّاحِمينَ.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
108ـ «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ»
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: الدُّورُ ثَلاثَةٌ، دَارُ الدُّنيا، ودَارُ البَرزَخِ، ودَارُ الآخِرَةِ، فَدَارُ الدُّنيا يَقولُ اللهُ تعالى فيها: ﴿وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِين﴾.ودَارُ البَرزَخِ يَقولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فيها: «إِنَّمَا الْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ» رواه الترمذي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ. ودَارُ الآخِرَةِ هيَ دَارُ المَقَرِّ التي يَقومُ فيها النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمينَ، وهيَ الدَّارُ الحَقيقِيَّةُ، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون﴾.
لذلكَ كانَ لِزاماً على كُلِّ عَاقِلٍ لَبيبٍ أن يَتَفَكَّرَ في دَارِ البَرزَخِ ودَارِ الآخِرَةِ، لأنَّ المَوتَ لا بُدَّ منهُ، وكَأسُ المَنِيَّةِ تَذَوُّقُهُ حَتْمٌ على كُلِّ حَيٍّ، فهل يَنتَظِرُ الصَّحيحُ إلا السَّقَمَ، والكَبيرُ إلا الهَرَمَ، والمَوجودُ إلا العَدَمَ، كُلُّ هذا جُعِلَ في الحَياةِ الدُّنيا، قال تعالى: ﴿وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِير﴾. وقال تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَان * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَام﴾. وقال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُور﴾.
أيُّها الإخوة الكرام: أكثِروا من ذِكْرِ هاذِمِ اللَّذَّاتِ، وتَذَكَّروا المَوتَ، ولا يَكُنْ تَذَكُّرُ المَوتِ من أجلِ فِراقِ نَعيمِ الدُّنيا، أو من أجلِ فِراقِ الأحِبَّةِ، ولْيَكُنْ من أجلِ فِراقِ العَمَلِ إلى دَارِ القَرارِ، من أجلِ فِراقِ الزَّادِ إلى المُنقَلَبِ والمَصيرِ.
ثِمَارُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وخاصَّةً عِندَ المَوتِ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد كانَ سَيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ من حُبِّهِ للنَّاسِ يأمُرُهُم أن يَقولوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَيَقولُ: «يا أيُّها النَّاسُ، قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ تُفلِحوا، فَلَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُهَا مِرَاراً وَالنَّاسُ مُتَصَفُّونَ عَلَيْهِ يَتَّبِعُونَهُ، وَإِذَا وَرَاءَهُ رَجُلٌ أَحْوَلُ ذُو غَدِيرَتَيْنِ ـ ضَفَائِر الشَّعر ـ وَضِيءُ الْوَجْهِ ـ من الحُسن والجَمَال ـ، يَقُولُ : إِنَّهُ صَابِئٌ كَاذِبٌ، مَرَّتَيْنِ فَسَأَلْتُ مَنْ هَذَا ، فَقَالُوا : هَذَا عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ. رواه الإمام أحمد والطبراني عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
لأنَّ كَلِمَةَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ في الحَياةِ الدُّنيا تَرفَعُ قَائِلَها، وفي البَرزَخِ تَجعَلُ قَبرَهُ رَوضَةً من رِياضِ الجَنَّةِ، وفي الآخِرَةِ تُنقِذُهُ من نارِ جَهَنَّمَ.
ومن صُوَرِ حُبِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لأُمَّتِهِ أنَّهُ كانَ يَأمُرُهُم أن يُلَقِّنوا مَوتاهُم هذهِ الكَلِمَةَ.
روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ».
وفي رِوايَةٍ للطَّبَرَانِيِّ في الكَبيرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ شَهَادَةَ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، فَمَنْ قَالَهَا عِنْدَ مَوْتِهِ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ».
قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، فَمَنْ قَالَهَا فِي صِحَّةٍ؟
قَالَ: «تِلْكَ أَوْجَبُ وَأَوْجَبُ».
ثُمَّ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ جِيءَ بِالسَّمَاوَاتِ وَالأَرَضِينَ وَمَنْ فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ وَمَا تَحْتَهُنَّ، فَوُضِعَتْ فِي كِفَّةِ الْمِيزَانِ، وَوُضِعَتْ شَهَادَةُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ فِي الْكِفَّةِ الأُخْرَى لَرَجَحَتْ بِهِنَّ».
وفي رِوايَةٍ أُخرى للطَّبَرَانِيِّ أيضاً في الكَبيرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَقُولُوا: الثَّبَاتَ الثَّبَاتَ، وَلا قُوَّةَ إِلا بالله».
وروى الحاكم والإمام أحمد وأبو داود عَنْ مُعَاذٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ».
وفي الحَديثِ المُتَّفَقِ عَلَيهِ عن أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ نَائِمٌ عَلَيْهِ ثَوْبٌ أَبْيَضُ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَإِذَا هُوَ نَائِمٌ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ وَقَدْ اسْتَيْقَظَ، فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ.
فَقَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ».
قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟
قَالَ: «وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ».
قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟
قَالَ: «وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ ـ ثَلَاثًا ـ».
ثُمَّ قَالَ فِي الرَّابِعَةِ: «عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي ذَرٍّ».
قَالَ: فَخَرَجَ أَبُو ذَرٍّ وَهُوَ يَقُولُ: وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ.
الحِرصُ على كَلِمَةِ التَّوحيدِ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد كانَ سَيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَريصاً كُلَّ الحِرصِ على أُمَّتِهِ أن يَقولوا كَلِمَةَ التَّوحيدِ في حَالِ حَياتِهِم، وعِندَ مَوتِهِم، أن تَكونَ بِدَايَتُهُم عَلَيها ونِهايَتُهُم عَلَيها، لأنَّ هذهِ الكَلِمَةَ هيَ عُنوانُ التَّوحيدِ، وضِدُّ الشِّركِ، فإذا قالَها المُسلِمُ من أعماقِ قَلبِهِ مَعَ الإخلاصِ فيها لله تعالى تَطَايَرَت عنهُ ذُنوبُهُ، فهيَ الكَلِمَةُ التي تَجُبُّ ما قَبلَها.
كَلِمَةُ التَّوحيدِ أعظَمُ كَلِمَةٍ، والشِّركُ أخطَرُ ذَنبٍ، وتَدَبَّروا قَولَ الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين * بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِين﴾.
إنَّها أعظَمُ آيَةٍ تَدُلُّ على عِظَمِ كَلِمَةِ التَّوحيدِ، وخُطورَةِ ضِدِّها، فالخِطابُ لِسَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ولمن سَبَقَهُ من الأنبِياءِ والمُرسَلينَ عَلَيهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، ولكن لِنَعلَمْ قَولَ القَائِلِ:
مـا كانَ في الـقُرآنِ من نَــذَارَةٍ *** إلى الـنَّـبِـيِّ صَـاحِـبِ البِشَارَة
فَـكُـنْ لَـبـيـباً وافـهَمِ الإشارَةَ *** إيَّاكَ أعني واسمَعي يـا جَارَة
أيُّها الإخوة الكرام: لقد أكَّدَتِ الآيَةُ الكَريمَةُ على خُطورَةِ الإشراكِ بالله تعالى، لأنَّ الشِّركَ يُضَيِّعُ ويُفسِدُ ويُبطِلُ جَميعَ الأعمالِ من صَلاةٍ وصِيامٍ وزَكاةٍ وحَجٍّ وعُمرَةٍ وصَدَقَةٍ وتَربِيَةٍ وأمرٍ بِالمَعروف ونَهْيٍ عن المُنكَرِ، ومن الشِّركِ بالله تعالى أن يَستَحِلَّ الإنسانُ ما حَرَّمَ اللهُ عزَّ وجلَّ، أو أن يُحَرِّمَ ما أحَلَّ اللهُ عزَّ وجلَّ.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: اِتَّقوا اللهَ، واتَّقوا يَوماً تُرجَعونَ فيهِ إلى الله، واتَّقوا يَوماً تَأتي كُلُّ نَفسٍ تُجادِلُ عن نَفسِها، ثمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفسٍ ما عَمِلَت وهُم لا يُظلَمونَ.
وتَذَكَّروا قَولَ الله تعالى: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً﴾. لقد كُنَّا أمواتاً فأحيانا اللهُ عزَّ وجلَّ، ثمَّ سَوفَ يُميتُنا وإلَيهِ يُرجِعُنا.
حُـكْمُ الْمَنِيَّةِ فِي الْبَرِيَّةِ جَارِي *** مَـا هَـذِهِ الـدُّنْيَا بِـدَارِ قَـرَارِ
فمَا يُرَى الْإِنْسَانُ فِيهَا مُخْبِراً *** حَتَّى يُرَى خَبَراً مِن الْأَخْبَارِ
أيُّها الإخوة الكرام: حافِظوا على كَلِمَةِ التَّوحيدِ، وذلكَ بِتَحليلِ ما أحَلَّ اللهُ تعالى، وبِتَحريمِ ما حَرَّمَ اللهُ تعالى، ولَقِّنوها مَوتاكُم، فالسَّعيدُ من عاشَ عَلَيها وماتَ عَلَيها، وقولوا: جَزَى اللهُ عنَّا سَيِّدَنا مُحَمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خَيرَ ما جَزَى نَبِيَّاً عن أُمَّتِهِ.
لقد أتعَبَ نَفسَهُ الشَّريفَةَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حتَّى يُعَلِّمَها للنَّاسِ ويَموتوا عَلَيها لِيَفوزوا بِسَعادَةِ الدَّارَينِ، فهل نُلزِمُ أنفُسَنا بهذهِ الكَلِمَةِ ونُلزِمُ من أحبَبْناهُ بها؟
اللَّهُمَّ اختُم لنا بِخَاتِمَةٍ حَسَنَةٍ حتَّى نَلقاكَ وأنتَ رَاضٍ عنَّا يا أرحَمَ الرَّاحِمينَ.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
25/11/2024, 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
25/11/2024, 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
25/11/2024, 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
25/11/2024, 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
25/11/2024, 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
25/11/2024, 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin