17ــ العهد الخامس: الرحلة في طلب العلم(1)
مقتطفات من كتاب العهود المحمدية للشعراني
مقدمة الدرس:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيقول الإمام سيدي الشيخ عبد الوهاب الشعراني رحمه الله تعالى في العهد الخامس:
(أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لم نجد أحداً نتعلَّم منه العلم الشرعي في بلدنا أن نسافر إلى بلد فيها العلم، وهي هجرة واجبة علينا؛ لأن ما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب، وهذا العهد قد أخلَّ به كثير من الخلق، وماتوا على جهلهم، مع أن العلماء في بلدهم وربما كانوا جيراناً لهم. وقد قال العلماء: من صلى جاهلاً بكيفية الوضوء والصلاة يعني أو غيرهما لم تصحَّ عبادته، وإن وافق الصحة فيها، ويؤيده الحديث الصحيح مرفوعاً: (كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد) رواه البخاري ومسلم) اهـ.
أقول أيها الإخوة الكرام:
العلم هو حياة القلوب، به يوحِّد اللهَ العابدُ، وبه يزكي نفسه، وبه يَعرفُ الإنسان الغاية من وجوده، وبه يُعرفُ الله تعالى، وبه يُعرفُ من أين وإلى أين يسير الإنسان، به يكون الإنسان على نفسه بصيرة، وبه يكون الإنسان عزيزاً، وبه يبقى ذكر وأجر العالم بعد موته.
روى الإمام أحمد في مسنده عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (أَرْبَعٌ تَجْرِي عَلَيْهِمْ أُجُورُهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ: رَجُلٌ مَاتَ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ عَلَّمَ عِلْمًا فَأَجْرُهُ يَجْرِي عَلَيْهِ مَا عَمِلَ بِهِ، وَرَجُلٌ أَجْرَى صَدَقَةً فَأَجْرُهَا يَجْرِي عَلَيْهِ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ تَرَكَ وَلَدًا صَالِحًا يَدْعُو لَهُ).
كلانا على خير:
أيها الأحبة الكرام: بالعلم النافع يكون الإنسان سامياً عالياً، لا يَعترضُ على أحدٍ ما دام الآخر في عبادة، لأن الله تعالى نوَّع العبادات لخلقه لاختلاف أحوالهم.
روى الحافظ بن عبد البَّر في سير أعلام النبلاء: إنَّ عبد الله العمري العابد كتب إلى مالك رحمهما الله تعالى يحضُّه على الانفراد والعمل.
فكتب إليه مالك رحمه الله تعالى: أنَّ الله قسَّم الأعمال كما قسَّم الأرزاق، فَرُبَّ رجل فُتح له في الصلاة، ولم يُفتح له في الصوم، وآخر فُتح له في الصدقة، ولم يُفتح له في الصوم، وآخر فُتح له في الجهاد.
وَنَشْرُ العلم وتعليمُه من أفضل أعمال البِرِّ، وقد رضيتُ بما فتح الله لي فيه من ذلك، وما أظنُّ ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير، ويجب على كلِّ واحدٍ منَّا أن يرضى بما قُسِمَ له. والسلام.
بالعلم ينال الإنسان ما يريد:
أيها الإخوة الكرام: بالعلم ينال الإنسان ما يريد من خيري الدنيا والآخرة، والعلم المقرون بالإخلاص خيرٌ من الصلاة النافلة المبنيَّة على أساسٍ من الجهل.
يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: طلب العلم أفضل من صلاة النافلة، ويقول: من أراد الدنيا فعليه بالعلم، ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم، فإنه يحتاج إليه في كلٍّ منهما. اهـ.
لهذا ترى جميع العقلاء يُحرِّضونَ أبناءَهم على طلب العلم، وكان يقول لقمان الحكيم لابنه: يا بني، جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فإنَّ الله ليُحيي القلوبَ بنور الحكمة، كما يحيي الأرضَ بوابل السماء.
الرحلة في طلب العلم عند العلماء:
الإمام الشعراني رحمه الله تعالى يوجب على غير العالم أن يرحل في طلب العلم إن لم يجد عالماً في بلده، اعتماداً منه على القاعدة الأصولية: ما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب.
ولكن لو نظرنا في القرآن العظيم، وفي سِيَرِ أصحاب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وفي سيرة العلماء من سلف هذه الأمة، فإننا نجد العلماء هم الذين يرحلون لطلب العلم مع أنهم أئمة في العلم.
وقد قصَّ الله تبارك وتعالى علينا في القرآن الكريم قصة سيدنا موسى والخضر عليهما السلام لتكون درساً للعلماء، فضلاً عن طلاب العلم، في وجوب السفر في طلب العلم، ولتقول هذه القصة لنا جميعاً: هكذا فاطلبوا العلم.
يقول الإمام أبي حنيفة رحمه الله: الْحِكَايَاتُ عَنْ الْعُلَمَاءِ وَمُجَالَسَتِهِمْ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْفِقْهِ، لأَنَّهَا آدَابُ الْقَوْمِ وَأَخْلَاقُهُمْ.
ويقول بعض السلف: الْحِكَايَاتُ جُنْدٌ مِنْ جُنُودِ اللَّهِ تَعَالَى، يُثَبِّتُ بِهَا قُلُوبَ أَوْلِيائِهِ، وشاهده من كتاب الله تعالى، قوله تعالى: {وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ}. وقوله تعالى: {أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}. وقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ}.
لا أعلم في الناس أعلمَ مني:
أيها الإخوة الكرام: جاء في صحيح البخاري في كتاب العلم (باب السفر في البحر لطلب العلم) عن أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (قَامَ مُوسَى خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقِيلَ لَهُ: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ قَالَ: أَنَا، فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ، إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ، وَأَوْحَى إِلَيْهِ: بَلَى عَبْدٌ مِنْ عِبَادِي بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ. قَالَ: أَيْ رَبِّ كَيْفَ السَّبِيلُ إِلَيْهِ)؟
نعم هكذا يكون شأن العلماء، هذا سيدنا موسى عليه السلام المُدَلَّلُ عند ربنا عز وجل إن صحَّ التعبير، والذي كلَّمه ربنا عز وجل تكليماً، والذي علَّمه الله تعالى التوراة، وجعله رسولاً من أولي العزم من الرسل، والذي قال لربنا عز وجل: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ}. عندما علم أنَّ هناك من هو أعلم منه، طلب من ربنا عز وجل أن يَدُّلَّهُ عليه، وقال سيدنا موسى عليه السلام لفتاه: {لاَ أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا}.
والحِقبة من الزمن قدَّرها العلماء سبعين سنة، وأقلُّ الجمع ثلاثة، وهذا يعني بأنَّ سيدنا موسى عليه السلام لن يترك المسير في البحث عن هذا العالم الخَضِر ولو سار مائتين وعشرة أعوام. وهو عليه الصلاة والسلام صادقٌ في قوله: {أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا}.
وانظروا أيها الإخوة إلى لقاء العلماء إذا التقى بعضهم مع بعض، ليتعلَّم كلُّ واحدٍ من الآخر، روى البخاري ، بأن سيدنا موسى عليه السلام عندما التقى مع سيدنا الخَضِر عليه السلام قال له: (إِنَّكَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لا أَعْلَمُهُ، وَأَنَا عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ لا تَعْلَمُهُ).
فماذا قال كليم الله لسيدنا الخَضِر عليهما السلام؟ قال له: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}؟ هكذا يكون أدب طالب العلم مع العالم، ولو كان هو عالماً.
أين أدب طلاب العلم مع العلماء؟ أين نحن من سيرة الكُمَّل من خلق الله تعالى عند تعلُّم العلم؟ هذا سيدنا جبريل عليه السلام، عندما جاء إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ليعلِّم الصحب الكرام دينهم، روى الإمام مسلم عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه قال: (بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ، لا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ: وَقَالَ: ...). هذا أدب سيدنا جبريل عليه السلام المتعلِّم مع المُعلِّم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
فقصة سيدنا موسى عليه السلام مع الخضر عليه السلام، كفى بها شرفاً وفضلاً ونبلاً للعلم، فهذا نبيُّ الله وكليمُه سافر ورحل حتى لَقِيَ النَّصَبَ من سفره {آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا}.
نعم سافر هذا السفر ليتعلَّم ثلاث مسائل من رجلٍ عالم، ولم يمنعه بلوغُه من السيادة المحلَّ الأعلى من طلب العلم، وركوب البحر والبرِّ لأجله.
إذا علمنا هذا، فماذا يجب علينا ونحن على ما نحن عليه؟ أسأل الله تعالى أن لا يحرمنا أدب طلب العلم مع علماء هذه الأمة الأتقياء الصُلحاء. آمين
يقول الحافظ الخطيب البغدادي في كتابه: الرحلة في طلب العلم: قال بعض أهل العلم: إنَّ فيما عاناه موسى من الدَّأب والسفر وصبر عليه، من التواضع والخضوع للخضر، بعد معاناة قصدِه، مع محلِّ موسى عليه السلام من الله تعالى وموضعه من كرامته، وشرف نبوته، دلالةً على ارتفاع قدر العلم، وعلوِّ منزلة أهله، وحسن التواضع لمن يلتمس منه ويؤخذ عنه.
ولو ارتَفَع عن التواضع لمخلوق أحدٌ بارتفاع درجةٍ، وسموِّ منزلةٍ، لسبق إلى ذلك موسى عليه السلام، فلما أظهر الجدَّ والاجتهاد، والانزعاج عن الوطن، والحرص على الاستفادة منه، مع الاعتراف بالحاجة، إلى أن يصل من العلم إلى ما هو غائب عنه، دلَّ على أنه ليس في الخلق من يعلو على هذه الحال ، ولا يكبر عنها.
خاتمة نسأل الله تعالى حسنها:
أيها الإخوة الكرام: إذا كان سيدنا موسى كليم الله تعالى، مع علوِّ قدره، ومكانته عند ربه عز وجل، قطع على نفسه عهداً أن يسير إذا اقتضى الأمر أحقاباً حتى يرى هذا العالم الذي عنده علمٌ من الله تعالى ليس عنده، أليس من الواجب علينا أن نحافظ على مجالس العلم لنتقرب إلى الله تعالى، ولنصحِّحَ العقيدة أولاً، ثمَّ العبادة ثانياً، ثم الأخلاق ثالثاً، لعلَّنا ننال القُربَ من الله تعالى؟
حياة الإنسان بالعلم النافع، فاحرص على طلب العلم من صدور الرجال العاملين أهل التقى والصلاح، الذين جمعوا بين العلم والعمل والإخلاص.
اللهم أكرمنا بذلك يا أرحم الراحمين. آمين. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. سبحان ربك رب العزة عمَّا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
مقتطفات من كتاب العهود المحمدية للشعراني
مقدمة الدرس:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيقول الإمام سيدي الشيخ عبد الوهاب الشعراني رحمه الله تعالى في العهد الخامس:
(أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لم نجد أحداً نتعلَّم منه العلم الشرعي في بلدنا أن نسافر إلى بلد فيها العلم، وهي هجرة واجبة علينا؛ لأن ما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب، وهذا العهد قد أخلَّ به كثير من الخلق، وماتوا على جهلهم، مع أن العلماء في بلدهم وربما كانوا جيراناً لهم. وقد قال العلماء: من صلى جاهلاً بكيفية الوضوء والصلاة يعني أو غيرهما لم تصحَّ عبادته، وإن وافق الصحة فيها، ويؤيده الحديث الصحيح مرفوعاً: (كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد) رواه البخاري ومسلم) اهـ.
أقول أيها الإخوة الكرام:
العلم هو حياة القلوب، به يوحِّد اللهَ العابدُ، وبه يزكي نفسه، وبه يَعرفُ الإنسان الغاية من وجوده، وبه يُعرفُ الله تعالى، وبه يُعرفُ من أين وإلى أين يسير الإنسان، به يكون الإنسان على نفسه بصيرة، وبه يكون الإنسان عزيزاً، وبه يبقى ذكر وأجر العالم بعد موته.
روى الإمام أحمد في مسنده عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (أَرْبَعٌ تَجْرِي عَلَيْهِمْ أُجُورُهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ: رَجُلٌ مَاتَ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ عَلَّمَ عِلْمًا فَأَجْرُهُ يَجْرِي عَلَيْهِ مَا عَمِلَ بِهِ، وَرَجُلٌ أَجْرَى صَدَقَةً فَأَجْرُهَا يَجْرِي عَلَيْهِ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ تَرَكَ وَلَدًا صَالِحًا يَدْعُو لَهُ).
كلانا على خير:
أيها الأحبة الكرام: بالعلم النافع يكون الإنسان سامياً عالياً، لا يَعترضُ على أحدٍ ما دام الآخر في عبادة، لأن الله تعالى نوَّع العبادات لخلقه لاختلاف أحوالهم.
روى الحافظ بن عبد البَّر في سير أعلام النبلاء: إنَّ عبد الله العمري العابد كتب إلى مالك رحمهما الله تعالى يحضُّه على الانفراد والعمل.
فكتب إليه مالك رحمه الله تعالى: أنَّ الله قسَّم الأعمال كما قسَّم الأرزاق، فَرُبَّ رجل فُتح له في الصلاة، ولم يُفتح له في الصوم، وآخر فُتح له في الصدقة، ولم يُفتح له في الصوم، وآخر فُتح له في الجهاد.
وَنَشْرُ العلم وتعليمُه من أفضل أعمال البِرِّ، وقد رضيتُ بما فتح الله لي فيه من ذلك، وما أظنُّ ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير، ويجب على كلِّ واحدٍ منَّا أن يرضى بما قُسِمَ له. والسلام.
بالعلم ينال الإنسان ما يريد:
أيها الإخوة الكرام: بالعلم ينال الإنسان ما يريد من خيري الدنيا والآخرة، والعلم المقرون بالإخلاص خيرٌ من الصلاة النافلة المبنيَّة على أساسٍ من الجهل.
يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: طلب العلم أفضل من صلاة النافلة، ويقول: من أراد الدنيا فعليه بالعلم، ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم، فإنه يحتاج إليه في كلٍّ منهما. اهـ.
لهذا ترى جميع العقلاء يُحرِّضونَ أبناءَهم على طلب العلم، وكان يقول لقمان الحكيم لابنه: يا بني، جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فإنَّ الله ليُحيي القلوبَ بنور الحكمة، كما يحيي الأرضَ بوابل السماء.
الرحلة في طلب العلم عند العلماء:
الإمام الشعراني رحمه الله تعالى يوجب على غير العالم أن يرحل في طلب العلم إن لم يجد عالماً في بلده، اعتماداً منه على القاعدة الأصولية: ما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب.
ولكن لو نظرنا في القرآن العظيم، وفي سِيَرِ أصحاب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وفي سيرة العلماء من سلف هذه الأمة، فإننا نجد العلماء هم الذين يرحلون لطلب العلم مع أنهم أئمة في العلم.
وقد قصَّ الله تبارك وتعالى علينا في القرآن الكريم قصة سيدنا موسى والخضر عليهما السلام لتكون درساً للعلماء، فضلاً عن طلاب العلم، في وجوب السفر في طلب العلم، ولتقول هذه القصة لنا جميعاً: هكذا فاطلبوا العلم.
يقول الإمام أبي حنيفة رحمه الله: الْحِكَايَاتُ عَنْ الْعُلَمَاءِ وَمُجَالَسَتِهِمْ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْفِقْهِ، لأَنَّهَا آدَابُ الْقَوْمِ وَأَخْلَاقُهُمْ.
ويقول بعض السلف: الْحِكَايَاتُ جُنْدٌ مِنْ جُنُودِ اللَّهِ تَعَالَى، يُثَبِّتُ بِهَا قُلُوبَ أَوْلِيائِهِ، وشاهده من كتاب الله تعالى، قوله تعالى: {وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ}. وقوله تعالى: {أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}. وقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ}.
لا أعلم في الناس أعلمَ مني:
أيها الإخوة الكرام: جاء في صحيح البخاري في كتاب العلم (باب السفر في البحر لطلب العلم) عن أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (قَامَ مُوسَى خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقِيلَ لَهُ: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ قَالَ: أَنَا، فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ، إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ، وَأَوْحَى إِلَيْهِ: بَلَى عَبْدٌ مِنْ عِبَادِي بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ. قَالَ: أَيْ رَبِّ كَيْفَ السَّبِيلُ إِلَيْهِ)؟
نعم هكذا يكون شأن العلماء، هذا سيدنا موسى عليه السلام المُدَلَّلُ عند ربنا عز وجل إن صحَّ التعبير، والذي كلَّمه ربنا عز وجل تكليماً، والذي علَّمه الله تعالى التوراة، وجعله رسولاً من أولي العزم من الرسل، والذي قال لربنا عز وجل: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ}. عندما علم أنَّ هناك من هو أعلم منه، طلب من ربنا عز وجل أن يَدُّلَّهُ عليه، وقال سيدنا موسى عليه السلام لفتاه: {لاَ أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا}.
والحِقبة من الزمن قدَّرها العلماء سبعين سنة، وأقلُّ الجمع ثلاثة، وهذا يعني بأنَّ سيدنا موسى عليه السلام لن يترك المسير في البحث عن هذا العالم الخَضِر ولو سار مائتين وعشرة أعوام. وهو عليه الصلاة والسلام صادقٌ في قوله: {أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا}.
وانظروا أيها الإخوة إلى لقاء العلماء إذا التقى بعضهم مع بعض، ليتعلَّم كلُّ واحدٍ من الآخر، روى البخاري ، بأن سيدنا موسى عليه السلام عندما التقى مع سيدنا الخَضِر عليه السلام قال له: (إِنَّكَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لا أَعْلَمُهُ، وَأَنَا عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ لا تَعْلَمُهُ).
فماذا قال كليم الله لسيدنا الخَضِر عليهما السلام؟ قال له: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}؟ هكذا يكون أدب طالب العلم مع العالم، ولو كان هو عالماً.
أين أدب طلاب العلم مع العلماء؟ أين نحن من سيرة الكُمَّل من خلق الله تعالى عند تعلُّم العلم؟ هذا سيدنا جبريل عليه السلام، عندما جاء إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ليعلِّم الصحب الكرام دينهم، روى الإمام مسلم عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه قال: (بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ، لا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ: وَقَالَ: ...). هذا أدب سيدنا جبريل عليه السلام المتعلِّم مع المُعلِّم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
فقصة سيدنا موسى عليه السلام مع الخضر عليه السلام، كفى بها شرفاً وفضلاً ونبلاً للعلم، فهذا نبيُّ الله وكليمُه سافر ورحل حتى لَقِيَ النَّصَبَ من سفره {آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا}.
نعم سافر هذا السفر ليتعلَّم ثلاث مسائل من رجلٍ عالم، ولم يمنعه بلوغُه من السيادة المحلَّ الأعلى من طلب العلم، وركوب البحر والبرِّ لأجله.
إذا علمنا هذا، فماذا يجب علينا ونحن على ما نحن عليه؟ أسأل الله تعالى أن لا يحرمنا أدب طلب العلم مع علماء هذه الأمة الأتقياء الصُلحاء. آمين
يقول الحافظ الخطيب البغدادي في كتابه: الرحلة في طلب العلم: قال بعض أهل العلم: إنَّ فيما عاناه موسى من الدَّأب والسفر وصبر عليه، من التواضع والخضوع للخضر، بعد معاناة قصدِه، مع محلِّ موسى عليه السلام من الله تعالى وموضعه من كرامته، وشرف نبوته، دلالةً على ارتفاع قدر العلم، وعلوِّ منزلة أهله، وحسن التواضع لمن يلتمس منه ويؤخذ عنه.
ولو ارتَفَع عن التواضع لمخلوق أحدٌ بارتفاع درجةٍ، وسموِّ منزلةٍ، لسبق إلى ذلك موسى عليه السلام، فلما أظهر الجدَّ والاجتهاد، والانزعاج عن الوطن، والحرص على الاستفادة منه، مع الاعتراف بالحاجة، إلى أن يصل من العلم إلى ما هو غائب عنه، دلَّ على أنه ليس في الخلق من يعلو على هذه الحال ، ولا يكبر عنها.
خاتمة نسأل الله تعالى حسنها:
أيها الإخوة الكرام: إذا كان سيدنا موسى كليم الله تعالى، مع علوِّ قدره، ومكانته عند ربه عز وجل، قطع على نفسه عهداً أن يسير إذا اقتضى الأمر أحقاباً حتى يرى هذا العالم الذي عنده علمٌ من الله تعالى ليس عنده، أليس من الواجب علينا أن نحافظ على مجالس العلم لنتقرب إلى الله تعالى، ولنصحِّحَ العقيدة أولاً، ثمَّ العبادة ثانياً، ثم الأخلاق ثالثاً، لعلَّنا ننال القُربَ من الله تعالى؟
حياة الإنسان بالعلم النافع، فاحرص على طلب العلم من صدور الرجال العاملين أهل التقى والصلاح، الذين جمعوا بين العلم والعمل والإخلاص.
اللهم أكرمنا بذلك يا أرحم الراحمين. آمين. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. سبحان ربك رب العزة عمَّا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
اليوم في 16:29 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
اليوم في 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
اليوم في 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
اليوم في 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
اليوم في 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
الأربعاء 20 نوفمبر 2024 - 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
الإثنين 18 نوفمبر 2024 - 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
الإثنين 18 نوفمبر 2024 - 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
الإثنين 18 نوفمبر 2024 - 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
الإثنين 18 نوفمبر 2024 - 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
الإثنين 18 نوفمبر 2024 - 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
الإثنين 18 نوفمبر 2024 - 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
الإثنين 18 نوفمبر 2024 - 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
الإثنين 18 نوفمبر 2024 - 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
الإثنين 18 نوفمبر 2024 - 22:41 من طرف Admin