كتاب التجليات الإلهية الشيخ الأكبر والنور الأبهر سيدى الإمام محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي الأندلسي
02 – شرح تجلي نعوت التنزه في قرة العين
متن نص تجلي نعوت التنزه في قرة العين:
اعلم أنك إذا غيبت عن هذا التجلي الأول وأسدل الحجاب أقمت في هذا التجلي الآخر، ترتيبأ إلهيآ حكميآ ، ليس للعقل فيه من حيث فكره قدم ، بل هو قبول كشفي ومشهد ذوقي، ناله من ناله، فيقام العبد في إنسانيته مقدس الذات منزه المعاني و الأحكام.
تتعشق به الفهوانية تعشق علاقة تظهر أثرها عليه، فيكون موسوي المشهد، محمدي المحتد.
فلا يزال النظر بالأفق الأعلى، إلى ان ينادي من الطباق السفلى ، إحذر من الحد عند نظرك الى الأفق ألأعلى ، فإني مناديك منه ،ومن هنا ، فيتدكدك عند ذلك جبلك، ويصعق جسدك، وتذهب نفسك في الذاهبين الى محل التقريب، بمشاهدة اليقين ، فتعطى من التحف ويهدى إليك من الطرف ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
ثم ترد إلى المنظر الأجلى، بالأفق الأعلى ،عند الاستواء الاقدس الأزهى، فيأتيك عالم الفقر والحاجة ، من ذات جسدك الغريب ، يسألون نصيبهم ، من تحف الحبيب ، فأعطهم ما سألوا على مقدار شوقهم وتعطشهم، ولا تنظر الى إلحاحهم في المسألة ، فإن الإلحاح صنعة نفسية وقوة تعليمية.
ولكن أنظر إلى ذواتهم بالعين التي لا تستتر عنها الحجب والأستار، وأقسم عليهم على قدر ما يكشف منهم ، فمن استوت ذاته ، فأجزل له في العطية ومن تعاظم عليك وتكبر، فكن له أوطأ مطيأ ،ولا تحرمه ما تقتضيه ذاته ، وان تكبر فتكبره عرضي، فعن قربب ينكشف الغطاء، وتمر الرياح بالأهواء ،ويبقي الدين الخالص ، فتحمد عند ذلك عاقبة ما وهبت ، والأرزاق أمانات بأيدي العباد روحانيها وجسمانيها فإذا الأمانة ،تسترح من عبئها ،وان لم تفعل فأنت الظلوم، الجهول ،وعلى الله قصد السبيل.
02 – شرح تجلي نعوت التنزه في قرة العين
128 - اعلم أن التنزه ، على رأي ، من نعوت الحق ، فليس لغيره منه شيء . وعلى رأي ، مختص بمحل يقبل أثر التجلي ، إذ التجليات نسب ومعان لا تحقق لها إلا في محل يقبل اثارها.
فعلى الرأي الثاني ،صارت قرة العين محل أثر نعوت التنزه ، ظاهرة بحكم ذلك الأثر، ما بقي الأثر فيها ، وهي تحت قهر سلطانه . فشأن قرة العين ، في هذا التجلي ، أن لا تنحصرفي الحدود والجهات ، بل تنفذ فيها حسب قوة الأثر الحاصل فيها ، فقوته قد تقتضي النفوذ إلى لا غاية : فلا بد لكل تجل ، في المحل المورود عليه ، أثر، ولا يطلب ذلك التجلي من الحضرات إلا ما يشهد به أثره في محله ، وهذا الأثر إنما يسمى بالشاهد عرفأ ، قال تعالى : " افمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه" 17 سورة هود
129- " اعلم أنك إذا غيبت " في شهودك ، القاضي بطرو الفناء على رسومك . " عن هذا التجلي الأول "
الفهواني ، الجامع بين الشهود المثالي والكلام القاضي بوجود الحجاب ،اذ "وما كان لبشر أن يكلمه الله تعالي الا وحيا او من وراء حجاب". 51 سورة الشوري
" وأسدل الحجاب "بينك وبين المشاهد المثالية ، القاضية بالمكافحة ،" أقمت في هذا التجلي الآخر " الرافع حكم التجلي الخطابي الفهواني ، " ترتيبأ إلهيآ حكميآ " يحكم على المحل المورود عليه ، حسب قوة أثره الحاصل فيه ، ما دام المحل تحت حكمه . وإنما قال ترتيبأ إلهيأ ، " اذ ليس للعقل فيه " أي الترتيب الإلهي ، " من حيث فكره قدم " حتى يجعل حكمه كحكمه في الترتيب الطبيعي ، كتقدم الواحد على الاثنين والاثنين ملى الثلاثة .
"بل هو " إلقاء إلهي و "قبول كشفي ومشهد ذوقي" لم تستشعر البصأثر بوجوده وظهروه قبل الإلقاء والقبول ، ولا بتعيينه لمحل خاص ، في وقت معين ، بنفوذ الفكر، اللهم إلا بتعريف إلهي في نفس التجلي أو في تجل آخر يتلقاه الكشف التام والذوق الصحيح .
ولذلك قال : " ناله من ناله " ممن سلمت خالصة قابليته عن آفة الوقفة مع الرسوم الكونية ، عند انجذابها إلى سلم المحاذاة التامة ، الناتج من ظهور الحق من حيث أحدية جمعه في السوائية القلبية . فإن اتسع القبول الكشفي والمشهد الذوقي ، باستيفاء المشاهد مراسم التجلي من محله المورود عليه ، على وجه يعطي ذلك المحل بحكم جمعه واشتماله ، حكم جميع أبعاضه وأجزائه بتبحر الجمعية الكشفية والذوقية حالتئذ .
130 – "فيقام العبد في إنسانيته" التي هي ، بإحاطتها الوسعى ، وعاء الكل في الكل "مقدس الذات"بما ظهرفي سره الوجودي من أثر التجلي الذاتي ، ومحا عنه نقوش السوى حتى بقي له ، مع ذلك التجلي ، حكمه لا عينه "منزه المعاني و الأحكام" الناتجة له من رقائق نسب الحقائق الحقية والخلقية ، الكامنة أحدية جمعها في نقطته الاعتدالية القلبية ، بل في كل قوة من قواه الباطنة والظاهرة .
وتنزهها ، عدم نسبتها إلى استعداد قامت به ، بل بنسبتها إلى المتجلي الظاهربسره الوجودي وبما له من الكمال الجمعي في استعداد المحل بحسبه ، فالعبد إذ ذاك لا يضيف شيئأ منها إلى نفسه ، إذ ليس له إذ ذاك عين يضاف إليها شيء . فهو في حالة يكون هو لا هو" وحالتئذ : " تتعشق به الفهوانية تعشق علاقة " فإن العبد المقام في إنسانيته ، محل تتحقق به وفيه التجليات الجمة التي هي النسب والمعاني . " تظهر أثرها " أي الفهوانية ، التي هي أيضأ تجل من التجليات الصورية " عليه " أي على العبد المقام في إنسانيته .
والفهوانية هي الخطاب الإلهي عند المنازلة ، أعني نزول الحق لعبده من غيبه الأحمى ، وعروج العبد إلى الحق من مستقره الأدنى .
ويكون الخطاب في عالم المثال بطريق المكافحة .
"فيكون" العبد عند تحقق الفهوانية به "موسوي المشهد" بكونه جامعأ بين الشهود والكلام من وراء حجاب التمثل " محمدي المحتد " بشهوده الحق من حيثية أحدية جمعه الكنهي بالحق أيضأ ، من غير حجاب ، وذلك عند استهلاك عينه في التجلي الذاتي بالكلية ، وقيام الحق في مرتبته ظهورأ على حكمه .
131 - " فلا يزال النظر " القلبي مترددأ ، بوساطة الحواس وبغير وساطتها ، بين الشهودين متحذلقأ لكشف الأمركما هو ." بالأفق الأعلى " الذي هو في هذا المحل عبارة عن جهة علو الوجود وفوقيته " الى ان ينادي" اعتنا، بذر النظر وعناية في أمر ارتقائه إلى غاية تحوي على الغايات " من الطباق السفلى "التي هي جهة دنو الوجود و تحتيته .
وهي جهة تصادم بأحكامها الناشئة من سنخ الطبيعة تنزيه الأمر المطلوب "احذر" أيها المشفوف في معرفة حقيقة الأمر شهودأ لا تداخله الشبه "من الحد" بحصرك إياك في جهة العلو، وتقييد طلبك بها " عند نظرك الى الأفق ألأعلى " فإن الأمر الذي هو مطلوبك غير منحصر في حد وصورة وجهة فهو مع تجرده في ذاته عن كل اعتبارمع كل شيء في صورة ذلك الشيء ، فكأنه يناديك من مكان قريب وبعيد فيقول لك ألسنة الجمع والوجود : تنبه لشهودي في كل شيء ، وفي كل وجه ، يا أيها المنحصر في طلبي بالأفق الأعلى ، القاضي بكمال التنزيه الذاتي " فإني مناديك منه" أي من الأفق الأعلى ، "ومن هنا" أي من الطباق السفلي ، فلو انحصرت في طلبك على أحد المتقابلين لأخليت مني الآخر .
ولوحصرتني فيهما لجهلت كمالي المطلق ، في غيابتي عنهما وعن كل ما ينافي إطلاقي الذاتي ، الذي لا يقابله التقييد فإذا تحقق نظرك بهذا الشهود المطلق ، وتألق له من مركز السوائية التي تتمانع في حقه أقطار الوجود ، برق الإطلاق ، تنصعق المحصورات في الحدود والجهات .
132 - (فيتدكدك عند ذلك جبلك) أي ظاهرك الذي هو مركز دائرة ظاهر الوجود المتصف في طور الظهور الأشمل بالشموخ والاعتلاء مكانه ؛ (ويصعق جسدك) المركب من المواد الطبيعية العنصرية.
فكما أن التدكدك ازال صورة جبل موسى عليه السلام، كذلك يزول به ظاهرية ذاتك واعتلاؤها المستفاد لها من علو الوجود الظاهر بها، حتى عادت إلى ذل الإمكانية و فقرها وعدمیتها.
و کما آن الصعق لم یعطي الجسد الموسوي الا الخرور، ولم یغیره عن هيئته التي کان عليها، کذلك لا یغیر جسدك عن هيئته الانسانیة .
(و تذهب نفسك) المشغوفة إلى غايتها التي هي المنتهى (في الذاهبين إلى محل التقريب) وهو محل تطلع فيه على غاية تعينت لها بطلب استعدادها الأصلي المتعين لحقيقتها المعلومة في الأزل .
ولذلك قال قُدّس سره : (بمشاهدة اليقين) السابق الأزلي الذي عليه مدار ظهور الوجود، في الكيف والكم، والكمال والنقص، والإجمال والتفصيل .
فإذا بلغت نفسك إلى هذه الغاية المطلوبة، تستقر بمنزلة الكرامة والفضل.
133 - (فتعطى من التحف و یهدی إليك) بوصولها الیها واستقرارها فیها، و استحقاقها أن تنال (من الطرف) والنفائس من ذخائر إعلان ظاهر الوجود وباطنه جمعاً؛ إذ أنت، إذ ذاك، في مطلع الأشراف، فلذلك تعطي امتناناً واستحقاقاً (ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) فإن الأسماء الإلهية القاضية بوجود هذه المطالب العالية إنما تختص تجلياتها بهذه الغاية فلا توجد في غيرها.
فهي كأسماء إلهية لا حكم لها إلا في النشأة الآجلة، فلا تظهر أحكامها اليوم فينا.
ومن هنا قال: صلى الله عليه وسلم *"فأحمده بمحامد لا أقدر عليه الآن، يلهمنيه الله" فتلك المحامد عن تلك الأسماء. من حديث الشفاعة الكبرى رواه مسلم والبيهقي
134 - (ثم ترد إلى المنظر الأجلى) بعد انتهائك، أو إلى غاية هي المنتهى، إن كنت على القلب السيادي المحمدي الذي غايته منتهى كل شيء.
والمنظر الأجلى هو صورة الإنسان المتحقق بالکمال الجمعي الأحدي ، إذ به ینظر الحق و غیب کل شيء و شهادته.
فإنه تعالى هو الکنز المخفي الظاهر أكمل الظهور في شيئية وجود هذا الكامل ونحوه، المظهر به كل شيء في أطوار تفصيله.
وكذلك ينظر الإنسان فيها إلى الحقائق الإلهية والإمكانية الجمة، جمعاً وفرادى.
وهكذا عبر بعض العارفين عن المنظر الأجلى حيث قال : "إن الذوائب العلى مرسلة على المنظر الأجلى ".
وكنى بالذوائب العلى عن الأسماء الإلهية المرسلة عن الكنز المخفي في شيئية وجود الكامل، الكاسية لها كالثوب السابغ .
ولذلك قال الله تعالى: "واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها" 175 الأعراف .
فتحقق الأسماء الإلهية التي هي النسب والمعاني، إنما هو في حقيقة الكامل.
فإن الظاهر بالأسماء من حيث ظهوره في صورة عين هذه الحقيقة: بصير؛ وفي صورة أذنها : سميع ؛ وفي صورة لسانها : متكلم .
ولما كان الأفق الأعلى في حق المترقي، منتهى المراتب الخلقية ومبتدأ الحضرات الإلهية، وفي حق المتنزل بالعكس، صار مستقر الكامل بعد عوده إلى الصحو المفيق .
ولذلك قال قُدّس سره : ثم ترد إلى المنظر الأجلى (بالأفق الأعلى) لتفوز فيه بدوام الإشراف على العالمین من غیر تقيدك بهما.
ولماکان الافق الاعلى کلسان المیزان بین کفتي العالمین، في حق الكامل المردود إلى البينونة المكرمة الظاهرة له بسر العدل ، قال قدس سره : (عند الاستواء الأقدس الأزهى) وهو مطلع الأشراف الذي تتمانع في حقه المتقابلات الجمة الإلهية والإمكانية.
والكامل المستقر فيه يحاذي الإطلاق في تقييده والتقيد في إطلاقه، من غير أن يقيده بشيء.
فإذا تحقق روح الاستواء بالأقدسية، أراك، في تجلي الحق لك ، كل شيء في كل شيء .
135 - (فيأتيك) إذن (عالم الفقر والحاجة) اللازم لامكانياتك (من ذات جسدك الغريب) المتروحن معك في الأفق الأعلى الذي هو نهاية مقام روحك ؛ فإنه بالنسبة إلى حال جسدك غربة، فإن بقاء الجسد مع غلبة التجرد والتروحن، غريب .
وبلوغ الجسد إلى هذا المقام لا يكون إلا بجاذب قوي قاسر.
وإتيان عالم الفقر والحاجة، من ذات جسدك الغريب، إليك إنما هو أولاً، من نفسك القائمة لتعديل مزاجك، وهي ذات جسدك ؟
وثانياً، من أنزل المراتب الإمكانية، يعني عالم الأجسام والصور الملكية؛ وهو شطر من أحد طرفي الأفق الأعلى، الذي هو إذ ذاك مستقرك فأنت فيه قائم بوفاء حق مظهرية القيومية لعموم القوابل.
ولذلك (يسألون) منك حينئذ (نصيبهم) الذي به تبحر قابلیاتهام المتلقية معدات الکمال و الحظوظ الوافرة (من تحف الحبيب) ورغائب فيض القيومية ولطائف إشارات الغيوب، التي لا يحصل مثلها لهم إلا بوساطة الكمل ومآخذهم العلية.
136 - فإن كنت متحققاً بولاية التدبير لوفاء حق كل ذي حق ، (فأعطهم ما سألوا) بألسنة استعدادهم و حالهم (على مقدار شوقهم و تعطشهم) الناشئ من اقتضاء قابلیاتهام الأصلية، من غير زيادة ونقصان.
فإن مقتضى حال الكمل وفاء حق كل ذي حاجة كما ينبغي ، وعلى وجه ما ينبغي .
فإن زاد عليهم أورث الطيش والطغيان الموبق ؛ وربما أن تضمحل رسوم قابلياتهم. وإن نقص منع بعض استحقاق ذويه وشأن أهل الكمال القيام بوفاء حق كل ذي حق كما ذكر.
(ولا تنظر إلى إلحاحهم في المسألة، فإن الإلحاح صنعة نفسية) فإنها مجبولة على الشره و اخرص التجدد معها مع الآنات ؛ ولذلك یشیب ابن آدم ویشيب معه الحرص و طول الأمل* . من حديث أنس الوارد في الصحيحين : " يهرم ابن آدم ويشب معه اثنتان : الأمل وحب المال".
(وقوة تعليمية) تنمو وتتزايد بالإغراء الشيطاني وتعليمه، حين يأتيهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم والإلحاح ينتهي إلى إفراط قادح في الكمالات النفسية.
(ولكن انظر إلى ذواتهم بالعين التي لا تستتر عنها الحجب والأستار) شيئاً؛ فإنك إذ ذاك أعطيت الكشف المستوعب في وزن كل شيء وتحريره فتعلم أن الحجب المانعة بماذا ترتفع أو تشف فلا تمنع ؛ وتظفر بمكنة توفي بها الحقوق وتميط بها الاذى عن الطريق.
(وأقسم) عند ذلك (علیهم) ما سألوه شوقاً و تعطشاً (علی قدر ما تکشف منهم) من قوة استعداد القبول و ضعفه، والتفاوت فيه قوة وضعفاً كاد أن لا ينحصر ولا يتناهى.
فعليك بوزن الاستعدادات وتحريرها، لئلا يقع الإفراط والتفريط القادح فيهما، المانع من الوصول إلى كمالاتها المقدرة لها.
137 - (فمن استوت ذاته) من السائلين، بوقوعها في حيز التمانع وتحققها بالاعتدال الجمعي الوسطي ، وتجردها عن الميول الاضطرارية المقيدة لها، وانطلاقها عن كل قيد وحال ومقام وحكم (فأجزل له في العطية) والجزالة هنا عبارة عن زيادة لا تقبل النهاية.
فإن استعداده بلغ في كماله حداً أبى أن يقبل الحد، وثبتت قدمه حينئذ على نقطة دار عليها فلك القبول الجم فهو كمن إذا أكل لف، وإذا شرب اشتف.
(ومن تعاظم عليك وتكبر) من نشوة ناشئة من نزعات الطبيعة المرسلة وطيشها المتحكم أو من علوه الذاتي الظاهر على ذوي البصائر، من السر الوجودي المستجن في قابلية روحه، المضاف إلى الياء (فكن له أوطأ مطية) كالأرض الذلول، عند تبختره علیل لتحمله بالتدبیر النافذ الناشئ من مشرب التکمیل إلى غایة توضیح له وجه خساسته وذلالته اللازمة لامکانیته .
(ولا تحرمه ما تقتضیه ذاته) بخصوصیته التعیینیة، شما بداللف شهوداً عند معرفتك حقائق الأشياء كما هي، ومطالعتك مقاديرها في لوح القدر وزناً وتحريراً ومن التربية المؤثرة فيها تفهيمها ما في أم كتابها الجامع المشتمل على ما بطن وظهر، فى معرب ظاهر الوجود ومعجم باطنه على التحرير.
(وإن تكبر فتكبره عرضي) لا يثبت في مقابلة جولة الحق بتجلياته الذاتية الكاشفة لك عن حقيقة كل شيء وصفاته الذاتية وأفعاله وخواصه.
فهنالك تعلم ما للحق من الصفات والنعوت ، وما ليس له .
138- ولذلك قال قدس سره : (فعن قريب ینکشف الغطاء) آي حجاب الصور الکونیة، وهو الظل الممدود الكامن في سواده النور.
ولا ينكشف هذا الغطاء إلا بتجلي يوجب انقلاب الظاهر باطناً والباطن ظاهراً، (وتمر الرياح) وهي هنا عبارة عن صولة داعية الحق الظاهرة قبل طلوع فجر الساعة، من خليفة الله، خاتم الولاية المحمدية، المسمى بالمهدي، المذهبة (بالأهواء) أي بالآراء الواهية.
فإن الحق الخالص من المتناقضين واحد، فيبقى الحق منهما ويزهق الباطل . (ويبقى الدین الخالص) الرافع للخلاف، الفاصل بين الهدى والضلال فحينئذ يتميز الحق عن الخلق وصفاته ؛ ويعلم أيضاً مواطن اتصاف الحق بصفات الخلق، و اتصاف الخلق بصفات الحق.
و تتبين في الدين الخالص موارد اليقين علماً وعيناً وحقاً.
(فتحمد عند ذلك) بجميع ألسنتك الاستعدادية والحالية والمقالية (عاقبة ما وهبت) في دائرتي الكمال والتكميل، وما رزقت في هذا المنهج القويم من ذخائر أعلاق غيب الجمع والوجود.
وذلك في الحقيقة أرزاق مقدرة في الأزل، محررة في لوح القدر لك ولغيرك ومقامك إذن يقتضي وفاء حق كل ذي حق .
139 - (والأرزاق أمانات بأيدي العباد) للمرتزقة منهم ومن الكون، (روحانيها وجسمانيها، فأدى الأمانة تسترح من) أثقال (عبئها، وإن لم تفعل) أي أن لا تؤد الأمانة إلى أهلها (فأنت الظلوم) فالمبالغ في وضع الأشياء في غير محلها (الجهول) حيث لم تعرف أنك مطالب بحق كل ذي حق، ولو بقدر جناح بعوضة.وعلى الله قصد السبيل
.
02 – شرح تجلي نعوت التنزه في قرة العين
متن نص تجلي نعوت التنزه في قرة العين:
اعلم أنك إذا غيبت عن هذا التجلي الأول وأسدل الحجاب أقمت في هذا التجلي الآخر، ترتيبأ إلهيآ حكميآ ، ليس للعقل فيه من حيث فكره قدم ، بل هو قبول كشفي ومشهد ذوقي، ناله من ناله، فيقام العبد في إنسانيته مقدس الذات منزه المعاني و الأحكام.
تتعشق به الفهوانية تعشق علاقة تظهر أثرها عليه، فيكون موسوي المشهد، محمدي المحتد.
فلا يزال النظر بالأفق الأعلى، إلى ان ينادي من الطباق السفلى ، إحذر من الحد عند نظرك الى الأفق ألأعلى ، فإني مناديك منه ،ومن هنا ، فيتدكدك عند ذلك جبلك، ويصعق جسدك، وتذهب نفسك في الذاهبين الى محل التقريب، بمشاهدة اليقين ، فتعطى من التحف ويهدى إليك من الطرف ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
ثم ترد إلى المنظر الأجلى، بالأفق الأعلى ،عند الاستواء الاقدس الأزهى، فيأتيك عالم الفقر والحاجة ، من ذات جسدك الغريب ، يسألون نصيبهم ، من تحف الحبيب ، فأعطهم ما سألوا على مقدار شوقهم وتعطشهم، ولا تنظر الى إلحاحهم في المسألة ، فإن الإلحاح صنعة نفسية وقوة تعليمية.
ولكن أنظر إلى ذواتهم بالعين التي لا تستتر عنها الحجب والأستار، وأقسم عليهم على قدر ما يكشف منهم ، فمن استوت ذاته ، فأجزل له في العطية ومن تعاظم عليك وتكبر، فكن له أوطأ مطيأ ،ولا تحرمه ما تقتضيه ذاته ، وان تكبر فتكبره عرضي، فعن قربب ينكشف الغطاء، وتمر الرياح بالأهواء ،ويبقي الدين الخالص ، فتحمد عند ذلك عاقبة ما وهبت ، والأرزاق أمانات بأيدي العباد روحانيها وجسمانيها فإذا الأمانة ،تسترح من عبئها ،وان لم تفعل فأنت الظلوم، الجهول ،وعلى الله قصد السبيل.
02 – شرح تجلي نعوت التنزه في قرة العين
128 - اعلم أن التنزه ، على رأي ، من نعوت الحق ، فليس لغيره منه شيء . وعلى رأي ، مختص بمحل يقبل أثر التجلي ، إذ التجليات نسب ومعان لا تحقق لها إلا في محل يقبل اثارها.
فعلى الرأي الثاني ،صارت قرة العين محل أثر نعوت التنزه ، ظاهرة بحكم ذلك الأثر، ما بقي الأثر فيها ، وهي تحت قهر سلطانه . فشأن قرة العين ، في هذا التجلي ، أن لا تنحصرفي الحدود والجهات ، بل تنفذ فيها حسب قوة الأثر الحاصل فيها ، فقوته قد تقتضي النفوذ إلى لا غاية : فلا بد لكل تجل ، في المحل المورود عليه ، أثر، ولا يطلب ذلك التجلي من الحضرات إلا ما يشهد به أثره في محله ، وهذا الأثر إنما يسمى بالشاهد عرفأ ، قال تعالى : " افمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه" 17 سورة هود
129- " اعلم أنك إذا غيبت " في شهودك ، القاضي بطرو الفناء على رسومك . " عن هذا التجلي الأول "
الفهواني ، الجامع بين الشهود المثالي والكلام القاضي بوجود الحجاب ،اذ "وما كان لبشر أن يكلمه الله تعالي الا وحيا او من وراء حجاب". 51 سورة الشوري
" وأسدل الحجاب "بينك وبين المشاهد المثالية ، القاضية بالمكافحة ،" أقمت في هذا التجلي الآخر " الرافع حكم التجلي الخطابي الفهواني ، " ترتيبأ إلهيآ حكميآ " يحكم على المحل المورود عليه ، حسب قوة أثره الحاصل فيه ، ما دام المحل تحت حكمه . وإنما قال ترتيبأ إلهيأ ، " اذ ليس للعقل فيه " أي الترتيب الإلهي ، " من حيث فكره قدم " حتى يجعل حكمه كحكمه في الترتيب الطبيعي ، كتقدم الواحد على الاثنين والاثنين ملى الثلاثة .
"بل هو " إلقاء إلهي و "قبول كشفي ومشهد ذوقي" لم تستشعر البصأثر بوجوده وظهروه قبل الإلقاء والقبول ، ولا بتعيينه لمحل خاص ، في وقت معين ، بنفوذ الفكر، اللهم إلا بتعريف إلهي في نفس التجلي أو في تجل آخر يتلقاه الكشف التام والذوق الصحيح .
ولذلك قال : " ناله من ناله " ممن سلمت خالصة قابليته عن آفة الوقفة مع الرسوم الكونية ، عند انجذابها إلى سلم المحاذاة التامة ، الناتج من ظهور الحق من حيث أحدية جمعه في السوائية القلبية . فإن اتسع القبول الكشفي والمشهد الذوقي ، باستيفاء المشاهد مراسم التجلي من محله المورود عليه ، على وجه يعطي ذلك المحل بحكم جمعه واشتماله ، حكم جميع أبعاضه وأجزائه بتبحر الجمعية الكشفية والذوقية حالتئذ .
130 – "فيقام العبد في إنسانيته" التي هي ، بإحاطتها الوسعى ، وعاء الكل في الكل "مقدس الذات"بما ظهرفي سره الوجودي من أثر التجلي الذاتي ، ومحا عنه نقوش السوى حتى بقي له ، مع ذلك التجلي ، حكمه لا عينه "منزه المعاني و الأحكام" الناتجة له من رقائق نسب الحقائق الحقية والخلقية ، الكامنة أحدية جمعها في نقطته الاعتدالية القلبية ، بل في كل قوة من قواه الباطنة والظاهرة .
وتنزهها ، عدم نسبتها إلى استعداد قامت به ، بل بنسبتها إلى المتجلي الظاهربسره الوجودي وبما له من الكمال الجمعي في استعداد المحل بحسبه ، فالعبد إذ ذاك لا يضيف شيئأ منها إلى نفسه ، إذ ليس له إذ ذاك عين يضاف إليها شيء . فهو في حالة يكون هو لا هو" وحالتئذ : " تتعشق به الفهوانية تعشق علاقة " فإن العبد المقام في إنسانيته ، محل تتحقق به وفيه التجليات الجمة التي هي النسب والمعاني . " تظهر أثرها " أي الفهوانية ، التي هي أيضأ تجل من التجليات الصورية " عليه " أي على العبد المقام في إنسانيته .
والفهوانية هي الخطاب الإلهي عند المنازلة ، أعني نزول الحق لعبده من غيبه الأحمى ، وعروج العبد إلى الحق من مستقره الأدنى .
ويكون الخطاب في عالم المثال بطريق المكافحة .
"فيكون" العبد عند تحقق الفهوانية به "موسوي المشهد" بكونه جامعأ بين الشهود والكلام من وراء حجاب التمثل " محمدي المحتد " بشهوده الحق من حيثية أحدية جمعه الكنهي بالحق أيضأ ، من غير حجاب ، وذلك عند استهلاك عينه في التجلي الذاتي بالكلية ، وقيام الحق في مرتبته ظهورأ على حكمه .
131 - " فلا يزال النظر " القلبي مترددأ ، بوساطة الحواس وبغير وساطتها ، بين الشهودين متحذلقأ لكشف الأمركما هو ." بالأفق الأعلى " الذي هو في هذا المحل عبارة عن جهة علو الوجود وفوقيته " الى ان ينادي" اعتنا، بذر النظر وعناية في أمر ارتقائه إلى غاية تحوي على الغايات " من الطباق السفلى "التي هي جهة دنو الوجود و تحتيته .
وهي جهة تصادم بأحكامها الناشئة من سنخ الطبيعة تنزيه الأمر المطلوب "احذر" أيها المشفوف في معرفة حقيقة الأمر شهودأ لا تداخله الشبه "من الحد" بحصرك إياك في جهة العلو، وتقييد طلبك بها " عند نظرك الى الأفق ألأعلى " فإن الأمر الذي هو مطلوبك غير منحصر في حد وصورة وجهة فهو مع تجرده في ذاته عن كل اعتبارمع كل شيء في صورة ذلك الشيء ، فكأنه يناديك من مكان قريب وبعيد فيقول لك ألسنة الجمع والوجود : تنبه لشهودي في كل شيء ، وفي كل وجه ، يا أيها المنحصر في طلبي بالأفق الأعلى ، القاضي بكمال التنزيه الذاتي " فإني مناديك منه" أي من الأفق الأعلى ، "ومن هنا" أي من الطباق السفلي ، فلو انحصرت في طلبك على أحد المتقابلين لأخليت مني الآخر .
ولوحصرتني فيهما لجهلت كمالي المطلق ، في غيابتي عنهما وعن كل ما ينافي إطلاقي الذاتي ، الذي لا يقابله التقييد فإذا تحقق نظرك بهذا الشهود المطلق ، وتألق له من مركز السوائية التي تتمانع في حقه أقطار الوجود ، برق الإطلاق ، تنصعق المحصورات في الحدود والجهات .
132 - (فيتدكدك عند ذلك جبلك) أي ظاهرك الذي هو مركز دائرة ظاهر الوجود المتصف في طور الظهور الأشمل بالشموخ والاعتلاء مكانه ؛ (ويصعق جسدك) المركب من المواد الطبيعية العنصرية.
فكما أن التدكدك ازال صورة جبل موسى عليه السلام، كذلك يزول به ظاهرية ذاتك واعتلاؤها المستفاد لها من علو الوجود الظاهر بها، حتى عادت إلى ذل الإمكانية و فقرها وعدمیتها.
و کما آن الصعق لم یعطي الجسد الموسوي الا الخرور، ولم یغیره عن هيئته التي کان عليها، کذلك لا یغیر جسدك عن هيئته الانسانیة .
(و تذهب نفسك) المشغوفة إلى غايتها التي هي المنتهى (في الذاهبين إلى محل التقريب) وهو محل تطلع فيه على غاية تعينت لها بطلب استعدادها الأصلي المتعين لحقيقتها المعلومة في الأزل .
ولذلك قال قُدّس سره : (بمشاهدة اليقين) السابق الأزلي الذي عليه مدار ظهور الوجود، في الكيف والكم، والكمال والنقص، والإجمال والتفصيل .
فإذا بلغت نفسك إلى هذه الغاية المطلوبة، تستقر بمنزلة الكرامة والفضل.
133 - (فتعطى من التحف و یهدی إليك) بوصولها الیها واستقرارها فیها، و استحقاقها أن تنال (من الطرف) والنفائس من ذخائر إعلان ظاهر الوجود وباطنه جمعاً؛ إذ أنت، إذ ذاك، في مطلع الأشراف، فلذلك تعطي امتناناً واستحقاقاً (ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) فإن الأسماء الإلهية القاضية بوجود هذه المطالب العالية إنما تختص تجلياتها بهذه الغاية فلا توجد في غيرها.
فهي كأسماء إلهية لا حكم لها إلا في النشأة الآجلة، فلا تظهر أحكامها اليوم فينا.
ومن هنا قال: صلى الله عليه وسلم *"فأحمده بمحامد لا أقدر عليه الآن، يلهمنيه الله" فتلك المحامد عن تلك الأسماء. من حديث الشفاعة الكبرى رواه مسلم والبيهقي
134 - (ثم ترد إلى المنظر الأجلى) بعد انتهائك، أو إلى غاية هي المنتهى، إن كنت على القلب السيادي المحمدي الذي غايته منتهى كل شيء.
والمنظر الأجلى هو صورة الإنسان المتحقق بالکمال الجمعي الأحدي ، إذ به ینظر الحق و غیب کل شيء و شهادته.
فإنه تعالى هو الکنز المخفي الظاهر أكمل الظهور في شيئية وجود هذا الكامل ونحوه، المظهر به كل شيء في أطوار تفصيله.
وكذلك ينظر الإنسان فيها إلى الحقائق الإلهية والإمكانية الجمة، جمعاً وفرادى.
وهكذا عبر بعض العارفين عن المنظر الأجلى حيث قال : "إن الذوائب العلى مرسلة على المنظر الأجلى ".
وكنى بالذوائب العلى عن الأسماء الإلهية المرسلة عن الكنز المخفي في شيئية وجود الكامل، الكاسية لها كالثوب السابغ .
ولذلك قال الله تعالى: "واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها" 175 الأعراف .
فتحقق الأسماء الإلهية التي هي النسب والمعاني، إنما هو في حقيقة الكامل.
فإن الظاهر بالأسماء من حيث ظهوره في صورة عين هذه الحقيقة: بصير؛ وفي صورة أذنها : سميع ؛ وفي صورة لسانها : متكلم .
ولما كان الأفق الأعلى في حق المترقي، منتهى المراتب الخلقية ومبتدأ الحضرات الإلهية، وفي حق المتنزل بالعكس، صار مستقر الكامل بعد عوده إلى الصحو المفيق .
ولذلك قال قُدّس سره : ثم ترد إلى المنظر الأجلى (بالأفق الأعلى) لتفوز فيه بدوام الإشراف على العالمین من غیر تقيدك بهما.
ولماکان الافق الاعلى کلسان المیزان بین کفتي العالمین، في حق الكامل المردود إلى البينونة المكرمة الظاهرة له بسر العدل ، قال قدس سره : (عند الاستواء الأقدس الأزهى) وهو مطلع الأشراف الذي تتمانع في حقه المتقابلات الجمة الإلهية والإمكانية.
والكامل المستقر فيه يحاذي الإطلاق في تقييده والتقيد في إطلاقه، من غير أن يقيده بشيء.
فإذا تحقق روح الاستواء بالأقدسية، أراك، في تجلي الحق لك ، كل شيء في كل شيء .
135 - (فيأتيك) إذن (عالم الفقر والحاجة) اللازم لامكانياتك (من ذات جسدك الغريب) المتروحن معك في الأفق الأعلى الذي هو نهاية مقام روحك ؛ فإنه بالنسبة إلى حال جسدك غربة، فإن بقاء الجسد مع غلبة التجرد والتروحن، غريب .
وبلوغ الجسد إلى هذا المقام لا يكون إلا بجاذب قوي قاسر.
وإتيان عالم الفقر والحاجة، من ذات جسدك الغريب، إليك إنما هو أولاً، من نفسك القائمة لتعديل مزاجك، وهي ذات جسدك ؟
وثانياً، من أنزل المراتب الإمكانية، يعني عالم الأجسام والصور الملكية؛ وهو شطر من أحد طرفي الأفق الأعلى، الذي هو إذ ذاك مستقرك فأنت فيه قائم بوفاء حق مظهرية القيومية لعموم القوابل.
ولذلك (يسألون) منك حينئذ (نصيبهم) الذي به تبحر قابلیاتهام المتلقية معدات الکمال و الحظوظ الوافرة (من تحف الحبيب) ورغائب فيض القيومية ولطائف إشارات الغيوب، التي لا يحصل مثلها لهم إلا بوساطة الكمل ومآخذهم العلية.
136 - فإن كنت متحققاً بولاية التدبير لوفاء حق كل ذي حق ، (فأعطهم ما سألوا) بألسنة استعدادهم و حالهم (على مقدار شوقهم و تعطشهم) الناشئ من اقتضاء قابلیاتهام الأصلية، من غير زيادة ونقصان.
فإن مقتضى حال الكمل وفاء حق كل ذي حاجة كما ينبغي ، وعلى وجه ما ينبغي .
فإن زاد عليهم أورث الطيش والطغيان الموبق ؛ وربما أن تضمحل رسوم قابلياتهم. وإن نقص منع بعض استحقاق ذويه وشأن أهل الكمال القيام بوفاء حق كل ذي حق كما ذكر.
(ولا تنظر إلى إلحاحهم في المسألة، فإن الإلحاح صنعة نفسية) فإنها مجبولة على الشره و اخرص التجدد معها مع الآنات ؛ ولذلك یشیب ابن آدم ویشيب معه الحرص و طول الأمل* . من حديث أنس الوارد في الصحيحين : " يهرم ابن آدم ويشب معه اثنتان : الأمل وحب المال".
(وقوة تعليمية) تنمو وتتزايد بالإغراء الشيطاني وتعليمه، حين يأتيهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم والإلحاح ينتهي إلى إفراط قادح في الكمالات النفسية.
(ولكن انظر إلى ذواتهم بالعين التي لا تستتر عنها الحجب والأستار) شيئاً؛ فإنك إذ ذاك أعطيت الكشف المستوعب في وزن كل شيء وتحريره فتعلم أن الحجب المانعة بماذا ترتفع أو تشف فلا تمنع ؛ وتظفر بمكنة توفي بها الحقوق وتميط بها الاذى عن الطريق.
(وأقسم) عند ذلك (علیهم) ما سألوه شوقاً و تعطشاً (علی قدر ما تکشف منهم) من قوة استعداد القبول و ضعفه، والتفاوت فيه قوة وضعفاً كاد أن لا ينحصر ولا يتناهى.
فعليك بوزن الاستعدادات وتحريرها، لئلا يقع الإفراط والتفريط القادح فيهما، المانع من الوصول إلى كمالاتها المقدرة لها.
137 - (فمن استوت ذاته) من السائلين، بوقوعها في حيز التمانع وتحققها بالاعتدال الجمعي الوسطي ، وتجردها عن الميول الاضطرارية المقيدة لها، وانطلاقها عن كل قيد وحال ومقام وحكم (فأجزل له في العطية) والجزالة هنا عبارة عن زيادة لا تقبل النهاية.
فإن استعداده بلغ في كماله حداً أبى أن يقبل الحد، وثبتت قدمه حينئذ على نقطة دار عليها فلك القبول الجم فهو كمن إذا أكل لف، وإذا شرب اشتف.
(ومن تعاظم عليك وتكبر) من نشوة ناشئة من نزعات الطبيعة المرسلة وطيشها المتحكم أو من علوه الذاتي الظاهر على ذوي البصائر، من السر الوجودي المستجن في قابلية روحه، المضاف إلى الياء (فكن له أوطأ مطية) كالأرض الذلول، عند تبختره علیل لتحمله بالتدبیر النافذ الناشئ من مشرب التکمیل إلى غایة توضیح له وجه خساسته وذلالته اللازمة لامکانیته .
(ولا تحرمه ما تقتضیه ذاته) بخصوصیته التعیینیة، شما بداللف شهوداً عند معرفتك حقائق الأشياء كما هي، ومطالعتك مقاديرها في لوح القدر وزناً وتحريراً ومن التربية المؤثرة فيها تفهيمها ما في أم كتابها الجامع المشتمل على ما بطن وظهر، فى معرب ظاهر الوجود ومعجم باطنه على التحرير.
(وإن تكبر فتكبره عرضي) لا يثبت في مقابلة جولة الحق بتجلياته الذاتية الكاشفة لك عن حقيقة كل شيء وصفاته الذاتية وأفعاله وخواصه.
فهنالك تعلم ما للحق من الصفات والنعوت ، وما ليس له .
138- ولذلك قال قدس سره : (فعن قريب ینکشف الغطاء) آي حجاب الصور الکونیة، وهو الظل الممدود الكامن في سواده النور.
ولا ينكشف هذا الغطاء إلا بتجلي يوجب انقلاب الظاهر باطناً والباطن ظاهراً، (وتمر الرياح) وهي هنا عبارة عن صولة داعية الحق الظاهرة قبل طلوع فجر الساعة، من خليفة الله، خاتم الولاية المحمدية، المسمى بالمهدي، المذهبة (بالأهواء) أي بالآراء الواهية.
فإن الحق الخالص من المتناقضين واحد، فيبقى الحق منهما ويزهق الباطل . (ويبقى الدین الخالص) الرافع للخلاف، الفاصل بين الهدى والضلال فحينئذ يتميز الحق عن الخلق وصفاته ؛ ويعلم أيضاً مواطن اتصاف الحق بصفات الخلق، و اتصاف الخلق بصفات الحق.
و تتبين في الدين الخالص موارد اليقين علماً وعيناً وحقاً.
(فتحمد عند ذلك) بجميع ألسنتك الاستعدادية والحالية والمقالية (عاقبة ما وهبت) في دائرتي الكمال والتكميل، وما رزقت في هذا المنهج القويم من ذخائر أعلاق غيب الجمع والوجود.
وذلك في الحقيقة أرزاق مقدرة في الأزل، محررة في لوح القدر لك ولغيرك ومقامك إذن يقتضي وفاء حق كل ذي حق .
139 - (والأرزاق أمانات بأيدي العباد) للمرتزقة منهم ومن الكون، (روحانيها وجسمانيها، فأدى الأمانة تسترح من) أثقال (عبئها، وإن لم تفعل) أي أن لا تؤد الأمانة إلى أهلها (فأنت الظلوم) فالمبالغ في وضع الأشياء في غير محلها (الجهول) حيث لم تعرف أنك مطالب بحق كل ذي حق، ولو بقدر جناح بعوضة.وعلى الله قصد السبيل
.
25/11/2024, 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
25/11/2024, 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
25/11/2024, 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
25/11/2024, 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
25/11/2024, 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
25/11/2024, 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin