رحلته من الفلسفة إلى التصوف
«اعرف نفسك بنفسك...»([1]).
كثيرًا ما تقال هذه الجملة -اعرف نفسك بنفسك- وكثيرًا ما يخفى القصد، وبين هذا القول وذلك الغموض يعترضُنا سؤالان:
أولهما: ما هو المصدر الأصلي للجملة؟.
وثانيهما: ما مدلولها الحقيقي وما ترمي إليه من أغراض؟.
قد يخيل لبعض القراء -عند أول وهلة- أن السؤالين مفترقان، لا رابطة ولا وصلة تجمعهما، وعند تدقيق النظر والبحث والتمحيص، سيثبت لهؤلاء أن السؤالين مرتبطان ببعضهما كل الارتباط.
إذا سألنا أغلب من درسوا الفلسفة اليونانية عن الإنسان الذي فاه بهذه الحكمة، لما تردد فريق منهم في الإجابة بأن القائل سقراط، في حين يقول فريق ثان أفلاطون، ويقرر فريق ثالث بأنه فيثاغورث.
من هذا التضارب في الرأي، وذلك التباين في القول، نستطيع الحكم بأن الجملة تقرأ في كتاب لأحدهم باعتباره مصدرها.
وقد يبدو حكمنا هذا جائرًا، ولكنه في الحق حكم صحيح، تثبت للقارئ صحته عندما يعلم أن اثنين من أولئك الفلاسفة -هما فيثاغورث وسقراط- لم يخلفا شيئًا مكتوبًا أو منقوشًا، وأما ثالثهم أفلاطون فإن أحدًا -بالغًا ما بلغ من العلم بالفلسفة- لا يستطيع أن يميز على التحديد، ما قاله أفلاطون نفسه، أو ما قاله بلسان أستاذه سقراط، الذي لم نعرف أكثر آرائه إلَّا بواسطة أفلاطون، وقد يكون أفلاطون استقى من مدرسة فيثاغورث بعض التعاليم التي بثها في محاوراته، كما استقى من سقراط نفسه.
من هذا نرى أن من الصعب جدًّا أن تحدد نسبة بعض العبارات إلى أحد الثلاثة؛ فما ينسب لأفلاطون قد ينسب لسقراط في حين قد يكون سابقًا لوقت الاثنين معًا، فيكون صدر من المدرسة الفيثاغورية، إن لم يكن من فيثاغورث نفسه.
والحق هو أن المصدر الحقيقي لهذه الجملة لَأقدم تاريخًا من أولئك الفلاسفة أنفسهم، بل لأكثر قِدمًا من تاريخ الفلسفة نفسها، وأكثر من هذا وذاك، أنها أسمى مجالًا من مجال الفلسفة ذاته.
هذه العبارة وجدت محفورة على باب هيكل «أبولون» في «دلفى» واتخذها سقراط كما اتخذها غيره قاعدة لتعاليمهم -وإن اختلفت التعاليم وتباينت المقاصد- ومن المحتمل جدًّا أن فيثاغورث استعملها قبل سقراط نفسه.
والذي نفهمه من هذا هو أن أولئك الفلاسفة حاولوا أن يظهروا لنا، بل أظهروا لنا بالفعل أن تعاليمهم لم تكن من تلقاء أنفسهم فحسْب، بل كانت من مصدر أسمى ومنزلة أرفع، يتناسبان مع مصدر الوحي ومنزلة الإلهام.
لهذا نراهم مختلفين جِدَّ الاختلاف عن الفلاسفة الحديثين الذين يحاولون جهد طاقاتهم أن يقولوا شيئًا جديدًا يدَّعون أنه من بنات أفكارهم الخاصة، وأنَّ ما يُبدونه من آراء وقْف عليهم، كأن الحقيقة مِلك لشخص معين.
والآن لماذا كان يوَدُّ الفلاسفة القدماء أن يربطوا تعاليمهم بهذه العبارة، أو بعبارات تماثلها؟ ولماذا يمكننا أن نقول: إن هذه العبارة أسمَى منزلة من الفلسفة نفسها؟.
للجواب عن الفِقرة الأخيرة من هذا السؤال، نقول: إنَّه منحصر في المعنى الأصلي المقصود من اشتقاق كلمة الفلسفة نفسها، التي قيل إنَّ أول من استعملها فيثاغورث.
فكلمة «فيلسوفيا» تعني تمامًا «حب الحكمة» والميل للحصول عليها، وقد استعملت لتدل دائمًا على كل تحضير للحصول على الحكمة، وعلى الأخص لمحبها، حيث تساعده على أن يصير «سوفوسَ»؛ أي «حكيمًا»، وبما أن الوسيلة لا تؤخذ على أنها غاية، كذلك «حب الحكمة» ليس هو «الحكمة» بذاتها.
وبما أن الحكمة هي بذاتها المعرفة الحقيقة الباطنة، فإنه يمكن القول بأن المعرفة الفلسفية، إنْ هي إلا المعرفة السطحية الخارجية، فليس لها قيمة في نفسِها، أو مِنْ نفسها، وما هي إلا درجة أولية، في الطريق المؤدية للمعرفة السامية الحقة التي هي الحكمة.
معروف لمن درسوا الفلسفة أن معظم الفلاسفة القدماء كان لهم في مدارسهم نوعان من التعاليم: خارجي، وداخلي.
أما الأول: فهو ما كان مكتوبًا، وأما الثاني: فيصعُب علينا معرفة طبيعته على التحقيق؛ وذلك لقصره على القليلين أولًا، ولصبغته السِّرِّية ثانيًا، وهذه الصبغة وتلك القلة دليلان على وجود غرضٍ أسمى من تعلُّم الفلسفة الذي لا يستطيع تأديتُه على أنَّا نعقد أن لهذا التعليم السري أقوى صلة مباشرة بالحكمة ذاتها، والذي ما كان عماده
-في حالٍ ما- العقلُ أو الاستدلالُ المنطقي كالفلسفة التي نعتمد عليها، وبهما سميت المعرفة العقلية.
ومُسَلَّمٌ من الفلاسفة القدماء بأن المعرفة العقلية -أي الفلسفة- ليست هي المعرفة العليا الحقة، وبعبارة أخرى: ليست هي الحكمة ذاتها.
لكن، هل يمكن أن تُعلَّم الحكمة كما تُعلَّم المعرفة الخارجية بواسطة التلقين أو الكتب؟.
هذا مستحيل كل الاستحالة، وسترى سبب ذلك، والذي يمكننا أن نُقرره هو أن التحضير الفلسفي ما كان ليكفي مطلقًا؛ لأنه لا يختص إلا بقوى محدودة هي نفسها العاقلة، في حينِ يستمد التحضير للحكمة من الكون الكلي للإنسان نفسه.
وإذن فهناك تحضير آخر للحكمة أسمى منزلة من التحضير الفلسفي، لا يلجأ فيه إلى العقل، بل إلى النفس والروح، وهذا ما نستطيع تسميته بالتحضير الباطني، الذي عرف أنه من الصفات التي امتازَ بها تلاميذ الفيثاغورية الممتازون، والذي ظل حتى مدرسة أفلاطون، بل حتى وصل إلى الأفلاطونية الحديثة بمدرسة الإسكندرية، التي ظهر فيها ذلك التحضير بوضوح تام، كما ظَهَرَ جليًّا في نفس الوقت عند أتباع الفيثاغورية الحديثة.
لمثل هذا التحضير الباطني، تُستعمل الكلمات على أنَّها صور رمزية لإحدى الوسائل التي تساعد على تركيز التأمل الباطني، وبهذا التأمل ينقل الإنسان إلى بعض حالات نفسية ورُوحية يمكنه فيها أن يسمو فوق درجة المعرفة العقلية، التي وصل إليها سابقًا، وبما أن هذه فوق مستوى العقل فإنها -منطقيًّا- فوق مستوى الفلسفة؛ إذ يستحيل علينا أن نعطي الفلسفة غير المعنى المعروف عنها، فهي دائمًا لتعيين ما يبحثه العقل فحسب.
ومن الغرابة أنَّ الفلاسفة الحديثين كثيرًا ما يقيدون الفلسفة بهذا القيد كأنها كلمة في نفسها، وغاب عن أذهانهم أن فوق فلسفتهم ما هو أسمى بكثير.
وقد عُرف هذا النوع من التعليم الباطني في الأقطار الشرقية قبل أن يُعرف في اليونان، حيث كان معروفًا عند الأخيرين باسم «ميستيريا» أي [المساتير]([2])، وقد أدخل أولئك الفلاسفة -وخاصة فيثاغورث- تلك الميستيرات في تعاليمهم لأنها كانت بالنسبة إليهم نوعًا جديدًا ومعنى حديثًا للآراء القديمة، فقد كان يوجد أنواع كثيرة من تلك الميستيرات لها مصادر مختلفة، لكن التي ألهمها فيثاغورث وأفلاطون كان لها صلة بطقوس معبد [أبولون].
وقد احتفظت الميستيرات دائمًا بصِبغة سرية؛ ولذلك صار اسمها مرادفًا للسرِّ، فالمعنى الأصلي لتلك الكلمة هو الصمت التام، فكل الأشياء التي تتصل بالغيبيات غير قابلة للتفسير بواسطة الكلمات، وبهذا لم يكن لها من طريق التعليم غير طريقة الصمت، وجاء الفلاسفة الحديثون فلم يعرف أكثرهم تلك الطريقة، فهربوا خلف استعمال الكلمات التي ندعوها من طريق التعليم الخارجي.
ويمكننا أن نؤكد أن هذا التعليم الصامت كانت طريقته الأشكال والرموز ووسائل أخرى، يراد منها تهيئة الإنسان لحالات باطنية يمكنه فيها -بعد خطرات متتابعة- أن يصل أخيرًا إلى المعرفة الحقيقة، وهذا هو الغرض الأساسي العام من «الميستيرات» وما يشابها غرضًا.
أما «الميستيرات» التي تتصل بطقوس [أبولون] أو [بأبولون] نفسه، فإنه ينبغي أن نشرح للقُراء بأنه كان معروفًا في عرفهم بأنه رب الشمس والنور، والمعنى الروحي للنور، وهو مبدأ المشرق الذي منه تنبعث كل المعارف من علوم وفنون.
وقد قيل إن الطقوس الدينية لمعبد «أبولون» جاءت من الأقطار الشمالية، وقد ثبت هذا في الكتب المقدسة «كالفيدا» الهندي، و«الآفتشا» الفارسي، وقد كانت دلفى معروفة بأنها المركز العام، وقد وجد في هيكلها حجر يسمى «أومفالوس» يرمز إليه بأنه مركز العالم.
يظهر أن تاريخ فيثاغورث -بل اسم فيثاغورث نفسه- له صلة وثيقة بالطقوس الدينية لأبولون، فقد كان يسمى «بِيْثُيوس»، وقد قيل إن «بيثو» هو الاسم القديم لدلفى، وإن المرأة التي كانت تتلقى وحي الآلهة في الهيكل كانت تسمى «بيثيا» ومعنى «بيثيا جوراى» هو دليل «بيثيا»، ودليل بيثيا هو نفسه، وقيل أيضًا: إن البيثيا هي التي أعلنت أن سقراط أحكم الرجال، ومن هنا نستطيع أن نفترض أن لسقراط اتصالًا خاصًّا بالمركز الروحي في دلفى كفيثاغورث أيضًا.
أضِف إلى ذلك أن كل العلوم كانت تُنسب إلى أبولون، وبخاصة الهندسة والطب، وقد كان أبولون يمثل نفسه كأنه يمارس هذه العلوم عامة والهندسة منها بوجه خاص، وفي مدرسة فيثاغورث كانت الهندسة وسائر فروع الرياضة هي الجزء العام في التحضير للمعرفة العليا، وعند هذه المعرفة لم يكن لتلك العلوم لتترك جانبًا، بل كانت تُستعمل كرموز للحقيقة الروحية، وقد كانت الهندسة لدى أفلاطون تحضيرًا ضروريًّا لكل فرع من فروع تعاليمه، حتى صَحَّ عند قوله الذي حفره على مدخل مدرسته «لا يدخله إلا عالِم بالهندسة»، ويظهر معنى هذه الكلمات جليًّا إذا قورنت بقول آخر لأفلاطون نفسه: «الإله يصنع الهندسة دائمًا»، وهنا يجب أن نذكر أن المقصود بالإله المهندس هو أبولون.
وإذن فيجب ألَّا ندهش إذا ما رأينا الفلاسفة القدماء استعملوا تلك الجملة المحفورة على مدخل هيكل دلفى، بعد أن عرَفنا صلة الاتصال بينهم وبين طقوس أبولون ورموزه.
من كل ما تقدم يمكننا أن ندرك بسهولة ما الغرض الحقيقي لهذه الجملة، ويمكننا أيضًا أن ندرك أخطاء الفلاسفة الحديثين فيها، وأساس خطئهم هَذَا ناشئ من أنهم أخذوا الجملة باعتبارها صادرة من أحد الفلاسفة الذي كثيرًا ما ينسبون إليه فكرة كفكرتهم، مع أن الحقيقة هي أنَّ الفكرة القديمة كثيرًا ما تختلف عن الفكرة الحديثة كل الاختلاف؛ ولذا يعطي كثير منهم لهذه الجملة معنى سيكولوجيًّا «علم النفس»، مع أن علم النفس هو دراسة الظواهر العقلية فحسب؛ أي دراسة الوصف الخارجي -لا الذاتي- للكائن الحي، ويرى بعض الحديثين -وخصوصًا الذين ينسبونها إلى سقراط- أنها وُضعت لغرض خلقي، هو البحث عن قانون داخلي لاستعماله في الحياة العملية، وكل هذه التفسيرات الظاهرة -ولو أنها أحيانًا لا تكون باطلة- فإنها على الأقل لا تكفي تمامًا، ولا تحقق الصفة المقدسة التي كانت لهذه الجملة في أول الأمر، وهي التي لها معنى أعمق كثيرًا من هذه التفسيرات الظاهرة.
فإنها أولًا تفيد أن التعليم الخارجي لا يمكن أن ينتج معرفة حقيقية، وهي التي يجدها الإنسان في نفسه فقط، ولا يخفى أن أي معرفة لا يمكن الحصول عليها إلا بالإدراك الشخصي، وبدونه لا يكون التعليم ذا نتيجة فعالة، والتعليم الذي لا يوقظ فيمن يتلقاه ما يناسبه لا يمكن أن يعطي أي معرفة بالمرة.
ولذلك قال أفلاطون: إن كل ما يتعلمه الإنسان هو في قرارة نفسه، وإن تجاربه وما يحيط به من الخارج ما هي إلا أسباب تساعده ليصير عالمًا بما في نفسه، وهذا التيقظ الهام يسمى «أنامنيسيس» أي التذكر، فإذا كان هذا صحيحًا لأي معرفة فالأحرى أن يكون أصح بالنسبة للمعرفة الأسمى والأعمق، فإذا شَخَص الحصول على تلك المعرفة، فإن كل الوسائل الخارجية الحسية تصبح -شيئًا فشيئًا- غير كافية، حتى إنها أخيرًا تكون عديمة الفائدة، ومع أنها ربما تساعد على الاقتراب عدة درجات نحو الحكمة؛ فإنه لا يمكن بواسطتها الحصول عليها تمامًا.
ومن الشائع في الهند أن «الجورو» الحقيقي أي «الشيخ» هو في نفس الإنسان، ولا ينبغي البحث عنه في العالم الخارجي، أما المساعدة الخارجية فربما تكون ضرورية في البداءة؛ وذلك لتجهيزه ليصير قادرًا على أن يجد في نفسه بنفسه ما لا يمكنه أن يجده في العالم الخارجي، وخصوصًا ما كان فوق مستوى المعرفة العقلية؛ فإنه يحتاج إلى تحقيق حالات تتعمق دائمًا في باطن الكائن، وتتجه نحو المركز المرموز إليه بأنه القلب، وعنده ينبغي انتقال إحساس الإنسان حتى يصير قادرًا على الحصول على المعرفة الحقيقة، وهذه الحالات التي كانت تتحقق في [الغيبيات] كانت درجات في الانتقال من العقل إلى القلب، وقد كان في هيكل دلفى حجر يسمى «الأومفالوس» يمثل به مركز الكائن الإنساني، وفي نفس الوقت مركز العالم؛ وذلك للصلة التي بين «العالم الأكبر» و«العالم الأصغر» أي الإنسان؛ ولذا نجد أن كل ما في أحدهما يتصل اتصالًا تامَّا بما في الآخر.
قال ابن سينا:
وتحسب أنك جِرمْ صغير
وفيك انطوى العالَم الأكبر
ومما يدعو إلى التسلية حقًّا هذا الاعتقاد الذي سار قديمًا بأن «الأومفالوس» كان قد سقط في السماء، وإنك لتدرك شدة اعتقاد اليونان القدماء في هذا الحجر إذا علمت أنه يقرب من اعتقادنا في الحجر الأسود الذي في الكعبة المقدسة، وهذا التشابه الذي بين العالم الأكبر والعالم الأصغر [الإنسان] هو الذي لا يجعل من أحدهما صورة للآخَر، وهذا الاتصال بين العناصر التي يحتويها كلاهما يُبين لنا أن الإنسان يجب أن يعرف نفسه أولًا لكي يمكنه أن يعرف كل ما حوله؛ لأنه يمكنه أن يجد كل شيء في نفسه؛ ولهذا السبب تجد أن لبعض العلوم -وخاصة تلك التي كانت جزءًا من المعرفة القديمة، والتي أصبحت غير معروفة تقريبًا عند الحديثين- معنيَين:
ففي الشهود العيني تشير هذه العلوم إلى «العالم الأكبر» فتعتبر صحيحة من هذه الوجهة، كما يوجد لهما في نفس الوقت معنى أكثر عمقًا، وهو يشير إلى الإنسان وإلى الطريق الباطني الذي بواسطته يمكنه إدراك المعرفة الحقيقة في نفسه؛ أي إدراك كائنه الخاص، وقد قال أرسطو في ذلك: «الكائن هو كل من يعرف ماهيته»؛ ولذلك حيث توجد المعرفة الحقيقية -لا ظواهرها ولا شبحها- تندمج المعرفة والكون ويصيران شيئًا واحدًا.
والشبح فسَّره أفلاطون بأنه كان معرفة بالحس، حتى المعرفة العقلية، فإنها برغم أنها تتكون من درجة أعلى من مصدرها فإنَّ مصدرها الأول هو الحس، والمعرفة الحقيقية هي فوق مستوى العقل، ولهذا نرى أن تحقيقها أو تحقيق ماهية الكائن نفسه يشابه أو يطابق تكوين العالم كما ذكرنا سابقًا؛ ولذا فإن بعض العلوم تحت ظواهر هذا التكوين قد استعملت «الغيبيات» القديمة على هذا المعنى الثنائي، كما وجد أيضًا في كل أنواع التعاليم التي كانت ترمى إلى نفس الغرض بين الأمم الشرقية، وفي الغرب يظهر أن مثل هذه التعاليم وجدت في زمن القرون الوسطى، ولو أنها فُقدت الآن تمامًا؛ لدرجة أن غالبية الغربيين بيس عندهم أقل فكرة عن طبيعتها أو وجودها أو مكانها.
مما سبق ترى أن المعرفة الحقيقة ليس طريقها العقل، بل طريقها النفس والروح، ويمكن أن نضيف إليهما الكائن الكلي؛ لأنها ما هي إلا الإدراك الكلي لهذا الكائن في كل حالاته، وهذا هو نهاية وكمال المعرفة، والحصول على الحكمة السامية، وحقيقة كل ما يختص بالنفس وما يختص بالرُّوح أيضًا، يظهر فقط الدرجات في هذه الطريق إلى الجوهر الباطني؛ أي النفس الحقيقية.
وهذا يمكن إدراكه فقط عندما يصل الكائن إلى مركزه الخاص، متحدةً كل أجزاء فؤاده ومركزة في نقطة واحدة، عندها تظهر له كل الأشياء تحتويها جميعها تلك النقطة كما كانت في مبدئها الأول، وهذا يمكن أن يعرف كل الأشياء كما هي في نفسه ومن نفسه، كما يَظْهر الوجود الكلي الأوحد في وحدة جوهر الفرد، ومن السهل أن نرى الفرق بين هذا، وبين علم النفس في المعنى الحديث؛ فإن الأول يسمو على الثاني بمعرفة للنفس أصح وأعمق، والثاني ما هو إلا خطوة أولى في الطريق ويجب أن نلاحظ أن المعنى لا ينبغي أن يقصر على النفس؛ لأن كلمة «النفس» مستعملة في اللغة العربية بما يطابقها في اليونانية «بسيخي» لا يظهر معناها إلا في الجملة الأصلية التي تبحثها؛ ففي هذه الحالة لا يمكن أن يسرى لهذه الكلمة المعنى الدارج، بل لا بد أن يكون لها معنى أكثر سموًّا يجعلها مطابقة لكلمة «ذات»، ويجعلها تطابق النفس الحقيقية، ولدينا ما يثبت هذا المعنى في الحديث الشريف الذي يطابق الجملة اليونانية هو: «من عرف نفسه فقد عرف ربه».
فعندما يعرف الإنسان نفسه، ويعرفها حقًّا في جوهره الباطني؛ أي في مركز كائنه، عندئذ يعرف ربه، فإذا عرف ربه عرف كل الأشياء التي منه تصدر وإليه ترجع، يعرف كل الأشياء في الوحدة السامية للمبدأ الإلهي الذي لا شيء خارج عنه على الإطلاق، وهذا معنى ما قاله سيدي محيي الدين ابن عربي من أن لا شيء يخلو من اللامحدود.
المرجع : قضية التصوف ، المدرسة الشاذلية- فضيلة الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود، مصر: دار المعارف، ط 3 ، ص 339 - 348.
([1]) «مجلة المعرفة»: ذو الحجة سنة 1349هـ، مايو سنة 1931م.
([2]) لم نعثر على ترجمة دقيقة تؤدي المقصود من كلمة «ميستريا» وقد راجعنا الأستاذ فريد بك وجدي في هذا فعبر عنها بكلمة «المساتير» وكنا نرى أنها قد تكون الغيبيات أو الرموز أو الخفائية، فلعل أحد حضرات القراء يجد لها معنى أدق.
«اعرف نفسك بنفسك...»([1]).
كثيرًا ما تقال هذه الجملة -اعرف نفسك بنفسك- وكثيرًا ما يخفى القصد، وبين هذا القول وذلك الغموض يعترضُنا سؤالان:
أولهما: ما هو المصدر الأصلي للجملة؟.
وثانيهما: ما مدلولها الحقيقي وما ترمي إليه من أغراض؟.
قد يخيل لبعض القراء -عند أول وهلة- أن السؤالين مفترقان، لا رابطة ولا وصلة تجمعهما، وعند تدقيق النظر والبحث والتمحيص، سيثبت لهؤلاء أن السؤالين مرتبطان ببعضهما كل الارتباط.
إذا سألنا أغلب من درسوا الفلسفة اليونانية عن الإنسان الذي فاه بهذه الحكمة، لما تردد فريق منهم في الإجابة بأن القائل سقراط، في حين يقول فريق ثان أفلاطون، ويقرر فريق ثالث بأنه فيثاغورث.
من هذا التضارب في الرأي، وذلك التباين في القول، نستطيع الحكم بأن الجملة تقرأ في كتاب لأحدهم باعتباره مصدرها.
وقد يبدو حكمنا هذا جائرًا، ولكنه في الحق حكم صحيح، تثبت للقارئ صحته عندما يعلم أن اثنين من أولئك الفلاسفة -هما فيثاغورث وسقراط- لم يخلفا شيئًا مكتوبًا أو منقوشًا، وأما ثالثهم أفلاطون فإن أحدًا -بالغًا ما بلغ من العلم بالفلسفة- لا يستطيع أن يميز على التحديد، ما قاله أفلاطون نفسه، أو ما قاله بلسان أستاذه سقراط، الذي لم نعرف أكثر آرائه إلَّا بواسطة أفلاطون، وقد يكون أفلاطون استقى من مدرسة فيثاغورث بعض التعاليم التي بثها في محاوراته، كما استقى من سقراط نفسه.
من هذا نرى أن من الصعب جدًّا أن تحدد نسبة بعض العبارات إلى أحد الثلاثة؛ فما ينسب لأفلاطون قد ينسب لسقراط في حين قد يكون سابقًا لوقت الاثنين معًا، فيكون صدر من المدرسة الفيثاغورية، إن لم يكن من فيثاغورث نفسه.
والحق هو أن المصدر الحقيقي لهذه الجملة لَأقدم تاريخًا من أولئك الفلاسفة أنفسهم، بل لأكثر قِدمًا من تاريخ الفلسفة نفسها، وأكثر من هذا وذاك، أنها أسمى مجالًا من مجال الفلسفة ذاته.
هذه العبارة وجدت محفورة على باب هيكل «أبولون» في «دلفى» واتخذها سقراط كما اتخذها غيره قاعدة لتعاليمهم -وإن اختلفت التعاليم وتباينت المقاصد- ومن المحتمل جدًّا أن فيثاغورث استعملها قبل سقراط نفسه.
والذي نفهمه من هذا هو أن أولئك الفلاسفة حاولوا أن يظهروا لنا، بل أظهروا لنا بالفعل أن تعاليمهم لم تكن من تلقاء أنفسهم فحسْب، بل كانت من مصدر أسمى ومنزلة أرفع، يتناسبان مع مصدر الوحي ومنزلة الإلهام.
لهذا نراهم مختلفين جِدَّ الاختلاف عن الفلاسفة الحديثين الذين يحاولون جهد طاقاتهم أن يقولوا شيئًا جديدًا يدَّعون أنه من بنات أفكارهم الخاصة، وأنَّ ما يُبدونه من آراء وقْف عليهم، كأن الحقيقة مِلك لشخص معين.
والآن لماذا كان يوَدُّ الفلاسفة القدماء أن يربطوا تعاليمهم بهذه العبارة، أو بعبارات تماثلها؟ ولماذا يمكننا أن نقول: إن هذه العبارة أسمَى منزلة من الفلسفة نفسها؟.
للجواب عن الفِقرة الأخيرة من هذا السؤال، نقول: إنَّه منحصر في المعنى الأصلي المقصود من اشتقاق كلمة الفلسفة نفسها، التي قيل إنَّ أول من استعملها فيثاغورث.
فكلمة «فيلسوفيا» تعني تمامًا «حب الحكمة» والميل للحصول عليها، وقد استعملت لتدل دائمًا على كل تحضير للحصول على الحكمة، وعلى الأخص لمحبها، حيث تساعده على أن يصير «سوفوسَ»؛ أي «حكيمًا»، وبما أن الوسيلة لا تؤخذ على أنها غاية، كذلك «حب الحكمة» ليس هو «الحكمة» بذاتها.
وبما أن الحكمة هي بذاتها المعرفة الحقيقة الباطنة، فإنه يمكن القول بأن المعرفة الفلسفية، إنْ هي إلا المعرفة السطحية الخارجية، فليس لها قيمة في نفسِها، أو مِنْ نفسها، وما هي إلا درجة أولية، في الطريق المؤدية للمعرفة السامية الحقة التي هي الحكمة.
معروف لمن درسوا الفلسفة أن معظم الفلاسفة القدماء كان لهم في مدارسهم نوعان من التعاليم: خارجي، وداخلي.
أما الأول: فهو ما كان مكتوبًا، وأما الثاني: فيصعُب علينا معرفة طبيعته على التحقيق؛ وذلك لقصره على القليلين أولًا، ولصبغته السِّرِّية ثانيًا، وهذه الصبغة وتلك القلة دليلان على وجود غرضٍ أسمى من تعلُّم الفلسفة الذي لا يستطيع تأديتُه على أنَّا نعقد أن لهذا التعليم السري أقوى صلة مباشرة بالحكمة ذاتها، والذي ما كان عماده
-في حالٍ ما- العقلُ أو الاستدلالُ المنطقي كالفلسفة التي نعتمد عليها، وبهما سميت المعرفة العقلية.
ومُسَلَّمٌ من الفلاسفة القدماء بأن المعرفة العقلية -أي الفلسفة- ليست هي المعرفة العليا الحقة، وبعبارة أخرى: ليست هي الحكمة ذاتها.
لكن، هل يمكن أن تُعلَّم الحكمة كما تُعلَّم المعرفة الخارجية بواسطة التلقين أو الكتب؟.
هذا مستحيل كل الاستحالة، وسترى سبب ذلك، والذي يمكننا أن نُقرره هو أن التحضير الفلسفي ما كان ليكفي مطلقًا؛ لأنه لا يختص إلا بقوى محدودة هي نفسها العاقلة، في حينِ يستمد التحضير للحكمة من الكون الكلي للإنسان نفسه.
وإذن فهناك تحضير آخر للحكمة أسمى منزلة من التحضير الفلسفي، لا يلجأ فيه إلى العقل، بل إلى النفس والروح، وهذا ما نستطيع تسميته بالتحضير الباطني، الذي عرف أنه من الصفات التي امتازَ بها تلاميذ الفيثاغورية الممتازون، والذي ظل حتى مدرسة أفلاطون، بل حتى وصل إلى الأفلاطونية الحديثة بمدرسة الإسكندرية، التي ظهر فيها ذلك التحضير بوضوح تام، كما ظَهَرَ جليًّا في نفس الوقت عند أتباع الفيثاغورية الحديثة.
لمثل هذا التحضير الباطني، تُستعمل الكلمات على أنَّها صور رمزية لإحدى الوسائل التي تساعد على تركيز التأمل الباطني، وبهذا التأمل ينقل الإنسان إلى بعض حالات نفسية ورُوحية يمكنه فيها أن يسمو فوق درجة المعرفة العقلية، التي وصل إليها سابقًا، وبما أن هذه فوق مستوى العقل فإنها -منطقيًّا- فوق مستوى الفلسفة؛ إذ يستحيل علينا أن نعطي الفلسفة غير المعنى المعروف عنها، فهي دائمًا لتعيين ما يبحثه العقل فحسب.
ومن الغرابة أنَّ الفلاسفة الحديثين كثيرًا ما يقيدون الفلسفة بهذا القيد كأنها كلمة في نفسها، وغاب عن أذهانهم أن فوق فلسفتهم ما هو أسمى بكثير.
وقد عُرف هذا النوع من التعليم الباطني في الأقطار الشرقية قبل أن يُعرف في اليونان، حيث كان معروفًا عند الأخيرين باسم «ميستيريا» أي [المساتير]([2])، وقد أدخل أولئك الفلاسفة -وخاصة فيثاغورث- تلك الميستيرات في تعاليمهم لأنها كانت بالنسبة إليهم نوعًا جديدًا ومعنى حديثًا للآراء القديمة، فقد كان يوجد أنواع كثيرة من تلك الميستيرات لها مصادر مختلفة، لكن التي ألهمها فيثاغورث وأفلاطون كان لها صلة بطقوس معبد [أبولون].
وقد احتفظت الميستيرات دائمًا بصِبغة سرية؛ ولذلك صار اسمها مرادفًا للسرِّ، فالمعنى الأصلي لتلك الكلمة هو الصمت التام، فكل الأشياء التي تتصل بالغيبيات غير قابلة للتفسير بواسطة الكلمات، وبهذا لم يكن لها من طريق التعليم غير طريقة الصمت، وجاء الفلاسفة الحديثون فلم يعرف أكثرهم تلك الطريقة، فهربوا خلف استعمال الكلمات التي ندعوها من طريق التعليم الخارجي.
ويمكننا أن نؤكد أن هذا التعليم الصامت كانت طريقته الأشكال والرموز ووسائل أخرى، يراد منها تهيئة الإنسان لحالات باطنية يمكنه فيها -بعد خطرات متتابعة- أن يصل أخيرًا إلى المعرفة الحقيقة، وهذا هو الغرض الأساسي العام من «الميستيرات» وما يشابها غرضًا.
أما «الميستيرات» التي تتصل بطقوس [أبولون] أو [بأبولون] نفسه، فإنه ينبغي أن نشرح للقُراء بأنه كان معروفًا في عرفهم بأنه رب الشمس والنور، والمعنى الروحي للنور، وهو مبدأ المشرق الذي منه تنبعث كل المعارف من علوم وفنون.
وقد قيل إن الطقوس الدينية لمعبد «أبولون» جاءت من الأقطار الشمالية، وقد ثبت هذا في الكتب المقدسة «كالفيدا» الهندي، و«الآفتشا» الفارسي، وقد كانت دلفى معروفة بأنها المركز العام، وقد وجد في هيكلها حجر يسمى «أومفالوس» يرمز إليه بأنه مركز العالم.
يظهر أن تاريخ فيثاغورث -بل اسم فيثاغورث نفسه- له صلة وثيقة بالطقوس الدينية لأبولون، فقد كان يسمى «بِيْثُيوس»، وقد قيل إن «بيثو» هو الاسم القديم لدلفى، وإن المرأة التي كانت تتلقى وحي الآلهة في الهيكل كانت تسمى «بيثيا» ومعنى «بيثيا جوراى» هو دليل «بيثيا»، ودليل بيثيا هو نفسه، وقيل أيضًا: إن البيثيا هي التي أعلنت أن سقراط أحكم الرجال، ومن هنا نستطيع أن نفترض أن لسقراط اتصالًا خاصًّا بالمركز الروحي في دلفى كفيثاغورث أيضًا.
أضِف إلى ذلك أن كل العلوم كانت تُنسب إلى أبولون، وبخاصة الهندسة والطب، وقد كان أبولون يمثل نفسه كأنه يمارس هذه العلوم عامة والهندسة منها بوجه خاص، وفي مدرسة فيثاغورث كانت الهندسة وسائر فروع الرياضة هي الجزء العام في التحضير للمعرفة العليا، وعند هذه المعرفة لم يكن لتلك العلوم لتترك جانبًا، بل كانت تُستعمل كرموز للحقيقة الروحية، وقد كانت الهندسة لدى أفلاطون تحضيرًا ضروريًّا لكل فرع من فروع تعاليمه، حتى صَحَّ عند قوله الذي حفره على مدخل مدرسته «لا يدخله إلا عالِم بالهندسة»، ويظهر معنى هذه الكلمات جليًّا إذا قورنت بقول آخر لأفلاطون نفسه: «الإله يصنع الهندسة دائمًا»، وهنا يجب أن نذكر أن المقصود بالإله المهندس هو أبولون.
وإذن فيجب ألَّا ندهش إذا ما رأينا الفلاسفة القدماء استعملوا تلك الجملة المحفورة على مدخل هيكل دلفى، بعد أن عرَفنا صلة الاتصال بينهم وبين طقوس أبولون ورموزه.
من كل ما تقدم يمكننا أن ندرك بسهولة ما الغرض الحقيقي لهذه الجملة، ويمكننا أيضًا أن ندرك أخطاء الفلاسفة الحديثين فيها، وأساس خطئهم هَذَا ناشئ من أنهم أخذوا الجملة باعتبارها صادرة من أحد الفلاسفة الذي كثيرًا ما ينسبون إليه فكرة كفكرتهم، مع أن الحقيقة هي أنَّ الفكرة القديمة كثيرًا ما تختلف عن الفكرة الحديثة كل الاختلاف؛ ولذا يعطي كثير منهم لهذه الجملة معنى سيكولوجيًّا «علم النفس»، مع أن علم النفس هو دراسة الظواهر العقلية فحسب؛ أي دراسة الوصف الخارجي -لا الذاتي- للكائن الحي، ويرى بعض الحديثين -وخصوصًا الذين ينسبونها إلى سقراط- أنها وُضعت لغرض خلقي، هو البحث عن قانون داخلي لاستعماله في الحياة العملية، وكل هذه التفسيرات الظاهرة -ولو أنها أحيانًا لا تكون باطلة- فإنها على الأقل لا تكفي تمامًا، ولا تحقق الصفة المقدسة التي كانت لهذه الجملة في أول الأمر، وهي التي لها معنى أعمق كثيرًا من هذه التفسيرات الظاهرة.
فإنها أولًا تفيد أن التعليم الخارجي لا يمكن أن ينتج معرفة حقيقية، وهي التي يجدها الإنسان في نفسه فقط، ولا يخفى أن أي معرفة لا يمكن الحصول عليها إلا بالإدراك الشخصي، وبدونه لا يكون التعليم ذا نتيجة فعالة، والتعليم الذي لا يوقظ فيمن يتلقاه ما يناسبه لا يمكن أن يعطي أي معرفة بالمرة.
ولذلك قال أفلاطون: إن كل ما يتعلمه الإنسان هو في قرارة نفسه، وإن تجاربه وما يحيط به من الخارج ما هي إلا أسباب تساعده ليصير عالمًا بما في نفسه، وهذا التيقظ الهام يسمى «أنامنيسيس» أي التذكر، فإذا كان هذا صحيحًا لأي معرفة فالأحرى أن يكون أصح بالنسبة للمعرفة الأسمى والأعمق، فإذا شَخَص الحصول على تلك المعرفة، فإن كل الوسائل الخارجية الحسية تصبح -شيئًا فشيئًا- غير كافية، حتى إنها أخيرًا تكون عديمة الفائدة، ومع أنها ربما تساعد على الاقتراب عدة درجات نحو الحكمة؛ فإنه لا يمكن بواسطتها الحصول عليها تمامًا.
ومن الشائع في الهند أن «الجورو» الحقيقي أي «الشيخ» هو في نفس الإنسان، ولا ينبغي البحث عنه في العالم الخارجي، أما المساعدة الخارجية فربما تكون ضرورية في البداءة؛ وذلك لتجهيزه ليصير قادرًا على أن يجد في نفسه بنفسه ما لا يمكنه أن يجده في العالم الخارجي، وخصوصًا ما كان فوق مستوى المعرفة العقلية؛ فإنه يحتاج إلى تحقيق حالات تتعمق دائمًا في باطن الكائن، وتتجه نحو المركز المرموز إليه بأنه القلب، وعنده ينبغي انتقال إحساس الإنسان حتى يصير قادرًا على الحصول على المعرفة الحقيقة، وهذه الحالات التي كانت تتحقق في [الغيبيات] كانت درجات في الانتقال من العقل إلى القلب، وقد كان في هيكل دلفى حجر يسمى «الأومفالوس» يمثل به مركز الكائن الإنساني، وفي نفس الوقت مركز العالم؛ وذلك للصلة التي بين «العالم الأكبر» و«العالم الأصغر» أي الإنسان؛ ولذا نجد أن كل ما في أحدهما يتصل اتصالًا تامَّا بما في الآخر.
قال ابن سينا:
وتحسب أنك جِرمْ صغير
وفيك انطوى العالَم الأكبر
ومما يدعو إلى التسلية حقًّا هذا الاعتقاد الذي سار قديمًا بأن «الأومفالوس» كان قد سقط في السماء، وإنك لتدرك شدة اعتقاد اليونان القدماء في هذا الحجر إذا علمت أنه يقرب من اعتقادنا في الحجر الأسود الذي في الكعبة المقدسة، وهذا التشابه الذي بين العالم الأكبر والعالم الأصغر [الإنسان] هو الذي لا يجعل من أحدهما صورة للآخَر، وهذا الاتصال بين العناصر التي يحتويها كلاهما يُبين لنا أن الإنسان يجب أن يعرف نفسه أولًا لكي يمكنه أن يعرف كل ما حوله؛ لأنه يمكنه أن يجد كل شيء في نفسه؛ ولهذا السبب تجد أن لبعض العلوم -وخاصة تلك التي كانت جزءًا من المعرفة القديمة، والتي أصبحت غير معروفة تقريبًا عند الحديثين- معنيَين:
ففي الشهود العيني تشير هذه العلوم إلى «العالم الأكبر» فتعتبر صحيحة من هذه الوجهة، كما يوجد لهما في نفس الوقت معنى أكثر عمقًا، وهو يشير إلى الإنسان وإلى الطريق الباطني الذي بواسطته يمكنه إدراك المعرفة الحقيقة في نفسه؛ أي إدراك كائنه الخاص، وقد قال أرسطو في ذلك: «الكائن هو كل من يعرف ماهيته»؛ ولذلك حيث توجد المعرفة الحقيقية -لا ظواهرها ولا شبحها- تندمج المعرفة والكون ويصيران شيئًا واحدًا.
والشبح فسَّره أفلاطون بأنه كان معرفة بالحس، حتى المعرفة العقلية، فإنها برغم أنها تتكون من درجة أعلى من مصدرها فإنَّ مصدرها الأول هو الحس، والمعرفة الحقيقية هي فوق مستوى العقل، ولهذا نرى أن تحقيقها أو تحقيق ماهية الكائن نفسه يشابه أو يطابق تكوين العالم كما ذكرنا سابقًا؛ ولذا فإن بعض العلوم تحت ظواهر هذا التكوين قد استعملت «الغيبيات» القديمة على هذا المعنى الثنائي، كما وجد أيضًا في كل أنواع التعاليم التي كانت ترمى إلى نفس الغرض بين الأمم الشرقية، وفي الغرب يظهر أن مثل هذه التعاليم وجدت في زمن القرون الوسطى، ولو أنها فُقدت الآن تمامًا؛ لدرجة أن غالبية الغربيين بيس عندهم أقل فكرة عن طبيعتها أو وجودها أو مكانها.
مما سبق ترى أن المعرفة الحقيقة ليس طريقها العقل، بل طريقها النفس والروح، ويمكن أن نضيف إليهما الكائن الكلي؛ لأنها ما هي إلا الإدراك الكلي لهذا الكائن في كل حالاته، وهذا هو نهاية وكمال المعرفة، والحصول على الحكمة السامية، وحقيقة كل ما يختص بالنفس وما يختص بالرُّوح أيضًا، يظهر فقط الدرجات في هذه الطريق إلى الجوهر الباطني؛ أي النفس الحقيقية.
وهذا يمكن إدراكه فقط عندما يصل الكائن إلى مركزه الخاص، متحدةً كل أجزاء فؤاده ومركزة في نقطة واحدة، عندها تظهر له كل الأشياء تحتويها جميعها تلك النقطة كما كانت في مبدئها الأول، وهذا يمكن أن يعرف كل الأشياء كما هي في نفسه ومن نفسه، كما يَظْهر الوجود الكلي الأوحد في وحدة جوهر الفرد، ومن السهل أن نرى الفرق بين هذا، وبين علم النفس في المعنى الحديث؛ فإن الأول يسمو على الثاني بمعرفة للنفس أصح وأعمق، والثاني ما هو إلا خطوة أولى في الطريق ويجب أن نلاحظ أن المعنى لا ينبغي أن يقصر على النفس؛ لأن كلمة «النفس» مستعملة في اللغة العربية بما يطابقها في اليونانية «بسيخي» لا يظهر معناها إلا في الجملة الأصلية التي تبحثها؛ ففي هذه الحالة لا يمكن أن يسرى لهذه الكلمة المعنى الدارج، بل لا بد أن يكون لها معنى أكثر سموًّا يجعلها مطابقة لكلمة «ذات»، ويجعلها تطابق النفس الحقيقية، ولدينا ما يثبت هذا المعنى في الحديث الشريف الذي يطابق الجملة اليونانية هو: «من عرف نفسه فقد عرف ربه».
فعندما يعرف الإنسان نفسه، ويعرفها حقًّا في جوهره الباطني؛ أي في مركز كائنه، عندئذ يعرف ربه، فإذا عرف ربه عرف كل الأشياء التي منه تصدر وإليه ترجع، يعرف كل الأشياء في الوحدة السامية للمبدأ الإلهي الذي لا شيء خارج عنه على الإطلاق، وهذا معنى ما قاله سيدي محيي الدين ابن عربي من أن لا شيء يخلو من اللامحدود.
المرجع : قضية التصوف ، المدرسة الشاذلية- فضيلة الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود، مصر: دار المعارف، ط 3 ، ص 339 - 348.
([1]) «مجلة المعرفة»: ذو الحجة سنة 1349هـ، مايو سنة 1931م.
([2]) لم نعثر على ترجمة دقيقة تؤدي المقصود من كلمة «ميستريا» وقد راجعنا الأستاذ فريد بك وجدي في هذا فعبر عنها بكلمة «المساتير» وكنا نرى أنها قد تكون الغيبيات أو الرموز أو الخفائية، فلعل أحد حضرات القراء يجد لها معنى أدق.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin