لمحات يسيرة من سيرة شيخنا العارف بالله العلامة/ محمد علي مرعي:
بقلم الفقير إلى عفو ربه/ عبده محمد حشيبري
اللهم وفق وأعن
كانت وفاة الشيخ مناسبة للحديث عنه وذكر بعض مما قدمه لجيله وللأجيال القادمة، وعن جهوده المباركة في إعادة الأمة إلى منهج الوسطية والاعتدال الفقه اليماني والحكمة اليمانية، وقد تناول كثير من طلابه ومحبيه في مرثيات عصماء الإشارة بإيجاز إلى جوانب كثيرة من حياة الشيخ وجهوده الجبارة، وثمرات غراسه وعن فضله عليهم وعلى الأجيال المتعاقبة، مع أن بعض هؤلاء الشعراء عرف الشيخ مدة دراسته في الجامعة سبع سنوات كطالب في جامعته، لم يعمل لديه ولم يصحبه في سفر ولم يعش معه السنين الطوال، والبعض منهم قد تخرج من أكثر من عشرين سنة ومع ذلك ظلت أرواحهم مرتبطة بشيخهم، وكان موته فاجعة عليهم لا تقل عن فاجعة موت الآباء.
فأحببت أن أشاركهم الحديث بهذا المنشور، وألقي بعض الأضواء على بعض الجوانب من حياة الشيخ رحمه الله:
-الشيخ مرعي مدرساً ومعلماً ومربياً فاضلاً:
أسعدُ ما يكون الشيخ مرعي حينما يلقي دروسه ومحاضراته على طلابه ويوزع عليهم نظراته وابتساماته كما ينثر عليهم حكمه وتجاربه في الحياة فترى وجهه متهللا ًمتلئلاً كأنه في روضة جنة.
يخرج جميع المشايخ عند الساعة اثنا عشر إلا ربع من الفصول الدراسية نهاية الدوام ولا يخرج الشيخ من محاضرته الأخيرة إلا الساعة الواحدة إلا ربع غالبا، حتى إن الطلاب ربما خرجوا من المسجد من صلاة الظهر، وذهبوا للمطعم وتناولوا الغداء، وعادوا إلى غرف السكن وهو ما زال في الدرس.
كان الشيخ يُعلم بشغف وحب، يتمنى أن يغرس العلم غرسا في قلب الطالب، وأن ينفخه فيه نفخا ليحيي به روحه، كان يجب طلابه كأبناء، ويحب المؤلفين كمشايخ له ولطلابهـ ويحب الكتاب الذي يدرسه ويربط أرواحنا بهم، ولا زال في ذاكرتي الساعة التي ختمنا فيها كتاب سبل السلام للإمام الصنعاني رحمه الله، فكم كنا سعداء ومسرورين بالختم لأنها المادة الأخيرة التي تحول بيننا وبين التخرج، ولكن الشيخ بكى يومها واختبأ في الحمام لنصف الساعة تقريبا وخرج وأنا انتظره للإذن بالسفر فإذا عينا الشيخ مملوأتان بالدموع، وهو يكفكفها ولا يريد أن يظهر ذلك عليه، ولا زال ذلك الموقف ماثلا أمامي لا أنساه ما حييت. كان بعض الموظفين اذا كان له طلب من الشيخ ويخشى أن يرده أو يؤخر تلبية حاجته يتحين وقت الدرس أو عند نهايته فيقدم الموظف طلبه وقت خروج الشيخ من قاعة الدرس فذلك هو الوقت الذي يكون الشيخ فيه منشرح الصدر طيب الخاطر فكانوا يقدمون له حاجاتهم فلا يردها.
لقد كان يعلم ويربي بلسانه وأفعاله وحاله ولحظه، فربما يلحظ منك خطأ أو تقصيرا في عملك، أو وقفت موقفا لا يعجبه فيرمقك بنظرة، أو يعرض عنك بوجهه فتشعر كأن الأرض قد ضاقت عليك بما رحبت، فإن أصلحت خطأك وأديت عملك استقبلك بابتسامة تمسح عن صدرك كل ذلك الضيق.
ومن خصائص الشيخ مرعي المعلم أنه لم ينتظر الطلابَ ليأتوا إليه إلى رباطه أو داره أو جامعته ليدرسهم كما هو شأن العلماء في كل مكان وزمان، بل خرج يطوف المدن والعزل والقرى والفيافي من المخا جنوبا إلى ميدي شمالا إلى برع والمحويت وغيرها من محافظات الجمهورية يلقي خطب الجمعة في المساجد مع بعض المشايخ يحثون الآباء على الدفع بأبنائهم للعلم، وليرغب الطلاب ليأتوا إليه ليدرسهم ويعلمهم دون أن يدفع الطالب طيلة سبع سنين فلساً واحداً، بل إنه كابد الأمرين في توظيف الكثير من الخريجين، ولم يزل يسعى ويبحث للعاطلين عن فرص عمل ما وجد إلى ذلك سبيلا.
-الشيخ مرعي رئيسا للجامعة:
رغم الشغل الكثيرة التي كان تتزاحم على وقت الشيخ إلا أنه كان رئيساً مباشراً للجامعة بكادرها التعليمي والوظيفي والطلابي بمختلف أقسامها، بنفسه يباشر معالجة وحل أكثر المشكلات، فالطالب يصل إليه قبل المدرس، والمدرس أو الموظف يجده متى عنَّ له ذلك. لا سكرتارية ولا مواعيد ولا حراسة ولا تنظيم مواعيد للزيارات، كل من له حاجة وقف أو جلس أمامه، فقال ما حاجتك في أي وقت فلا يخرج من مكتبه إلا وقد قضى لكلٍّ حاجته أو أحاله على مختص، في أثناء الدرس يستقبل ذا الحاجة، ويستقبل صاحب الفتوى، ويستقبل الضيوف ولو من كبار المسؤولين ويتحدث معهم وإن لزم الامر خرج بهم أمام الفصل للحديث، وأنا من الذين طالما قطعت عليه الدرس وقلت له أحياناً أريدك على انفراد فيخرج معي إلى أحد ممرات الجامعة ويقف على قدميه مع مرضه وكبر سنه.
وأحيانا وهو في السيارة يتجول في المدينة لمصلحة الجامعة أو قضاء حاجة مسكين يجد مدرسا أو طالبا في الشارع فيقف له ويوصله مقصده أو يوصله إلى الجامعة.
رغم أنه رئيس الجامعة ومؤسسها ومع ذلك لا يفرق بين نفسه وبين آحاد المدرسين والموظفين، ويقول كلنا خدام مع الله ، وكان يقرب العامل والموظف بمقدار تفانيه في العمل ولو كان صغير السن، فأقرب العاملين إليه أكثرهم تفانيا في العمل وإحسانا له.
-الشيخ مرعي مفتياً:
كان للشيخ طريقته الخاصة في الفتوى التي تجمع بين الفتوى والقضاء والفتوى والنصح والإرشاد والتعليم وإيجاد الحلول لسبب المشكلة على خلاف غيره من المفتين والشيوخ على جلالتهم وعلمهم الذين يردون عادة على ورقة السائل بجواب فيها فقط، أما شيخنا المفتي فله مع كل حادث حديث، ومع كل سؤال وسائل موقف يتناسب مع حاله.
تأتيه كل يوم الكثير من الأسئلة، فربما أجاب على الورقة بما يفي ويقنع، وكثيراً ما يطلب السائل للحضور أمامه، فإن وجده متساهلا في الطلاق ومكررا له أسمعه درسا ومحاضرة في أن أبغض الحلال الي الطلاق، وأن أولاد المطلقة أشبه باليتامى..الخ.
كان يسأل الرجل المِطلاق هل تصلي؟
فكثيرا ما يقول أو تقول الزوجة إنه مقصر في الصلاة، أتساءل في نفسي لمَ يربط الشيخ بين الصلاة والطلاق دائما؟
حتى وقفت عند قوله تعالىواستعينوا بالصبر والصلاة) فوجدت الآية في وسط آيات الطلاق، فأدركت مغزى كلام الشيخ.
وإن وجد السائل عاقا لوالديه أو لأولاده أرشده ووعظه وحظه على البر، وأداء الحقوق.
وإن وجده مقصراً في دينه حظه على صلاته وزكاته.
وإن كان سبب المشكلة بين الزوجين ضيق ذات اليد أعانهم بسلةٍ غذائية أو بما يكتبه الله وهو لا يعرفهم من قريب ولا بعيد، وربما كانت الطلقة خلعياً ورأى أن كلا منهما يريد الآخر فيدفع الشيخ المهر، ويكون مبلغا رمزيا وأقنع الولي بإجراء العقد، ولا يبرحون إلا وقد أعادهم إلى بيت الزوجية.
لم يتقاض يوماً ريالاً واحداً على فتوى، أو عقد نكاح، أو صلح أو غيرها، بل كان يجريها من غير أجر، وقد تأخذ بعض القضايا ساعات من وقته الثمين، وهو صابر حتى يصلح بين المتخاصمين، ويؤلف بين القلوب.
ولله در الشاعر عبد الرحمن الاهدل إذ يقول:
والعلم لو مثلوا شخصاً يجسده
لكنت أنت وكنت القوس والرامي
-الشيخ مرعي عالما عابدا:
كثير من أهل العلم يشغله العلم والتدريس والتأليف عن العبادة وقيام الليل، ومجالس الذكر، ولعل عذرهم ما ورد في فضل العلم والعلماء والتعليم ما جعلهم يشغلون كل أوقاتهم بالعلم، ولكن الشيخ مرعي رحمه الله كان العالم العابد الذاكر القانت القائم، فلسانه لا يفتر عن ذكر الله، وقراءة القرآن، يقوم ويصلي الفجر، ثم يبدأ في تلاوة القرآن، وتسمع له إحدى بناته ما لا يقل عن خمسة أجزاء كل يوم، يقرأ غيبا من حفظه وهي تسمع له، ثم يصلي الضحى، وربما غفا غفوة بسيطة إذا بقي وقت ثم يخرج إلى عمله وهو يقرأ القرآن وخصوصا سورة يس، كم كان يحبها ويعشقها ويكررها، وربما قطع قراءتها لأمرٍ ما ويتكلم لمدة خمس دقائق، أو اكثر، ثم يعود ليواصل القراءة من حيث انتهى، كان يكررها في اليوم الواحد ما لا يقل عن عشر مرات.
الشيخ مرعي وحاله في السفر:
أما عن أسفاره الطويلة فقد صحبته فيها مراراً فمع مرضه وتعبه، واعتلال صحته، وكبر سنه، لا يمكن أن يفتر لسانه في الطريق مهما طال عن الذكر، وقراءة القران، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، أذكر أننا خروجنا يوما من صنعاء إلى الحديدة بعد يوم طويل من المتابعة والعمل، تغدينا في المطعم، وصلينا الظهر والعصر، ثم اتجهنا إلى الحديدة، وبدأ يقرأ القرآن، أظن من سورة آل عمران وبصوت دون الجهر وفوق الإسرار حتى دخلنا الحديدة لم يفتر ولم يتوقف فقرأ سبعة أو ثمانية أجزاء غيبا حتى ذهلت من حفظه مع كل تلك الهموم والشغل، وما أعذب صوته بالقرآن ، كان يكرر دائما على طلابه "واقرأ القرآن بصوت شجي" كان اذا جلس على مكتبه المتواضع وأنهى أعماله وبقي له من الوقت ولو دقائق تناول مصحفه وقال لمن عنده يا فلان حد لي ويقرأ القرآن ما تيسر له.
وكان رحمه الله يحب في مجالس الذكر ويستمتع بها وبالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يجلس ساعات وساعات في مجلس ذكر، أو صلاة على رسول الله، كان يعدها غذاء لروحه الطاهرة، وكما قال في وصفه الدكتور بدري عافاه الله:
عاش بالمصطفى هياماً عجيبا
كل آنٍ إلى الحبيب يحنُّ
ذِكرُه للنبي زاد وشربٌ
وقوى روحه المديحُ الأغنُّ
وإذا أسمعوه أوصاف طه
لم تقل للنشاط هذا مُسِنُّ
كل ذرات جسمه تتلالا
فله بالنبي سر وشأن
فكانت هذه المجالس تنسيه، همومه ومشاغله ومرضه ،بل ويستعين بها على قضاء حو ائجه وحوائج الناس.
فلا والله ما رأتْ عيني عابداً في علمه، ولا عالماً في عبادته وذكره مثل الشيخ مرعي رحمه الله.
-الشيخ مسؤولاً متواضعاً زاهداً:
رغم المناصب العليا التي تبوأها الشيخ رحمه الله، ورغم مكانته الاجتماعية كشخصية اجتماعية ودينية أولى في محافظة الحديدة، فهو مفتي المحافظة ورئيس جامعة دار العلوم الشرعية، ورئيس مؤسسة خيرية، وقاضٍ عضو في المحكمة العليا، وعضو مجلس النواب، بالإضافة إلى ذلك توليه مناصب أخرى...
إلا أن تلك المناصب لم تغير شيئا من طبيعته وأخلاقه وتواضعه التى تربى عليها، ولم تشغله تلك المناصب عن رسالته التي نذر حياته لها وهي نشر العلم ومساعدة المحتاجين، والعمل الخيري والإنساني، ولم يكن قبوله لتلك المناصب رغبة فيها، أو حرصا عليها، ولا رغبة في جاه، ولا طمعا في مال، بل المناصب طلبته، ولم يطلبها ولذا أعين عليها، فمنصب القضاء فوجئ به بقرار من الرئيس الحمدي رحمه الله ولم يكن في حسبانه، حاول الاعتذار منه لكن شيخه عبد الله مكرم أصر عليه في البقاء فيه، وقال له أنا بجانبك، والشيخ فلان بجانبك، فكان نموذج القاضي العدل الذي أوجد صدى في الوسط القضائي، وبين العامة،فقد كان يخرج في المعاينة، أو التنفيذ فلا يقبل فلساً واحداً حتى قال له بعض القضاة لن أخرج معك بعدها ابداً. ومن أراد المزيد يرجع لكتاب الدرة الخريدة في تاريخ مدينة الحديدة.
أما مجلس النواب، فلم يكن له رغبة فيه بل إنه اعتذر منه، وأَلح على الاعتذار، وقال بأن ذلك سيعطله عن التعليم وعن عمل الجامعة، ولا زلت أذكر أنه طرح علينا الموضوع يومها وقال إنه لن يقبل به، وسيطلب من المسؤولين البحث عن مرشح بديل، ولكن رُفض اعتذاره فكان لا مناص له عن القبول وكان في ذلك خير كبير للبلد، فكم من القوانين التي شارك في تشريعها وخصوصا القوانين المتعلقة بتقنين أحكام الشريعة الاسلامية.
لم يستغل الشيخ شيئا من أعماله الخيرية والإنسانية التي يوزعها على الفقراء في تثبيت مكانته في قلوب الناس في مديرية الحوك التي يمثلها في مجلس النواب، وقبل ذلك في عضوية المجلس المحلي للمحافظة، بل كان الفقر والاحتياج معياره الوحيد في استهداف الأحياء والحارات بمساعداته الخيرية، مثل حارة صدام، السخانة ،زايد، النازحين ، الأيتام الارامل وإن بعدوا ونأت دورهم.
ولا زلت أتذكر أني قلت له يوما يا شيخ بدل ما توزعون على الحارات البعيدة نبدأ هنا حول الجامعة والحارات القريبة منها من ناحية نحببهم في الجامعة، ومن ناحية لو في انتخابات وإلا غيرها.. .، قال لي بغضب : لا لا يا ابني،
هذي زكاة، حق الله وهي للأحوج الفقير. لا يجوز استغلالها للدنيا أو نحو ذلك.
-الشيخ مرعي متواضعا زاهدا:
رغم مناصب الشيخ العليا ومكانته السياسية والاجتماعية إلا أنه كان في غاية التواضع، مما يدل على ذلك تواضعه في ملبسه ومجلسه وهيئته، ويكفي أن تنظر إلى لبسه من عمامته إلى نعله الذي نسميه أبو حمامة اللذي يستعمل عادة للحمامات، ولم يستبدلها بالجلد الا بعد أن تعب، وأصبحت لا تناسبه بسبب القدم السكري.
من تواضعه: أن مكتبه فرشه البلاط لا تكييف لمكتبه بل يفتح الطاقة خلفه، والباب أمامه ويقول سالب وموجب أفضل، وأوكسجين متجدد، بالإضافة إلى أن كان له كرسي وطاولة من حق المدارس وقريبا وضعوا له طاولة أكبر مملوءة بالكتب والمراجع.
ومن تواضع الشيخ رحمه الله ما أكتبه عنه الآن فما الذي جرَّأَني أن أقول ويقول غيري عنه ما نقول إلا لسبب واحد وهو ببساطة أن الشيخ قد لقي ربه، ولو أنه كان على قيد الحياة لكان له معي شأن ولكنت مسحت المقال بعد نشره بلحظات فلم يقبل أن يمدح، أو تكتب له ترجمه، ولا أن تسطر عنه سيرة .
ويكفي في تواضع الشيخ مرعي قول الحبيب عمر بن حفيظ عنه عافاه الله : " إن الارض لتشتكي من تواضع الشيخ مرعي"
ومن زهده :أن أكله كسرة خبز أو فطيرة أو بسكويت، وهو على عجل لم يكن يهتم بنوع ما يأكل إلا بمقدار ما يقيم صلبه، يسافر الأسفار الطوال لعمل الجامعة، فينزل في طريقه المطاعم الشعبية الأقل شهرة وكلفة، وربما اكتفى بكدرة عيش وحبة قطيب(زبادي)، أو فول، وكان أكثر ما ينزل في رحلاته لصنعاء مساء في معهد القضاء في غرفة يفرغها له طلابه عند عودته من أعماله للراحة أو النوم، ويجلس معهم ويوصيهم، ويستعينون به في تذليل بعض الصعاب.
كان يخرج من بيته لسفره بقارورة ماء وخزان صغير يضع فيه قليلا من الثلج والماء المبخر كل ذلك خشية أن يحمل الجامعة عبئا ماليا. وإذا كانت سفرته شخصية للعلاج أو غيره فنفقته ونفقة من معه على حسابه وليس من حساب الجامعة.
ومع أنه رئيس الجامعة والساهر على كل شؤونها ودوامه لم يكن ينتهي الا للنوم رغم ذلك لم يتقاض لنفسه منها ريالا واحدا. فقد مرت به ظروف تراكمت عليه الديون بعد بنائه بيتا لأسرته وألح عليه مجلس الجامعة في اعتماد راتب له من صندوق الجامعة فرفض، وقال راتبي من مجلس النواب والقضاء يكفيني.
--الشيخ مرعي عالم ناصح وطني يحب بلده:
يحب الشيخ وطنه ويفتخر بانتمائه لليمن لا يوجد في خطبه ولا خطاباته ولا سياسته عنصريه أو إقصاء أو تمييز كل اليمنيين طلابا أو غيرهم ينظر إليهم بعين واحدة.
اذكر لكم في ذلك نموذجا:
في بعض السنين كان الاقبال على بعض كليات الجامعة اكثر من غيرها، وكان سياسة الجامعة تقوم على المفاضلة بين الطلاب بمجموع الدرجات فقط فكانت محافظة تعز تأخذ نصيب الاسد لكثرة المنتسبين للجامعة من تلك المحافظة، وكان أبناء الحديدة هم الاقل بقلتهم ولضعف معدلاتهم فاقترحتُ أن توضع اعتبارات أخرى للمفاضلة من قبيل توزيع حصص على المحافظات الى جانب المعدل حتى يتمكن أبناء الحديدة من الانتساب لتلك الكلية، فقال الشيخ: لا، تلك المحافظة نصرت الجامعة بالطلاب حينما خذلها وتولى عنها أبناء الحديدة وقرأ الآية" فسوف يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه"
وأذكر أنه خاطب عددا من المحافظين والمسؤولين السابقين للمحافظة بنصائح في غاية الجرأة والنصيحة والتوجيه لما عليهم فعله في أعمالهم، وكانوا يقبلون منه. بعض تلك المواقف كنت حاضرا فيه، وبعضها أخبرني به من رافق الشيخ،
ولكنه لم يكن ليشهر بأحد منهم على المنبر أبداً. بل كان يهمس لهم بالنصيحة سراً في مكاتبهم ولا يمكن أن يقول قلت للمسؤول فلان كذا ونصحته بكذا، لذا كان المسؤول يحوَّل من الحديدة فلا يزال الشيخ مرعي في عينيه كبيرا. واذكر ان المحافظ الأسبق محمد صالح شملان صادفه في خط صنعاء نازلا والشيخ طالع فالشيخ ما عرفه ولكنه عرف الشيخ فرجع ولحق الشيخ فقط ليسلم عليه كما أخبر بذلك من كانوا في رفقته.
الشيخ مرعي ومنهجه التعليمي في جامعته:
منهج الشيخ في تعليمه وفي جامعته مستمد من أصالة الفقه اليماني والحكمة اليمانية، وهو منهج شيوخه من أهل اليمن زبيد والمراوعة والحديدة وحضرموت...، حيث أن أجل شيوخه الحبيب ابراهيم بن عقيل الحضرمي ومعروف أن الفقه يمان والحكمة يمانية بشهادة المعصوم صلى الله عليه وسلم، لذا لم يقبل ابداً العروض والاغراءات التي عرضت عليه وخصوصا في الاوقات الحرجة التي مرت بها الجامعة مقابل بعض المقررات الوافدة، بل وقف يصارع التيار السلفي وحيداً تقريبا وخصوصا بعد أزمة الخليج، وخروج المغتربين من السعودية بما يحملونه من الفكر السلفي المتشدد وتأثر كثير من العلماء بذلك التيار بصورة أو بأخرى، وبقي الشيخ مرعي محافظا على أصالة المنهج والفقه والحكمة اليمانية التي درج عليها علماء اليمن منذ مئات السنين.
الشيخ مرعي أبا رحيما للمحتاجين:
كان شغل الشيخ الشاغل إلى جانب تعليم الأمة دينها الصحيح إطعامُ الفقير والمحتاج، فآلاف الأسر من الأيتام والارامل عاش وهو يجاهد أن يوصل إليهم المعونات النقدية أو العينية بعضهم في سجلات شهرية والبعض على رأس الشهرين وكان يذكر الآف النازحين من مناطق الحرب إلى مديريات الحديدة المختلفة يذكرهم فيقول واااارحمتاه، من لهم إن لم نحاول كيف نعينهم، ويسعى لدى أهل الخير لإعانتهم بين كل شهر وشهرين بما ييسره الله له، رغم العوائق التي كانت تواجهه والعراقيل التي كانت توضع أمامه من بعض الجهات لكنه لم يلتفت للوراء ويطرق الابواب المختلفة مرة بعد مرة، ذكر لنا يوما في مجلس جفوة بعض التجار وتهربه من الوفاء بالتزامه لبعض المستحقين، وأنه قد تردد إليه مرات عدة، وهو يواعده من غير أن يفي بوعوده، فقلت له سيدي لا تحرج نفسك معهم، ولا تتردد على بيوتهم ومكاتبهم، هم الذين يحتاجونك ، اللي يريدك منهم يعرف مكتبك، - وكنت غفر الله لي جرئيا على مخاطبته لما أعرفه من حلمه وسعة صدره- فقال لي يا أستاذ عبده: هولاء التجار جالسين في مكاتبهم الفخمة المكيفة ما يدرون بحال الناس الفقراء الذين تحت الاكياس والاشجار، والذين لا يجدون كسرة الخبز، من سيدلهم عليهم ، والله إذا علمت أنهم سيجدون الطريق للأكثر حاجة ما ذهبت إليهم ولا ترددت على مكاتبهم. فاستحييت وخجلت وأدركت كم يحمل في صدره من الرحمة بالمسلمين. .
كان آخر لقاء لنا به دعانا إليه قبل موته بساعات في بيته انا والشيخ علي عضابي كبير وصغير وبعض الزملاء والمسؤولين عن توزيع الصدقات وكان مع ثقل مرضه لا يتحدث الا عن الفقراء، وسأل عن عدد السجناء والسجينات كم عددهم ؟، قيل له كذا.
فقال للمسؤول عن المشتريات هل اشتريتم لهم كسوة العيد؟
قال نعم يا شيخ. قال توزعوها عليهم اليوم ٠
ثم قال : بلغني ان كسوة السجينات اللي اشتريتم حارة لا تتناسب مع جو الصيف، أعيدوها واشتروا لهم كسوة قطن باردة.
انصرفنا وهو يطلب من أولاده إحضار كشف آخر لمستحقين أخرين ليراجعه ممن لهم معونات سنوية للعيد،
تأخر الكشف فكان قبيل دخوله في غيبوبته الأخيرة كما أخبرني ابنه الشيخ أحمد وهو يسأل عن ذلك الكشف.
فهل ستلد النساء مثله؟
ختــــــــــــــــاما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قلت هذا الكلام باختصار شديد
وهو غيض من فيض من حياة سيدي الشيخ رحمه..
ويعلم الله أني ما قلت شيئا كذبا أو ادعاء أو ترويجاً..
بل هي شهادة لله لمن لا يعرف الشيخ ( وما شهدنا إلا بما علمنا)
وهو ليس بحاجة إلى شهادة من مثلي فالشيخ تشهد له أفعاله وبصماته في كل باب من أبواب البر.
رحمه الله، وغفر له، وأسكنه الفردوس الأعلى، وأخلف علينا، وعليكم بخير.
بقلم الفقير إلى عفو ربه/ عبده محمد حشيبري
اللهم وفق وأعن
كانت وفاة الشيخ مناسبة للحديث عنه وذكر بعض مما قدمه لجيله وللأجيال القادمة، وعن جهوده المباركة في إعادة الأمة إلى منهج الوسطية والاعتدال الفقه اليماني والحكمة اليمانية، وقد تناول كثير من طلابه ومحبيه في مرثيات عصماء الإشارة بإيجاز إلى جوانب كثيرة من حياة الشيخ وجهوده الجبارة، وثمرات غراسه وعن فضله عليهم وعلى الأجيال المتعاقبة، مع أن بعض هؤلاء الشعراء عرف الشيخ مدة دراسته في الجامعة سبع سنوات كطالب في جامعته، لم يعمل لديه ولم يصحبه في سفر ولم يعش معه السنين الطوال، والبعض منهم قد تخرج من أكثر من عشرين سنة ومع ذلك ظلت أرواحهم مرتبطة بشيخهم، وكان موته فاجعة عليهم لا تقل عن فاجعة موت الآباء.
فأحببت أن أشاركهم الحديث بهذا المنشور، وألقي بعض الأضواء على بعض الجوانب من حياة الشيخ رحمه الله:
-الشيخ مرعي مدرساً ومعلماً ومربياً فاضلاً:
أسعدُ ما يكون الشيخ مرعي حينما يلقي دروسه ومحاضراته على طلابه ويوزع عليهم نظراته وابتساماته كما ينثر عليهم حكمه وتجاربه في الحياة فترى وجهه متهللا ًمتلئلاً كأنه في روضة جنة.
يخرج جميع المشايخ عند الساعة اثنا عشر إلا ربع من الفصول الدراسية نهاية الدوام ولا يخرج الشيخ من محاضرته الأخيرة إلا الساعة الواحدة إلا ربع غالبا، حتى إن الطلاب ربما خرجوا من المسجد من صلاة الظهر، وذهبوا للمطعم وتناولوا الغداء، وعادوا إلى غرف السكن وهو ما زال في الدرس.
كان الشيخ يُعلم بشغف وحب، يتمنى أن يغرس العلم غرسا في قلب الطالب، وأن ينفخه فيه نفخا ليحيي به روحه، كان يجب طلابه كأبناء، ويحب المؤلفين كمشايخ له ولطلابهـ ويحب الكتاب الذي يدرسه ويربط أرواحنا بهم، ولا زال في ذاكرتي الساعة التي ختمنا فيها كتاب سبل السلام للإمام الصنعاني رحمه الله، فكم كنا سعداء ومسرورين بالختم لأنها المادة الأخيرة التي تحول بيننا وبين التخرج، ولكن الشيخ بكى يومها واختبأ في الحمام لنصف الساعة تقريبا وخرج وأنا انتظره للإذن بالسفر فإذا عينا الشيخ مملوأتان بالدموع، وهو يكفكفها ولا يريد أن يظهر ذلك عليه، ولا زال ذلك الموقف ماثلا أمامي لا أنساه ما حييت. كان بعض الموظفين اذا كان له طلب من الشيخ ويخشى أن يرده أو يؤخر تلبية حاجته يتحين وقت الدرس أو عند نهايته فيقدم الموظف طلبه وقت خروج الشيخ من قاعة الدرس فذلك هو الوقت الذي يكون الشيخ فيه منشرح الصدر طيب الخاطر فكانوا يقدمون له حاجاتهم فلا يردها.
لقد كان يعلم ويربي بلسانه وأفعاله وحاله ولحظه، فربما يلحظ منك خطأ أو تقصيرا في عملك، أو وقفت موقفا لا يعجبه فيرمقك بنظرة، أو يعرض عنك بوجهه فتشعر كأن الأرض قد ضاقت عليك بما رحبت، فإن أصلحت خطأك وأديت عملك استقبلك بابتسامة تمسح عن صدرك كل ذلك الضيق.
ومن خصائص الشيخ مرعي المعلم أنه لم ينتظر الطلابَ ليأتوا إليه إلى رباطه أو داره أو جامعته ليدرسهم كما هو شأن العلماء في كل مكان وزمان، بل خرج يطوف المدن والعزل والقرى والفيافي من المخا جنوبا إلى ميدي شمالا إلى برع والمحويت وغيرها من محافظات الجمهورية يلقي خطب الجمعة في المساجد مع بعض المشايخ يحثون الآباء على الدفع بأبنائهم للعلم، وليرغب الطلاب ليأتوا إليه ليدرسهم ويعلمهم دون أن يدفع الطالب طيلة سبع سنين فلساً واحداً، بل إنه كابد الأمرين في توظيف الكثير من الخريجين، ولم يزل يسعى ويبحث للعاطلين عن فرص عمل ما وجد إلى ذلك سبيلا.
-الشيخ مرعي رئيسا للجامعة:
رغم الشغل الكثيرة التي كان تتزاحم على وقت الشيخ إلا أنه كان رئيساً مباشراً للجامعة بكادرها التعليمي والوظيفي والطلابي بمختلف أقسامها، بنفسه يباشر معالجة وحل أكثر المشكلات، فالطالب يصل إليه قبل المدرس، والمدرس أو الموظف يجده متى عنَّ له ذلك. لا سكرتارية ولا مواعيد ولا حراسة ولا تنظيم مواعيد للزيارات، كل من له حاجة وقف أو جلس أمامه، فقال ما حاجتك في أي وقت فلا يخرج من مكتبه إلا وقد قضى لكلٍّ حاجته أو أحاله على مختص، في أثناء الدرس يستقبل ذا الحاجة، ويستقبل صاحب الفتوى، ويستقبل الضيوف ولو من كبار المسؤولين ويتحدث معهم وإن لزم الامر خرج بهم أمام الفصل للحديث، وأنا من الذين طالما قطعت عليه الدرس وقلت له أحياناً أريدك على انفراد فيخرج معي إلى أحد ممرات الجامعة ويقف على قدميه مع مرضه وكبر سنه.
وأحيانا وهو في السيارة يتجول في المدينة لمصلحة الجامعة أو قضاء حاجة مسكين يجد مدرسا أو طالبا في الشارع فيقف له ويوصله مقصده أو يوصله إلى الجامعة.
رغم أنه رئيس الجامعة ومؤسسها ومع ذلك لا يفرق بين نفسه وبين آحاد المدرسين والموظفين، ويقول كلنا خدام مع الله ، وكان يقرب العامل والموظف بمقدار تفانيه في العمل ولو كان صغير السن، فأقرب العاملين إليه أكثرهم تفانيا في العمل وإحسانا له.
-الشيخ مرعي مفتياً:
كان للشيخ طريقته الخاصة في الفتوى التي تجمع بين الفتوى والقضاء والفتوى والنصح والإرشاد والتعليم وإيجاد الحلول لسبب المشكلة على خلاف غيره من المفتين والشيوخ على جلالتهم وعلمهم الذين يردون عادة على ورقة السائل بجواب فيها فقط، أما شيخنا المفتي فله مع كل حادث حديث، ومع كل سؤال وسائل موقف يتناسب مع حاله.
تأتيه كل يوم الكثير من الأسئلة، فربما أجاب على الورقة بما يفي ويقنع، وكثيراً ما يطلب السائل للحضور أمامه، فإن وجده متساهلا في الطلاق ومكررا له أسمعه درسا ومحاضرة في أن أبغض الحلال الي الطلاق، وأن أولاد المطلقة أشبه باليتامى..الخ.
كان يسأل الرجل المِطلاق هل تصلي؟
فكثيرا ما يقول أو تقول الزوجة إنه مقصر في الصلاة، أتساءل في نفسي لمَ يربط الشيخ بين الصلاة والطلاق دائما؟
حتى وقفت عند قوله تعالىواستعينوا بالصبر والصلاة) فوجدت الآية في وسط آيات الطلاق، فأدركت مغزى كلام الشيخ.
وإن وجد السائل عاقا لوالديه أو لأولاده أرشده ووعظه وحظه على البر، وأداء الحقوق.
وإن وجده مقصراً في دينه حظه على صلاته وزكاته.
وإن كان سبب المشكلة بين الزوجين ضيق ذات اليد أعانهم بسلةٍ غذائية أو بما يكتبه الله وهو لا يعرفهم من قريب ولا بعيد، وربما كانت الطلقة خلعياً ورأى أن كلا منهما يريد الآخر فيدفع الشيخ المهر، ويكون مبلغا رمزيا وأقنع الولي بإجراء العقد، ولا يبرحون إلا وقد أعادهم إلى بيت الزوجية.
لم يتقاض يوماً ريالاً واحداً على فتوى، أو عقد نكاح، أو صلح أو غيرها، بل كان يجريها من غير أجر، وقد تأخذ بعض القضايا ساعات من وقته الثمين، وهو صابر حتى يصلح بين المتخاصمين، ويؤلف بين القلوب.
ولله در الشاعر عبد الرحمن الاهدل إذ يقول:
والعلم لو مثلوا شخصاً يجسده
لكنت أنت وكنت القوس والرامي
-الشيخ مرعي عالما عابدا:
كثير من أهل العلم يشغله العلم والتدريس والتأليف عن العبادة وقيام الليل، ومجالس الذكر، ولعل عذرهم ما ورد في فضل العلم والعلماء والتعليم ما جعلهم يشغلون كل أوقاتهم بالعلم، ولكن الشيخ مرعي رحمه الله كان العالم العابد الذاكر القانت القائم، فلسانه لا يفتر عن ذكر الله، وقراءة القرآن، يقوم ويصلي الفجر، ثم يبدأ في تلاوة القرآن، وتسمع له إحدى بناته ما لا يقل عن خمسة أجزاء كل يوم، يقرأ غيبا من حفظه وهي تسمع له، ثم يصلي الضحى، وربما غفا غفوة بسيطة إذا بقي وقت ثم يخرج إلى عمله وهو يقرأ القرآن وخصوصا سورة يس، كم كان يحبها ويعشقها ويكررها، وربما قطع قراءتها لأمرٍ ما ويتكلم لمدة خمس دقائق، أو اكثر، ثم يعود ليواصل القراءة من حيث انتهى، كان يكررها في اليوم الواحد ما لا يقل عن عشر مرات.
الشيخ مرعي وحاله في السفر:
أما عن أسفاره الطويلة فقد صحبته فيها مراراً فمع مرضه وتعبه، واعتلال صحته، وكبر سنه، لا يمكن أن يفتر لسانه في الطريق مهما طال عن الذكر، وقراءة القران، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، أذكر أننا خروجنا يوما من صنعاء إلى الحديدة بعد يوم طويل من المتابعة والعمل، تغدينا في المطعم، وصلينا الظهر والعصر، ثم اتجهنا إلى الحديدة، وبدأ يقرأ القرآن، أظن من سورة آل عمران وبصوت دون الجهر وفوق الإسرار حتى دخلنا الحديدة لم يفتر ولم يتوقف فقرأ سبعة أو ثمانية أجزاء غيبا حتى ذهلت من حفظه مع كل تلك الهموم والشغل، وما أعذب صوته بالقرآن ، كان يكرر دائما على طلابه "واقرأ القرآن بصوت شجي" كان اذا جلس على مكتبه المتواضع وأنهى أعماله وبقي له من الوقت ولو دقائق تناول مصحفه وقال لمن عنده يا فلان حد لي ويقرأ القرآن ما تيسر له.
وكان رحمه الله يحب في مجالس الذكر ويستمتع بها وبالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يجلس ساعات وساعات في مجلس ذكر، أو صلاة على رسول الله، كان يعدها غذاء لروحه الطاهرة، وكما قال في وصفه الدكتور بدري عافاه الله:
عاش بالمصطفى هياماً عجيبا
كل آنٍ إلى الحبيب يحنُّ
ذِكرُه للنبي زاد وشربٌ
وقوى روحه المديحُ الأغنُّ
وإذا أسمعوه أوصاف طه
لم تقل للنشاط هذا مُسِنُّ
كل ذرات جسمه تتلالا
فله بالنبي سر وشأن
فكانت هذه المجالس تنسيه، همومه ومشاغله ومرضه ،بل ويستعين بها على قضاء حو ائجه وحوائج الناس.
فلا والله ما رأتْ عيني عابداً في علمه، ولا عالماً في عبادته وذكره مثل الشيخ مرعي رحمه الله.
-الشيخ مسؤولاً متواضعاً زاهداً:
رغم المناصب العليا التي تبوأها الشيخ رحمه الله، ورغم مكانته الاجتماعية كشخصية اجتماعية ودينية أولى في محافظة الحديدة، فهو مفتي المحافظة ورئيس جامعة دار العلوم الشرعية، ورئيس مؤسسة خيرية، وقاضٍ عضو في المحكمة العليا، وعضو مجلس النواب، بالإضافة إلى ذلك توليه مناصب أخرى...
إلا أن تلك المناصب لم تغير شيئا من طبيعته وأخلاقه وتواضعه التى تربى عليها، ولم تشغله تلك المناصب عن رسالته التي نذر حياته لها وهي نشر العلم ومساعدة المحتاجين، والعمل الخيري والإنساني، ولم يكن قبوله لتلك المناصب رغبة فيها، أو حرصا عليها، ولا رغبة في جاه، ولا طمعا في مال، بل المناصب طلبته، ولم يطلبها ولذا أعين عليها، فمنصب القضاء فوجئ به بقرار من الرئيس الحمدي رحمه الله ولم يكن في حسبانه، حاول الاعتذار منه لكن شيخه عبد الله مكرم أصر عليه في البقاء فيه، وقال له أنا بجانبك، والشيخ فلان بجانبك، فكان نموذج القاضي العدل الذي أوجد صدى في الوسط القضائي، وبين العامة،فقد كان يخرج في المعاينة، أو التنفيذ فلا يقبل فلساً واحداً حتى قال له بعض القضاة لن أخرج معك بعدها ابداً. ومن أراد المزيد يرجع لكتاب الدرة الخريدة في تاريخ مدينة الحديدة.
أما مجلس النواب، فلم يكن له رغبة فيه بل إنه اعتذر منه، وأَلح على الاعتذار، وقال بأن ذلك سيعطله عن التعليم وعن عمل الجامعة، ولا زلت أذكر أنه طرح علينا الموضوع يومها وقال إنه لن يقبل به، وسيطلب من المسؤولين البحث عن مرشح بديل، ولكن رُفض اعتذاره فكان لا مناص له عن القبول وكان في ذلك خير كبير للبلد، فكم من القوانين التي شارك في تشريعها وخصوصا القوانين المتعلقة بتقنين أحكام الشريعة الاسلامية.
لم يستغل الشيخ شيئا من أعماله الخيرية والإنسانية التي يوزعها على الفقراء في تثبيت مكانته في قلوب الناس في مديرية الحوك التي يمثلها في مجلس النواب، وقبل ذلك في عضوية المجلس المحلي للمحافظة، بل كان الفقر والاحتياج معياره الوحيد في استهداف الأحياء والحارات بمساعداته الخيرية، مثل حارة صدام، السخانة ،زايد، النازحين ، الأيتام الارامل وإن بعدوا ونأت دورهم.
ولا زلت أتذكر أني قلت له يوما يا شيخ بدل ما توزعون على الحارات البعيدة نبدأ هنا حول الجامعة والحارات القريبة منها من ناحية نحببهم في الجامعة، ومن ناحية لو في انتخابات وإلا غيرها.. .، قال لي بغضب : لا لا يا ابني،
هذي زكاة، حق الله وهي للأحوج الفقير. لا يجوز استغلالها للدنيا أو نحو ذلك.
-الشيخ مرعي متواضعا زاهدا:
رغم مناصب الشيخ العليا ومكانته السياسية والاجتماعية إلا أنه كان في غاية التواضع، مما يدل على ذلك تواضعه في ملبسه ومجلسه وهيئته، ويكفي أن تنظر إلى لبسه من عمامته إلى نعله الذي نسميه أبو حمامة اللذي يستعمل عادة للحمامات، ولم يستبدلها بالجلد الا بعد أن تعب، وأصبحت لا تناسبه بسبب القدم السكري.
من تواضعه: أن مكتبه فرشه البلاط لا تكييف لمكتبه بل يفتح الطاقة خلفه، والباب أمامه ويقول سالب وموجب أفضل، وأوكسجين متجدد، بالإضافة إلى أن كان له كرسي وطاولة من حق المدارس وقريبا وضعوا له طاولة أكبر مملوءة بالكتب والمراجع.
ومن تواضع الشيخ رحمه الله ما أكتبه عنه الآن فما الذي جرَّأَني أن أقول ويقول غيري عنه ما نقول إلا لسبب واحد وهو ببساطة أن الشيخ قد لقي ربه، ولو أنه كان على قيد الحياة لكان له معي شأن ولكنت مسحت المقال بعد نشره بلحظات فلم يقبل أن يمدح، أو تكتب له ترجمه، ولا أن تسطر عنه سيرة .
ويكفي في تواضع الشيخ مرعي قول الحبيب عمر بن حفيظ عنه عافاه الله : " إن الارض لتشتكي من تواضع الشيخ مرعي"
ومن زهده :أن أكله كسرة خبز أو فطيرة أو بسكويت، وهو على عجل لم يكن يهتم بنوع ما يأكل إلا بمقدار ما يقيم صلبه، يسافر الأسفار الطوال لعمل الجامعة، فينزل في طريقه المطاعم الشعبية الأقل شهرة وكلفة، وربما اكتفى بكدرة عيش وحبة قطيب(زبادي)، أو فول، وكان أكثر ما ينزل في رحلاته لصنعاء مساء في معهد القضاء في غرفة يفرغها له طلابه عند عودته من أعماله للراحة أو النوم، ويجلس معهم ويوصيهم، ويستعينون به في تذليل بعض الصعاب.
كان يخرج من بيته لسفره بقارورة ماء وخزان صغير يضع فيه قليلا من الثلج والماء المبخر كل ذلك خشية أن يحمل الجامعة عبئا ماليا. وإذا كانت سفرته شخصية للعلاج أو غيره فنفقته ونفقة من معه على حسابه وليس من حساب الجامعة.
ومع أنه رئيس الجامعة والساهر على كل شؤونها ودوامه لم يكن ينتهي الا للنوم رغم ذلك لم يتقاض لنفسه منها ريالا واحدا. فقد مرت به ظروف تراكمت عليه الديون بعد بنائه بيتا لأسرته وألح عليه مجلس الجامعة في اعتماد راتب له من صندوق الجامعة فرفض، وقال راتبي من مجلس النواب والقضاء يكفيني.
--الشيخ مرعي عالم ناصح وطني يحب بلده:
يحب الشيخ وطنه ويفتخر بانتمائه لليمن لا يوجد في خطبه ولا خطاباته ولا سياسته عنصريه أو إقصاء أو تمييز كل اليمنيين طلابا أو غيرهم ينظر إليهم بعين واحدة.
اذكر لكم في ذلك نموذجا:
في بعض السنين كان الاقبال على بعض كليات الجامعة اكثر من غيرها، وكان سياسة الجامعة تقوم على المفاضلة بين الطلاب بمجموع الدرجات فقط فكانت محافظة تعز تأخذ نصيب الاسد لكثرة المنتسبين للجامعة من تلك المحافظة، وكان أبناء الحديدة هم الاقل بقلتهم ولضعف معدلاتهم فاقترحتُ أن توضع اعتبارات أخرى للمفاضلة من قبيل توزيع حصص على المحافظات الى جانب المعدل حتى يتمكن أبناء الحديدة من الانتساب لتلك الكلية، فقال الشيخ: لا، تلك المحافظة نصرت الجامعة بالطلاب حينما خذلها وتولى عنها أبناء الحديدة وقرأ الآية" فسوف يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه"
وأذكر أنه خاطب عددا من المحافظين والمسؤولين السابقين للمحافظة بنصائح في غاية الجرأة والنصيحة والتوجيه لما عليهم فعله في أعمالهم، وكانوا يقبلون منه. بعض تلك المواقف كنت حاضرا فيه، وبعضها أخبرني به من رافق الشيخ،
ولكنه لم يكن ليشهر بأحد منهم على المنبر أبداً. بل كان يهمس لهم بالنصيحة سراً في مكاتبهم ولا يمكن أن يقول قلت للمسؤول فلان كذا ونصحته بكذا، لذا كان المسؤول يحوَّل من الحديدة فلا يزال الشيخ مرعي في عينيه كبيرا. واذكر ان المحافظ الأسبق محمد صالح شملان صادفه في خط صنعاء نازلا والشيخ طالع فالشيخ ما عرفه ولكنه عرف الشيخ فرجع ولحق الشيخ فقط ليسلم عليه كما أخبر بذلك من كانوا في رفقته.
الشيخ مرعي ومنهجه التعليمي في جامعته:
منهج الشيخ في تعليمه وفي جامعته مستمد من أصالة الفقه اليماني والحكمة اليمانية، وهو منهج شيوخه من أهل اليمن زبيد والمراوعة والحديدة وحضرموت...، حيث أن أجل شيوخه الحبيب ابراهيم بن عقيل الحضرمي ومعروف أن الفقه يمان والحكمة يمانية بشهادة المعصوم صلى الله عليه وسلم، لذا لم يقبل ابداً العروض والاغراءات التي عرضت عليه وخصوصا في الاوقات الحرجة التي مرت بها الجامعة مقابل بعض المقررات الوافدة، بل وقف يصارع التيار السلفي وحيداً تقريبا وخصوصا بعد أزمة الخليج، وخروج المغتربين من السعودية بما يحملونه من الفكر السلفي المتشدد وتأثر كثير من العلماء بذلك التيار بصورة أو بأخرى، وبقي الشيخ مرعي محافظا على أصالة المنهج والفقه والحكمة اليمانية التي درج عليها علماء اليمن منذ مئات السنين.
الشيخ مرعي أبا رحيما للمحتاجين:
كان شغل الشيخ الشاغل إلى جانب تعليم الأمة دينها الصحيح إطعامُ الفقير والمحتاج، فآلاف الأسر من الأيتام والارامل عاش وهو يجاهد أن يوصل إليهم المعونات النقدية أو العينية بعضهم في سجلات شهرية والبعض على رأس الشهرين وكان يذكر الآف النازحين من مناطق الحرب إلى مديريات الحديدة المختلفة يذكرهم فيقول واااارحمتاه، من لهم إن لم نحاول كيف نعينهم، ويسعى لدى أهل الخير لإعانتهم بين كل شهر وشهرين بما ييسره الله له، رغم العوائق التي كانت تواجهه والعراقيل التي كانت توضع أمامه من بعض الجهات لكنه لم يلتفت للوراء ويطرق الابواب المختلفة مرة بعد مرة، ذكر لنا يوما في مجلس جفوة بعض التجار وتهربه من الوفاء بالتزامه لبعض المستحقين، وأنه قد تردد إليه مرات عدة، وهو يواعده من غير أن يفي بوعوده، فقلت له سيدي لا تحرج نفسك معهم، ولا تتردد على بيوتهم ومكاتبهم، هم الذين يحتاجونك ، اللي يريدك منهم يعرف مكتبك، - وكنت غفر الله لي جرئيا على مخاطبته لما أعرفه من حلمه وسعة صدره- فقال لي يا أستاذ عبده: هولاء التجار جالسين في مكاتبهم الفخمة المكيفة ما يدرون بحال الناس الفقراء الذين تحت الاكياس والاشجار، والذين لا يجدون كسرة الخبز، من سيدلهم عليهم ، والله إذا علمت أنهم سيجدون الطريق للأكثر حاجة ما ذهبت إليهم ولا ترددت على مكاتبهم. فاستحييت وخجلت وأدركت كم يحمل في صدره من الرحمة بالمسلمين. .
كان آخر لقاء لنا به دعانا إليه قبل موته بساعات في بيته انا والشيخ علي عضابي كبير وصغير وبعض الزملاء والمسؤولين عن توزيع الصدقات وكان مع ثقل مرضه لا يتحدث الا عن الفقراء، وسأل عن عدد السجناء والسجينات كم عددهم ؟، قيل له كذا.
فقال للمسؤول عن المشتريات هل اشتريتم لهم كسوة العيد؟
قال نعم يا شيخ. قال توزعوها عليهم اليوم ٠
ثم قال : بلغني ان كسوة السجينات اللي اشتريتم حارة لا تتناسب مع جو الصيف، أعيدوها واشتروا لهم كسوة قطن باردة.
انصرفنا وهو يطلب من أولاده إحضار كشف آخر لمستحقين أخرين ليراجعه ممن لهم معونات سنوية للعيد،
تأخر الكشف فكان قبيل دخوله في غيبوبته الأخيرة كما أخبرني ابنه الشيخ أحمد وهو يسأل عن ذلك الكشف.
فهل ستلد النساء مثله؟
ختــــــــــــــــاما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قلت هذا الكلام باختصار شديد
وهو غيض من فيض من حياة سيدي الشيخ رحمه..
ويعلم الله أني ما قلت شيئا كذبا أو ادعاء أو ترويجاً..
بل هي شهادة لله لمن لا يعرف الشيخ ( وما شهدنا إلا بما علمنا)
وهو ليس بحاجة إلى شهادة من مثلي فالشيخ تشهد له أفعاله وبصماته في كل باب من أبواب البر.
رحمه الله، وغفر له، وأسكنه الفردوس الأعلى، وأخلف علينا، وعليكم بخير.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin