12ـ العهد الثالث: (المسارعة في الخيرات)(4)
مقتطفات من كتاب العهود المحمدية للشعراني
مقدمة الدرس:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
يقول الإمام سيدي الشيخ عبد الوهاب الشعراني رحمه الله تعالى في العهد الثالث:
(ومن هذا الباب ـ يعني باب التأسِّي ـ أيضاً إظهار التصبُّر على البلايا والمحن في هذا الزمان، ليتأسَّى الناس بنا في الصبر وعدم التسخُّط، فإن رأينا الصبر بلغ حدَّه أظهرنا الضعف، حتى يرتفع كما وقع لأيوب عليه السلام، فعلم أنَّه ينبغي لكلِّ عامل أن يستر عمله ما استطاع، إلا في محلٍّ يُقتدى به في فعله وفي كيفيته. والله تعالى أعلم).
أقول أيها الإخوة الكرام:
يريد منا سيدي الشيخ عبد الوهاب الشعراني رحمه الله تعالى أن نكون أسوة حسنة صالحة للآخرين في إظهار الصبر بل التصبُّر على الابتلاءات والمحن والمصائب والشدائد التي تنالنا، حتى إذا وصلنا إلى درجةٍ ـ لا قدَّر الله تعالى ـ لم نعد نتحمَّل تلك الشدائد أظهرنا عجزنا وفقرنا وضعفنا وذلك بالدعاء والالتجاء إلى الله تعالى، ونقول: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ}. وندعو بدعاء سيدنا أيوب عليه السلام عندما {نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين}.
لقد صبر سيدنا أيوب عليه السلام مدَّة طويلة من الزمن على الابتلاء، حتى إذا بلغ الصبر حدَّه، قال هذا الدعاء: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين}. لقد أظهر العجز والضعف، ثم فوَّض أمره إلى الله تعالى بقوله: {وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين}. لم يقل: اصرف عني هذا الضر، بل قال: {وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين}. لأنه قد يكون من الرحمة بقاء الضر، فالإنسان لا يعلم أين يكمن له الخير، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُون}.
لذلك إذا وصل الصبر إلى حدِّه ومنتهاه عند ذلك يظهر العبد عجزه وضعفه ويفوِّض الأمر إلى الله تعالى فهو أعلم بما يصلحه، كما قال ابن عطاء الله السكندري رحمه الله تعالى: (ربما أعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك).
فاستحضر دائماً وأبداً وخاصة عند الشدائد قوله تعالى: {وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُون}. وقد جاء في بعض الآثار: (وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الفقر، ولو بسطت له لأفسده ذلك) رواه ابن أبي الدنيا.
حقيقة هذه الحياة الدنيا:
يجب علينا أن نعلم حقيقة هذه الحياة الدنيا، فالله تبارك وتعالى خلقها وجعلها دار مَمَرٍّ، ولم يجعلها دار مَقَرٍّ، جعلها دار عمل وزرعٍ للآخرة، حفَّها بالمحن والابتلاءات، وغمرها بالمصائب والفتن، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُور}.
غفل أكثر الناس عن حقيقة هذه الحياة الدنيا، لذلك تعقَّدت نفوسهم، وتعبت أجسادهم وقلوبهم، حيث ظنوها أنها دار نعيم لا دار تكليف، ونسوا قول الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِين}. وقوله تعالى: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُون}.
من تفكَّر في أحوال الناس، ومسيرة حياتهم، عَلِمَ عِلْمَ اليقين حديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم الذي رواه الحاكم عن سهل بن سعد رضي الله عنه، قال: جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من أحببت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌّ به).
عَلِمَ العاقل: بأنَّه ما من مخلوق خلقه الله تعالى إلَّا وله نصيب من الابتلاءات والآلام والأحزان، مهما كان هذا المخلوق ومهما كان وضعه، إن كان طائعاً أو عاصياً، إن كان مؤمناً أو كافراً، إن كان قوياً أو ضعيفاً، إن كان حاكماً أو محكوماً، إن كان سيداً أو عبداً، ويقول سيدنا ابن مسعود رضي الله عنه: لكل فرحةٍ ترحة، وما مُلئ بيت فرحاً إلا ملئ ترحاً.
كلُّ هذا حتى لا يطمئنَّ العبد لهذه الحياة الدنيا، وليعلم علم اليقين أنَّه خارج من هذه الحياة الدنيا كما دخلها، وعائد إلى الله تعالى.
دخل العبد الحياة الدنيا وهو ضعيف فقير لا يملك شيئاً من حطام الدنيا، لا يملك مالاً ولا جاهاً ولا قوة، وسيخرج منها كما دخلها، قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُون}.
إذا عرف العبد هذه الحقيقة، عَلِمَ عِلْمَ اليقين بأنَّ كلَّ نعيم دون الجنة سراب، وأنَّ كلَّ عذابٍ دون النار عافية، عندها تهون المصائب على العبد لأنه يتطلَّع إلى الخير الذي ادَّخره الله تعالى لأهل الصبر على البلاء الراضين بقضائه، بل ربما يشتهي ويتمنَّى البلاء لينال هذا الأجر العظيم الذي أشار إليه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم بقوله: (يَوَدُّ أَهْلُ الْعَافِيَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يُعْطَى أَهْلُ الْبَلاءِ الثَّوَابَ لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ فِي الدُّنْيَا بِالْمَقَارِيضِ) رواه الترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
ولكن يجب علينا أن نكون على حذر من هذا التمني والاجتهاد، لأننا ضعفاء، وهذا ما شرَّعه لنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم بقوله: (ولكن عافيتك أوسع لي).
لقد ذكر الله تبارك وتعالى الصبر في القرآن في أكثر من تسعين موضعاً، وقرنه بالصلاة في قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِين}.
وجعل الإمامة في الدين موروثة عن الصبر واليقين بآيات الله تعالى، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُون}.
الابتلاء ضرورة للتمكين:
سأل رجل الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، فقال: يا أبا عبد الله، أيهما أفضل للرجل، أن يُمَكَّن فيشكرَ الله تعالى، أو يُبتلى بالشر فيصبر؟
فقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: لا يُمَكَّن حتى يُبتلى، فإن الله عز وجل ابتلى نوحاً وإبراهيم ومحمداً صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فلما صبروا مكَّنهم، فلا يظن أحد أن يَخلُصَ من الألم البتة. اهـ.
وهذا ما أكَّده ربنا عز وجل في القرآن العظيم، على سبيل المثال، سيدنا إبراهيم عليه السلام، قال تعالى فيه: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين}. ابتلاه الله عز وجل بزوجته وولده إذ جعلهما بوادٍ غير ذي زرع، وبذبح ولده، وإلقائه في النار.
وهذا سيدنا يوسف عليه السلام، قال تعالى فيه: {وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون}. وكان هذا بعد ابتلاء شديد، من رميه في الجب، إلى استرقاقه، إلى تسلُّط امرأة العزيز عليه، إلى السجن.
ثمرات الصبر:
والصبر الذي كلَّف الله تعالى به عباده المؤمنين، رتَّب الله تعالى عليه ثمرات عدة، منها:
أولاً: ثناء الله تعالى عليه، قال تعالى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُون}. فهؤلاء هم الصادقون الأتقياء بشهادة الله عز وجل.
ثانياً: معيَّة الله تعالى مع الصابرين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِين}. وقال تعالى: {وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِين}.
ثالثاً: أهل الصبر أهل الإمامة في الدين، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُون}. فهم الدعاة إلى الله تعالى بحقٍّ.
رابعاً: أهل الصبر ينالون من الله تعالى الصلوات والرحمة والهداية بإذن الله تعالى، قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِين * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعون * أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُون}.
خامساً: أهل الصبر هم أهل الحظِّ العظيم، قال تعالى: {وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيم}. يعني لا يقبل هذه الوصية ـ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ـ ولا يعمل بها إلا الذين صبروا على كظم الغيظ، واحتمال المكروه، وصاحب النصيب الوافر من السعادة في الدنيا والآخرة، وذو حظ عظيم في الثواب والخير.
يقول حبر الأمة سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية: (أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان، وخضع لهم عدوهم كأنه ولي حميم).
سادساً: أهل الصبر ينالون أجرهم بغير حساب، قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَاب}.
من الآثار وأقوال العلماء الواردة في الصبر والمصابرة:
ورد في صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (وَجَدْنَا خَيْرَ عَيْشِنَا بِالصَّبْرِ).
وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الاعتبار عن عمر بن عبد العزيز: أن سليمان بن عبد الملك قال له عند موت ابنه: أيصبر المؤمن حتى لا يجد لمصيبته ألماً؟ قال: يا أمير المؤمنين لا يستوي عندك ما تحبُّ وما تكره، ولكنَّ الصبرَ مُعَوَّل المؤمنِ.
وقال أبو علي الدقاق: فاز الصابرون بعزِّ الدارين، لأنهم نالوا من الله معيَّته، فإن الله مع الصابرين.
وقيل: الصبر لله غَنَاءٌ، وبالله تعالى بقاءٌ، وفي الله بلاء، ومع الله وفاء، وعن الله جفاء، والصبر على الطلب عنوانُ الظَّفر، وفي المِحَنِ عنوانُ الفرجِ.
وقال الثوري عن بعض أصحابه: ثلاث من الصبر: أَلَّا تحدث بوجعك، ولا بمصيبتك، ولا تزكِّي نفسك.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: ذكر الله تعالى في كتابه الصبرَ الجميل، والصفحَ الجميل، والهجرَ الجميل.
فالصبرُ الجميل هو الذي لا شكوى فيه ولا معه، قال تعالى: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ}.
والصفحُ الجميل هو الذي لا عتاب معه، قال تعالى: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيل}.
والهجرُ الجميل هو الذي لا أذى معه، قال تعالى: {وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً}.
قال ذو النون: الصبر التباعد من المخالفات، والسكون عند تجرُّع غُصَصِ البليات، وإظهار الغنى مع طول الفقر بساحات المعيشة.
خاتمة نسأل الله تعالى حسنها:
أيها الإخوة الكرام: اعلموا بأن الابتلاء لا بدَّ منه من أجل التمكين، وربنا عز وجل بين في القرآن العظيم بأن الابتلاء للمؤمنين أمر لا بد منه، قال تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُون}، ويقول: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيب}، ويقول: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِين}.
وأما في حقِّ الكافر فله قانون آخر، قال تعالى: {وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُون * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِؤُون * وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِين}.
فإذا جاء الابتلاء فاصبر وتصبَّر، وكن أسوة لغيرك من زوجة وولد وأخ وقريب وصديق، وترجم عن ذلك برضاك عن الله تعالى فيما قضى وقدر، فهذا سيدنا يوسف عليه السلام دخل السجن وكان داعياً إلى الله تعالى في السجن، وهذا سيدنا إبراهيم عليه السلام ما سأل حاجته في أحلك الظروف إلا من ربه عز وجل، عندما قال لسيدنا جبريل عليه السلام: أما لك فلا، قال: سل ربك، قال: حسبنا الله ونعم الوكيل.
اللهم اجعلنا من الشاكرين عند الرخاء، ومن الصابرين عند البلاء، ومن الراضين بمرِّ القضاء. آمين.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
مقتطفات من كتاب العهود المحمدية للشعراني
مقدمة الدرس:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
يقول الإمام سيدي الشيخ عبد الوهاب الشعراني رحمه الله تعالى في العهد الثالث:
(ومن هذا الباب ـ يعني باب التأسِّي ـ أيضاً إظهار التصبُّر على البلايا والمحن في هذا الزمان، ليتأسَّى الناس بنا في الصبر وعدم التسخُّط، فإن رأينا الصبر بلغ حدَّه أظهرنا الضعف، حتى يرتفع كما وقع لأيوب عليه السلام، فعلم أنَّه ينبغي لكلِّ عامل أن يستر عمله ما استطاع، إلا في محلٍّ يُقتدى به في فعله وفي كيفيته. والله تعالى أعلم).
أقول أيها الإخوة الكرام:
يريد منا سيدي الشيخ عبد الوهاب الشعراني رحمه الله تعالى أن نكون أسوة حسنة صالحة للآخرين في إظهار الصبر بل التصبُّر على الابتلاءات والمحن والمصائب والشدائد التي تنالنا، حتى إذا وصلنا إلى درجةٍ ـ لا قدَّر الله تعالى ـ لم نعد نتحمَّل تلك الشدائد أظهرنا عجزنا وفقرنا وضعفنا وذلك بالدعاء والالتجاء إلى الله تعالى، ونقول: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ}. وندعو بدعاء سيدنا أيوب عليه السلام عندما {نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين}.
لقد صبر سيدنا أيوب عليه السلام مدَّة طويلة من الزمن على الابتلاء، حتى إذا بلغ الصبر حدَّه، قال هذا الدعاء: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين}. لقد أظهر العجز والضعف، ثم فوَّض أمره إلى الله تعالى بقوله: {وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين}. لم يقل: اصرف عني هذا الضر، بل قال: {وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين}. لأنه قد يكون من الرحمة بقاء الضر، فالإنسان لا يعلم أين يكمن له الخير، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُون}.
لذلك إذا وصل الصبر إلى حدِّه ومنتهاه عند ذلك يظهر العبد عجزه وضعفه ويفوِّض الأمر إلى الله تعالى فهو أعلم بما يصلحه، كما قال ابن عطاء الله السكندري رحمه الله تعالى: (ربما أعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك).
فاستحضر دائماً وأبداً وخاصة عند الشدائد قوله تعالى: {وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُون}. وقد جاء في بعض الآثار: (وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الفقر، ولو بسطت له لأفسده ذلك) رواه ابن أبي الدنيا.
حقيقة هذه الحياة الدنيا:
يجب علينا أن نعلم حقيقة هذه الحياة الدنيا، فالله تبارك وتعالى خلقها وجعلها دار مَمَرٍّ، ولم يجعلها دار مَقَرٍّ، جعلها دار عمل وزرعٍ للآخرة، حفَّها بالمحن والابتلاءات، وغمرها بالمصائب والفتن، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُور}.
غفل أكثر الناس عن حقيقة هذه الحياة الدنيا، لذلك تعقَّدت نفوسهم، وتعبت أجسادهم وقلوبهم، حيث ظنوها أنها دار نعيم لا دار تكليف، ونسوا قول الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِين}. وقوله تعالى: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُون}.
من تفكَّر في أحوال الناس، ومسيرة حياتهم، عَلِمَ عِلْمَ اليقين حديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم الذي رواه الحاكم عن سهل بن سعد رضي الله عنه، قال: جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من أحببت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌّ به).
عَلِمَ العاقل: بأنَّه ما من مخلوق خلقه الله تعالى إلَّا وله نصيب من الابتلاءات والآلام والأحزان، مهما كان هذا المخلوق ومهما كان وضعه، إن كان طائعاً أو عاصياً، إن كان مؤمناً أو كافراً، إن كان قوياً أو ضعيفاً، إن كان حاكماً أو محكوماً، إن كان سيداً أو عبداً، ويقول سيدنا ابن مسعود رضي الله عنه: لكل فرحةٍ ترحة، وما مُلئ بيت فرحاً إلا ملئ ترحاً.
كلُّ هذا حتى لا يطمئنَّ العبد لهذه الحياة الدنيا، وليعلم علم اليقين أنَّه خارج من هذه الحياة الدنيا كما دخلها، وعائد إلى الله تعالى.
دخل العبد الحياة الدنيا وهو ضعيف فقير لا يملك شيئاً من حطام الدنيا، لا يملك مالاً ولا جاهاً ولا قوة، وسيخرج منها كما دخلها، قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُون}.
إذا عرف العبد هذه الحقيقة، عَلِمَ عِلْمَ اليقين بأنَّ كلَّ نعيم دون الجنة سراب، وأنَّ كلَّ عذابٍ دون النار عافية، عندها تهون المصائب على العبد لأنه يتطلَّع إلى الخير الذي ادَّخره الله تعالى لأهل الصبر على البلاء الراضين بقضائه، بل ربما يشتهي ويتمنَّى البلاء لينال هذا الأجر العظيم الذي أشار إليه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم بقوله: (يَوَدُّ أَهْلُ الْعَافِيَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يُعْطَى أَهْلُ الْبَلاءِ الثَّوَابَ لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ فِي الدُّنْيَا بِالْمَقَارِيضِ) رواه الترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
ولكن يجب علينا أن نكون على حذر من هذا التمني والاجتهاد، لأننا ضعفاء، وهذا ما شرَّعه لنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم بقوله: (ولكن عافيتك أوسع لي).
لقد ذكر الله تبارك وتعالى الصبر في القرآن في أكثر من تسعين موضعاً، وقرنه بالصلاة في قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِين}.
وجعل الإمامة في الدين موروثة عن الصبر واليقين بآيات الله تعالى، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُون}.
الابتلاء ضرورة للتمكين:
سأل رجل الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، فقال: يا أبا عبد الله، أيهما أفضل للرجل، أن يُمَكَّن فيشكرَ الله تعالى، أو يُبتلى بالشر فيصبر؟
فقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: لا يُمَكَّن حتى يُبتلى، فإن الله عز وجل ابتلى نوحاً وإبراهيم ومحمداً صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فلما صبروا مكَّنهم، فلا يظن أحد أن يَخلُصَ من الألم البتة. اهـ.
وهذا ما أكَّده ربنا عز وجل في القرآن العظيم، على سبيل المثال، سيدنا إبراهيم عليه السلام، قال تعالى فيه: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين}. ابتلاه الله عز وجل بزوجته وولده إذ جعلهما بوادٍ غير ذي زرع، وبذبح ولده، وإلقائه في النار.
وهذا سيدنا يوسف عليه السلام، قال تعالى فيه: {وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون}. وكان هذا بعد ابتلاء شديد، من رميه في الجب، إلى استرقاقه، إلى تسلُّط امرأة العزيز عليه، إلى السجن.
ثمرات الصبر:
والصبر الذي كلَّف الله تعالى به عباده المؤمنين، رتَّب الله تعالى عليه ثمرات عدة، منها:
أولاً: ثناء الله تعالى عليه، قال تعالى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُون}. فهؤلاء هم الصادقون الأتقياء بشهادة الله عز وجل.
ثانياً: معيَّة الله تعالى مع الصابرين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِين}. وقال تعالى: {وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِين}.
ثالثاً: أهل الصبر أهل الإمامة في الدين، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُون}. فهم الدعاة إلى الله تعالى بحقٍّ.
رابعاً: أهل الصبر ينالون من الله تعالى الصلوات والرحمة والهداية بإذن الله تعالى، قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِين * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعون * أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُون}.
خامساً: أهل الصبر هم أهل الحظِّ العظيم، قال تعالى: {وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيم}. يعني لا يقبل هذه الوصية ـ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ـ ولا يعمل بها إلا الذين صبروا على كظم الغيظ، واحتمال المكروه، وصاحب النصيب الوافر من السعادة في الدنيا والآخرة، وذو حظ عظيم في الثواب والخير.
يقول حبر الأمة سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية: (أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان، وخضع لهم عدوهم كأنه ولي حميم).
سادساً: أهل الصبر ينالون أجرهم بغير حساب، قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَاب}.
من الآثار وأقوال العلماء الواردة في الصبر والمصابرة:
ورد في صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (وَجَدْنَا خَيْرَ عَيْشِنَا بِالصَّبْرِ).
وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الاعتبار عن عمر بن عبد العزيز: أن سليمان بن عبد الملك قال له عند موت ابنه: أيصبر المؤمن حتى لا يجد لمصيبته ألماً؟ قال: يا أمير المؤمنين لا يستوي عندك ما تحبُّ وما تكره، ولكنَّ الصبرَ مُعَوَّل المؤمنِ.
وقال أبو علي الدقاق: فاز الصابرون بعزِّ الدارين، لأنهم نالوا من الله معيَّته، فإن الله مع الصابرين.
وقيل: الصبر لله غَنَاءٌ، وبالله تعالى بقاءٌ، وفي الله بلاء، ومع الله وفاء، وعن الله جفاء، والصبر على الطلب عنوانُ الظَّفر، وفي المِحَنِ عنوانُ الفرجِ.
وقال الثوري عن بعض أصحابه: ثلاث من الصبر: أَلَّا تحدث بوجعك، ولا بمصيبتك، ولا تزكِّي نفسك.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: ذكر الله تعالى في كتابه الصبرَ الجميل، والصفحَ الجميل، والهجرَ الجميل.
فالصبرُ الجميل هو الذي لا شكوى فيه ولا معه، قال تعالى: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ}.
والصفحُ الجميل هو الذي لا عتاب معه، قال تعالى: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيل}.
والهجرُ الجميل هو الذي لا أذى معه، قال تعالى: {وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً}.
قال ذو النون: الصبر التباعد من المخالفات، والسكون عند تجرُّع غُصَصِ البليات، وإظهار الغنى مع طول الفقر بساحات المعيشة.
خاتمة نسأل الله تعالى حسنها:
أيها الإخوة الكرام: اعلموا بأن الابتلاء لا بدَّ منه من أجل التمكين، وربنا عز وجل بين في القرآن العظيم بأن الابتلاء للمؤمنين أمر لا بد منه، قال تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُون}، ويقول: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيب}، ويقول: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِين}.
وأما في حقِّ الكافر فله قانون آخر، قال تعالى: {وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُون * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِؤُون * وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِين}.
فإذا جاء الابتلاء فاصبر وتصبَّر، وكن أسوة لغيرك من زوجة وولد وأخ وقريب وصديق، وترجم عن ذلك برضاك عن الله تعالى فيما قضى وقدر، فهذا سيدنا يوسف عليه السلام دخل السجن وكان داعياً إلى الله تعالى في السجن، وهذا سيدنا إبراهيم عليه السلام ما سأل حاجته في أحلك الظروف إلا من ربه عز وجل، عندما قال لسيدنا جبريل عليه السلام: أما لك فلا، قال: سل ربك، قال: حسبنا الله ونعم الوكيل.
اللهم اجعلنا من الشاكرين عند الرخاء، ومن الصابرين عند البلاء، ومن الراضين بمرِّ القضاء. آمين.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
10/11/2024, 21:08 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الرابعة: قوانين الميراث تفضل الرجال على النساء ـ د.نضير خان
10/11/2024, 21:05 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الثالثة: شهادة المرأة لا تساوي سوى نصف رجل ـ د.نضير خان
10/11/2024, 21:02 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الثانية: المرأة لا تستطيع الطلاق ـ د.نضير خان
10/11/2024, 20:59 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الأولى: الإسلام يوجه الرجال لضرب زوجاتهم ـ د.نضير خان
10/11/2024, 20:54 من طرف Admin
» كتاب: المرأة في المنظور الإسلامي ـ إعداد لجنة من الباحثين
10/11/2024, 20:05 من طرف Admin
» كتاب: (درة العشاق) محمد صلى الله عليه وسلم ـ الشّاعر غازي الجَمـل
9/11/2024, 17:10 من طرف Admin
» كتاب: الحب في الله ـ محمد غازي الجمل
9/11/2024, 17:04 من طرف Admin
» كتاب "قطائف اللطائف من جواهر المعارف" - الجزء الأول ـ إعداد: غازي الجمل
9/11/2024, 16:59 من طرف Admin
» كتاب "قطائف اللطائف من جواهر المعارف" - الجزء الثاني ـ إعداد: غازي الجمل
9/11/2024, 16:57 من طرف Admin
» كتاب : الفتن ـ نعيم بن حماد المروزي
7/11/2024, 09:30 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (1) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:12 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (2) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:10 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (3) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:06 من طرف Admin
» كتاب: تحفة المشتاق: أربعون حديثا في التزكية والأخلاق ـ محب الدين علي بن محمود بن تقي المصري
19/10/2024, 11:00 من طرف Admin