“ 249 “
واندفع التاجر وشقّ جيبه حين رأى الببغاء بهذا اللون ، وعلى تلك الحال .
وقال : “ أيها الببغاء الجميل ذو الصوت الرخيم ! ماذا أصابك ؟
ولماذا أصحبت على تلك الحال ؟
1695 فوا أسفاه يا طائري الحلو الغناء ! وأسفاه عليك يا صفي ، وموضع سري .
وا أسفاه عليك يا طائري العذب الألحان ! يا راحي وروحي وروضي وريحاني !
فلو كان لسليمان طائر مثل هذا ، متى كان يُشغل بغيره من الطيور ؟
وا أسفاه على هذا الطائر الذي وجدته رخيصاً ، وسرعان ما حولت وجهي عن وجهه ! أيها اللسان !
إنك لي مصدر ضرّ كثير ، ولكن ما دمت أنت الناطق ، فماذا أقول لك ؟
1700 - أيها اللسان ! إنك أنت النار ، وأنت البيدر أيضاً ، فإلى متى تشعل هذه النار بهذا البيدر ؟
إنّ الروح تصرخ منك في الخفاء ، وإن كانت تعمل بكل ما تحدثها به ! أيها اللسان !
إنك كنز لا حدّ له ، كما أنك ألم لا علاج له ! إنك صفير وخداع للطيور ،
وإن كنتَ - في الوقت ذاته - مؤنساً لوحشة الهجران ! فلكم تمنحني الأمان “ يا من لا أمان لك ! يا من شددت قوسك للانتقام مني .
1705 - فيا من أطرت مني طائري ! حسبُك ارتعاء في مراعي الظلم ! أجنبي ، أو كن منصفاً ، أو اذكر لي ما يكون سبباً للسرور ! وأسفاه على صبحي الذي كان يحرق الظلمات ! وا أسفاه على نوري الذي كان يتألق به النهار !
“ 250 “
وا أسفاه على طائرى الذي كان مليح الطيران . لقد طار من نهاية حالي إلى بدايته “ 1 “ .
إن الجاهل عاشق للألم حتى الأبد ، فقم واقرأ من قوله تعالى ؟
“ لا أقسم “ حتى قوله” في كَبَدٍ ““ 2 “ .
1710 - لقد كنت مع وجهك خليّا من الكبد ، وكنت في نهرك نقيا من الزيد .
وهذه الآهات مبعثها خيال مشاهدة ( المحبوب ) ، وانفصالي عن وجودي الحق “ 3 “ .
إنها كانت غيرة الحق ، ولا حيلة لنا أمام الحق . وأين القلب الذي لم يمزّقه عشق الحق مائة قطعة ؟
وغيرة الحق هي أنه مغاير لكل شيء ، وأنه فوق كلّ بيان وضجيج ألفاظ .
وا أسفاء ! ليت دمعي كان بحراً لأجعله نثاراً أمام محبوبي الجميل!
1715- إن ببغائي ، طائري الذكي ، ترجمان فكري وأسراري ،
قد أخبرني - منذ البداية - بكلّ ما يصيبني - ذات يوم - من عدل أو حيف ، لعلني أذكر !
والببغاء الذي يجيء من الوحي صوته ، والذي كان ابتداؤه قبل ابتداء الوجود ،
................................................................................
( 1 ) يريد أن الطائر - بموته - عاد من عالم المادة إلى عالم الروح ، وبهذا طار من نهاية حال صاحبه في هذا العالم المادي إلى عالم الروح الذي كان بداية حال صاحبه .
( 2 ) قال تعالى : “ لا أقسم بهذا البلد ، وأنت حل بهذا البلد ، ووالد وما ولد ، لقد خلقنا الإنسان في كبد “ . ( البلد ، 90 : 1 - 3 ) .
( 3 ) ترجمنا هنا قول الشاعر “ وجود نقد “ بالوجود الحق غير الزائف .
“ 251 “
هذا الببغاء مستتر في باطنك ، وقد شهدت خياله فوق هذا وذاك “ 1 “ .
إنه يسلبك السرور ، ( ومع هذا ) فأنت مسرور به . وأنت تتقبل منه الظلم ، كأنما هو عدل .
1720 فيا من كنت تحرق الروح من أجل الجسد ! إنك أحرقت الروح ( وبها ) أضأت الجسد .
أما أنا فقد احترقت ( بالعشق ) ، فهل يريد أحد جذوة ( مني ) كي يشعل القمامة بناري “ 2 “ .
وما دام الوقود هو الذي يكون متقبلًا للنار ، فخذ الوقود الذي يكون جذّاباً للهب
! فوا أسفاه ! وا أسفاه ! وا أسفاه لأن مثل هذا القمر أصبح مختفياً وراء السحاب .
وكيف لي أن أنبس بكلمة ، ونار القلب قد اضطرمت ، وأسد الهجر قد أصبح هائجاً مفترساً .
1725 فهذا الذي يكون - في يقظته - عنيفاً ثملًا ، كيف يكون حاله ، حين يمسك بيده القدح ؟ .
فالأسد الهائج الذي خرج عن طبيعته ، يضيق به المرج المنبسط .
إنني أُفكر في ألقوا في وحبيبي يقول لي : “ لا تفكر إلا في طلعتي “ .
ألا فلتجلس ناعماً يا قافية تفكيري “ 3 “ ! إنك أنت قافية السعادة أمامي !
فما الألفاظ حتى تشغل بها فكرك ؟ ما الألفاظ ؟ إنها الأشواك المحيطة بالكرم .
......................................................................
( 1 ) وقد شهدت خاله فيما أمامك وما حولك من مخلوقات العالم الماديّ .
( 2 ) هل يريد أحد أن يقبس نار العشق مني لتخلصه مما علق به من ماديات حقيرة . وقد عبر عن الماديات بكلمة “ القمامة “ احتقاراً لها ، كما ذكر أنّ التخلص منها لا يكون إلا بنار العشق التي تحرقها كما تحرق النار القمامة .
( 3 ) يا مصدر انسجام تفكيري وتوازنه .
“ 252 “
1730 - فلأضربنّ الحرف بالصوت والكلام حتى أستطيع الحديث معك بدون تلك ( الوسائل ) الثلاث .
ولأفضينّ إليك بتلك الكملة التي أخفيتها عن آدم ، يا من أنت ( جمُاع ) أسرار العالم !
سأقول لك تلك الكملة التي لم أقلها للخيل ، وأُحدثك بذلك الهمّ الذي لا يعرفه جبريل .
تلك الكملة التي لم ينطق بها المسيح قطّ ، ولم يذكرها اللَّه قطّ - غيرةً عليها - إلا لنا “ 1 “ .
وأي شيء تعنيه “ ما “ “ 2 “ في اللغة ؟ إنها للإثبات والنفي ، وأنا لست إثباتاً ، بل إنني نفي وبلا ذات !
1735 - لقد وجدت ذاتيتي في انعدام الذاتية ، ولهذا فقد نسبحتُ ذاتيتي في اللاذاتية .
فجملةُ الملوك عبيد لرعاياهم ، وجميع الخلق ، فداءُ من يفديهم .
الملوك جميعاً ينحنون لمن ينحني لهم ، والخلق جميعاً ثملون بحب سُكارى عشقهم .
والصياد يغدو صيداً للطيور حتى يباغتها ، فيجعلها صيداً له .
وقلوب المعشوقين أسيرة لمن فقدوا ( في العشق ) قلوبَهم ، وجملة المعشوقين صيد للعاشقين .
1740 - وكل من رأيته عاشقاً فاعلم أنه معشوق ، فإنه - نسبياً - هذا وذاك .
فإذا كان الظماءُ ينشدون من العالم الماء ، فإنّ الماء في العالم أيضاً ينشُد الظماء !
...................................................................
( 1 ) ورد في المنهج القوي حديث عن الرسول يروي أنه عليه السلام قال :
“ إن للَّه عباداً ليسوا بأنبياء ولا شهداء ولكن يغبطهم الأنبياء والشهداء لقربهم ومقعدهم من اللَّه “ .
( 2 ) وردت في نهاية البيت السابق كلمة “ ما “ بمعنى نحن . وفي هذا البيت صرفها الشاعر عن معناها الفارسي إلى معانيها العربية فقال إنها للنفي وللإثبات .
“ 253 “
فإن كنت عاشقاً فالزم الصمت ، وإنْ عرك لك أُذناً فكن ( كلّك ) أُذناً .
ولتُقمْ سدّاً أمام السبيل إذا فاض “ 1 “ ، وإلا فإنه يحدث العار والخراب .
وماذا يضيرني لو يقع الخراب ؟ إنّ كنزاً ملكياً سيكون تحت الأنقاض !
1745- إنّ غريق الحق يودّ لو يزداد غرقاً ، ( على حين ) تهبط روحه وتعلو مثل موج البحر .
فما الأفضل ؟ قاع البحر أم سطحه ؟ وما الأبهى ؟ سهم الحبيب أم درعه ؟
أيّها القلب ! إنّك لتكون ممزقاً بالوساوس ، لو أنك فرقت بين الطرب والبلاء !
فإنْ كان لمرادك مذاق السكر ، أوليس حرمانك من مرادك هو مراد الحبيب ؟
فكل نجم من نجومه ثمن لدم مائة هلال ، وإراقةُ دم العالم حلالُ له .
1750 - ولقد أخذنا الأجر ، ونلنا ثمن الدماء ، ولهذا فقد سارعنا إلى المخاطرة بأرراحنا .
آه ! إنّ حياة العاشقين في الموت ، وإنّك لن تملك قلب الحبيب إلا بفقدان قلبك !
لقد سعيتُ إلى قلبه بمائة إعزاز وتدليل ، ولكنّه - لملاله - قدّم لي الأعذار .
قلت : “ فما آخر هذا إنّ العقل والروح عريقا حبّك ! “ فقال :“ دعني ! ولا تحدَّثني بهذه الخرافة !
......................................................
( 1 ) كن مسيطراً على عواطفك ، ولا تدع لسانك ينطلق بالحديث عنها . وتجنب البوح ، بما قد يكشف لك من الأسرار .
“ 254 “
أولست أعرف ما قد فكرت فيه ؟ فيا أيها الثنوي الرؤية ، كيف أبصرت الحبيب ؟
1755 - أيها الكبير الروح ! لقد رأيتني ذليلًا ، لأنك شريتني بالثمن البخس !
وكل من اشترى بالثمن البخس باع بالثمن البخس ، فالطفل يعطي جوهرة لقاء قرص من الخبر !
“ إنني غريق عشق قد غرق فيه عشق الأوّلين والآخرين !
ولقد وصفته بإجمال ، ولم أفصلّ في بيانه ، ولولا هذا لا حترقت الأفهام ، واحترق اللسان .
فحينما أقول : “ الشفة “ فإنها تكون “ شفة “ البحر “ “ 1 “ ، وحين أقول “ لا “ فالمراد “ إلا “ .
1760 - وإني - من جرّاء ما أتذوق من حلاوة - جلستُ عابس الوجه ، كما أني - لا متلائي بالقول - قد لزمتُ الصمت !
وذلك لتستتر حلاوتنا عن كلا العالمينْ وراء حجاب من عبوس الوجه .
وإني لأذكر سراً واحدا من كل مائة سر لَدُنيّ حتى لا يصل هذا الكلام إلى كان أُذن .
تفسير قول الحكيم (سنائي) "إن كل قول جعلك نتخلف عن الطريق يستوى فيه الكفر والايمان
وكل صورة جعلتك نقع بعيداً عن الحبيب يستوى فيها الحسن والقبح "
وفي معنى قوله - عليه الصلاة والسلام : “ إن سعداً “ 2 “ لغيور وأنا أغير من سعد واللَّه أغير مني
ومن غيرته حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن
“ إنّ العالم جاء غيوراً ، لأن الحقّ قد سبق هذا العالم في الغيرة .
.............................................................
( 1 ) شاطىء البحر .
( 2 ) سعد المذكور في الحديث هو سعد بن عبادة الصحابي المعروف .
“ 255 “
فهو مثل الروح ، والعالم كالجسم ، والجسم يتقبل من الروح الحسن والقبيح .
1765 وكل من صار محرابُ صلاته عين ( اليقين ) ، فاعلم أنّ عودته إلى إيمان ( العوام ) شين ! \
إنّ كلّ من أصبح حافظاً لثياب الملك ، يكون اتجاره من أجل مليكه خسراناً عليه “ 1 “ .
وكل من أصبح جليساً للسلطان ، يكون جلوسه على باب السلطان عيباً وغبناً .
( وكل ) من حظي بتقبيل يد الملك ، يكون اختياره تقبيل قدمه إثماً .
فإن كان وضع الرأس على قدم الملك إعظاماً له ، فإنه بالقياس إلى تقبيل اليد خطأ وزلل .
1770 إن الملك ليغار من ذلك الذي يختار الرائحة بعد أن يكون قد رأى الوجه .
ومَثَلُ غيرة الحقّ كمثل القمح ، وأما غيرة الناس فهي كالتبن .
واعلم أن أصل الغيرة من اللَّه ، وأما غيرة الخلق فهي - بدون اشتباه - فرع من غيرة الحقّ .
وإني لتارك شرح هذا ، لأعبّر عن شكواي من جفاء ذلك الجميل ذي القلوب العشرة .
سأنوح لأن النواح يروقه ! إنّ النواح والحزن لممايجب له على العالمين !
1775 وكيف لا أنوح بمرارة من قصته ( معي ) ، حين لا أكون في حلقة سكاراه ؟
وكيف لا أنوح وأنا كالليل بدون صباحه ، وبدون وصال وجهه
.............................................................
( 1 ) إن كل من وصل إلى مقام القرب ، يكون ابتعاده خسراناً عليه ،
“ 256 “
الذي يزيد النهار إشراقاً ؟
وإنّ مرارته لحلوة المذاق لروحي ، فروحي الفداء لذلك الحبيب الذي أضنى فؤادي !
أنا عاشق لضناي وألمي من أجل رضى مليكي الفرد !
لقد جعلت تراب الهمّ كحلًا لعينيّ ، حتى يمتلئ بحرا مقلتيّ بالجواهر !
1780 فالدموع التي يريقها الخلق من أجله جواهر ، والخلق يظنونها دموعا ! وأنا أشكو من روح روحي ، ولكني لست ( في الحقيقة ) شاكياً بل ذاكر خبري ! القلب يقول : “ إني قد تعبت منه “ ، وأنا - من هذا النفاق الواهي - كم ضحكت !فعاملني بالحقّ ، يا فخر المحقين !
يا من أنت الصدر وأنا عتبة بابك ! وأين العتبة والصدر في ( عالم ) المعنى ؟ وأين “ نحن “ و “ أنا “ من ذلك الجانب الذي يكون فيه حبيبنا ؟
1785 فيا من برئت روحك من “ نحن “ و “ أنا ! “ أيها الروح الطيف في الرجال والنساء ! إنك الواحد حين يتحد الرجال والنساء ! إنك الواحد حين تمحى الوحداث ! لقد صنعتَ “ أنا “ هذه و “ نحن “ حتى تلعب مع نفسك لعبة العبادة “ 1 “ .
حتى تصبح كلّ “ أنا “ و “ أنت “ روحاً واحداً وتغدو كلها فانية في الحبيب ! فكل هذا يكون ، فتعال يا صاحب الأمر ، يا من أنت منزّه عن “ تعال “ وعن ( كل ) الكلام “ 2 “ !.
....................................................................
( 1 ) حين يتم اتحاد الخلق بالخالق لا يبقى هناك مجال للعبادة .
( 2 ) قرئت “ بيا “ في الشطر الثاني من البيت “ بيان “ فيكون معنى الشطر :“ يا من منزه عن البيان والكلام “ .
“ 257 “
1790 إنّ الجسم لا يستطيع إبصارك إلا مجسّماً ، فهو يستحضرك في الخيال ساخطاً أو راضياً .
فلا تقل إنّ القلب - وهو أسير السخط والرضى - جدير بتلك المشاهدة .
فذلك الذي يكون أسيراً للسخط والرضى ، إنما هو حيّ بهاتين العاريتين .
وأما بستان العشق الأخضر - الذي لا نهاية له - ففيه إلى جانب السخط والرضى ثمار كثيرة .
فالعشق أسمى من هاتين الحالتين “ 1 “ ، وهو رّيان أخضر بدون ربيع أو خريف !
1795 فأدّ زكاة الوجه الجميل ، يا صاحب الوجه الجميل ! وأعدْ لنا شرح حال الروح الممزق .
فإن نظرة من عين ذات غمز ودلال قد طبعت على القلب وسماً جديداً !
وقد أحللتُ له دمي لو أنه أراقه ! وكنت أقول : “ حلال ( لك دمي ) “ ، وهو يهرب مني .
وكم تصبّ من همّ على قلوب المحزونين ، حين تهرب من نواح أبناء التراب .
فيا من كل صبح لمع من المشرق وجدك كعين الشمس مشرقاً فياضاً !
1800 كيف ألقيت المعاذير إلى المولّه بك ؟ يا من سُكرّ شفتيك لا يُقَدَّر بثمن !
يا من أنت الروح الجديد لعالم عتيق ! استمع إلى صراخ جسم لا روح لا ولا قلب !
..................................................
( 1 ) حالتا السخط والرضي .
“ 258 “
ودع شرح ( حال ) الوردة بحقّ اللَّه ! واشرح حال البلبل الذي افترق عن الوردة !
فليس اضطرابنا من الحزن ولا من السرور ، وليست حكمتنا من الخيال ولا من الوهم .
بل إنّ لنا حالة أُخرى وتلك نادرة ، فلا تنكر ذلك ، فإن اللَّه واسع المقدرة !
1805 ولا تتخذ من حال الإنسان مقياساً للأمور ! ولا تجعل ركيزتك الجور والإحسان !
إنّ الجور والإحسان والألم والسرور كلها حادثة ، وكل المحدثات تموت والحق وارثها .
لقد أطلّ الصبح ، يا من أنت للصبح ملجأ وظهير ! فالتمس لي العذر عند مخدومي حسام الدين !
إنك ملتمس العذر عند العقل الكلي وعند الروح . إنك روح الروح والتماع المرجان !
لقد أشرق الصبح ، ونحن من نورك في صبوح نحتسيها من خمر منصورك “ 1 “ .
1810 فإذا كان عطاؤك يجعلني على هذه الصورة ، فماذا تكون الخمر حتى تجلب لي الطرب “ 2 “ ؟
إن الخمر في جيشانها لتتكدّى جيشاننا ، وإنّ الفلك في دورانه ليتكدّى عقلنا “ 3 “ !
.......................................................................
( 1) المقصود حسين بن منصور الحلاج ، الصوفي المعروف الذي قتل عام 309 ه .
( 2 ) فإذا كنتُ ثملًا بعطائك على هذا النحو ، فماذا تكون الخمر وماذا يكون السكر بها ؟ وأيّ طرب تستطيع أن تجلبه ؟
( 3 ) إن الخمر في جيشانها ليست شيئاً أمام جيشان نفوسنا ، والفلك الدوار في تدبيره ليس شيئاً أمام حكمة عقولنا .
“ 259 “
فالخمر أصبحت ثملة بنا لا نحن بها ! والجسم اتخذ وجوده منا ولم نتخذ وجودنا منه !
إننا كالنحل ، والأجسام كالشمع ! وقد صنعنا الجسم خليّة خليّة كما يُصنع الشمع .
عود إلى حكاية التاجر
إنّ هذا الحديث طويل ! فلتحدّثنا عن التاجر “ 1 “ لنرى ما صارت إليه أحوال هذا الرجل الطّيب .
1815 لقد كان هذا السيّد في نار وألم وحنين ، وكان يلفظ بمائة عبارة مفكّكة على هذا النحو :
فحينما يكون متناقضاً ، وحيناً رفيقاً ، وحيناً متضرعاً ، وحيناً يكون عاشق الحقيقة ، وحيناً عاشق المجاز !
فالرجل الغريق - وهو يكاد يلفظ الروح - يَنْقَضُّ بيده على كل قشّة .
وهو - لخوفه على حياته - يضرب بيده ورجله ، لعلّ أحداً يأخذ بيده في ( هذا ) الخطر .
والحبيب يعجبه هذا الهياج ، فكفاح اليائس خير من النوم .
1820 فصاحب الملكوت ليس بلا عمل ، والشكوى من جانبه تكون عجباً ، فهو ليس بمريض “ 2 “ .
................................................
( 1 ) يعود الشاعر هنا إلى قصة التاجر الذي سافر إلى بلاد الهند .
( 2 ) هذا البيت من أغمض الأبيات عند الشراح . واعتقادي أنه إحدى الشطحات الصوفية . والمعنى هو أنه تعالى يعمل ليلًا ونهاراً ، لا يتوقف عن العمل - ومع هذا - فإن الشكوى من هذا العمل المتواصل تكون عجباً ، فهي لا تحدث لأنه - جلّ شأنه - لا يكلّ .
“ 260 “
من أجل هذا - يا بنيّ - قال الرحمن :” كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ ““ 1 “ .
ففي هذا الطريق ، لا تتوان عن النحت والصقل “ 2 “ ! ولا تفرغ لحظة واحدة حتى آخر أنفاسك !
وكن - حتى اللحظة الأخيرة - نَفَساً أخيراً ( يتردد ) ، لتكون موضع سرّ العناية ( الإلهية ) .
فكلّ روح - في رجل أو امرأة - بذلت جهدها ، فإنّ أُذن مليك الروح وعينه ترقبان ذلك “ 3 “ .
كيف رمى التاجر الببغاء خارج القفص وكيف طار الببغاء الميّت
1825 - وبعد ذلك ألقى به خارج القفص ، فطار الببغاء الصغير إلى دوحة عالية “ .
وهكذا طار هذا الببغاء الميّت ( بسرعة ) كاندفاع شمس المشرق .
فحار التاجر في أمر هذا الطائر ، وأدرك - من دون خبر - أسراره .
فرفع وجهه إلى أعلا ، وقال : “ أيها العندليب ! أعطنا نصيباً من بيان حالك !
ما ذا صنعه الببغاء في الهند فتعلّمْتَه ، ومكرت مكراً فأشعلتنا حزناً “ .
1830 فقال الببغاء : “ إنه نصحني بفعله قائلًا : دع جمال صوتك ولطيف ودّك ،
...............................................................
( 1 ) المرحمن ، ( 55 : 29 ) .
( 2 ) لا تتوان عن السعي والتقدم .
( 3 ) حرفياً : فإن أُذن مليك الروح وعينه على النافذة .
“ 261 “
فإنّ صوتك هو الذي وضعك في الأسر “ . وقد تظاهر بالموت ليُقدّم لي هذه النصيحة .
ومعناها : يا من أصبحتَ مُطرباً للعامة والخاصة ! لتُصبحْ ميّتاً حتى تظفر بالخلاص !
فحين تكون حبة تلتقطك الطيور ، وحين تكون برعمة تقطفك الأطفال .
فخبىء الحبة ، وكن كلّك شركاً ! وأخف البرعمة ، وكن في ظاهرك عشباً “ 1 “ !
1835 فكل من عرض حُسْنَهُ في المزاد ، يتجه نحوه مائة قضاء سيّء .
فاليَلُ والأحقاد والحسد تنصبّ على رأسه كالماء من القرب .
فأعداؤه يمزّقونه غيرة منه ، وأصدقاؤه ينهبون أيام حياته .
ومن كان غافلًا عن الزرع والربيع ، أنى له أن يدرك قيمة الزمن ؟
فالواجب أنْ تفر إلى كنفٍ من لطف الحق ، فإنه يصبّ على الأرواح آلاف الألطاف .
1840 وإذ ذلك تجد لك ملجأ ، فيكف يكون هذا الملجأ ؟ إنّ الماء والنار يصبحان كلاهما جيشا لك !
أو لم يصبح البحر صديقاً لنوح وموسى ؟ أولم يصبح عنيف القهر لأعدائهما ؟
أو لم تكن النار قلعة لإبراهيم ، حتى صعّدت دخان ( الحقد ) من قلب النمرود ؟
أو لم يَدْعُ الجبلُ إليه يحي ، ويدفع عنه قاصديه برجم الحجارة ؟
وقال له : “ يا يحيى ! تعال ، واهرب إليّ لأكون لك ملجأ من السيف القاطع ! “
..............................................................................
( 1 ) حرفياً : وكن عشباً فوق السطح .
“ 262 “
كيف ودّع الببغاء التاجرَ وطار
1845 فأعطاه الببغاء نصيحة أو نصيحتين حافلتين بالمغزى ، وبعد ذلك قرأ عليه اسلام الفراق .
فقال له التاجر : “ امض في أمان اللَّه ! لقد أوضحتَ لي الآن طريقاً جديداً “ .
وحدَّث السيد نفسه قائلًا : “ إنّ هذه النصيحة لي ، فلأسلكنّ طريقه ، فإنه طريق واضح .
وكيف تكون روحي أقلّ ( حكمة ) من الببغاء ؟ إنّ الواجب على الروح أنْ تسلك سبيل الرشاد .
مضرّة اشتهار المرء وتعظيم الخلق له
إنّ الجسم على شكل القفص ، وقد أصبح - بخداع الداخلين والخارجين “ 1 “ - شوكة تخز الروح .
1850 فهذا يقول له : “ إنني سأكون صفيّك “ . وذاك يقول له : “ لا ، بل أنا شريكك “ .
وهذا يقول له : “ ليس لك نظير في الوجود ، سواء في الجمال
.......................................................................
( 1 ) المخالطون للمرء .
“ 263 “
أو الفضل أو الإحسان أو الجلود “ .
وهذا يقول له : “ إنك صاحب العالميْن ، وكلّ أرواحنا عيال على روحك !
“ فحين يرى الخلق سُكارى ذاته ، يفقد من الكبر سلطانه على نفسه .
وهو لا يدري أنّ الشيطان قد أوقع آلافاً مثله في ماء النهر “ 1 “ .
1855 إنّ ملق الدنيا ونفاقها لقمة سائغة المذاق ، ولكنها مليئة بالنار ، فأقللْ من تناولها !
ونارُها مختفية ، ولكنّ مذاقها واضح ، ودخانها يصبح ظاهراً في نهاية الأمر .
ولا تَقُلْ : “ متى كنت أبتلع هذا المديح ؟ إنه يتحدث عن طمع ، وأنا واقف على أمره “ .
فلو أنّ مادحك هجاك أمام الملأ ، فإنّ قلبك يحترق أياماً بلهيب ذلك ( الهجاء ) .
ومع أنك تدري أنه قال هذا لحرمانه ، وأنّ طمعه فيك قد جعلهُ مغرضاً “ 2 “ .
1860 فإنّ أثر هذا يبقى في نفسك ، وإنك لتلقى التجربة ذاتها في المديح .
فإنّ أثره أيضاً يبقى معك أياماً ، ويصبح مصدراً لتكبر الروح وانخداعها .
لكنّ المدح لا يظهر لك لأنه حلو ، أما القدح فيظهر لك قبيحاً لأنه مرّ .
( والهجاء ) مثل المطبوخ “ 3 “ ووالحَبّ “ 4 “ ، تتناولهما ، فيصيب الاضطراب والألم جوفك زمناً طويلًا .
فإن أكلت الحلوى فمذاقها وقتيّ ، وأثرها لا يدوم طويلًا كأثر تلك العقاقير .
.....................................................................
( 1 ) قد خدع آلافاً مثله وقادهم إلى الهلاك .
( 2 ) حرفياً : وأن طمعه فيك قد أصبح ضرراً
( 3 ) أدوية منظفة لأمعاء الإنسان .
( 4 ) أدوية منظفة لأمعاء الإنسان .
أمس في 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
أمس في 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
أمس في 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
أمس في 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
أمس في 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
أمس في 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin