مع الحبيب المصطفى: التآمر الأخير عليه صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
207ـ التآمر الأخير عليه صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: لَمْ تَكُنْ هِجْرَةُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ من مَكَّةَ المُكَرَّمَةَ إلى المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ تَرَفَاً ثَقَافِيَّاً، أو سِيَاحَةً ومُتْعَةً، أو اسْتِكْشَافَاً لِعَالَمٍ جَدِيدٍ، لقد كَانَتْ خِيَارَاً لا مَفَرَّ مِنهُ، وحَلَّاً أَخِيرَاً بَعْدَ أَنْ ضَاقَتْ بالمُسْلِمينَ أَرْضُ مَكَّةَ بِمَا رَحُبَتْ، وتَغَيَّرَ عَلَيهِمُ النَّاسُ.
التَّآمُرُ الأَخِيرُ على سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ:
أيُّها الإخوة الكرام: بَعْدَ أَنْ تَمَّتْ بَيْعَةُ العَقَبَةِ الكُبْرَى، رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ قَد صَارَ لَهُ أَصْحَابٌ وأَنْصَارٌ في المَدِينَةِ، ولا سُلْطَانَ لَهُم عَلَيهَا، تَخَوَّفُوا من خُرُوجِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ إلى المَدِينَةِ، وعَرَفُوا أَنَّهُ إذا كَانَ ذلكَ، فلا حِيلَةَ لَهُم فِيهِ، ولا سَبِيلَ لَهُم عَلَيهِ، فَاجْتَمَعُوا في دَارِ النَّدْوَةِ، وهيَ دَارُ قُصَيِّ بْنِ كِلابٍ، وكَانَتْ قُرَيْشٌ لا تَقْضِي أَمْرَاً إلا فِيهَا، يَتَشَاوَرُونَ فِيهَا مَا يَصْنَعُونَ في أَمْرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، واجْتَمَعَ فِيهَا أَشْرَافُ قُرَيْشٍ.
في دَارِ النَّدْوَةِ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد كَانَتْ قُرَيْشٌ تَعْلَمُ مَا في شَخْصِيَّةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ من غَايَةِ قُوَّةِ التَّأْثِيرِ مَعَ كَمَالِ القِيَادَةِ والإِرْشَادِ، وما في أَصْحَابِهِ من العَزِيمَةِ والاسْتِقَامَةِ والفِدَاءِ في سَبِيلِهِ، ثمَّ مَا في قَبَائِلِ الأَوْسِ والخَزْرَجِ من القُوَّةِ والمَنَعَةِ، وما في عُقَلَاءِ هَاتَيْنِ القَبِيلَتَيْنِ من عَوَاطِفِ السِّلْمِ والصَّلَاحِ، والتَّدَاعِي إلى نَبْذِ الأَحْقَادِ، ولا سِيَّمَا بَعْدَ أَنْ ذَاقُوا مَرَارَةَ الحُرُوبِ الأَهْلِيَّةِ طِيلَةَ أَعْوَامٍ من الدَّهْرِ.
كَمَا كَانُوا يَعْرِفُونَ ما للمَدِينَةِ من المَوْقِعِ الاسْتِرَاتِيجِيِّ بالنِّسْبَةِ إلى المَحَجَّةِ التِّجَارِيَّةِ التي تَمُرُّ بِسَاحِلِ البَحْرِ الأَحْمَرِ من اليَمَنِ إلى الشَّامِ.
وقد كَانَ أَهْلُ مَكَّةَ يُتَاجِرُونَ إلى الشَّامِ بِقَدْرِ رُبْعِ مِليون دِينَارِ ذَهَبٍ سَنَوِيَّاً، سِوَى مَا كَانَ لأَهْلِ الطَّائِفِ وَغَيْرِهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَدَارَ هذهِ التِّجَارَةِ كَانَ على اسْتِقْرَارِ الأَمْنِ في تِلكَ الطَّرِيقَ.
فَلَا يَخْفَى مَا كَانَ لِقُرَيْشٍ من الخَطَرِ البَالِغِ في تَمَرْكُزِ الدَّعْوَةِ الإِسْلَامِيَّةِ في يَثْرِبَ، وَمُجَابَهَةِ أَهْلِهاَ ضِدَّهُم.
شَعَرَ المُشْرِكُونَ بِتَفَاقُمِ الخَطَرِ الذي كَانَ يُهَدِّدُ كَيَانَهُم، فَصَارُوا يَبْحَثُونَ عن أَنْجَحِ الوَسَائِلِ لِدَفْعِ هذا الخَطَرِ الذي مَبْعَثُهُ الوَحِيدُ هوَ حَامِلُ لِوَاءِ دَعْوَةِ الإِسْلَامِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ.
وفي يَوْمِ الخَمِيسِ 26 من شَهْرِ صَفَر سَنَةَ 14 من النُّبُوَّةِ، الموافق 12 من شهر أيلُولَ سَنَةَ 622م ـ أي: بَعْدَ شَهْرَيْنِ وَنِصْفٍ تَقْرِيبَاً من بَيْعَةِ العَقَبَةِ الكُبْرَى ـ عُقِدَ بَرْلَمَانُ مَكَّةَ ـ دَارُ النَّدْوَةِ ـ في أَوَائِلِ النَّهَارِ أَخْطَرُ اجْتِمَاعٍ لَهُ في تَارِيخِهِ، وَتَوَافَدَ إلى هذا الاجْتِمَاعِ جَمِيعُ نُوَّابِ القَبَائِلِ القُرَشِيَّةِ؛ لِيَتَدَارَسُوا خُطَّةً حَاسِمَةً تَكَفَلُ القَضَاءُ سَرِيعَاً على حَامِلِ لِوَاءِ الدَّعْوَةِ الإِسْلَامِيَّةِ؛ وَتَقْطَعُ تَيَّارَ نُورِهَا عن الوُجُودِ نِهَائِيَّاً، وَكَانَتِ الوُجُوهُ البَارِزَةُ في هذا الاجْتِمَاعِ الخَطِيرِ من نُوَّابِ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ:
أَبُو جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، عَن قَبِيلَةِ بَنِي مَخْزُومٍ.
وجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ، وطُعَيْمَةُ بْنُ عَدِيٍّ، والحَارِثُ بْنُ عَامِرٍ، عن بَنِي نَوْفَلَ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ.
وشَيْبَةُ وَعُتْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، عن بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ.
والنَّضْرُ بنُ الحَارِثِ، عن بَنِي عَبْدِ الدَّارِ.
وأَبُو البَخْتَرِيِّ بنِ هِشَامٍ، وزَمْعَةُ بنُ الأَسْوَدِ، وحَكِيمُ بنُ حِزَامٍ، عن بَنِي أَسَدِ بنِ عَبْدِ العُزَّى.
ونُبَيْهٌ ومُنَبِّهٌ ابْنَا الحَجَّاجِ، عن بَنِي سَهْمٍ.
وأُمَيَّةُ بنُ خَلَفٍ، عن بَنِي جُمَحٍ.
ولما جَاؤُوا إلى دَارِ النَّدْوَةِ حَسَبَ المِيعَادِ، اِعْتَرَضَهُم إِبْلِيسُ في هَيْئَةِ شَيْخٍ جَلِيلٍ، عَلَيهِ بَتٌّ لَهُ ـ يَعْنِي: عَلَيهِ كِسَاءٌ غَلِيظٌ مُرَبَّعٌ، وقِيلَ: طَيْلَسَانٌ من خَزٍّ ـ وَوَقَفَ على البَابِ، فَقَالُوا: من الشَّيْخُ ؟
قَالَ: شَيْخٌ من أَهْلِ نَجْدٍ سَمِعَ بالذي اتَّعَدْتُم لَهُ فَحَضَرَ مَعَكُم لِيَسْمَعَ ما تَقُولُونَ، وَعَسَى ألا يُعْدِمَكُم مِنهُ رَأْيَاً وَنُصْحَاً.
قَالُوا: أَجَلْ، فَادْخُلْ، فَدَخَلَ مَعهُم.
النِّقَاشُ البَرْلَمَانِيُّ والإِجْمَاعُ على قَرَارٍ غَاشِمٍ:
أيُّها الإخوة الكرام: وَبَعْدَ أَنْ تَكَامَلَ الاجْتِمَاعُ بَدَأَ عَرْضُ الاقْتِرَاحَاتِ والحُلُولِ، وَدَارَ النِّقَاشُ طَوِيلَاً.
قَالَ أَبُو الأَسْوَدِ: نُخْرِجُهُ من بَيْنِ أَظْهُرِنَا وَنَنْفِيهِ من بِلادِنَا، ولا نُبَالِي أَينَ ذَهَبَ، ولا حَيْثُ وَقَعَ، فقد أَصْلَحْنَا أَمْرَنَا وَأُلْفَتَنَا كَمَا كَانَتْ.
قَالَ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ: لا واللهِ ما هذا لَكُمْ بِرَأْيٍ، أَلَمْ تَرَوْا حُسْنَ حَدِيثِهِ، وحَلَاوَةَ مَنْطِقِهِ، وغَلَبَتِهِ على قُلُوبِ الرِّجَالِ بِمَا يَأْتِي بِهِ؟ واللهِ لَو فَعَلْتُم ذلكَ ما أَمِنْتُم أَنْ يَحُلَّ على حَيٍّ من العَرَبِ، ثمَّ يَسِيرَ بِهِم إِلَيكُم بَعْدَ أَنْ يُتَابِعُوهُ، حَتَّى يَطَأَكُم بِهِم في بِلادِكُم، ثمَّ يَفْعَلَ بِكُم مَا أَرَادَ، دَبِّرُوا فِيهِ رَأْيَاً غَيْرَ هذا.
قَالَ أَبُو البُخْتُرِيُّ: اِحْبِسُوهُ في الحَدِيدِ وَأَغْلِقُوا عَلَيهِ بَابَاً، ثمَّ تَرَبَّصُوا به مَا أَصَابَ أَمْثَالَهُ من الشُّعَرَاءِ الذين كَانُوا قَبْلَهُ ـ زُهَيْرَاً والنَّابِغَةُ ـ ومَن مَضَى مِنهُم، من هذا المَوتِ، حَتَّى يُصِيبَهُ مَا أَصَابَهُم.
قَالَ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ: لا واللهِ ما هذا لَكُمْ بِرَأْيٍ، واللهِ لَئِنْ حَبَسْتُمُوهُ ـ كَمَا تَقُولُونَ ـ لَيَخْرُجَنَّ أَمْرُهُ من وَرَاءِ البَابِ الذي أَغْلَقْتُمْ دُونَهُ إلى أَصْحَابِهِ، فَلَأَوْشَكُوا أَنْ يَثِبُوا عَلَيكُم، فَيَنْزِعُوهُ من أَيْدِيكُم، ثمَّ يُكَاثِرُوكُم بِهِ حَتَّى يَغْلِبُوكُم على أَمْرِكُم، ما هذا لَكُمْ بِرَأْيٍ، فَانْظُرُوا في غَيْرِهِ.
وَبَعْدَ أَنْ رَفَضَ البَرْلَمَانُ هَذيْنِ الاقْتِرَاحَيْنِ، قُدِّمَ إِلَيهِ اقْتِرَاحٌ آثِمٌ وَافَقَ عَلَيهِ جَمِيعُ أَعْضَائِهِ، تَقَدَّمَ به كَبِيرُ مُجْرِمِي مَكَّةَ أَبُو جَهْلِ بنِ هِشَامٍ.
قَالَ أَبُو جَهْلٍ: واللهِ إِنَّ لي فِيهِ رَأْيَاً ما أَرَاكُم وَقَعْتُم عَلَيهِ بَعْدُ.
قَالُوا: وَمَا هُوَ يَا أَبَا الحَكَمِ؟
قَالَ: أَرَى أَنْ نَأْخُذَ من كُلِّ قَبِيلَةٍ فَتَىً شَابَّاً جَلِيدَاً نَسِيبَاً وَسِيطَاً فِينَا، ثمَّ نُعْطِي كُلَّ فَتَىً مِنهُم سَيْفَاً صَارِمَاً، ثمَّ يَعْمَدُوا إِلَيهِ، فَيَضْرِبُوهُ بِهَا ضَرْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَيَقْتُلُوهُ، فَنَسْتَرِيحَ مِنهُ، فَإِنَّهُم إذا فَعَلُوا ذلكَ تَفَرَّقَ دَمُهُ في القَبَائِلِ جَمِيعَاً، فَلَمْ يَقْدِرْ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ على حَرْبِ قَوْمِهِم جَمِيعَاً، فَرَضُوا مِنَّا بالعَقْلِ ـ العَقْلُ: الدِّيَةُ؛ وسًمِّيَتْ عَقْلاً، لأَنَّ الدِّيَةَ كَانَتْ في الجَاهِلِيَّةِ إِبِلاً، تُسَاقُ إلى فِنَاءِ وَرَثَةِ المَقْتُولِ، فَيَعْقِلُهَا بالعُقْلِ ويُسَلِّمُهَا إلى أَوْلِيَائِهِ ـ فَعَقَلْنَاهُ لَهُم.
قَالَ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ: القَوْلُ مَا قَالَ الرَّجُلُ، هذا الرَّأْيُ الذي لا رَأْيَ غَيْرَهُ.
وَوَافَقَ بَرْلَمَانُ مَكَّةَ على هذا الاقْتِرَاحِ الآثِمِ بالإِجْمَاعِ، وَرَجَعَ النُّوَّابُ إلى بُيُوتِهِم وقد صَمَّمُوا على تَنْفِيذِ هذا القَرَارِ فَوْرَاً.
بَيْنَ تَدْبِيرِ قُرَيْشٍ وتَدْبِيرِ اللهِ سُبْحَانَهُ وتعالى:
أيُّها الإخوة الكرام: من طَبِيعَةِ مِثْلِ هذا الاجْتِمَاعِ السِّرِّيَّةُ للغَايَةِ، وألا يَبْدُو على السَّطْحِ الظَّاهِرِ أَيُّ حَرَكَةٍ تُخَالِفُ اليَوْمِيَّاتِ، وتُغَايِرُ العَادَاتِ المُسْتَمِرَّةِ، حَتَّى لا يَشَمَّ أَحَدٌ رَائِحَةَ التَّآمُرِ والخَطَرِ، ولا يَدُورَ في خَلَدِ أَحَدٍ أَنَّ هُنَاكَ غُمُوضَاً يُنْبِئُ عن الشَّرِّ، وكَانَ هذا مَكْرَاً من قُرَيْشٍ، وَلَكِنَّهُم مَاكَرُوا بذلكَ اللَه سُبْحَانَهُ وتعالى، فَخَيَّبَهُم من حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ. فَقَد نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيهِ السَّلامُ إلى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ بِوَحْيٍ من رَبِّهِ تَبَارَكَ وتعالى فَأَخْبَرُه بِمُؤَامَرَةِ قُرَيْشٍ، وَأَنَّ اللهَ قَد أَذِنَ لَهُ في الخُرُوجِ، وَحَدَّدَ لَهُ وَقْتَ الهِجْرَةِ، وَبَيَّنَ لَهُ خُطَّةَ الرَّدِّ على قُرَيْشٍ، فَقَالَ: لا تَبِتْ هذهِ اللَّيْلَةَ على فِرَاشِكَ الذي كُنْتَ تَبِيتُ عَلَيهِ.
وَذَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ في الهَاجِرَةِ ـ حِينَ يَسْتَرِيحُ النَّاسُ في بُيُوتِهِم ـ إلى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ لَيُبْرِمَ مَعَهُ مَرَاحِلَ الهِجْرَةِ.
قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: بَيْنَمَا نَحنُ جُلُوسٌ في بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ في نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، قَالَ قَائِلٌ لأَبِي بَكْرٍ: هذا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ مُتَقَنِّعَاً ـ مُتَخَمِّرَاً ـ في سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا.
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِدَاءٌ لَهُ أَبِي وأُمِّي، واللهِ مَا جَاءَ بِهِ في هذهِ السَّاعَةِ إلا أَمْرٌ.
قَالَتْ: فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، فَاسْتَأْذَنَ،فَأُذِنَ لَهُ فَدَخَلَ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ لأَبِي بَكْرٍ: «أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ».
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّمَا هُم أَهْلُكَ، بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ.
قَالَ: «فَإِنِّي قَد أُذِنَ لِي في الخُرُوجِ».
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: الصُّحْبَةَ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «نَعَم».
ثمَّ أَبْرَمَ مَعَهُ خُطَّةَ الهِجْرَةِ، وَرَجَعَ إلى بَيْتِهِ يَنْتَظِرُ مَجِيءَ اللَّيْلِ؛ وقد اسْتَمَرَّ في أَعْمَالِهِ اليَوْمِيَّةِ حَسْبَ المُعْتَادِ حَتَّى لَا يَشْعُرَ أَحَدٌ بِأَنَّهُ يَسْتَعِدُّ للهِجْرَةِ، أو لِأَيِّ أَمْرٍ آخَرَ اتِّقَاءَ مِمَّا قَرَّرَتْهُ قُرَيْشٌ.
تَطْوِيقُ مَنْزِلِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ:
أيُّها الإخوة الكرام: أَمَّا أَكَابِرُ مُجْرِمِي قُرَيْشٍ فَقَضَوْا نَهَارَهُم في الإِعْدَادِ سِرَّاً لِتَنْفِيذِ الخُطَّةِ المَرْسُومَةِ التي أَبْرَمَهَا بَرْلَمَانُ مَكَّةَ ـ دَارُ النَّدْوَةَ ـ صَبَاحَاً، واخْتِيرَ لذلكَ أَحَدَ عَشَرَ رَئِيسَاً من هؤلاءِ الأَكَابِرِ، وَهُم:
أَبُو جَهْلِ بنِ هِشَامٍ، والحَكَمُ بنُ أَبِي العَاصِ، وعُقْبَةُ بنُ أَبِي مُعَيْطٍ، والنَّضْرُ بنُ الحَارِثِ، وأُمَيَّةُ بنُ خَلَفَ، وزَمْعَةُ بنُ الأَسْوَدِ، وطُعَيْمَةُ بنُ عَدِيٍّ، وأَبُو لَهَبٍ، وأُبَيُّ بنُ خَلَفٍ، ونُبَيْهُ بنُ الحَجَّاجِ، وَأَخُوهُ مُنَبِّهُ بنُ الحَجَّاجِ.
وَكَانَ من عَادَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ أَنْ يَنَامَ في أَوَائِلِ اللَّيْلِ بَعْدَ صَلَاةِ العِشَاءِ، وَيَخْرُجَ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ إلى المَسْجِدِ الحَرَامِ، يُصَلِّي فِيهِ قِيَامَ اللَّيْلِ، فَأَمَرَ عَلِيَّاً رَضِيَ اللهُ عَنهُ تِلكَ اللَّيْلَةَ أَنْ يَضْطَجِعَ على فِرَاشِهِ، وَيَتَسَجَّى بِبُرْدِهِ الحَضْرَمِيِّ الأَخْضَرِ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ لا يُصِيبُهُ مَكْرُوهٌ.
فَلَمَّا كَانَتْ عَتْمَةٌ من اللَّيْلِ وَسَادَ الهُدُوءُ، وَنَامَ عَامَّةُ النَّاسِ جَاءَ المَذْكُورُونَ إلى بَيِتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ سِرَّاً، واجْتَمَعُوا على بَابِهِ يَرْصُدُونَهُ، وَهُم يَظُنُّونَهُ نَائِمَاً حَتَّى إذا قَامَ وَخَرَجَ وَثَبُوا عَلَيهِ، وَنَفَّذُوا مَا قَرَّرُوا فِيهِ.
وَكَانُوا على ثِقَةٍ وَيَقِينٍ جَازِمٍ من نَجَاحِ هذهِ المُؤَامَرَةِ الدَّنِيَّةِ.
حَتَّى وَقَفَ أَبُو جَهْلٍ وِقْفَةَ الزُّهُوِّ والخُيَلَاءِ، وَقَالَ مُخَاطِبَاً لأَصْحَابِهِ المُطَوِّقِينَ في سُخْرِيَةٍ واسْتِهْزَاءٍ : إنَّ مُحَمَّدَاً يَزْعُمُ أَنَّكُمْ إنْ تَابَعْتُمُوهُ عَلَى أَمْرِهِ كُنْتُمْ مُلُوكَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، ثُمَّ بُعِثْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ فَجُعِلَتْ لَكُمْ جِنَانٌ كَجِنَانِ الْأُرْدُنَّ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ لَهُ فِيكُمْ ذَبْحٌ ثُمَّ بُعِثْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ، ثُمَّ جُعِلَتْ لَكُمْ نَارٌ تُحْرَقُونَ فِيهَا.
وَقَد كَانَ مِيعَادُ تَنْفِيذِ تِلكَ المُؤَامَرَةِ بَعْدَ مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ في وَقْتِ خُرُوجِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ من البَيْتِ، فَبَاتُوا مُتَيَقِّظِينَ يَنْتَظِرُونَ سَاعَةِ الصِّفْرِ، وَلَكِنَّ اللهَ غَالِبٌ على أَمْرِهِ، بِيَدِهِ مَلَكُوتُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَهُوَ يُجِيرُ ولا يُجَارُ عَلَيهِ، فَقَد فَعَلَ مَا خَاطَبَ بِهِ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ فِيمَا بَعْدُ: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ واللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾.
وَقَد فَشِلَتْ قُرَيْشٌ في خُطَّتِهِم فَشَلَاً ذَرِيعَاً مَعَ غَايَةِ التَّيَقُّظِ والتَّنَبُّهِ؛ إِذْ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ من البَيْتِ، وَاخْتَرَقَ صُفُوفَهُم، وَأَخَذَ حَفْنَةً من البَطْحَاءِ فَجَعَلَ يَذُرُّهُ على رَؤُوسِهِم، وَقَد أَخَذَ اللُه أَبْصَارَهُم عَنهُ فَلَا يَرَوْنَهُ، وَهُوَ يَتْلُو: ﴿وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدَّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدَّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾. فَلَمْ يَبْقَ مِنهُم رَجُلٌ إلا وَقَد وَضَعَ على رَأْسِهِ تُرَابَاً، وَمَضَى إلى بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ، فَخَرَجَا من خَوْخَةٍ في دَارِ أَبِي بَكْرٍ لَيْلَاً حَتَّى لَحِقَا بِغَارِ ثَوْرٍ في اتِّجَاهِ اليَمَنِ.
وَبَقِيَ المُحَاصِرُونَ يَنْتَظِرُونَ حُلُولَ سَاعَةِ الصِّفْرِ، وَقُبَيْلَ حُلُولِهَا تَجَلَّتْ لَهُمُ الخَيْبَةُ والفَشَلُ، فَقَد جَاءَهُم رَجُلٌ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُم، وَرَآهُم بِبَابِهِ فَقَالَ: مَا تَنْتَظِرُونَ؟
قَالُوا: مُحَمَّدَاً.
قَالَ: خِبْتُمْ وَخَسِرْتُمْ، قد واللهِ مَرَّ بِكُم، وَذَرَّ على رُؤُوسِكُمُ التُّرَابَ، وَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ.
قَالُوا: واللهِ مَا أَبْصَرْنَاهُ، وَقَامُوا يَنْفُضُونَ التُّرَابَ عَن رُؤُوسِهِم.
وَلَكِنَّهُم تَطَلَّعُوا من صَيْرِ البَابِ فَرَأَوْا عَلِيَّاً، فَقَالُوا: واللهِ إِنَّ هذا لَمُحَمَّدٌ نَائِمَاً، عَلَيهِ بُرْدُهُ، فَلَمْ يَبْرَحُوا كَذلكَ حَتَّى أَصْبَحُوا. وَقَامَ عَلِيٌّ عن الفِرَاشِ، فَسُقِطَ في أَيْدِيهِم، وَسَأَلُوهُ عَن رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، فَقَالَ: لا عِلْمَ لِي بِهِ.
خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: مَن أَرَادَ حِفْظَ اللهِ تعالى لَهُ فَلْيَحْفَظِ اللهَ تعالى، وذلكَ من خِلالِ الالْتِزَامِ بالكِتَابِ والسُّنَّةِ، ومن خِلالِ مُتَابَعَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، والمُتَّبِعُ وَاثِقٌ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾. وَوَاثِقٌ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ﴾.
اللَّهُمَّ أَكْرِمْنَا بذلكَ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
207ـ التآمر الأخير عليه صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: لَمْ تَكُنْ هِجْرَةُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ من مَكَّةَ المُكَرَّمَةَ إلى المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ تَرَفَاً ثَقَافِيَّاً، أو سِيَاحَةً ومُتْعَةً، أو اسْتِكْشَافَاً لِعَالَمٍ جَدِيدٍ، لقد كَانَتْ خِيَارَاً لا مَفَرَّ مِنهُ، وحَلَّاً أَخِيرَاً بَعْدَ أَنْ ضَاقَتْ بالمُسْلِمينَ أَرْضُ مَكَّةَ بِمَا رَحُبَتْ، وتَغَيَّرَ عَلَيهِمُ النَّاسُ.
التَّآمُرُ الأَخِيرُ على سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ:
أيُّها الإخوة الكرام: بَعْدَ أَنْ تَمَّتْ بَيْعَةُ العَقَبَةِ الكُبْرَى، رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ قَد صَارَ لَهُ أَصْحَابٌ وأَنْصَارٌ في المَدِينَةِ، ولا سُلْطَانَ لَهُم عَلَيهَا، تَخَوَّفُوا من خُرُوجِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ إلى المَدِينَةِ، وعَرَفُوا أَنَّهُ إذا كَانَ ذلكَ، فلا حِيلَةَ لَهُم فِيهِ، ولا سَبِيلَ لَهُم عَلَيهِ، فَاجْتَمَعُوا في دَارِ النَّدْوَةِ، وهيَ دَارُ قُصَيِّ بْنِ كِلابٍ، وكَانَتْ قُرَيْشٌ لا تَقْضِي أَمْرَاً إلا فِيهَا، يَتَشَاوَرُونَ فِيهَا مَا يَصْنَعُونَ في أَمْرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، واجْتَمَعَ فِيهَا أَشْرَافُ قُرَيْشٍ.
في دَارِ النَّدْوَةِ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد كَانَتْ قُرَيْشٌ تَعْلَمُ مَا في شَخْصِيَّةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ من غَايَةِ قُوَّةِ التَّأْثِيرِ مَعَ كَمَالِ القِيَادَةِ والإِرْشَادِ، وما في أَصْحَابِهِ من العَزِيمَةِ والاسْتِقَامَةِ والفِدَاءِ في سَبِيلِهِ، ثمَّ مَا في قَبَائِلِ الأَوْسِ والخَزْرَجِ من القُوَّةِ والمَنَعَةِ، وما في عُقَلَاءِ هَاتَيْنِ القَبِيلَتَيْنِ من عَوَاطِفِ السِّلْمِ والصَّلَاحِ، والتَّدَاعِي إلى نَبْذِ الأَحْقَادِ، ولا سِيَّمَا بَعْدَ أَنْ ذَاقُوا مَرَارَةَ الحُرُوبِ الأَهْلِيَّةِ طِيلَةَ أَعْوَامٍ من الدَّهْرِ.
كَمَا كَانُوا يَعْرِفُونَ ما للمَدِينَةِ من المَوْقِعِ الاسْتِرَاتِيجِيِّ بالنِّسْبَةِ إلى المَحَجَّةِ التِّجَارِيَّةِ التي تَمُرُّ بِسَاحِلِ البَحْرِ الأَحْمَرِ من اليَمَنِ إلى الشَّامِ.
وقد كَانَ أَهْلُ مَكَّةَ يُتَاجِرُونَ إلى الشَّامِ بِقَدْرِ رُبْعِ مِليون دِينَارِ ذَهَبٍ سَنَوِيَّاً، سِوَى مَا كَانَ لأَهْلِ الطَّائِفِ وَغَيْرِهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَدَارَ هذهِ التِّجَارَةِ كَانَ على اسْتِقْرَارِ الأَمْنِ في تِلكَ الطَّرِيقَ.
فَلَا يَخْفَى مَا كَانَ لِقُرَيْشٍ من الخَطَرِ البَالِغِ في تَمَرْكُزِ الدَّعْوَةِ الإِسْلَامِيَّةِ في يَثْرِبَ، وَمُجَابَهَةِ أَهْلِهاَ ضِدَّهُم.
شَعَرَ المُشْرِكُونَ بِتَفَاقُمِ الخَطَرِ الذي كَانَ يُهَدِّدُ كَيَانَهُم، فَصَارُوا يَبْحَثُونَ عن أَنْجَحِ الوَسَائِلِ لِدَفْعِ هذا الخَطَرِ الذي مَبْعَثُهُ الوَحِيدُ هوَ حَامِلُ لِوَاءِ دَعْوَةِ الإِسْلَامِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ.
وفي يَوْمِ الخَمِيسِ 26 من شَهْرِ صَفَر سَنَةَ 14 من النُّبُوَّةِ، الموافق 12 من شهر أيلُولَ سَنَةَ 622م ـ أي: بَعْدَ شَهْرَيْنِ وَنِصْفٍ تَقْرِيبَاً من بَيْعَةِ العَقَبَةِ الكُبْرَى ـ عُقِدَ بَرْلَمَانُ مَكَّةَ ـ دَارُ النَّدْوَةِ ـ في أَوَائِلِ النَّهَارِ أَخْطَرُ اجْتِمَاعٍ لَهُ في تَارِيخِهِ، وَتَوَافَدَ إلى هذا الاجْتِمَاعِ جَمِيعُ نُوَّابِ القَبَائِلِ القُرَشِيَّةِ؛ لِيَتَدَارَسُوا خُطَّةً حَاسِمَةً تَكَفَلُ القَضَاءُ سَرِيعَاً على حَامِلِ لِوَاءِ الدَّعْوَةِ الإِسْلَامِيَّةِ؛ وَتَقْطَعُ تَيَّارَ نُورِهَا عن الوُجُودِ نِهَائِيَّاً، وَكَانَتِ الوُجُوهُ البَارِزَةُ في هذا الاجْتِمَاعِ الخَطِيرِ من نُوَّابِ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ:
أَبُو جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، عَن قَبِيلَةِ بَنِي مَخْزُومٍ.
وجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ، وطُعَيْمَةُ بْنُ عَدِيٍّ، والحَارِثُ بْنُ عَامِرٍ، عن بَنِي نَوْفَلَ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ.
وشَيْبَةُ وَعُتْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، عن بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ.
والنَّضْرُ بنُ الحَارِثِ، عن بَنِي عَبْدِ الدَّارِ.
وأَبُو البَخْتَرِيِّ بنِ هِشَامٍ، وزَمْعَةُ بنُ الأَسْوَدِ، وحَكِيمُ بنُ حِزَامٍ، عن بَنِي أَسَدِ بنِ عَبْدِ العُزَّى.
ونُبَيْهٌ ومُنَبِّهٌ ابْنَا الحَجَّاجِ، عن بَنِي سَهْمٍ.
وأُمَيَّةُ بنُ خَلَفٍ، عن بَنِي جُمَحٍ.
ولما جَاؤُوا إلى دَارِ النَّدْوَةِ حَسَبَ المِيعَادِ، اِعْتَرَضَهُم إِبْلِيسُ في هَيْئَةِ شَيْخٍ جَلِيلٍ، عَلَيهِ بَتٌّ لَهُ ـ يَعْنِي: عَلَيهِ كِسَاءٌ غَلِيظٌ مُرَبَّعٌ، وقِيلَ: طَيْلَسَانٌ من خَزٍّ ـ وَوَقَفَ على البَابِ، فَقَالُوا: من الشَّيْخُ ؟
قَالَ: شَيْخٌ من أَهْلِ نَجْدٍ سَمِعَ بالذي اتَّعَدْتُم لَهُ فَحَضَرَ مَعَكُم لِيَسْمَعَ ما تَقُولُونَ، وَعَسَى ألا يُعْدِمَكُم مِنهُ رَأْيَاً وَنُصْحَاً.
قَالُوا: أَجَلْ، فَادْخُلْ، فَدَخَلَ مَعهُم.
النِّقَاشُ البَرْلَمَانِيُّ والإِجْمَاعُ على قَرَارٍ غَاشِمٍ:
أيُّها الإخوة الكرام: وَبَعْدَ أَنْ تَكَامَلَ الاجْتِمَاعُ بَدَأَ عَرْضُ الاقْتِرَاحَاتِ والحُلُولِ، وَدَارَ النِّقَاشُ طَوِيلَاً.
قَالَ أَبُو الأَسْوَدِ: نُخْرِجُهُ من بَيْنِ أَظْهُرِنَا وَنَنْفِيهِ من بِلادِنَا، ولا نُبَالِي أَينَ ذَهَبَ، ولا حَيْثُ وَقَعَ، فقد أَصْلَحْنَا أَمْرَنَا وَأُلْفَتَنَا كَمَا كَانَتْ.
قَالَ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ: لا واللهِ ما هذا لَكُمْ بِرَأْيٍ، أَلَمْ تَرَوْا حُسْنَ حَدِيثِهِ، وحَلَاوَةَ مَنْطِقِهِ، وغَلَبَتِهِ على قُلُوبِ الرِّجَالِ بِمَا يَأْتِي بِهِ؟ واللهِ لَو فَعَلْتُم ذلكَ ما أَمِنْتُم أَنْ يَحُلَّ على حَيٍّ من العَرَبِ، ثمَّ يَسِيرَ بِهِم إِلَيكُم بَعْدَ أَنْ يُتَابِعُوهُ، حَتَّى يَطَأَكُم بِهِم في بِلادِكُم، ثمَّ يَفْعَلَ بِكُم مَا أَرَادَ، دَبِّرُوا فِيهِ رَأْيَاً غَيْرَ هذا.
قَالَ أَبُو البُخْتُرِيُّ: اِحْبِسُوهُ في الحَدِيدِ وَأَغْلِقُوا عَلَيهِ بَابَاً، ثمَّ تَرَبَّصُوا به مَا أَصَابَ أَمْثَالَهُ من الشُّعَرَاءِ الذين كَانُوا قَبْلَهُ ـ زُهَيْرَاً والنَّابِغَةُ ـ ومَن مَضَى مِنهُم، من هذا المَوتِ، حَتَّى يُصِيبَهُ مَا أَصَابَهُم.
قَالَ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ: لا واللهِ ما هذا لَكُمْ بِرَأْيٍ، واللهِ لَئِنْ حَبَسْتُمُوهُ ـ كَمَا تَقُولُونَ ـ لَيَخْرُجَنَّ أَمْرُهُ من وَرَاءِ البَابِ الذي أَغْلَقْتُمْ دُونَهُ إلى أَصْحَابِهِ، فَلَأَوْشَكُوا أَنْ يَثِبُوا عَلَيكُم، فَيَنْزِعُوهُ من أَيْدِيكُم، ثمَّ يُكَاثِرُوكُم بِهِ حَتَّى يَغْلِبُوكُم على أَمْرِكُم، ما هذا لَكُمْ بِرَأْيٍ، فَانْظُرُوا في غَيْرِهِ.
وَبَعْدَ أَنْ رَفَضَ البَرْلَمَانُ هَذيْنِ الاقْتِرَاحَيْنِ، قُدِّمَ إِلَيهِ اقْتِرَاحٌ آثِمٌ وَافَقَ عَلَيهِ جَمِيعُ أَعْضَائِهِ، تَقَدَّمَ به كَبِيرُ مُجْرِمِي مَكَّةَ أَبُو جَهْلِ بنِ هِشَامٍ.
قَالَ أَبُو جَهْلٍ: واللهِ إِنَّ لي فِيهِ رَأْيَاً ما أَرَاكُم وَقَعْتُم عَلَيهِ بَعْدُ.
قَالُوا: وَمَا هُوَ يَا أَبَا الحَكَمِ؟
قَالَ: أَرَى أَنْ نَأْخُذَ من كُلِّ قَبِيلَةٍ فَتَىً شَابَّاً جَلِيدَاً نَسِيبَاً وَسِيطَاً فِينَا، ثمَّ نُعْطِي كُلَّ فَتَىً مِنهُم سَيْفَاً صَارِمَاً، ثمَّ يَعْمَدُوا إِلَيهِ، فَيَضْرِبُوهُ بِهَا ضَرْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَيَقْتُلُوهُ، فَنَسْتَرِيحَ مِنهُ، فَإِنَّهُم إذا فَعَلُوا ذلكَ تَفَرَّقَ دَمُهُ في القَبَائِلِ جَمِيعَاً، فَلَمْ يَقْدِرْ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ على حَرْبِ قَوْمِهِم جَمِيعَاً، فَرَضُوا مِنَّا بالعَقْلِ ـ العَقْلُ: الدِّيَةُ؛ وسًمِّيَتْ عَقْلاً، لأَنَّ الدِّيَةَ كَانَتْ في الجَاهِلِيَّةِ إِبِلاً، تُسَاقُ إلى فِنَاءِ وَرَثَةِ المَقْتُولِ، فَيَعْقِلُهَا بالعُقْلِ ويُسَلِّمُهَا إلى أَوْلِيَائِهِ ـ فَعَقَلْنَاهُ لَهُم.
قَالَ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ: القَوْلُ مَا قَالَ الرَّجُلُ، هذا الرَّأْيُ الذي لا رَأْيَ غَيْرَهُ.
وَوَافَقَ بَرْلَمَانُ مَكَّةَ على هذا الاقْتِرَاحِ الآثِمِ بالإِجْمَاعِ، وَرَجَعَ النُّوَّابُ إلى بُيُوتِهِم وقد صَمَّمُوا على تَنْفِيذِ هذا القَرَارِ فَوْرَاً.
بَيْنَ تَدْبِيرِ قُرَيْشٍ وتَدْبِيرِ اللهِ سُبْحَانَهُ وتعالى:
أيُّها الإخوة الكرام: من طَبِيعَةِ مِثْلِ هذا الاجْتِمَاعِ السِّرِّيَّةُ للغَايَةِ، وألا يَبْدُو على السَّطْحِ الظَّاهِرِ أَيُّ حَرَكَةٍ تُخَالِفُ اليَوْمِيَّاتِ، وتُغَايِرُ العَادَاتِ المُسْتَمِرَّةِ، حَتَّى لا يَشَمَّ أَحَدٌ رَائِحَةَ التَّآمُرِ والخَطَرِ، ولا يَدُورَ في خَلَدِ أَحَدٍ أَنَّ هُنَاكَ غُمُوضَاً يُنْبِئُ عن الشَّرِّ، وكَانَ هذا مَكْرَاً من قُرَيْشٍ، وَلَكِنَّهُم مَاكَرُوا بذلكَ اللَه سُبْحَانَهُ وتعالى، فَخَيَّبَهُم من حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ. فَقَد نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيهِ السَّلامُ إلى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ بِوَحْيٍ من رَبِّهِ تَبَارَكَ وتعالى فَأَخْبَرُه بِمُؤَامَرَةِ قُرَيْشٍ، وَأَنَّ اللهَ قَد أَذِنَ لَهُ في الخُرُوجِ، وَحَدَّدَ لَهُ وَقْتَ الهِجْرَةِ، وَبَيَّنَ لَهُ خُطَّةَ الرَّدِّ على قُرَيْشٍ، فَقَالَ: لا تَبِتْ هذهِ اللَّيْلَةَ على فِرَاشِكَ الذي كُنْتَ تَبِيتُ عَلَيهِ.
وَذَهَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ في الهَاجِرَةِ ـ حِينَ يَسْتَرِيحُ النَّاسُ في بُيُوتِهِم ـ إلى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ لَيُبْرِمَ مَعَهُ مَرَاحِلَ الهِجْرَةِ.
قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: بَيْنَمَا نَحنُ جُلُوسٌ في بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ في نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، قَالَ قَائِلٌ لأَبِي بَكْرٍ: هذا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ مُتَقَنِّعَاً ـ مُتَخَمِّرَاً ـ في سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا.
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِدَاءٌ لَهُ أَبِي وأُمِّي، واللهِ مَا جَاءَ بِهِ في هذهِ السَّاعَةِ إلا أَمْرٌ.
قَالَتْ: فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، فَاسْتَأْذَنَ،فَأُذِنَ لَهُ فَدَخَلَ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ لأَبِي بَكْرٍ: «أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ».
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّمَا هُم أَهْلُكَ، بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ.
قَالَ: «فَإِنِّي قَد أُذِنَ لِي في الخُرُوجِ».
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: الصُّحْبَةَ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ: «نَعَم».
ثمَّ أَبْرَمَ مَعَهُ خُطَّةَ الهِجْرَةِ، وَرَجَعَ إلى بَيْتِهِ يَنْتَظِرُ مَجِيءَ اللَّيْلِ؛ وقد اسْتَمَرَّ في أَعْمَالِهِ اليَوْمِيَّةِ حَسْبَ المُعْتَادِ حَتَّى لَا يَشْعُرَ أَحَدٌ بِأَنَّهُ يَسْتَعِدُّ للهِجْرَةِ، أو لِأَيِّ أَمْرٍ آخَرَ اتِّقَاءَ مِمَّا قَرَّرَتْهُ قُرَيْشٌ.
تَطْوِيقُ مَنْزِلِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ:
أيُّها الإخوة الكرام: أَمَّا أَكَابِرُ مُجْرِمِي قُرَيْشٍ فَقَضَوْا نَهَارَهُم في الإِعْدَادِ سِرَّاً لِتَنْفِيذِ الخُطَّةِ المَرْسُومَةِ التي أَبْرَمَهَا بَرْلَمَانُ مَكَّةَ ـ دَارُ النَّدْوَةَ ـ صَبَاحَاً، واخْتِيرَ لذلكَ أَحَدَ عَشَرَ رَئِيسَاً من هؤلاءِ الأَكَابِرِ، وَهُم:
أَبُو جَهْلِ بنِ هِشَامٍ، والحَكَمُ بنُ أَبِي العَاصِ، وعُقْبَةُ بنُ أَبِي مُعَيْطٍ، والنَّضْرُ بنُ الحَارِثِ، وأُمَيَّةُ بنُ خَلَفَ، وزَمْعَةُ بنُ الأَسْوَدِ، وطُعَيْمَةُ بنُ عَدِيٍّ، وأَبُو لَهَبٍ، وأُبَيُّ بنُ خَلَفٍ، ونُبَيْهُ بنُ الحَجَّاجِ، وَأَخُوهُ مُنَبِّهُ بنُ الحَجَّاجِ.
وَكَانَ من عَادَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ أَنْ يَنَامَ في أَوَائِلِ اللَّيْلِ بَعْدَ صَلَاةِ العِشَاءِ، وَيَخْرُجَ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ إلى المَسْجِدِ الحَرَامِ، يُصَلِّي فِيهِ قِيَامَ اللَّيْلِ، فَأَمَرَ عَلِيَّاً رَضِيَ اللهُ عَنهُ تِلكَ اللَّيْلَةَ أَنْ يَضْطَجِعَ على فِرَاشِهِ، وَيَتَسَجَّى بِبُرْدِهِ الحَضْرَمِيِّ الأَخْضَرِ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ لا يُصِيبُهُ مَكْرُوهٌ.
فَلَمَّا كَانَتْ عَتْمَةٌ من اللَّيْلِ وَسَادَ الهُدُوءُ، وَنَامَ عَامَّةُ النَّاسِ جَاءَ المَذْكُورُونَ إلى بَيِتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ سِرَّاً، واجْتَمَعُوا على بَابِهِ يَرْصُدُونَهُ، وَهُم يَظُنُّونَهُ نَائِمَاً حَتَّى إذا قَامَ وَخَرَجَ وَثَبُوا عَلَيهِ، وَنَفَّذُوا مَا قَرَّرُوا فِيهِ.
وَكَانُوا على ثِقَةٍ وَيَقِينٍ جَازِمٍ من نَجَاحِ هذهِ المُؤَامَرَةِ الدَّنِيَّةِ.
حَتَّى وَقَفَ أَبُو جَهْلٍ وِقْفَةَ الزُّهُوِّ والخُيَلَاءِ، وَقَالَ مُخَاطِبَاً لأَصْحَابِهِ المُطَوِّقِينَ في سُخْرِيَةٍ واسْتِهْزَاءٍ : إنَّ مُحَمَّدَاً يَزْعُمُ أَنَّكُمْ إنْ تَابَعْتُمُوهُ عَلَى أَمْرِهِ كُنْتُمْ مُلُوكَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، ثُمَّ بُعِثْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ فَجُعِلَتْ لَكُمْ جِنَانٌ كَجِنَانِ الْأُرْدُنَّ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ لَهُ فِيكُمْ ذَبْحٌ ثُمَّ بُعِثْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ، ثُمَّ جُعِلَتْ لَكُمْ نَارٌ تُحْرَقُونَ فِيهَا.
وَقَد كَانَ مِيعَادُ تَنْفِيذِ تِلكَ المُؤَامَرَةِ بَعْدَ مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ في وَقْتِ خُرُوجِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ من البَيْتِ، فَبَاتُوا مُتَيَقِّظِينَ يَنْتَظِرُونَ سَاعَةِ الصِّفْرِ، وَلَكِنَّ اللهَ غَالِبٌ على أَمْرِهِ، بِيَدِهِ مَلَكُوتُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَهُوَ يُجِيرُ ولا يُجَارُ عَلَيهِ، فَقَد فَعَلَ مَا خَاطَبَ بِهِ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ فِيمَا بَعْدُ: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ واللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾.
وَقَد فَشِلَتْ قُرَيْشٌ في خُطَّتِهِم فَشَلَاً ذَرِيعَاً مَعَ غَايَةِ التَّيَقُّظِ والتَّنَبُّهِ؛ إِذْ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ من البَيْتِ، وَاخْتَرَقَ صُفُوفَهُم، وَأَخَذَ حَفْنَةً من البَطْحَاءِ فَجَعَلَ يَذُرُّهُ على رَؤُوسِهِم، وَقَد أَخَذَ اللُه أَبْصَارَهُم عَنهُ فَلَا يَرَوْنَهُ، وَهُوَ يَتْلُو: ﴿وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدَّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدَّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾. فَلَمْ يَبْقَ مِنهُم رَجُلٌ إلا وَقَد وَضَعَ على رَأْسِهِ تُرَابَاً، وَمَضَى إلى بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ، فَخَرَجَا من خَوْخَةٍ في دَارِ أَبِي بَكْرٍ لَيْلَاً حَتَّى لَحِقَا بِغَارِ ثَوْرٍ في اتِّجَاهِ اليَمَنِ.
وَبَقِيَ المُحَاصِرُونَ يَنْتَظِرُونَ حُلُولَ سَاعَةِ الصِّفْرِ، وَقُبَيْلَ حُلُولِهَا تَجَلَّتْ لَهُمُ الخَيْبَةُ والفَشَلُ، فَقَد جَاءَهُم رَجُلٌ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُم، وَرَآهُم بِبَابِهِ فَقَالَ: مَا تَنْتَظِرُونَ؟
قَالُوا: مُحَمَّدَاً.
قَالَ: خِبْتُمْ وَخَسِرْتُمْ، قد واللهِ مَرَّ بِكُم، وَذَرَّ على رُؤُوسِكُمُ التُّرَابَ، وَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ.
قَالُوا: واللهِ مَا أَبْصَرْنَاهُ، وَقَامُوا يَنْفُضُونَ التُّرَابَ عَن رُؤُوسِهِم.
وَلَكِنَّهُم تَطَلَّعُوا من صَيْرِ البَابِ فَرَأَوْا عَلِيَّاً، فَقَالُوا: واللهِ إِنَّ هذا لَمُحَمَّدٌ نَائِمَاً، عَلَيهِ بُرْدُهُ، فَلَمْ يَبْرَحُوا كَذلكَ حَتَّى أَصْبَحُوا. وَقَامَ عَلِيٌّ عن الفِرَاشِ، فَسُقِطَ في أَيْدِيهِم، وَسَأَلُوهُ عَن رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، فَقَالَ: لا عِلْمَ لِي بِهِ.
خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: مَن أَرَادَ حِفْظَ اللهِ تعالى لَهُ فَلْيَحْفَظِ اللهَ تعالى، وذلكَ من خِلالِ الالْتِزَامِ بالكِتَابِ والسُّنَّةِ، ومن خِلالِ مُتَابَعَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ، والمُتَّبِعُ وَاثِقٌ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾. وَوَاثِقٌ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ﴾.
اللَّهُمَّ أَكْرِمْنَا بذلكَ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin