التَّعْظِيم والْمِنَّة
في
{ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ }
لشيخ الإسلام وقاضي القضاة
الإمام تقي الدين السبكي
رحمه الله تعالى ورضي عنه
هذه الرسالة العظيمة طالما سمعت بها وتنديد الإمام السيوطي بها وثناء العلامة الغماري عليها جعلني في حُرقةٍ للاطّلاع عليها فحمدًا لله وجدتها ضمن (الفتاوى) ووجدت الأمر أعظم من مقالة قائل.
نقلاً عن (الفتاوى) للإمام السبكي، بواسطة الشاملة.
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَظَّمَ نَبِيَّهُ وَمَنَّ عَلَيْنَا بِهِ ، وَهَدَانَا إلَى كُلِّ خَيْرٍ ، إذْ وَصَّلَ سَبَبَنَا بِسَبَبِهِ .
وَبَعْدُ فَقَدْ حَصَلَ الْبَحْثُ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ } وَقَوْلُ الْمُفَسِّرِينَ هُنَا أَنَّ الرَّسُولَ هُوَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ مَا مِنْ نَبِيٍّ إلَّا أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْمِيثَاقَ أَنَّهُ إنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ فِي زَمَانِهِ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ وَيُوصِي أُمَّتَهُ بِذَلِكَ ؛ وَفِي ذَلِكَ مِنْ التَّنْوِيهِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْظِيمِ قَدْرِهِ الْعَلِيِّ مَا لَا يَخْفَى ، وَفِيهِ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ مَجِيئِهِ فِي زَمَانِهِمْ يَكُونُ مُرْسَلًا إلَيْهِمْ فَتَكُونُ نُبُوَّتُهُ وَرِسَالَتُهُ عَامَّةً لِجَمِيعِ الْخَلْقِ مِنْ زَمَنِ آدَمَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيَكُونُ الْأَنْبِيَاءُ وَأُمَمُهُمْ كُلُّهُمْ مِنْ أُمَّتِهِ.
وَيَكُونُ قَوْلُهُ : { بُعِثْتُ إلَى النَّاسِ كَافَّةً } لَا يَخْتَصُّ بِهِ النَّاسُ مِنْ زَمَانِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بَلْ يَتَنَاوَلُ مَنْ قَبْلَهُمْ أَيْضًا.
وَيَتَبَيَّنُ بِذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُنْت نَبِيًّا وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ } وَإِنَّ مَنْ فَسَّرَهُ بِعِلْمِ اللَّهِ بِأَنَّهُ سَيَصِيرُ نَبِيًّا لَمْ يَصِلْ إلَى هَذَا الْمَعْنَى لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ وَوَصْفُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنُّبُوَّةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمَ مِنْهُ أَنَّهُ أَمْرٌ ثَابِتٌ لَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلِهَذَا { رَأَى اسْمَهُ آدَم مَكْتُوبًا عَلَى الْعَرْشِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ } فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَعْنًى ثَابِتًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ مُجَرَّدَ الْعِلْمِ بِمَا سَيَصِيرُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَمْ يَكُنْ لَهُ خُصُوصِيَّةٌ بِأَنَّهُ نَبِيٌّ وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ يَعْلَمُ اللَّهُ نُبُوَّتَهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَقَبْلَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ خُصُوصِيَّةٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَجْلِهَا أَخْبَرَ بِهَذَا الْخَبَرِ إعْلَامًا لِأُمَّتِهِ لِيَعْرِفُوا قَدْرَهُ عِنْدَ اللَّهِ فَيَحْصُلُ لَهُمْ الْخَيْرُ بِذَلِكَ .
فَإِنْ قُلْتَ : أُرِيدُ أَنْ أَفْهَمَ ذَلِكَ الْقَدْرَ الزَّائِدَ فَإِنَّ النُّبُوَّةَ وَصْفٌ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُوفُ بِهِ مَوْجُودًا وَإِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ بُلُوغِ أَرْبَعِينَ سَنَةً أَيْضًا .
فَكَيْفَ يُوصَفُ بِهِ قَبْلَ وُجُودِهِ وَقَبْلَ إرْسَالِهِ فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَغَيْرُهُ كَذَلِكَ ؟
قُلْتُ قَدْ جَاءَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْأَرْوَاحَ قَبْلَ الْأَجْسَادِ فَقَدْ تَكُونُ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ : { كُنْتُ نَبِيًّا } إلَى رُوحِهِ الشَّرِيفَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى حَقِيقَتِهِ وَالْحَقَائِقُ تَقْصُرُ عُقُولُنَا عَنْ مَعْرِفَتِهَا وَإِنَّمَا يَعْلَمُهَا خَالِقُهَا وَمَنْ أَمَدَّهُ بِنُورٍ إلَهِيّ.
ثُمَّ إنَّ تِلْكَ الْحَقَائِقَ يُؤْتِي اللَّهُ كُلَّ حَقِيقَةٍ مِنْهَا مَا يَشَاءُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَشَاءُ ، فَحَقِيقَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَكُونُ مِنْ قَبْلِ خَلْقِ آدَمَ آتَاهَا اللَّهُ ذَلِكَ الْوَصْفَ بِأَنْ يَكُونَ خَلَقَهَا مُتَهَيِّئَةً لِذَلِكَ وَأَفَاضَهُ عَلَيْهَا مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ ، فَصَارَ نَبِيًّا وَكَتَبَ اسْمَهُ عَلَى الْعَرْشِ وَأَخْبَرَ عَنْهُ بِالرِّسَالَةِ لِيَعْلَمَ مَلَائِكَتُهُ وَغَيْرُهُمْ كَرَامَتَهُ عِنْدَهُ فَحَقِيقَتُهُ مَوْجُودَةٌ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ ، فَإِنْ تَأَخَّرَ جَسَدُهُ الشَّرِيفُ الْمُتَّصِفُ بِهَا وَاتِّصَافُ حَقِيقَتِهِ بِالْأَوْصَافِ الشَّرِيفَةِ الْمُفَاضَةِ عَلَيْهِ مِنْ الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ حَاصِلٌ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَإِنَّمَا يَتَأَخَّرُ الْبَعْثُ وَالتَّبْلِيغُ لِتَكَامُلِ جَسَدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ التَّبْلِيغُ ، وَكُلُّ مَالَهُ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْ جِهَةِ تَأَهُّلِ ذَاتِهِ الشَّرِيفَةِ وَحَقِيقَتِهِ مُعَجَّلٌ لَا تَأَخُّرَ فِيهِ وَكَذَلِكَ اسْتِنْبَاؤُهُ وَإِيتَاؤُهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ، وَإِنَّمَا الْمُتَأَخِّرُ تَكَوُّنُهُ وَتَنَقُّلُهُ إلَى أَنْ ظَهَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرُهُ ، مِنْ أَهْلِ الْكَرَامَةِ .
وَلَا نُمَثِّلُ بِالْأَنْبِيَاءِ بَلْ بِغَيْرِهِمْ قَدْ يَكُونُ إفَاضَةُ اللَّهِ تِلْكَ الْكَرَامَةَ عَلَيْهِ بَعْدَ وُجُودِهِ بِمُدَّةٍ كَمَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ مَا يَقَعُ فَاَللَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِهِ مِنْ الْأَزَلِ ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ عِلْمَهُ بِذَلِكَ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ وَيَعْلَمُ النَّاسُ مِنْهَا مَا يَصِلُ إلَيْهِمْ عِنْدَ ظُهُورِهِ لِعِلْمِهِمْ نُبُوَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي أَوَّلِ مَا جَاءَهُ بِهِ جِبْرِيلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ ، وَهُوَ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ جُمْلَةِ مَعْلُومَاتِهِ مِنْ آثَارِ قُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ فِي مَحَلٍّ خَاصٍّ يَتَّصِفُ بِهَا .
فَهَاتَانِ مَرْتَبَتَانِ الْأُولَى مَعْلُومَةٌ بِالْبُرْهَانِ وَالثَّانِيَةُ ظَاهِرَةٌ لِلْعِيَانِ ، وَبَيْنَ الْمَرْتَبَتَيْنِ وَسَائِطُ مِنْ أَفْعَالِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَحْدُثُ عَلَى حَسَبِ اخْتِيَارِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْهَا مَا يَظْهَرُ لِبَعْضِ خَلْقِهِ حِينَ حُدُوثِهِ ، وَمِنْهَا مَا يَظْهَرُ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ وَمِنْهَا مَا يَحْصُلُ بِهِ كَمَالٌ لِذَلِكَ الْمَحِلِّ وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لِأَحَدٍ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ ، وَذَلِكَ يَنْقَسِمُ إلَى كَمَالٍ يُقَارِنُ ذَلِكَ الْمَحِلَّ مِنْ حِينِ خَلْقِهِ وَإِلَى كَمَالٍ يَحْصُلُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا يَصِلُ عِلْمُ ذَلِكَ إلَيْنَا إلَّا بِالْخَبَرِ الصَّادِقِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرُ الْخَلْقِ فَلَا كَمَالَ لِمَخْلُوقٍ أَعْظَمَ مِنْ كَمَالِهِ وَلَا مَحَلَّ أَشْرَفَ مِنْ مَحِلِّهِ يُعَرِّفُنَا بِالْخَبَرِ الصَّحِيحِ حُصُولَ ذَلِكَ الْكَمَالِ مِنْ قَبْلِ خَلْقِ آدَمَ لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَأَنَّهُ أَعْطَاهُ النُّبُوَّةَ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ ثُمَّ أَخَذَ لَهُ الْمَوَاثِيقَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَعَلَى أُمَمِهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ الْمُقَدَّمُ عَلَيْهِمْ وَأَنَّهُ نَبِيُّهُمْ وَرَسُولُهُمْ وَفِي أَخْذِ الْمَوَاثِيقِ وَهِيَ مَعْنًى فِي الِاسْتِخْلَافِ .
وَلِذَلِكَ دَخَلَتْ لَامُ الْقَسَمِ فِي { لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ } .
( لَطِيفَةٌ أُخْرَى ) : وَهِيَ كَأَنَّهَا أَيْمَانُ الْبَيْعَةِ الَّتِي تُؤْخَذُ لِلْخُلَفَاءِ وَلَعَلَّ أَيْمَانَ الْخُلَفَاءِ أُخِذَتْ مِنْ هُنَا فَانْظُرْ هَذَا التَّعْظِيمَ الْعَظِيمَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ نَبِيُّ الْأَنْبِيَاءِ ، وَلِهَذَا ظَهَرَ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ تَحْتَ لِوَائِهِ وَهُوَ فِي الدُّنْيَا كَذَلِكَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ صَلَّى بِهِمْ ؛ وَلَوْ اتَّفَقَ مَجِيئُهُ فِي زَمَنِ آدَمَ وَنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَجَبَ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أُمَمِهِمْ الْإِيمَانُ بِهِ وَنُصْرَتُهُ .
وَبِذَلِكَ أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ عَلَيْهِمْ فَنُبُوَّتُهُ عَلَيْهِمْ وَرِسَالَتُهُ إلَيْهِمْ مَعْنًى حَاصِلٌ لَهُ ، وَإِنَّمَا أَثَرُهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى اجْتِمَاعِهِمْ مَعَهُ فَتَأَخُّرُ ذَلِكَ الْأَمْرِ رَاجِعٌ إلَى وُجُودِهِمْ لَا إلَى عَدَمِ اتِّصَافِهِ مِمَّا تَقْتَضِيهِ ، وَفَرْقٌ بَيْنَ تَوَقُّفِ الْفِعْلِ عَلَى قَبُولِ الْمَحِلِّ وَتَوَقُّفِهِ عَلَى أَهْلِيَّةِ الْفَاعِلِ فَهُنَا لَا تَوَقُّفَ مِنْ جِهَةِ الْفَاعِلِ ، وَلَا مِنْ جِهَةِ ذَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّرِيفَةِ ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ جِهَةِ وُجُودِ الْعَصْرِ الْمُشْتَمِلِ عَلَيْهِمْ ، فَلَوْ وُجِدَ فِي عَصْرِهِمْ لَزِمَهُمْ إتْبَاعُهُ بِلَا شَكٍّ ، وَلِهَذَا يَأْتِي عِيسَى فِي آخَرِ الزَّمَانِ عَلَى شَرِيعَتِهِ وَهُوَ نَبِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى حَالَتِهِ ، لَا كَمَا ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ يَأْتِي وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ نَعَمْ هُوَ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ لِمَا قُلْنَاهُ أَنَّ إتْبَاعَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا يَحْكُمُ بِشَرِيعَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ ؛ وَكُلُّ مَا فِيهَا مِنْ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ ، فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِهِ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِسَائِرِ الْأُمَّةِ ، وَهُوَ نَبِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى حَالِهِ لَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ شَيْءٌ ؛ وَكَذَلِكَ لَوْ بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زَمَانِهِ أَوْ فِي زَمَنِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ وَنُوحٍ وَآدَمَ كَانُوا مُسْتَمِرِّينَ عَلَى نُبُوَّتِهِمْ وَرِسَالَتِهِمْ إلَى أُمَمِهِمْ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيٌّ عَلَيْهِمْ وَرَسُولٌ إلَى جَمِيعِهِمْ ، فَنُبُوَّتُهُ وَرِسَالَتُهُ أَعَمُّ وَأَشْمَلُ وَأَعْظَمُ وَتَتَّفِقُ مَعَ شَرَائِعِهِمْ فِي الْأُصُولِ لِأَنَّهَا لَا تَخْتَلِفُ ، وَتُقَدَّمُ شَرِيعَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا عَسَاهُ يَقَعُ الِاخْتِلَافُ فِيهِ مِنْ الْفُرُوعِ ، إمَّا عَلَى سَبِيلِ التَّخْصِيصِ وَإِمَّا عَلَى سَبِيلِ النَّسْخِ أَوْ لَا نَسْخَ وَلَا تَخْصِيصَ بَلْ تَكُونُ شَرِيعَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ بِالنِّسْبَةِ إلَى أُولَئِكَ الْأُمَمِ مَا جَاءَتْ بِهِ أَنْبِيَاؤُهُمْ ، وَفِي هَذَا الْوَقْتِ بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ هَذِهِ الشَّرِيعَةُ ، وَالْأَحْكَامُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَوْقَاتِ .
وَبِهَذَا بَانَ لَنَا مَعْنَى حَدِيثَيْنِ خَفِيَا عَنَّا أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { بُعِثْت إلَى النَّاسِ كَافَّةً } كُنَّا نَظُنُّ أَنَّهُ مِنْ زَمَانِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَبَانَ أَنَّهُ جَمِيعُ النَّاسِ أَوَّلُهُمْ وَآخِرُهُمْ ، وَالثَّانِي قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُنْت نَبِيًّا وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ } كُنَّا نَظُنُّ أَنَّهُ بِالْعِلْمِ فَبَانَ أَنَّهُ زَائِدٌ عَلَى ذَلِكَ عَلَى مَا شَرَحْنَاهُ وَإِنَّمَا يُفَرَّقُ الْحَالُ بَيْنَ مَا بَعْدَ وُجُودِ جَسَدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبُلُوغِهِ الْأَرْبَعِينَ وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَبْعُوثِ إلَيْهِمْ وَتَأَهُّلِهِمْ لِسَمَاعِ كَلَامِهِ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ وَلَا إلَيْهِمْ لَوْ تَأَهَّلُوا قَبْلَ ذَلِكَ وَتَعْلِيقُ الْأَحْكَامِ عَلَى الشُّرُوطِ قَدْ يَكُونُ بِحَسَبِ الْمَحِلِّ الْقَابِلِ وَقَدْ يَكُونُ بِحَسَبِ الْفَاعِلِ الْمُتَصَرِّفِ فَهَاهُنَا التَّعْلِيقُ إنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ الْمَحِلِّ الْقَابِلِ وَهُوَ الْمَبْعُوثُ إلَيْهِمْ وَقَبُولُهُمْ سَمَاعَ الْخِطَابِ وَالْجَسَدِ الشَّرِيفِ الَّذِي يُخَاطِبُهُمْ بِلِسَانِهِ وَهَذَا كَمَا يُوَكِّلُ الْأَبُ رَجُلًا فِي تَزْوِيجِ ابْنَتِهِ إذَا وَجَدَتْ كُفُؤًا فَالتَّوْكِيلُ صَحِيحٌ وَذَلِكَ الرَّجُلُ أَهْلٌ لِلْوَكَالَةِ وَوَكَالَتُهُ ثَابِتَةٌ ، وَقَدْ يَحْصُلُ تَوَقُّفُ التَّصَرُّفِ عَلَى وُجُودِ كُفُؤٍ وَلَا يُوجَدُ إلَّا بَعْدَ مُدَّةٍ وَذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الْوَكَالَةِ وَأَهْلِيَّةِ التَّوْكِيلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى
في
{ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ }
لشيخ الإسلام وقاضي القضاة
الإمام تقي الدين السبكي
رحمه الله تعالى ورضي عنه
هذه الرسالة العظيمة طالما سمعت بها وتنديد الإمام السيوطي بها وثناء العلامة الغماري عليها جعلني في حُرقةٍ للاطّلاع عليها فحمدًا لله وجدتها ضمن (الفتاوى) ووجدت الأمر أعظم من مقالة قائل.
نقلاً عن (الفتاوى) للإمام السبكي، بواسطة الشاملة.
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَظَّمَ نَبِيَّهُ وَمَنَّ عَلَيْنَا بِهِ ، وَهَدَانَا إلَى كُلِّ خَيْرٍ ، إذْ وَصَّلَ سَبَبَنَا بِسَبَبِهِ .
وَبَعْدُ فَقَدْ حَصَلَ الْبَحْثُ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ } وَقَوْلُ الْمُفَسِّرِينَ هُنَا أَنَّ الرَّسُولَ هُوَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ مَا مِنْ نَبِيٍّ إلَّا أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْمِيثَاقَ أَنَّهُ إنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ فِي زَمَانِهِ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ وَيُوصِي أُمَّتَهُ بِذَلِكَ ؛ وَفِي ذَلِكَ مِنْ التَّنْوِيهِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْظِيمِ قَدْرِهِ الْعَلِيِّ مَا لَا يَخْفَى ، وَفِيهِ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ مَجِيئِهِ فِي زَمَانِهِمْ يَكُونُ مُرْسَلًا إلَيْهِمْ فَتَكُونُ نُبُوَّتُهُ وَرِسَالَتُهُ عَامَّةً لِجَمِيعِ الْخَلْقِ مِنْ زَمَنِ آدَمَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيَكُونُ الْأَنْبِيَاءُ وَأُمَمُهُمْ كُلُّهُمْ مِنْ أُمَّتِهِ.
وَيَكُونُ قَوْلُهُ : { بُعِثْتُ إلَى النَّاسِ كَافَّةً } لَا يَخْتَصُّ بِهِ النَّاسُ مِنْ زَمَانِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بَلْ يَتَنَاوَلُ مَنْ قَبْلَهُمْ أَيْضًا.
وَيَتَبَيَّنُ بِذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُنْت نَبِيًّا وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ } وَإِنَّ مَنْ فَسَّرَهُ بِعِلْمِ اللَّهِ بِأَنَّهُ سَيَصِيرُ نَبِيًّا لَمْ يَصِلْ إلَى هَذَا الْمَعْنَى لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ وَوَصْفُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنُّبُوَّةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمَ مِنْهُ أَنَّهُ أَمْرٌ ثَابِتٌ لَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلِهَذَا { رَأَى اسْمَهُ آدَم مَكْتُوبًا عَلَى الْعَرْشِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ } فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَعْنًى ثَابِتًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ مُجَرَّدَ الْعِلْمِ بِمَا سَيَصِيرُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَمْ يَكُنْ لَهُ خُصُوصِيَّةٌ بِأَنَّهُ نَبِيٌّ وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ يَعْلَمُ اللَّهُ نُبُوَّتَهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَقَبْلَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ خُصُوصِيَّةٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَجْلِهَا أَخْبَرَ بِهَذَا الْخَبَرِ إعْلَامًا لِأُمَّتِهِ لِيَعْرِفُوا قَدْرَهُ عِنْدَ اللَّهِ فَيَحْصُلُ لَهُمْ الْخَيْرُ بِذَلِكَ .
فَإِنْ قُلْتَ : أُرِيدُ أَنْ أَفْهَمَ ذَلِكَ الْقَدْرَ الزَّائِدَ فَإِنَّ النُّبُوَّةَ وَصْفٌ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُوفُ بِهِ مَوْجُودًا وَإِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ بُلُوغِ أَرْبَعِينَ سَنَةً أَيْضًا .
فَكَيْفَ يُوصَفُ بِهِ قَبْلَ وُجُودِهِ وَقَبْلَ إرْسَالِهِ فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَغَيْرُهُ كَذَلِكَ ؟
قُلْتُ قَدْ جَاءَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْأَرْوَاحَ قَبْلَ الْأَجْسَادِ فَقَدْ تَكُونُ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ : { كُنْتُ نَبِيًّا } إلَى رُوحِهِ الشَّرِيفَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى حَقِيقَتِهِ وَالْحَقَائِقُ تَقْصُرُ عُقُولُنَا عَنْ مَعْرِفَتِهَا وَإِنَّمَا يَعْلَمُهَا خَالِقُهَا وَمَنْ أَمَدَّهُ بِنُورٍ إلَهِيّ.
ثُمَّ إنَّ تِلْكَ الْحَقَائِقَ يُؤْتِي اللَّهُ كُلَّ حَقِيقَةٍ مِنْهَا مَا يَشَاءُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَشَاءُ ، فَحَقِيقَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَكُونُ مِنْ قَبْلِ خَلْقِ آدَمَ آتَاهَا اللَّهُ ذَلِكَ الْوَصْفَ بِأَنْ يَكُونَ خَلَقَهَا مُتَهَيِّئَةً لِذَلِكَ وَأَفَاضَهُ عَلَيْهَا مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ ، فَصَارَ نَبِيًّا وَكَتَبَ اسْمَهُ عَلَى الْعَرْشِ وَأَخْبَرَ عَنْهُ بِالرِّسَالَةِ لِيَعْلَمَ مَلَائِكَتُهُ وَغَيْرُهُمْ كَرَامَتَهُ عِنْدَهُ فَحَقِيقَتُهُ مَوْجُودَةٌ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ ، فَإِنْ تَأَخَّرَ جَسَدُهُ الشَّرِيفُ الْمُتَّصِفُ بِهَا وَاتِّصَافُ حَقِيقَتِهِ بِالْأَوْصَافِ الشَّرِيفَةِ الْمُفَاضَةِ عَلَيْهِ مِنْ الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ حَاصِلٌ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَإِنَّمَا يَتَأَخَّرُ الْبَعْثُ وَالتَّبْلِيغُ لِتَكَامُلِ جَسَدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ التَّبْلِيغُ ، وَكُلُّ مَالَهُ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْ جِهَةِ تَأَهُّلِ ذَاتِهِ الشَّرِيفَةِ وَحَقِيقَتِهِ مُعَجَّلٌ لَا تَأَخُّرَ فِيهِ وَكَذَلِكَ اسْتِنْبَاؤُهُ وَإِيتَاؤُهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ، وَإِنَّمَا الْمُتَأَخِّرُ تَكَوُّنُهُ وَتَنَقُّلُهُ إلَى أَنْ ظَهَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرُهُ ، مِنْ أَهْلِ الْكَرَامَةِ .
وَلَا نُمَثِّلُ بِالْأَنْبِيَاءِ بَلْ بِغَيْرِهِمْ قَدْ يَكُونُ إفَاضَةُ اللَّهِ تِلْكَ الْكَرَامَةَ عَلَيْهِ بَعْدَ وُجُودِهِ بِمُدَّةٍ كَمَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ مَا يَقَعُ فَاَللَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِهِ مِنْ الْأَزَلِ ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ عِلْمَهُ بِذَلِكَ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ وَيَعْلَمُ النَّاسُ مِنْهَا مَا يَصِلُ إلَيْهِمْ عِنْدَ ظُهُورِهِ لِعِلْمِهِمْ نُبُوَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي أَوَّلِ مَا جَاءَهُ بِهِ جِبْرِيلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ ، وَهُوَ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ جُمْلَةِ مَعْلُومَاتِهِ مِنْ آثَارِ قُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ فِي مَحَلٍّ خَاصٍّ يَتَّصِفُ بِهَا .
فَهَاتَانِ مَرْتَبَتَانِ الْأُولَى مَعْلُومَةٌ بِالْبُرْهَانِ وَالثَّانِيَةُ ظَاهِرَةٌ لِلْعِيَانِ ، وَبَيْنَ الْمَرْتَبَتَيْنِ وَسَائِطُ مِنْ أَفْعَالِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَحْدُثُ عَلَى حَسَبِ اخْتِيَارِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْهَا مَا يَظْهَرُ لِبَعْضِ خَلْقِهِ حِينَ حُدُوثِهِ ، وَمِنْهَا مَا يَظْهَرُ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ وَمِنْهَا مَا يَحْصُلُ بِهِ كَمَالٌ لِذَلِكَ الْمَحِلِّ وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لِأَحَدٍ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ ، وَذَلِكَ يَنْقَسِمُ إلَى كَمَالٍ يُقَارِنُ ذَلِكَ الْمَحِلَّ مِنْ حِينِ خَلْقِهِ وَإِلَى كَمَالٍ يَحْصُلُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا يَصِلُ عِلْمُ ذَلِكَ إلَيْنَا إلَّا بِالْخَبَرِ الصَّادِقِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرُ الْخَلْقِ فَلَا كَمَالَ لِمَخْلُوقٍ أَعْظَمَ مِنْ كَمَالِهِ وَلَا مَحَلَّ أَشْرَفَ مِنْ مَحِلِّهِ يُعَرِّفُنَا بِالْخَبَرِ الصَّحِيحِ حُصُولَ ذَلِكَ الْكَمَالِ مِنْ قَبْلِ خَلْقِ آدَمَ لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَأَنَّهُ أَعْطَاهُ النُّبُوَّةَ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ ثُمَّ أَخَذَ لَهُ الْمَوَاثِيقَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَعَلَى أُمَمِهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ الْمُقَدَّمُ عَلَيْهِمْ وَأَنَّهُ نَبِيُّهُمْ وَرَسُولُهُمْ وَفِي أَخْذِ الْمَوَاثِيقِ وَهِيَ مَعْنًى فِي الِاسْتِخْلَافِ .
وَلِذَلِكَ دَخَلَتْ لَامُ الْقَسَمِ فِي { لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ } .
( لَطِيفَةٌ أُخْرَى ) : وَهِيَ كَأَنَّهَا أَيْمَانُ الْبَيْعَةِ الَّتِي تُؤْخَذُ لِلْخُلَفَاءِ وَلَعَلَّ أَيْمَانَ الْخُلَفَاءِ أُخِذَتْ مِنْ هُنَا فَانْظُرْ هَذَا التَّعْظِيمَ الْعَظِيمَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ نَبِيُّ الْأَنْبِيَاءِ ، وَلِهَذَا ظَهَرَ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ تَحْتَ لِوَائِهِ وَهُوَ فِي الدُّنْيَا كَذَلِكَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ صَلَّى بِهِمْ ؛ وَلَوْ اتَّفَقَ مَجِيئُهُ فِي زَمَنِ آدَمَ وَنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَجَبَ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أُمَمِهِمْ الْإِيمَانُ بِهِ وَنُصْرَتُهُ .
وَبِذَلِكَ أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ عَلَيْهِمْ فَنُبُوَّتُهُ عَلَيْهِمْ وَرِسَالَتُهُ إلَيْهِمْ مَعْنًى حَاصِلٌ لَهُ ، وَإِنَّمَا أَثَرُهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى اجْتِمَاعِهِمْ مَعَهُ فَتَأَخُّرُ ذَلِكَ الْأَمْرِ رَاجِعٌ إلَى وُجُودِهِمْ لَا إلَى عَدَمِ اتِّصَافِهِ مِمَّا تَقْتَضِيهِ ، وَفَرْقٌ بَيْنَ تَوَقُّفِ الْفِعْلِ عَلَى قَبُولِ الْمَحِلِّ وَتَوَقُّفِهِ عَلَى أَهْلِيَّةِ الْفَاعِلِ فَهُنَا لَا تَوَقُّفَ مِنْ جِهَةِ الْفَاعِلِ ، وَلَا مِنْ جِهَةِ ذَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّرِيفَةِ ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ جِهَةِ وُجُودِ الْعَصْرِ الْمُشْتَمِلِ عَلَيْهِمْ ، فَلَوْ وُجِدَ فِي عَصْرِهِمْ لَزِمَهُمْ إتْبَاعُهُ بِلَا شَكٍّ ، وَلِهَذَا يَأْتِي عِيسَى فِي آخَرِ الزَّمَانِ عَلَى شَرِيعَتِهِ وَهُوَ نَبِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى حَالَتِهِ ، لَا كَمَا ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ يَأْتِي وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ نَعَمْ هُوَ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ لِمَا قُلْنَاهُ أَنَّ إتْبَاعَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا يَحْكُمُ بِشَرِيعَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ ؛ وَكُلُّ مَا فِيهَا مِنْ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ ، فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِهِ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِسَائِرِ الْأُمَّةِ ، وَهُوَ نَبِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى حَالِهِ لَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ شَيْءٌ ؛ وَكَذَلِكَ لَوْ بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زَمَانِهِ أَوْ فِي زَمَنِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ وَنُوحٍ وَآدَمَ كَانُوا مُسْتَمِرِّينَ عَلَى نُبُوَّتِهِمْ وَرِسَالَتِهِمْ إلَى أُمَمِهِمْ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيٌّ عَلَيْهِمْ وَرَسُولٌ إلَى جَمِيعِهِمْ ، فَنُبُوَّتُهُ وَرِسَالَتُهُ أَعَمُّ وَأَشْمَلُ وَأَعْظَمُ وَتَتَّفِقُ مَعَ شَرَائِعِهِمْ فِي الْأُصُولِ لِأَنَّهَا لَا تَخْتَلِفُ ، وَتُقَدَّمُ شَرِيعَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا عَسَاهُ يَقَعُ الِاخْتِلَافُ فِيهِ مِنْ الْفُرُوعِ ، إمَّا عَلَى سَبِيلِ التَّخْصِيصِ وَإِمَّا عَلَى سَبِيلِ النَّسْخِ أَوْ لَا نَسْخَ وَلَا تَخْصِيصَ بَلْ تَكُونُ شَرِيعَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ بِالنِّسْبَةِ إلَى أُولَئِكَ الْأُمَمِ مَا جَاءَتْ بِهِ أَنْبِيَاؤُهُمْ ، وَفِي هَذَا الْوَقْتِ بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ هَذِهِ الشَّرِيعَةُ ، وَالْأَحْكَامُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَوْقَاتِ .
وَبِهَذَا بَانَ لَنَا مَعْنَى حَدِيثَيْنِ خَفِيَا عَنَّا أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { بُعِثْت إلَى النَّاسِ كَافَّةً } كُنَّا نَظُنُّ أَنَّهُ مِنْ زَمَانِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَبَانَ أَنَّهُ جَمِيعُ النَّاسِ أَوَّلُهُمْ وَآخِرُهُمْ ، وَالثَّانِي قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُنْت نَبِيًّا وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ } كُنَّا نَظُنُّ أَنَّهُ بِالْعِلْمِ فَبَانَ أَنَّهُ زَائِدٌ عَلَى ذَلِكَ عَلَى مَا شَرَحْنَاهُ وَإِنَّمَا يُفَرَّقُ الْحَالُ بَيْنَ مَا بَعْدَ وُجُودِ جَسَدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبُلُوغِهِ الْأَرْبَعِينَ وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَبْعُوثِ إلَيْهِمْ وَتَأَهُّلِهِمْ لِسَمَاعِ كَلَامِهِ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ وَلَا إلَيْهِمْ لَوْ تَأَهَّلُوا قَبْلَ ذَلِكَ وَتَعْلِيقُ الْأَحْكَامِ عَلَى الشُّرُوطِ قَدْ يَكُونُ بِحَسَبِ الْمَحِلِّ الْقَابِلِ وَقَدْ يَكُونُ بِحَسَبِ الْفَاعِلِ الْمُتَصَرِّفِ فَهَاهُنَا التَّعْلِيقُ إنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ الْمَحِلِّ الْقَابِلِ وَهُوَ الْمَبْعُوثُ إلَيْهِمْ وَقَبُولُهُمْ سَمَاعَ الْخِطَابِ وَالْجَسَدِ الشَّرِيفِ الَّذِي يُخَاطِبُهُمْ بِلِسَانِهِ وَهَذَا كَمَا يُوَكِّلُ الْأَبُ رَجُلًا فِي تَزْوِيجِ ابْنَتِهِ إذَا وَجَدَتْ كُفُؤًا فَالتَّوْكِيلُ صَحِيحٌ وَذَلِكَ الرَّجُلُ أَهْلٌ لِلْوَكَالَةِ وَوَكَالَتُهُ ثَابِتَةٌ ، وَقَدْ يَحْصُلُ تَوَقُّفُ التَّصَرُّفِ عَلَى وُجُودِ كُفُؤٍ وَلَا يُوجَدُ إلَّا بَعْدَ مُدَّةٍ وَذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الْوَكَالَةِ وَأَهْلِيَّةِ التَّوْكِيلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin