..الإحسان حياة.

مرحبا بك أيّها الزّائر الكريم.

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

..الإحسان حياة.

مرحبا بك أيّها الزّائر الكريم.

..الإحسان حياة.

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
..الإحسان حياة.

..الإحسان معاملة ربّانيّة بأخلاق محمّديّة، عنوانها:النّور والرّحمة والهدى

المواضيع الأخيرة

» كتاب أخبار وحكايات لأبي الحسن محمد بن الفيض الغساني
كتاب: لماذا الهجـرة إلى المدينـة بقلم : محمود سلطاني Emptyأمس في 17:11 من طرف Admin

» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
كتاب: لماذا الهجـرة إلى المدينـة بقلم : محمود سلطاني Emptyأمس في 17:02 من طرف Admin

» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
كتاب: لماذا الهجـرة إلى المدينـة بقلم : محمود سلطاني Emptyأمس في 16:27 من طرف Admin

» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
كتاب: لماذا الهجـرة إلى المدينـة بقلم : محمود سلطاني Emptyأمس في 15:41 من طرف Admin

» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
كتاب: لماذا الهجـرة إلى المدينـة بقلم : محمود سلطاني Emptyأمس في 15:03 من طرف Admin

» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
كتاب: لماذا الهجـرة إلى المدينـة بقلم : محمود سلطاني Emptyأمس في 14:58 من طرف Admin

» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
كتاب: لماذا الهجـرة إلى المدينـة بقلم : محمود سلطاني Empty20/11/2024, 22:49 من طرف Admin

» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
كتاب: لماذا الهجـرة إلى المدينـة بقلم : محمود سلطاني Empty18/11/2024, 23:30 من طرف Admin

» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
كتاب: لماذا الهجـرة إلى المدينـة بقلم : محمود سلطاني Empty18/11/2024, 23:25 من طرف Admin

» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
كتاب: لماذا الهجـرة إلى المدينـة بقلم : محمود سلطاني Empty18/11/2024, 23:20 من طرف Admin

» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
كتاب: لماذا الهجـرة إلى المدينـة بقلم : محمود سلطاني Empty18/11/2024, 23:08 من طرف Admin

» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
كتاب: لماذا الهجـرة إلى المدينـة بقلم : محمود سلطاني Empty18/11/2024, 23:03 من طرف Admin

» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
كتاب: لماذا الهجـرة إلى المدينـة بقلم : محمود سلطاني Empty18/11/2024, 23:01 من طرف Admin

» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
كتاب: لماذا الهجـرة إلى المدينـة بقلم : محمود سلطاني Empty18/11/2024, 22:57 من طرف Admin

» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
كتاب: لماذا الهجـرة إلى المدينـة بقلم : محمود سلطاني Empty18/11/2024, 22:55 من طرف Admin

أفضل 10 أعضاء في هذا الشهر

دخول

لقد نسيت كلمة السر


    كتاب: لماذا الهجـرة إلى المدينـة بقلم : محمود سلطاني

    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 68544
    تاريخ التسجيل : 25/04/2018

    كتاب: لماذا الهجـرة إلى المدينـة بقلم : محمود سلطاني Empty كتاب: لماذا الهجـرة إلى المدينـة بقلم : محمود سلطاني

    مُساهمة من طرف Admin 20/10/2020, 17:57

    لماذا الهجـرة إلى المدينـة
    بقلم : محمود سلطاني

    لم تكن هجرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم هروب المقهور الذي لا اختيار له إلى مكان مختلف ـ أي مكان ـ أملا في العثور على ظروف أوفق وأرفق لمواصلة نشر دعوته . أمل مصيره متروك للحظ والمجازفة . وقد جرّبها عندما التجأ إلى الطائف ولم يكن الفرج المنشود في الموعد .
    ولم تكن كذلك هجرة تعتمد في المقام الأوّل على قوة قوم من خارج بلده ، آمنوا به ، وبايعوه على النصرة والمؤازرة والحماية المطلقة ، لأن هؤلاء لم يكونوا بالعدد والعدة الكافية لتحدّي الخطر الذي منه هاجر .
    ما هي الحكمة إذن من اختيار الله المدينة لرسوله الكريم صلوات الله وسلامه عليه لتكون مقر هجرته ، وعاصمة دعوته للإسلام ؟
    إنّ النظرة الشمولية البانورامية للمجتمع العربي آنذاك في شبه الجزيرة العربية تخلص إلى أن هذا المجتمع ينضوي تحت صفات وخصائص مشتركة لا مكان فيها للتميّز الداخلي ، والجاعلة منه عيّنة بشرية ذات لون موحّد مهما اتسعت رقعة انتشاره . مجتمع بدويّ ، تضمّه صحراء شاسعة ، قاحلة في معظمها ، تعوّد عيشة الشظف ، وألِفَ القحط وقساوة المناخ ، وتأقلم مع بيئته فأقام ـ على مرّ القرون ـ أخلاقه وأعرافه وتقاليده ووجدانه وذوقه وِفق طبيعتها ، وما رآه صالحا مُمَكِّناً للتعايش والعيش بها ومعها . ولم تكن مكة والمدينة ـ وهما ما يعنينا في هذا المقال ـ بدعا من هذا الوضع العام .
    إلاّ أنّ النظرة القريبة الفاحصة المتعمّقة تفيد غير ذلك ، وتنجلي بواسطتها حجب عن اختلافات جذرية من مكان إلى آخر ، وفوارق تفاجئ من اكتفى بالرؤية العامّة لو حاول الدنوّ أكثر .
    كان المجتمع المكي مجتمعا أرستقراطيا متغطرسا صلبا . فزيادة على جلافة البداوة ، وحمية الجاهلية المشتركة بين الجميع ، فقد لعبت عوامل أخرى دورا حاسما في صناعته على هذا الشكل . وأوّل هذه العوامل وجود بيت الله الحرام في بلده ، ومسؤوليته المطلقة على إدارة مواسم الحج ، والطقوس الدينية ، وخدمة الحجيج . فلقد كانت قريش مهابة مرهوبة من القبائل العربية سواء خوفا من بطشها إذا حدث ما يدعو إلى سخطها ، أو هيبة دينية روحية من مرتبتها ، ورهبة من انتقام الآلهة المنتشرة في الكعبة . إنه وضع لم تستغلّه قريش أحسن استغلال فقط ، بل جرى مجرى الحقوق المُسَلّم بها التي لا فضل لأحد في إسدائها ، تصرّف القوم وتكلموا بمقتضاه باسم الآلهة ، ووجدوا فيه الحيلة السحرية التي لا يُعجِزُها فتح الفُسَحِ على مقاس كل هوى دون حسيب ، حتى رسخت في فهمهم وذهنهم وثقافتهم قناعة بارتقاء درجة من التألّه . لقد أدخل هذا التفكير قريشا في متاهة الغرور والدلال الثقيل فأفسدها ، وزادها قسوة وبعدا عن متعلقات الفطرة البشرية ، وعنجهية في التمسك بهيئة تركيبتها الإجتماعية التي أعدّتها لنفسها ، ورفضا باتّا لكل صوت معارض بالأخص إذا كان يحمل ما من شأنه أن يكون نذر تفريط وفقدان ولو يسير من نفوذها وجاهها .
    والعامل الثاني هو انهمار أموال وثمرات التجارة والقرابين للوافدين على مكة ، أو الذين يتخذونها محطة أثناء سفرهم وترحالهم . عامل جذّر إحساس قريش بعمق حاجة الغير إليها ، وقدومه قدوم الساعي لإرضاءها ، وغلغل فكرة السيادة على كل سيد في غير ذلك المكان . وإذا أضفنا إليه طبقات الرقيق ، وشبكات العبيد العريضة المسخرين والمسؤولين عن إنجاز الحقير والجليل من الأعمال ، فإنّ أسباب التألُّهِ برمتها تكون توفرت ، ومارست قريش بذلك حياة راكدة ، مترفة ، فارغة ، لا تَنَافُس فيها إلاّ في التعالي والرياء والكسب .
    وما زاد الطين بلة ـ وهو العامل الثالث ـ العزلة وانعدام المقارنة مع أنماط أخرى من المجتمعات التي تفتح أبواب مبادرات التغيير . فقد كان التنقل في رحلات الإتجار إلى الشام واليمن ، وهي بلاد بعيدة ، غير متيسر للجميع ، ومن تيسر له مرة فهناك أكثر من سبب في احتمال عدم إعادته ، وقليل هم الذين دأبوا على السفر ، والإنفتاح على الأمم والأجناس الأخرى ، إلاّ أنّ تأثير تلك الأسفار في المجتمع كان ضعيفا وإن لُمِسَ في أصحابه . ولذلك ظلّت قريش على العموم تجهل الدنيا ، ولا تعرف نفسها إلاّ من خلال مرآة نرجسيتها ، أما من وراءها فهم أعاجم لا ترى أي حاجة للإهتمام بهم .
    إننا بتسليطنا الأضواء على الجوانب السلبية المذكورة ، لا نريد أن نتغافل أو نُغْفِل الجوانب الإيجابية للعرب بصفة عامة ولقريش معهم ، فقد شهد التاريخ الصحيح لهذه الأمة أنهم امتازوا بصفات إنسانية راقية كالشجاعة ، والكرم ، والغيرة ، والإستعداد لنصرة ذوي القربى ، ورهافة الحس ، والألمعية ، والروية ، والحكمة ، لكنها كانت صفات كالدرّ الثمين المتناثر وسط الأحجار والصخور والأوحال ، وُظِّـفتْ في جلها في تحقيق مصالح ضيقة هي أقرب إلى التبذير منها إلى الإنفاق المرشّد .
    فهل كانت المدينة المنورة على مثل هذا الحال ، وتلك الهيئة ؟
    فيما عدا الصفات العامّة المشتركة بين كل أفراد الجنس العربي في شبه الجزيرة ، فإن المجتمع بالمدينة كان مختلفا اختلافا بعيدا عنه في مكة .
    لقد كانت طبيعة المدينة الجغرافية وتضاريسها ومناخها من العوامل الرئيسية التي مكّنتْ لهذا الإختلاف . فهي تمثل أرضا ملائمة لزرع النخيل والأشجار ، وكانت على مر الزمان واحة كبيرة تجذرت فيها أصول فنون الزراعة ، ونُسِجَتْ حولها بمتانة الثقافة والتقاليد المعلومة والمميزة لكل من أوثقه قَدَرُهُ ببيئةٍ معينة فعاش وتأقلم معها . لم يكن الفرد في المدينة إمّا أرستقراطيا أو عبدا مملوكا ، بل كانت الفرصة متاحة لكل من مكنته قدرته على نحت حياته على مقاسه أو ما يقترب اقترابا شديدا مما يطمح إليه ، ونتاج هذا كان مجتمعا خال من الطفرات الطبقية الكبيرة العازلة ، وهو التعدد الذي ينقص من حدّة الجفوة بين الطبقات ، ويزيد من قوة سريان القيم في كل الإتجاهات ، والفهم السريع لكل صنف من الخطابات التي كلما ارتفع عددها ازدادت بها روابط المجتمع سلامة . ليس هذا فحسب ، بل يجب العلم كذلك بأهمية ضوابط التعامل التجاري ، وتقاليد السوق ، ومواسم التجمعات الكبرى عند الجنْيِ وعرض المحصول ، في تطوير وتهذيب أساليب الإتصال ، وحذق فن الأولويات مراعاة للمصلحة ، وصلات القرابة والإنتماء .
    أمر آخر كان ذا أثر أساسي في كيفية تكوين المجتمع المدني على هذا الوجه المتميز وهو العداوة التي كانت بين قبيلتيّ الأوس والخزرج .
    ففي الوقت الذي تفرّدت فيه قريش في مكة بدون منازع محلّي ، فإنّ احتدام الصراع بين الأوس والخزرج قد أجبر كِلا الطرفين على خوض غمار التخطيط والإستعداد والتنظيم ، وهي أفعال ليس لغير العقل والتفكير لها سبيل . وأهمّ من كل شيء في مثل هذه الظروف هي إقامة العلاقات الإجتماعية بالمتانة الكافية للمواجهة ، وتحديد هرم القيادة بالمتاح من وسائل الإجماع والإقتناع لتجنب غوائل الخيانة ، أو بروز الخلاف في المواطن والأوقات العصيبة . كانت هذه أولى لمسات التأطير والعمل الممنهج ، والنظرة ذات المغزى المستقبلي ، وأداة لحرية الكلمة ووتبَنِّي مسؤولية الإصغاء .
    نعم كانت دوافع ذلك العداء جاهلية ، إلاّ أنّ الذي يهمّنا الآن هو المستوى الرفيع لتكوين الفرد والجماعة على الصعيد الفكري والعاطفي والجسدي ، لأننا لا ننظر إليه بصفته حالة خاصة محصورة في المكان والزمان تبعها ما تبعها من فساد وسلبيات ، وإنما نلحظه بالعين الراصدة للظواهر من حيث هي كذلك لنقتنص الحقيقة المطلقة للمنقبة الثابتة المخفية المدّخرة في طيِّها .
    كذلك كان لوجود اليهود بالمدينة بصمة ساهمت في ظهور مجتمعها بما كان عليه . بصمة اليهود كانت دينية روحية . ولا جدال في أن الديانة اليهودية كانت محرّفة ، لكنها كانت عقيدة ودينا سماويا له كتاب مقدس يختلف عن وثنية العرب . وبحكم المعاشرة والإحتكاك فإن فكرة الإله الواحد ، والخير والشر ، والنشور والجزاء والعقاب ، وفلسفة التعبد والتقرب وغيرها كانت أشد التصاقا وقربا من أهل المدينة بالقياس إلى أهل مكة . زد على ذلك خصائص الثقافة اليهودية المختلفة ، ومفاهيمهم ، وطرائق عيشهم بأوسع المعاني كالتجارة والصناعة والنظام الأسري والتقاليد الذاتية . كلها ساهمت بقدر ما رشحت به في تكوين عجينة هذه الشريحة من الناس .
    إذن فلقد كان المجتمع في المدينة في حالة تفاعل وتطور مُـتّجَهِيّ دائم ، متحركا بفعل جذب الأهداف المنتقاة لا بفعل قوة دفع خلفية مجهولة العواقب كما كان الحال مع المجتمع المكي . ولم تكن السلبية في صميم التصميم المختار لمواجهة الواقع المفروض ، ولكنها كانت في صميم الواقع نفسه ، وهو ما يجعلنا نقول أن هذا المجتمع كان في طريقه إلى الفكاك من واقعه اعتمادا على ما أبداه من غنى عقلاني ، وملكات حضارية ، من شأن من اكتسبها العثور على الطريق الصحيح طال الزمان أم قصر ، لكنه وفي كل الأحوال لا يلمس الغربة المعهودة التي يعانيها غيره ممن لم يألفوا التقلّب الدائم في أرحام الظروف ، ومراجل التنوع . إنها بحق إرهاصاتُ استحقاقٍ لاحتضان مشروع إنساني عظيم ، وبوادرُ صلاح فذّ لأرضية تنتظر أرقى بذور القيم .
    كان هذا حال المدينة وذاك حال مكة .
    وقد بُعِث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هذا الظرف العصيب الذي يكتنف مكة ، وزُجّ به دفعة واحدة في هذا الأتون بمقتضى إرادة وحكمة إلهية لا يعلمها إلاّ هو سبحانه وتعالى . ومن خلال ما عرفنا عن حقيقة المجتمع المكي ، فإنّ المواجهة على أشرس وجوهها كانت قدرا محتوما . كانت الرسالة شرارة أشعلت ثورة لم يَحُلْ دون وقوعها من قبل سوى انعدام الزعيم ، وقد جاء صاحبها . لقد كان العبيد والمستضعفون ، وبِغَضّ النظر عمّا أرسته الأعراف والأوضاع من تعريفات ، بشرا فيهم المتميز الذي لم ينل فرصته ليظهر ويبدع ويتفوّق على سادته أنفسهم ، وكان التذمّر من الحيف وفقدان الكرامة ، وهوان الرق موجودا يتأجّج بالأفئدة المسكينة التي لا حول لها ولا قوّة ، لكن ما عسى عبدا أعزل ضعيفا أن يفعل في قوم أقسى من الصخر ، لا يُلقون بالاً إن كان الذي قُتِل دابة أو عبد مملوك ؟ أمّا وقد تغيّر الوضع فقد آن الأوان لبدء الصعود ، واسترداد الإعتبار المشروع ، ولم تعد التضحية أمرا مؤجّلا بإملاءٍ من الحكمة كما كانت من قبل ، بل أصبحت ضالّة الجميع بصفتها معبرا إلى الخلود في النعيم المقيم .
    لا شيء سلك طريق التدرج ، وصعقة المفاجأة أذهلت الجميع ، ووقع الفعل هزّ الفريق المقابل من جذوره ، فكانت ردّة الفعل على شكل هبّة كاسحة ، لولا لطف الله تعالى ما كان نجى منها ناجٍ أبدا .
    قلنا إذن ، كان لا بد من المواجهة على أكثر من جبهة لسدّ أبواب فتحت كلها في وقت واحد . كان الإنشغال منْصَبّا على تراث الآباء ، والسلطة ، والسيطرة ، والثروة ، والسطوة ، والممتلكات وخدمتها ، والحياة المترفة والوادعة . إنه السقوط الحرّ من قمم المجد إلى أسفل سافلين ، وفقدان كل شيء من غير مقدّمات أو تفسير منطقي .
    وفُتِحت خزائن البلاء على أنصار الدين الجديد ، وعلى رأسهم سيد الخلق عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم ، وكان لا بد أن يكون بلاء متناسبا مع طبيعة وحجم الحدث . وفي مثل هذه النماذج من الظواهر الإجتماعية فإن الأولوية تعطى للمواجهة اللصيقة المادية بجرعات لا هوادة فيها ، وبتصعيد مستمر يرجى منه إحداث الضغط اللازم لكبح زحف العدوى ، ووأد الشر ـ كما يرونه ـ في مهده أو قبل أن يبلغ حجما يستحيل بعده التحكم فيه على أقل تقدير . وبالرغم من بعض صِيَغ الترغيب والليونة التي أبدتها قريش في أول الأمر لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلاّ أن انتهاج العنف قد حلّ محله أضعافا مضاعفة ، والتجأت إلى كل أنواع التنكيل والإهانة والتضييق القاتل ، والتصفية الجسدية . لقد أخرس كل رادع أخلاقي إنساني في قريش ، وذُلّلت كل الوسائل من أجل الغاية ، ولسان الحال يردد : « ستسكت طواعية أو كرها .. لكنك ستسكت » . كان الحمل أكبر من طاقة الأجساد والمعنويات والعقول ، خاصة وأن طبيعة الرسالة تعتمد على التبليغ والمخاطبة والتوصيل ، ومن المستحيل إحراز نتيجة في مثل هذا الجو الخانق ، وهذا العدد الهائل من الأيدي الممتدة من كل مكان لتكميم الأفواه .
    كان لا بد من تغيير ملائم لإنقاذ الرسالة ، وتوفير المناخ الذي يُمَكنها من الإنتعاش والحياة والإستمرار .
    كان لا بد من هجرة .
    وأذن الحق من فوق سبع سماوات بالخروج الميمون .
    لقد توفرت بالمدينة ـ زيادة على الرعيل الأول من المؤمنين ـ كل الأسباب لمن أراد المنافسة الشريفة ، وإطلاق العنان لما يختزنه من ملكات وعبقرية . وأطلّت الرسالة من أول لحظة بوجه باسم أسس على إشراقته المسجد النبوي الشريف رمز عزة وجمال وكمال الإسلام ونبيه عليه الصلاة والسلام . وهنا أيضا كان لا بد من مواجهة شرسة ، تمثلت في صدّ خطر النفاق والمنافقين ، وفي دفع حقد وكيد اليهود ، إلاّ أنه خطر معنوي فكري ، يُقَارِع بالدعاية الهدامة والأراجيف ، وأساليب التشكيك والتثبيط . عقبات مشوشة في طريق الرسالة أثناء ذيوعها دونما مساس بمصادر بثها مباشرة ، ولم يكن ذلك ليقلق من أوتي جوامع الكلم ، فمهما كانت قوة التشويش والهرج فإن له لا محالة خفوت وتوقف ينفذ أثناءه نور الرسالة ومضمونها إلى الناس ، فيختارون عن رضى ما يناسبهم ، وكلما ازداد عدد المسلمين ، كلما كان ذلك إيذانا بذبولٍ أكبر للمفسدين ، وبانطفاء جذوة باطلهم .
    إن حجم المشقة التي تجشمها المصطفى عليه الصلاة والسلام مع صحابته الكرام رضوان الله عليهم بالمدينة كان يفوق كل وصف . كانت مشقة من حول الدنيا من حال إلى حال ، وكان بديهي أن يمده الله بمجتمع كمجتمع المدينة كي يتسنى له ذلك وفقا لظاهر الأمور .
    والله ورسوله أعلم .

      الوقت/التاريخ الآن هو 26/11/2024, 22:04