الحمد لله لمن قام بحقّ حمده اسم الله، فتجلى في كلّ كمال استحقه وافتضاه، وحصر بنقطة خال جلاله حروف الجمال واستوفاه. سمع حمد نفسه بما أثنى عليه المعبود، فهو الحامد والحمد والمحمود ، حقيقة الوجود المطلق. عين هوية المسمى بالخلق والحقّ، محتد العالم الظاهر على صورة آدم معنى لفظ الكائنات، روح صور المخترعات. الموجود بكماله من غير حلول في كل ذرّة، اللائح جمال وجهه في كل غرّة، ذي الجلال المستوجب، حائز الكمال المستوعب ذات حقيقة الجواهر والأعراض، صورة المعاني والأغراض، هوية العدم والوجود، إنية عين كل والد ومولود، بصفاته جمّل الجمال فعمّ، وبذاته آمل الكمال فتمّ، لاحت محاسنه على صفحات خدود الصفات، واستقامت بقيومية أحديته قدود الذات، فنطقت ألسن الصوامت أنه عينها، وشهدت عين المحاسن والمساوئ أنه زينها، توحد في التعداد، وتفرّد بالعظمة في الآزال والآباد، تنزّه عن الاحتياج إلى التنزيه، وتقدّس عن التمثيل والتشبيه. وتعالي في أحديته عن العد وعز في عظمته أن يحصره الحد ، لا يقع الكم عليه ولا كيف ولا اين ، ولا يحيط به العلم ولا تدركه العين حياته نفس وجود الحياة و ذاته عين قيومته بكنه الصفات . مجلي الأعالي والأسافل عين الأواخر والأوائل هيولي الكمال الباذخ منشأ عظمة المجد الشامخ ، سريان حياته في الأشياء آل معدن علمه بالوجود، وعلمه بها محل بصره المدرك لكل غائب و مشهود ، رؤياه للأشياء مجلي.سماعة لكلامها وسماعه للموجودات عين ما افتضاه منه حتى نظامها إرادته مركز كلمته الباهرة. وكلمته منشأ صفته القادرة، بقاؤه هوية بطون العدم وظهور الوجود ، ألوهيته الجمع بين ذل العابد وعز المعبود. تفرد بالوصف المحيط، وتوحد فلا واله ولا ولد ولا خليط، تردى بالعظمة والكبرياء، وتسربل بالمجد والبهاء، فتحرك في كل متحرك بكل حركة، وسكن في كل مماكن بكل سكون بلا حلول كما يشاء. ظهر في كل ذات بكل خلق، واتصف بكل معنى في كل خلق وحق، جمع بذاته شمل الأضداد وشمل بواحديته جمع الأعداد. فتعالى وتقدس في فرديته عن الأزواج والأفراد، أحديته عين الكثرة المتنوعة وتريته عبر الازدواجات المتشفعة. بساطة تنزيه نفس تركيب التشبيه ، تعاليه في ذاته هويه عزة التنويه ، لا تحيط بعظمته العلوم، ولا تدرك كنه جلاله فهومه الفهوم ، اعترف العالم بالعجز عن إدراكه ، ورجع العقل في ربقه من رتقه خائبا من فتقة، وفكاكه دائرة الوجوب والجواز، نقطة التصريح والإلغاز، هوية طرفي الإمكان في المشهد الصحيح ، والغرض، آنية الجوهر والعرض . والحياة في طالع الشهود، ومستهل النبات والحيوان عند تزل السريان ، بحر تنزل الروحانيات العلى، مصعد أوج الملك ، وحضيض مهبط الشيطان والهوى، طامس ظلام الكفر والإشراك، نور بياض الايمان والإدراك ،صبح جبين الهدى. ليل دجى الغي والعمى، مرآة الحديث والقديم، مجلي هوية العذاب والنعيم ، حيطته بالأشياء كونه ذاتها ذاته، عجزت عن الحيطة بكنهها صفاتها، لا أول لأوليته ، ولا آخر لآخريته، قيوم أزلي باق أبدي، لا تتحرك في الوجود ذرة إلا بقوته وقدرته وارادته ، يعلم ما كان وما هو كائن من أمر بدء الوجود ونهاتيه.
وأشهد أن لا إله إلاَّ الله المتعالي عن هذه العبارات، المتقدّس عن أن تعلم ذاته بالتصريح والإشارات. كل إشارة دلت عليه فقد أضربت عن حقيقته صفحاً، وكل عبارة أهدت إليه فقد ضلّت عنه جمحاً، هو كما علم نفسه حسب ما اقتضاه، وبذاته حاز الكمال واستوفاه.
وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم المدعو بفرد من أفراد بني آدم، عبده ورسوله المعظم، ونبيه المكرَّم، ورداؤه المعلم، وطرازه الأفخم، وسابقه الأقدم، وصراطه الأقوم، مجلى مرآة الذات، منتهى الأسماء والصفات، مهبط أنوار الجبروت، منزل أسرار الملكوت، مجمع حقائق اللاهوت، منبع رقائق الناسوت، النافخ بروح الجبرلة، والمانح بسرّ الميكلة، والسابح بقهر العزرلة، والجانح بجمع السرفلة عرش رحمانية الذات.
كرسي الأسماء والصفات، منتهى السدرات، رفرف سرير الأسرات، هيولى الهباء والطبيعيات، فلك أطلس الألوهيات، منطقة بروج أوج الربوبيات، سموات فخر التسامي والترقيات، شمس العلم والدراية، بدر الكمال والنهاية. نجم الاجتباء والهداية، نار حرارة الإرادة، ماء حياة الغيب والشهادة، ريح صبا نفس الرحمة والربوبية، طينة أرض الذلة والعبودية، ذو السبع المثاني، صاحب المفاتيح والثواني، مظهر الكمال، ومقتضى الجمال والجلال.
مرآة معنى الحسن مظهر ما علا .... مجلى الكمال عذيب الينبوع
قطب على فلك المحاسن شمسه .... لا آفلاً ما زال ذا تطليع
كل الكمال عبارة عن خردل ... متفرّق عن حسنه المجموع
صلّى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه القائمين عنه في أحواله، النائبين منابه في أفعاله وأقواله، وأشهد أن القرآن كلام الله، وأن الحق ما تضمنه فحواه، نزل به الروح الأمين على قلب خاتم النبيين والمرسلين.
وأشهد أن الأنبياء حق والكتب المنزّلة عليهم صدق، والإيمان بجميع ذلك واجب قاطع، وأن القبر والبرزخ وعذابه واقع، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأشهد أن الجنة حقّ والنار حقّ والصراط حق والحساب يوم النشور حق؛ وأشهد أن الله يريد الخير والشر، وبيده الكسر والجبر، فالخير بإرادته وقدرته ورضاه وقضاه، والشر بإرادته وقدرته وقضائه لا برضاه، الحسنة بتأييده وهداه، والسيئة مع قضائه بشؤم العبد واغتواه، ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك، كل من عند الله، منه بدء الوجود وإليه أمره يعود.
أما بعد، فإنه لما كان كمال الإنسان في العلم بالله وفضله على جنسه بقدر ما اكتسب من فحواه، وكنت معارف التحقيق المنوطة بالإلهام والتوفيق حرماً آمناً يتخطف الناس من حوله بالموانع والتعويق، قفارها محفوفة يكون للسالك إلى رفيقها الأعلى الرفيق الرقيق، وآملاً أن يكون للطالب لتلك المطالب الشقيق الشفيق، فيستأنس به في فلواتها البسابس ، ويتطرّق به في معالمها الدوامس، ويستضئ بضياء معارفه في ظلمات نكراتها الطوامس، فقد فقدت شموس الجذب من سماء قلوب المريدين.
وأفلت بدور الكشف عن سماء أفلاك السائرين، وغربت نجوم العزائم من همم القاصدين، فلهذا قلّ أن يسلم في بحرها السابح، وينجو من مهالك قفرها السائح:
كم دون ذاك المنزل المتعالي ... من مهمه قد حفّ بالأهوال
وصوارم بيض وخضر أسنة .... حملت على سمر الرماح عوال
والبرق يلهب حسرة من تحته .... والريح عنه مخيب الآمال
وكنت قد أسست الكتاب على الكشف الصريح، وأيدت مسائله بالخبر الصحيح، وسميته
بــ [الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل] لكني بعد أن شرعت في التأليف، وأخذت في البيان والتعريف، خطر في الخاطر أن أترك هذا الأمر إجلالاً لمسائل التحقيق، وإقلالاً لما أوتيت من التدقيق، فجمعت همتي على تفريقه، وشرعت في تشتيته وتمزيقه، حتى دثرته فاندثر، وفرقته شذر مذر، فأفل شمسه وغاب، وانسدل على وجه جماله برقع الحجاب، وتراته نسياً منسياً، واتخذته شيئاً فرياً، فصار خبراً بعد أن كن أثراً مسطوراً، وتلوت {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا} سورة الانسان . وأنشد لسان الحال بلطيف المقال:
كن لم يكن بين الحجون إلى الصفا .... أنيس ولم يسمر بمكة سامر
فأمرني الحق الآن بإبرازه بين تصريحه وإلغازه، ووعدني بعموم الانتفاع، فقلت طوعاً للأمر المطاع، وابتدأت في تأليفه، متكلاً على الحق في تعريفه، فها أنا ذا كرع من دنه القديم بكأس الاسم العليم، في قوابل أهل الإيمان والتسليم، خمرة مرضعة من الحي الكريم، مسكرة الموجود والعديم:
سلاف تريك الشمس والليل مظلم ..... وتبدي السها والصبح بالضوء مقحم
تجلّ عن الأوصاف لطف شمائل .... شمول بها راق الزمان المصرم
إذا جليت في كؤس من حبابها .... وديرت بدور الدهر وهو مزمزم
وآم قلدت ندمانها بوشاحها ..... مقاليد ملك الله والأمر أعظم
وربّ عديم ملكته نطاقها ..... فأصبح يثري في الوجود ويعدم
وآم جاهل قد أنشقته نسيمها ..... فأخبر ما إبليس كن وآدم
وآم خامل قد أسمعته حديثها ..... رقى شهرة عرشاً يعزّ ويكرم
فلو نظرت عين أزجة كوسها .... لما كحلت يوماً بما ليس تعلم
هي الشمس نوراً بل هي الليل ظلمة ... هي الحيرة العظمى التي تتلعثم
مبرقعة من دونها كلّ حائل ..... ومسفرة كالبدر لا تتكتم
فنور ولا عين وعين ولا ضيا ..... وحسن ولا وجه ووجه ملثم
شميم ولا عطر وعطر ولا شذى ...... وخمر ولا كس وكس مختم
خذوا يا ندامى من حباب دنانها ..... أماني آمال تَجلّ وتعظم
ولا تهملوا باللَّه قدر جنابها ..... فما حظّ من فاتته إلاَّ التندّم
لِيَهْن أخلائي الذين حظوا بها ...... عليهم سلامي والسلام مسلم
مقدمة
بسم الله الرحمن الرَّحيم الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، لما كن الحق هو المطلوب من إنشاء هذا الكتاب، لزمنا أن نتكلم فيه علي الحق سبحانه وتعالي من حيث اسماؤه أولا إذ هي الدالة عليه ، ثم من حيث أوصافه لتنوع كمال الذات فيها؟ ولأنها أول ظاهر من مجالي الحق سبحانه وتعالى ولا بعد الصفات في الظهور الا الذات، فهي بهذا الاعتبار أعلى مرتبة من الاسم ، ثم نتكلم من حيث ذاته على حسب ما حملته العبارة الكونية. ولا بد لنا من التنزل في الكلام على قدر العبارة المصطلحة عند الصوفية، ونجعل موضع الحاجة فيها موشحاً بين الكلام ليسهل فهمه على الناظر فيه وسأنبه على أسرار لم يضعها واضع علم في كتاب من أمر ما يتعلق بمعرفة الحق تعالى ومعرفة العالم الملكي والملكوتي، موضحاً به ألغاز الموجود كشفاً به الرمز المعقود، سالكاً في ذلك طريقه بين الكتم والإفشاء، مترجماً به عن النثر والإنشاء، فليتأمل الناظر فيه كل التأمل؛ فمن المعاني ما لا يفهم إلاَّ لغزاً أو إشارة. فلو ذكر مصرّحاً لحال الفهم به عن محله إلى خلافه، فيمتنع بذلك حصول المطلوب، وهذه نكتة كثيرة الوقوع. ألا ترى إلى قوله تعالى: "وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ" فلو قال: على سفينة ذات ألواح ودسر لحصل منه أن ثم سفينة غير المذكورة ليست بذات ألواح. ثم ألتمس من الناظر في هذا الكتاب بعد أن أعلمه أني ما وضعت شيئاً في هذا الكتاب إلاَّ وهو مؤيد بكتاب الله أو سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، أنه إذا لاح له شيء من كلامي بخلاف الكتاب والسنة، فليعلم أن ذلك من حيث مفهومه لا من حيث مرادي الذي وضعت الكلام لأجله فليتوقف عن العمل به مع التسليم إلى أن يفتح الله تعالى عليه بمعرفته، ويحصل له شاهد ذلك من كتاب الله تعالى أو سنّة نبيه، وفائدة التسليم هنا وترك الإنكار أن لا يحرم الوصول إلى معرفة ذلك. فإن من أنكر شيئاً من علمنا هذا حرم الوصول إليه ما دام منكراً، ولا سبيل إلى غير ذلك، بل ويخشى عليه حرمان الوصول إلى ذلك مطلقاً بالإنكار أول وهلة، ولا طريق له إلاَّ الإيمان والتسليم.
واعلم أن كل علم لا يؤيده الكتاب والسنّة فهو ضلالة، لا لأجل ما لا تجد أنت له ما يؤيده، فقد يكون العلم في نفسه مؤيداً بالكتاب والسنة، ولكن قلة استعدادك منعتك من فهمه فلن تستطيع أن تتناوله بهمتك من محله فتظن أنه غير مؤيد بالكتاب والسنة، فالطريق في هذا التسليم وعدم العمل به من غير إنكار إلى أن يأخذ الله بيدك إليه، لأن كل علم يرد عليك لا يخلو من ثلاثة أوجه :
الوجه الأول : المكالمة، وهو ما يرد على قلبك من طريق الخاطر الرباني والملكي، فهذا لا سبيل إلى رده ولا إلى إنكاره، فإن مكالمات الحق تعالى لعباده واخباراته مقبولة بالخاصية لا يمكن لمخلوق دفعها أبدأ، وعلامة مكالمه الحق تعالى لعباده أن يعلم السامع بالضرورة أنه كلام الله تعالى وأن يكون سماعه له بكليته ، وأن لا يقيد بجهة دون غيرها، ولو سمعه من جهة فإنه لا يمكنه أنه يخصه بجهة دون أخرى. ألا ترى الى موسى عليه السلام سمع الخطاب من الشجرة ولم يقيد بجهة والشجرة جهة، ويقرب الخاطر الملكي من الخاطر الرباني في القبول ولكن ليست له تلك القوة ، إلا أنه اعتبر قبل بالضرورة.
وليس هذا الأمر فيما مرد من جناب الحق على طريق المكالمة فقط بل تجلياته أيضأ كذلك ، فمتى تجلى شيء من أنوار الحق للعبد علم العبد بالضرورة من أول وهلة أنه نور الحق، سواء كان التجلي صفاتيأ أو ذاتيأ علميأ أو عينيأ. فمتى تجلى عليك شيء وعلمت في أول وهلة أنه نور الحق أو صفة أو ذاته فإن ذلك هو التجلي فافهم، فإن هذا البحر لا ساحل له. وأما الإلهام الإلهي فإن طريق المبتدي في العمل به أن يعرضه على الكتاب والسنّة، فإن وجد شواهده منهما فهو إلهام إلهي، وإن لم يجد له شاهداً فليتوقف عن العمل به مع عدم الإنكار لما سبق. وفائدة التوقف أن الشيطان قد يلقي في قلب المبتدئ شيئاً يفهمه أنه إلهام إلهي، فيخشى ذلك أن يكون من هذا القبيل، وليلزم صحة التوجه إلى الله تعالى والتعلق به مع التمسك بالأصول إلى أن يفتح الله عليه بمعرفة ذلك الخاطر.
الوجه الثاني : هو أن يكون العلم وارداً على لسان من ينسب إلى السنة والجماعة، فهذا إن وجدت له شاهداً أو محملاً فهو المراد، وإلاَّ فكف وآن مما لا يمكنه الإيمان به مطلقاً لغلبة نور عقلك على نور إيمانك، فطريقك فيه طريقك في مسألة الإلهام بين التوقف والاستسلام.
الوجه الثالث : أن يكون العلم وارداً على لسان من اعتزل عن المذهب والتحق بأهل البدعة فهذا العلم هو المرفوض، ولكن الكيِّس لا ينكره مطلقاً، بل يقبل منه ما يقبله الكتاب والسنة من كل وجه ويرد منه ما يرده الكتاب والسنة من كل وجه، وقلّ أن يتفق مثل هذا في مسائل أهل القبلة، وما قَبِلَه الكتاب أو السنة من وجه ورده من وجه فهو فيه على ذلك المنهج، وأما ما ورد في الكتاب والسنة من المسائل المتقابلة كقوله:{إنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
وقوله صلي الله عليه وسلم : "أول ما خلق الله العقل"
وقوله صلي الله عليه وسلم : " أول ما خلق الله القلم "
وقوله صلي الله عليه وسلم : “ أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر"
فتحملها علي احسن الوجوه و المحامل واتمها واجمعها واعمها كما قيل في الهداية التي ليست إليه صلي الله عليه وسلم هي الهداية إلى ذات الله تعالى. وفي الهداية التي جعلها الله إليه هي الهداية الطريق الموصلة الى الحق ، وكما قيل أن الأحاديث الثلاثة أن المراد بها شيء واحد و لكن باعتبار نسبتها تعددت، كما في الأسود واللامع و البراق عبارة عن الحبر و لكن باختلاف النسب.
وما قدمت لك هذه المقدمة كلها إلاَّ لتخرج عن ورطة المحجوبين بالوجه الواحد عن وجوه كثيرة، ولتجد طريقاً إلى معرفة ما يجريه الله على لساني في هذا الكتاب، فتبلغ بذلك مبلغ الرجال إن شاء الله تعالى.
إشارة : جمعنا الوقت عند الحق بغريب من غرباء الشرق متلثماً بلثام الصمدية ، متزراً بإزار الأحدية ، متردياً رداء الجلال ، متوجاً بتاج الحسن والجمال ، مسلِّماً بلسان الكمال ؛ فلما أجبت تحية سلامه أسفر بدره عن لسانه، فشاهدته أنموذجاً فهوانياً حكمياً حكيماً برنامجاً مقدراً على سبيل الفرض، وبه لا بغيره تبرأ الذمة من رقّ الغرض، فاعتبرته في معياري ونظمت به عقود الدراري، فانقطع من أول وهلة مني علاقة الفقار فأصلحته بانكسار عمود الآن، فلما استقامت شوكة المعيار وحصل ربّ العرش في الدار نصبت كرسي الاقتدار وأقمت به ميزان الاعتبار، فاعتبرت مالي في مآلي بقوانين تلك المعالي، فلم يزل ذلك دأبي وأنا كاتم عني ما بي إلى أن نفدت الأرطال وانقطع الاعتبار بالمثقال، ظفرت بقيراط التدقيق فأحكمت به عيار التحقيق، فصبغت يدي بالحنا وكحلت عيني الوسنى، فلما فتحت العين وكسرت القفلين خاطبني بحديث الأين، فأجبته بلسان البين، وأنشدت هذه الأبيات، وجعلتها بين النفي والإثبات:
صحّ عندي أنها عدم .... مذ غدت بالوجود مشتهره
قد رآها الخيكل من بعد ..... قدرة في الوجود مقتدره
لم تكن غير حائط نصبت ..... لك فيها الكنوز مدخره
أنا ذاك الجدار وهي له .... آنزه المختفي لأحتفره
فاتخذها بصورة شبحاً ..... وهي روح له لتعتبره
كمل اللَّه حسنها فغدت ...... بجمكل الإله مشتهره
لم تكن في سواك قائمة ..... فافهم الأمر آي ترى صوره
فلما سمع مني مقالتي وتحلى بحالتي أدار بدره في هالتي، ثم أنشأ وما أفشى وقال:
حسنا مبرقعة منها ستائرها .... ثعبانها صدغها والسحر ناظرها
وذاقت الخمر في السكران فانثملت .... وبان بالسكر ما تحوي مآزرها
تخيلت كل بدر تمَّ فاتخذت ..... منه لها خلقاً حتى نوادرها
رأت نقوش خضاب في معاصمها ..... فاستكتبته بها فيها غدائرها
وتوجت قيصراً بتاج تبعها ..... وقام في ملك دارها دوائرها
تملكت لرقاب الخلق قاطبة ..... ببيض مخضرة حمر شفائرها
واستكملت كل حسن كن يحسبه ..... من جملة الحسن في ليلاه عامرها
فظاهر العزّ ما يخفيه باطنها ..... وباطن الحسن ما يبديه ظاهرها
فلما سمعت خطابه الشهيّ وفهمت فحواء النجيّ، أقسمت عليه بالذي كان وما كان ووفى بعهده وما خان، ولبس برديه وتعرى عن ثوبيه، ونشر في الآفاق جماله ولم يكن شيء منها له، وبالذي استعبدته الأفكار والعقول لبيانه وقربته الأرواح والأسرار لحنانه، وبمن أدهش في حيطته وأنعش في مطيته وانحاز في نقطته، وزاد على دائرة الحيطة أن يرفع برقع الحجاب ويصرح لي بالخطاب، فتنزل وما زال، ثم أنشأ فقال رحمه الله تعالى:
أنا الموجود والمعدوم ..... والمنفي والباقي
أنا المحسوس والموهوم ...... والأفعاء والراقي
أنا المحلول والمعقود ....... والمشروب والساقي
أنا الكنز أنا الفقر ...... أنا خلقي وخلاقي
فلا تشرب بكاساتي ...... ففيها سم درياقي
ولا تطمع ولوجاً ....... فهو مسدود بإغلاق
ولا تحفظ ذماماً لي ....... ولا تنقض لميثاقي
ولا تثبت وجوداً لي ...... ولا تنفيه يا باقي
ولا تجعلك غيراً لي ...... ولا عيناً لآماقي
ولكن ما عنيت به ....... به غيبت أشواقي
فكن فيما تراني ...... فيه واشرب كاس إدهاقي
ولا تخلع قبا بندى ..... ولا تلبس لغَلَل طاقي
وقل أنا ذا ولست بذا ...... بأوصافي وأخلاقي
فبي يرد وهذا القلب ...... ملتهب بإحراقي
وبي ظمأ ويا عجبي ....... وفي جيحون إغراقي
وقد أعياني الحمل ....... وما شيء بأعناقي
أخف وفيّ أثقالي ........ وأثقل والهوى ساقي
يحا آيني النعام . ...... بحالتي طربي وإشفاقي
فهو طير بأجنحة ......... وهو جمل بأعناقي
ولا جمل ولا طير ........ ولكن رمز سباقي
فلا عين ولا بصر ........ ولكن سرّ آماقي
ولا أجل ولا عمر ........ ولا فان ولا باقي
هو جوهر له عرضان .. وذات لها وصفان. هوية ذلك الجوهر.. علم وقوى.
فإما عليم حكيم جرى في أنابيب القوى.. فخرج على شكل ثلاثي القوى.
وإما قوى ترشحت بعلوم حكمتها... فرأيت البسيط على ثلث هويتها.
إن قلت العلم أصل فالقوى فرع...أو قلت القوى أرض فالعلم زرع
وأشهد أن لا إله إلاَّ الله المتعالي عن هذه العبارات، المتقدّس عن أن تعلم ذاته بالتصريح والإشارات. كل إشارة دلت عليه فقد أضربت عن حقيقته صفحاً، وكل عبارة أهدت إليه فقد ضلّت عنه جمحاً، هو كما علم نفسه حسب ما اقتضاه، وبذاته حاز الكمال واستوفاه.
وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم المدعو بفرد من أفراد بني آدم، عبده ورسوله المعظم، ونبيه المكرَّم، ورداؤه المعلم، وطرازه الأفخم، وسابقه الأقدم، وصراطه الأقوم، مجلى مرآة الذات، منتهى الأسماء والصفات، مهبط أنوار الجبروت، منزل أسرار الملكوت، مجمع حقائق اللاهوت، منبع رقائق الناسوت، النافخ بروح الجبرلة، والمانح بسرّ الميكلة، والسابح بقهر العزرلة، والجانح بجمع السرفلة عرش رحمانية الذات.
كرسي الأسماء والصفات، منتهى السدرات، رفرف سرير الأسرات، هيولى الهباء والطبيعيات، فلك أطلس الألوهيات، منطقة بروج أوج الربوبيات، سموات فخر التسامي والترقيات، شمس العلم والدراية، بدر الكمال والنهاية. نجم الاجتباء والهداية، نار حرارة الإرادة، ماء حياة الغيب والشهادة، ريح صبا نفس الرحمة والربوبية، طينة أرض الذلة والعبودية، ذو السبع المثاني، صاحب المفاتيح والثواني، مظهر الكمال، ومقتضى الجمال والجلال.
مرآة معنى الحسن مظهر ما علا .... مجلى الكمال عذيب الينبوع
قطب على فلك المحاسن شمسه .... لا آفلاً ما زال ذا تطليع
كل الكمال عبارة عن خردل ... متفرّق عن حسنه المجموع
صلّى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه القائمين عنه في أحواله، النائبين منابه في أفعاله وأقواله، وأشهد أن القرآن كلام الله، وأن الحق ما تضمنه فحواه، نزل به الروح الأمين على قلب خاتم النبيين والمرسلين.
وأشهد أن الأنبياء حق والكتب المنزّلة عليهم صدق، والإيمان بجميع ذلك واجب قاطع، وأن القبر والبرزخ وعذابه واقع، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأشهد أن الجنة حقّ والنار حقّ والصراط حق والحساب يوم النشور حق؛ وأشهد أن الله يريد الخير والشر، وبيده الكسر والجبر، فالخير بإرادته وقدرته ورضاه وقضاه، والشر بإرادته وقدرته وقضائه لا برضاه، الحسنة بتأييده وهداه، والسيئة مع قضائه بشؤم العبد واغتواه، ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك، كل من عند الله، منه بدء الوجود وإليه أمره يعود.
أما بعد، فإنه لما كان كمال الإنسان في العلم بالله وفضله على جنسه بقدر ما اكتسب من فحواه، وكنت معارف التحقيق المنوطة بالإلهام والتوفيق حرماً آمناً يتخطف الناس من حوله بالموانع والتعويق، قفارها محفوفة يكون للسالك إلى رفيقها الأعلى الرفيق الرقيق، وآملاً أن يكون للطالب لتلك المطالب الشقيق الشفيق، فيستأنس به في فلواتها البسابس ، ويتطرّق به في معالمها الدوامس، ويستضئ بضياء معارفه في ظلمات نكراتها الطوامس، فقد فقدت شموس الجذب من سماء قلوب المريدين.
وأفلت بدور الكشف عن سماء أفلاك السائرين، وغربت نجوم العزائم من همم القاصدين، فلهذا قلّ أن يسلم في بحرها السابح، وينجو من مهالك قفرها السائح:
كم دون ذاك المنزل المتعالي ... من مهمه قد حفّ بالأهوال
وصوارم بيض وخضر أسنة .... حملت على سمر الرماح عوال
والبرق يلهب حسرة من تحته .... والريح عنه مخيب الآمال
وكنت قد أسست الكتاب على الكشف الصريح، وأيدت مسائله بالخبر الصحيح، وسميته
بــ [الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل] لكني بعد أن شرعت في التأليف، وأخذت في البيان والتعريف، خطر في الخاطر أن أترك هذا الأمر إجلالاً لمسائل التحقيق، وإقلالاً لما أوتيت من التدقيق، فجمعت همتي على تفريقه، وشرعت في تشتيته وتمزيقه، حتى دثرته فاندثر، وفرقته شذر مذر، فأفل شمسه وغاب، وانسدل على وجه جماله برقع الحجاب، وتراته نسياً منسياً، واتخذته شيئاً فرياً، فصار خبراً بعد أن كن أثراً مسطوراً، وتلوت {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا} سورة الانسان . وأنشد لسان الحال بلطيف المقال:
كن لم يكن بين الحجون إلى الصفا .... أنيس ولم يسمر بمكة سامر
فأمرني الحق الآن بإبرازه بين تصريحه وإلغازه، ووعدني بعموم الانتفاع، فقلت طوعاً للأمر المطاع، وابتدأت في تأليفه، متكلاً على الحق في تعريفه، فها أنا ذا كرع من دنه القديم بكأس الاسم العليم، في قوابل أهل الإيمان والتسليم، خمرة مرضعة من الحي الكريم، مسكرة الموجود والعديم:
سلاف تريك الشمس والليل مظلم ..... وتبدي السها والصبح بالضوء مقحم
تجلّ عن الأوصاف لطف شمائل .... شمول بها راق الزمان المصرم
إذا جليت في كؤس من حبابها .... وديرت بدور الدهر وهو مزمزم
وآم قلدت ندمانها بوشاحها ..... مقاليد ملك الله والأمر أعظم
وربّ عديم ملكته نطاقها ..... فأصبح يثري في الوجود ويعدم
وآم جاهل قد أنشقته نسيمها ..... فأخبر ما إبليس كن وآدم
وآم خامل قد أسمعته حديثها ..... رقى شهرة عرشاً يعزّ ويكرم
فلو نظرت عين أزجة كوسها .... لما كحلت يوماً بما ليس تعلم
هي الشمس نوراً بل هي الليل ظلمة ... هي الحيرة العظمى التي تتلعثم
مبرقعة من دونها كلّ حائل ..... ومسفرة كالبدر لا تتكتم
فنور ولا عين وعين ولا ضيا ..... وحسن ولا وجه ووجه ملثم
شميم ولا عطر وعطر ولا شذى ...... وخمر ولا كس وكس مختم
خذوا يا ندامى من حباب دنانها ..... أماني آمال تَجلّ وتعظم
ولا تهملوا باللَّه قدر جنابها ..... فما حظّ من فاتته إلاَّ التندّم
لِيَهْن أخلائي الذين حظوا بها ...... عليهم سلامي والسلام مسلم
مقدمة
بسم الله الرحمن الرَّحيم الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، لما كن الحق هو المطلوب من إنشاء هذا الكتاب، لزمنا أن نتكلم فيه علي الحق سبحانه وتعالي من حيث اسماؤه أولا إذ هي الدالة عليه ، ثم من حيث أوصافه لتنوع كمال الذات فيها؟ ولأنها أول ظاهر من مجالي الحق سبحانه وتعالى ولا بعد الصفات في الظهور الا الذات، فهي بهذا الاعتبار أعلى مرتبة من الاسم ، ثم نتكلم من حيث ذاته على حسب ما حملته العبارة الكونية. ولا بد لنا من التنزل في الكلام على قدر العبارة المصطلحة عند الصوفية، ونجعل موضع الحاجة فيها موشحاً بين الكلام ليسهل فهمه على الناظر فيه وسأنبه على أسرار لم يضعها واضع علم في كتاب من أمر ما يتعلق بمعرفة الحق تعالى ومعرفة العالم الملكي والملكوتي، موضحاً به ألغاز الموجود كشفاً به الرمز المعقود، سالكاً في ذلك طريقه بين الكتم والإفشاء، مترجماً به عن النثر والإنشاء، فليتأمل الناظر فيه كل التأمل؛ فمن المعاني ما لا يفهم إلاَّ لغزاً أو إشارة. فلو ذكر مصرّحاً لحال الفهم به عن محله إلى خلافه، فيمتنع بذلك حصول المطلوب، وهذه نكتة كثيرة الوقوع. ألا ترى إلى قوله تعالى: "وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ" فلو قال: على سفينة ذات ألواح ودسر لحصل منه أن ثم سفينة غير المذكورة ليست بذات ألواح. ثم ألتمس من الناظر في هذا الكتاب بعد أن أعلمه أني ما وضعت شيئاً في هذا الكتاب إلاَّ وهو مؤيد بكتاب الله أو سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، أنه إذا لاح له شيء من كلامي بخلاف الكتاب والسنة، فليعلم أن ذلك من حيث مفهومه لا من حيث مرادي الذي وضعت الكلام لأجله فليتوقف عن العمل به مع التسليم إلى أن يفتح الله تعالى عليه بمعرفته، ويحصل له شاهد ذلك من كتاب الله تعالى أو سنّة نبيه، وفائدة التسليم هنا وترك الإنكار أن لا يحرم الوصول إلى معرفة ذلك. فإن من أنكر شيئاً من علمنا هذا حرم الوصول إليه ما دام منكراً، ولا سبيل إلى غير ذلك، بل ويخشى عليه حرمان الوصول إلى ذلك مطلقاً بالإنكار أول وهلة، ولا طريق له إلاَّ الإيمان والتسليم.
واعلم أن كل علم لا يؤيده الكتاب والسنّة فهو ضلالة، لا لأجل ما لا تجد أنت له ما يؤيده، فقد يكون العلم في نفسه مؤيداً بالكتاب والسنة، ولكن قلة استعدادك منعتك من فهمه فلن تستطيع أن تتناوله بهمتك من محله فتظن أنه غير مؤيد بالكتاب والسنة، فالطريق في هذا التسليم وعدم العمل به من غير إنكار إلى أن يأخذ الله بيدك إليه، لأن كل علم يرد عليك لا يخلو من ثلاثة أوجه :
الوجه الأول : المكالمة، وهو ما يرد على قلبك من طريق الخاطر الرباني والملكي، فهذا لا سبيل إلى رده ولا إلى إنكاره، فإن مكالمات الحق تعالى لعباده واخباراته مقبولة بالخاصية لا يمكن لمخلوق دفعها أبدأ، وعلامة مكالمه الحق تعالى لعباده أن يعلم السامع بالضرورة أنه كلام الله تعالى وأن يكون سماعه له بكليته ، وأن لا يقيد بجهة دون غيرها، ولو سمعه من جهة فإنه لا يمكنه أنه يخصه بجهة دون أخرى. ألا ترى الى موسى عليه السلام سمع الخطاب من الشجرة ولم يقيد بجهة والشجرة جهة، ويقرب الخاطر الملكي من الخاطر الرباني في القبول ولكن ليست له تلك القوة ، إلا أنه اعتبر قبل بالضرورة.
وليس هذا الأمر فيما مرد من جناب الحق على طريق المكالمة فقط بل تجلياته أيضأ كذلك ، فمتى تجلى شيء من أنوار الحق للعبد علم العبد بالضرورة من أول وهلة أنه نور الحق، سواء كان التجلي صفاتيأ أو ذاتيأ علميأ أو عينيأ. فمتى تجلى عليك شيء وعلمت في أول وهلة أنه نور الحق أو صفة أو ذاته فإن ذلك هو التجلي فافهم، فإن هذا البحر لا ساحل له. وأما الإلهام الإلهي فإن طريق المبتدي في العمل به أن يعرضه على الكتاب والسنّة، فإن وجد شواهده منهما فهو إلهام إلهي، وإن لم يجد له شاهداً فليتوقف عن العمل به مع عدم الإنكار لما سبق. وفائدة التوقف أن الشيطان قد يلقي في قلب المبتدئ شيئاً يفهمه أنه إلهام إلهي، فيخشى ذلك أن يكون من هذا القبيل، وليلزم صحة التوجه إلى الله تعالى والتعلق به مع التمسك بالأصول إلى أن يفتح الله عليه بمعرفة ذلك الخاطر.
الوجه الثاني : هو أن يكون العلم وارداً على لسان من ينسب إلى السنة والجماعة، فهذا إن وجدت له شاهداً أو محملاً فهو المراد، وإلاَّ فكف وآن مما لا يمكنه الإيمان به مطلقاً لغلبة نور عقلك على نور إيمانك، فطريقك فيه طريقك في مسألة الإلهام بين التوقف والاستسلام.
الوجه الثالث : أن يكون العلم وارداً على لسان من اعتزل عن المذهب والتحق بأهل البدعة فهذا العلم هو المرفوض، ولكن الكيِّس لا ينكره مطلقاً، بل يقبل منه ما يقبله الكتاب والسنة من كل وجه ويرد منه ما يرده الكتاب والسنة من كل وجه، وقلّ أن يتفق مثل هذا في مسائل أهل القبلة، وما قَبِلَه الكتاب أو السنة من وجه ورده من وجه فهو فيه على ذلك المنهج، وأما ما ورد في الكتاب والسنة من المسائل المتقابلة كقوله:{إنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
وقوله صلي الله عليه وسلم : "أول ما خلق الله العقل"
وقوله صلي الله عليه وسلم : " أول ما خلق الله القلم "
وقوله صلي الله عليه وسلم : “ أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر"
فتحملها علي احسن الوجوه و المحامل واتمها واجمعها واعمها كما قيل في الهداية التي ليست إليه صلي الله عليه وسلم هي الهداية إلى ذات الله تعالى. وفي الهداية التي جعلها الله إليه هي الهداية الطريق الموصلة الى الحق ، وكما قيل أن الأحاديث الثلاثة أن المراد بها شيء واحد و لكن باعتبار نسبتها تعددت، كما في الأسود واللامع و البراق عبارة عن الحبر و لكن باختلاف النسب.
وما قدمت لك هذه المقدمة كلها إلاَّ لتخرج عن ورطة المحجوبين بالوجه الواحد عن وجوه كثيرة، ولتجد طريقاً إلى معرفة ما يجريه الله على لساني في هذا الكتاب، فتبلغ بذلك مبلغ الرجال إن شاء الله تعالى.
إشارة : جمعنا الوقت عند الحق بغريب من غرباء الشرق متلثماً بلثام الصمدية ، متزراً بإزار الأحدية ، متردياً رداء الجلال ، متوجاً بتاج الحسن والجمال ، مسلِّماً بلسان الكمال ؛ فلما أجبت تحية سلامه أسفر بدره عن لسانه، فشاهدته أنموذجاً فهوانياً حكمياً حكيماً برنامجاً مقدراً على سبيل الفرض، وبه لا بغيره تبرأ الذمة من رقّ الغرض، فاعتبرته في معياري ونظمت به عقود الدراري، فانقطع من أول وهلة مني علاقة الفقار فأصلحته بانكسار عمود الآن، فلما استقامت شوكة المعيار وحصل ربّ العرش في الدار نصبت كرسي الاقتدار وأقمت به ميزان الاعتبار، فاعتبرت مالي في مآلي بقوانين تلك المعالي، فلم يزل ذلك دأبي وأنا كاتم عني ما بي إلى أن نفدت الأرطال وانقطع الاعتبار بالمثقال، ظفرت بقيراط التدقيق فأحكمت به عيار التحقيق، فصبغت يدي بالحنا وكحلت عيني الوسنى، فلما فتحت العين وكسرت القفلين خاطبني بحديث الأين، فأجبته بلسان البين، وأنشدت هذه الأبيات، وجعلتها بين النفي والإثبات:
صحّ عندي أنها عدم .... مذ غدت بالوجود مشتهره
قد رآها الخيكل من بعد ..... قدرة في الوجود مقتدره
لم تكن غير حائط نصبت ..... لك فيها الكنوز مدخره
أنا ذاك الجدار وهي له .... آنزه المختفي لأحتفره
فاتخذها بصورة شبحاً ..... وهي روح له لتعتبره
كمل اللَّه حسنها فغدت ...... بجمكل الإله مشتهره
لم تكن في سواك قائمة ..... فافهم الأمر آي ترى صوره
فلما سمع مني مقالتي وتحلى بحالتي أدار بدره في هالتي، ثم أنشأ وما أفشى وقال:
حسنا مبرقعة منها ستائرها .... ثعبانها صدغها والسحر ناظرها
وذاقت الخمر في السكران فانثملت .... وبان بالسكر ما تحوي مآزرها
تخيلت كل بدر تمَّ فاتخذت ..... منه لها خلقاً حتى نوادرها
رأت نقوش خضاب في معاصمها ..... فاستكتبته بها فيها غدائرها
وتوجت قيصراً بتاج تبعها ..... وقام في ملك دارها دوائرها
تملكت لرقاب الخلق قاطبة ..... ببيض مخضرة حمر شفائرها
واستكملت كل حسن كن يحسبه ..... من جملة الحسن في ليلاه عامرها
فظاهر العزّ ما يخفيه باطنها ..... وباطن الحسن ما يبديه ظاهرها
فلما سمعت خطابه الشهيّ وفهمت فحواء النجيّ، أقسمت عليه بالذي كان وما كان ووفى بعهده وما خان، ولبس برديه وتعرى عن ثوبيه، ونشر في الآفاق جماله ولم يكن شيء منها له، وبالذي استعبدته الأفكار والعقول لبيانه وقربته الأرواح والأسرار لحنانه، وبمن أدهش في حيطته وأنعش في مطيته وانحاز في نقطته، وزاد على دائرة الحيطة أن يرفع برقع الحجاب ويصرح لي بالخطاب، فتنزل وما زال، ثم أنشأ فقال رحمه الله تعالى:
أنا الموجود والمعدوم ..... والمنفي والباقي
أنا المحسوس والموهوم ...... والأفعاء والراقي
أنا المحلول والمعقود ....... والمشروب والساقي
أنا الكنز أنا الفقر ...... أنا خلقي وخلاقي
فلا تشرب بكاساتي ...... ففيها سم درياقي
ولا تطمع ولوجاً ....... فهو مسدود بإغلاق
ولا تحفظ ذماماً لي ....... ولا تنقض لميثاقي
ولا تثبت وجوداً لي ...... ولا تنفيه يا باقي
ولا تجعلك غيراً لي ...... ولا عيناً لآماقي
ولكن ما عنيت به ....... به غيبت أشواقي
فكن فيما تراني ...... فيه واشرب كاس إدهاقي
ولا تخلع قبا بندى ..... ولا تلبس لغَلَل طاقي
وقل أنا ذا ولست بذا ...... بأوصافي وأخلاقي
فبي يرد وهذا القلب ...... ملتهب بإحراقي
وبي ظمأ ويا عجبي ....... وفي جيحون إغراقي
وقد أعياني الحمل ....... وما شيء بأعناقي
أخف وفيّ أثقالي ........ وأثقل والهوى ساقي
يحا آيني النعام . ...... بحالتي طربي وإشفاقي
فهو طير بأجنحة ......... وهو جمل بأعناقي
ولا جمل ولا طير ........ ولكن رمز سباقي
فلا عين ولا بصر ........ ولكن سرّ آماقي
ولا أجل ولا عمر ........ ولا فان ولا باقي
هو جوهر له عرضان .. وذات لها وصفان. هوية ذلك الجوهر.. علم وقوى.
فإما عليم حكيم جرى في أنابيب القوى.. فخرج على شكل ثلاثي القوى.
وإما قوى ترشحت بعلوم حكمتها... فرأيت البسيط على ثلث هويتها.
إن قلت العلم أصل فالقوى فرع...أو قلت القوى أرض فالعلم زرع
أمس في 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
أمس في 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
أمس في 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
أمس في 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
أمس في 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
أمس في 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin