سَترُ العيوبِ وَالتحذِيرُ الشرعيُّ
سلسلة الذهب - الجزء الأول
سلسلة-الذهبالحمدُ للهِ ربّ العالمينَ لهُ النعمةُ ولهُ الفضلُ ولهُ الثناءُ الحسنُ صلواتُ اللهِ البرّ الرَّحيمِ والملائكةِ المقربينَ على سيدِنا مُـحَمَّدٍ أشرفِ المرسلينَ وعلى إخوانِهِ الأنبياءِ والمرسلينَ وسلامُ اللهِ عليهم أجمعين.
أمّا بعد فقد رُوِيَ بالإسنادِ المتّصلِ الصحيحِ في كتابِ المستدْرَكِ للحاكِمِ أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم قال: "من رَأى عَورَةً فَسَتَرَهَا كان كمَنْ أَحيَا موؤودَةً من قَبرِهَا" هذا الحديثُ الصحيحُ يُـخبِرُنَا بأنَّ من رأى عورةً لِـمسلمٍ فستَرها أي لَـمْ يَبُـثَّهَا بينَ الناسِ بل أخفَاهَا فلَهُ أجرٌ شبيهٌ بأَجرِ مَنْ أحيَا موؤودةً، أي أنقَذَ بنتًا مولودَةً دُفنَتْ وهي حيَّةٌ كما كانَ جاهليةُ العربِ يفعلونَ، فأنقذَهَا قبلَ أن تَـموتَ.هذا لهُ أجرٌ عظيمٌ، وهذا الأمرُ كانَ في جاهليةِ العربِ أي قبلَ أن يُبعَثَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم بِـمدّةٍ، كانَ هذا الشىءُ معروفًا عند العربِ.
لكنَّ عمرَ بنَ الخطابِ ما فعلَ هذا، هذا كذبٌ مفترًى عليهِ أَنَّهُ كان قبلَ أن يُسلمَ وَأَدَ بنتًا لهُ، إِنَّـمَا بعضُ الناسِ فعلُوا حتّى بعضُ أصحابِ رسولِ اللهِ كانَ فيهِم رجلٌ معروفٌ بالكَرم والحِلمِ. لكنْ حدثَتْ لهُ حادثةٌ ففعلَ هذا، ثم بعدَ أن أسلمَ عَمِلَ حسناتٍ كثيرةً حتّى تنغمرَ تلكَ المعصيةُ التي فعلَهَا قبلَ أن يُسلِمَ من وَأدِ بناتٍ لهُ.
هذا الرجلُ سببُ إقدامِهِ على دَفنِ بناتٍ لهُ ثمانٍ أنهُ كانَتْ أغارَتْ قبيلةٌ من العربِ على قبيلتِهِ فسَبَتْ لهُ بنتًا. ثم حَصَلَ صُلحٌ بينَ القبيلتينِ فهذهِ البنتُ كانَ واحدٌ من تلكَ القبيلةِ التي أَسرَتْـهَا مالَ إليهَا تعلَّقَ بِـهَا وهي تعلقَتْ بهِ فخُيّرَتْ وقيلَ لَـها ترجعينَ إلى أبيكِ أم تبقَيْنَ هُنَا مع هذا الرّجلِ، قالَتْ: أَنَا أختارُ هذا الرّجلَ، اختارَتْ على أبيهَا هذا الرّجلَ مع أَنَّ أباهَا وجيهٌ في قومِهِ وكريمٌ وسَخيٌّ وحليمٌ ومعروفٌ بالذّكرِ الحسنِ عند الناسِ.
هنا غَضِبَ قالَ: كيف تُفضّـِلُ عليَّ هذا الشخصَ فحَلَفَ أنّهُ إن جاءْتْهُ بناتٌ بعدَ هذا يدفِنُهُنَ وهُنَّ حيّاتٌ فَدَفَنَ بعدَ ذلكَ ثمانِ بناتٍ وهنَّ حيّاتٌ، كُلَّمَا وُلِدَتْ لهُ واحدةٌ يَدفِنُهَا إلى أن كمَلَ عَدَدُ ثَـمَانٍ.
ثم بعدَ أنْ أَسلَمَ ندِمَ على ما فَعَلَ ندامةً شديدةً فقالَ لرسولِ اللهِ: يا رسولَ اللهِ ماذا أفعلُ أنا وَأَدْتُ ثَمَانِ بناتٍ فماذا أفعلُ، قالَ لهُ: (أعتِق رِقابًا) أي أُنَاسًا مَـملوكينَ حَرّرْهُم، قال: أنا صاحبُ إِبِلٍ، معناهُ عندِي إِبلٌ كثيرٌ أمَّا الرّقيقُ ما عندِي رقيقٌ، فتصدّقَ بنحوِ مائةِ إبلٍ حتى يُغطّيَ ما سبقَ لَهُ من وَأدِ بناتِهِ الثَّمانِ، واللهُ تباركَ وتعالى ذَكَرَ في القرءانِ الكريـمِ تَقبيحَ وَأدِ البناتِ قالَ تباركَ وتعالَى: ﴿وَإِذَا الموءودةُ سُئلَتْ بِأَيّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾ [سورة التكوير/ءاية 8-9]، هذا فعلٌ شنيعٌ من أشنَعِ الجرائمِ.
الحاصلُ أنَّ الرَّسولَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم شبّهَ هذا الذي يَرَى عورَةً لِمسلمٍ أي ما يُعابُ عليهِ ويُستَحَى منهُ أن يَطَّلِعَ عليهِ الناسُ إنْ رءاهَا فسَترَهَا بأجرِ هذا الإنسانِ الذي رأى مَوْءودَةً فأنقذَهَا قبلَ أن تموتَ بالتُّرابِ، وفي ذلكَ أجرٌ عظيمٌ، كذلكَ هذا فيهِ أجرٌ عظيمٌ الذي يرَى عورةً على مسلمٍ فيستُرهَا.
ثمّ هناكَ قِصّةٌ تُشبِهُ هذهِ حصلَتْ في خلافَةِ عمرَ حيثُ جاءَ رجلٌ إلى عمرَ بنِ الخطّابِ أميرِ المؤمنينَ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ لهُ: يا أميرَ المؤمنينَ إنّـِي كنتُ وَأَدتُ بنتًا لِـي في الجاهليّةِ ثم أخرجتُهَا قبلَ أن تَـمُوتَ ثمّ أدرَكْنَا الإسلامَ فأسلَمَتْ ونَـحنُ أسلَمنَا ثمّ ارتَكبَتْ حدًّا من حدودِ اللهِ، معناهُ زَنَتْ قبلَ أنْ تَتَزَوَّجَ، فأخذَتْ شفرةً لتذبَحَ نَفسَهَا أي من عُظمِ ما وقَعتْ فيهِ من الفَضيحةِ، أخذَتْ شفرةً لتنتَحِرَ فأدرَكناهَا وقد قَطَعَتْ بعضَ أَودَاجِهَا، فداوينَاهَا.
ثم تابَتْ توبةً حسنةً، ثمَّ خُطِبَت إلينَا من قومٍ فأخبَرْتُ ببعضِ ما جَرَى لَـها، على زعمِهِ لئلا يغُشَّهُم، قال لَـهُم: "بنتِـي هذهِ كانَ سَبَقَ لها كذا وكذا" حتّى يُقْدِموا على إتمامِ خِطبتِهَا أو يَفسَخُوا، أو يتركُوهَا، على زعمِهِ أنَّهُ يَنصَحُ الذي يَـخطُبُهَا لأنَّ بنتَهُ سبقَ لَـهَا كذا مِـمَّا هو عارٌ وعيبٌ.
فقالَ عمرُ: "أنتَ تبُثُّ ما سَتَرَهُ اللهُ تعالى، لَئِنْ أخبرتَ بذلكَ أحدًا لأجعلنَّك نَكَالا يتحدَّثُ به أهلُ الأمصَار"، معناهُ لَئِنْ عُدْتَ بعدَ هذا إلى إفشاءِ هذهِ العورةِ التي سَبَقَتْ لابنتِكَ إنْ تَـحَدَّثْتَ بِـهَا بعدَ هذا لأجعلنَّك نكالا أي عبرةً للناسِ بعقوبةٍ أُنَزّلُهَا بكَ يتحدَّثُ بِـهَا أهلُ الأمصارِ أي أهلُ المدنِ.
هذهِ الحادثةُ يُؤخَذُ منهَا حُكمَانِ شَرعِيّانِ، يُؤخَذُ منها أنَّ الإنسانَ بعدَ أن يتوبَ لا يَـجُوزُ ذِكرُهُ بالعارِ والعيبِ الذي سَبَقَ لَهُ، المسلمُ إذا سَبَقَ لَهُ عارٌ مَهْمَا كانَ ذلكَ العارُ ومَهْمَا كانَتْ تلكَ العورةُ لا يَـجُوزُ أنْ تُفْشَى بعد أن يتوبَ ذلكَ المسلمُ أو المسلمةُ، حتى في مثلِ هذهِ الحالةِ، مثلا بعدَ أن تابَ ذلكَ الشخصُ المسلمُ أرادَ إنسانٌ مصاهرتَهُ لا يَـجُوزُ أن نَكشِفَ ذلكَ العيبَ الذي سَبَقَ.
يؤخذُ من هذهِ القصةِ أنَّ هذهِ البنتَ لو لَـمْ تكن تابَتْ كانَ حقًّا على أبيهَا إذا خُطِبَتْ إليهِ أنْ يَتكلَّمَ فيهَا مع أنَّه أبوها، وإن سكَتَ هو وغيرُهُ ممّن عَلِمَ بالحادثةِ يكونونَ غاشّينَ، الأبُ يكونُ غاشًّا ومَن عَلِمَ بذلكَ مِـمَّنْ سواهُ من أهلِهَا أو غيرِ أهلِهَا يكونُونَ غَاشّينَ، لو لَـمْ تكنِ البنتُ تابَتْ لكانَ غشًّا، فلو كانَتِ البنتُ بَقِيَتْ على حالِـهَا لَـمْ تَتُبْ ثُـمَّ خُطِبَتْ ثم هو أخبرَ بشأنِـهَا بِـمَا جَرَى لَـها، عُمَرُ لا يُوَبِـّخُهُ لولا أنَّـها تَابَتْ ما وَبَّـخَهُ إِنَّـمَا وَبَّـخَهُ لأنّها تَابَتْ.
التــحذيرُ من الشخصِ الغشّاشِ أو الخائنِ الذي لَـمْ يَتُبْ من ذلكَ ليسَ مُحَرَّمًا بل هو واجبٌ.هذا فيمَا يتعلقُ بالأمرِ الذي لا يَتعدَّى إلى الغيرِ، أما الإنسانُ الذي يَغُشُّ الناسَ في تجارتِهِ أو تدريسِهِ لعلمِ الدينِ أو لعلمِ الدنيَا أو غيرِ ذلكَ من سائرِ فنونِ المعاملاتِ. الذي يَغُشُّ في ذلكَ وَاجِبٌ كَشفُهُ ولا يَـجُوزُ سترُهُ، كالذي يبيعُ البضائِعَ التي فيهَا عيبٌ من غيرِ أنْ يُبَيّـِنَ عيبَهَا، هذا فرضٌ على من عَلِمَ بِـحالِ هذا التاجرِ أنْ يُـحَذّرَ الناسَ منهُ.
كذلكَ إذا وَجَدَ إنسانًا يَعْمَلُ عندَ شخصٍ وهو خائنٌ، الشخصُ الذي يَعْرِفُ منهُ الخيانةَ يَـجِبُ عليهِ أن يُـحَذّرَ صَاحِبَ العَمَلِ، يقولُ لهُ فلانٌ كذا، هذا فرضٌ، هذا لا يُطْلَبُ سترُهُ، هذا كَشفُهُ مطلوبٌ لأنَّ النصيحةَ تَقتَضِي كشفَهُ. كذلكَ إذا إنسانٌ أرادَ أنْ يصادِقَ إنسانًا فالمسلمُ الذي يَعلَمُ من هذا الإنسانِ الذي يريدُ أن يُصادقَهُ ضررًا وغَشًّا وخيانةً يَـجِبُ عليهِ أن يكشِفَهُ ويُـحَذّرَ منهُ، يقولُ لهُ : لا تُصادِقْ فلانًا فإنَّهُ لا يَصلُحُ للمصادقةِ وإن كانَ لا يكتفِي بهذا القدرِ إلا أنْ يَكشِفَ لَهُ ما هو السّببُ الذي يَـجعَلُهُ غيرَ صالِحٍ للمصادقةِ يُبَيّـِنُ له يقولُ لَهُ: فَعَلَ كذا فَعَلَ كذا حتى يهجُرَهُ، ثُـمَّ بعدَ ذلكَ إنْ ظلَّ على مُصادقتِهِ فوَبَالُهُ عليهُ، أمَّا ذلكَ الشخصُ بَرَّأَ نفسَهُ، وهذا الكلامُ في أمرِ المسلمينَ أمَّا الكافِرُ فلا غيبةَ لهُ.
الرسولُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم قال لشخصٍ خَطَبَ فأسَاءَ الخُطبةَ قال له: "بِئسَ الخطيبُ أنتَ" رواهُ أحمدُ في مسندِهِ؛ وذلكَ لأنَّهُ قالَ كلماتٍ خالفَ فيهَا الشرعَ، هو ما سَبَّ الرسولَ ولا انتَقَصَهُ بل على زعمِهِ كان يُعَظّـِمُ الرسولَ تعظيمًا بالغًا، لكنَّ الرّسولَ بعثَهُ اللهُ تعالى لبيانِ الحقّ والباطلِ، ما سَكَتَ لَهُ، قالَ لَهُ: "بِئسَ الخطيبُ أنتَ".
والقولُ الذي قالَهُ ذلكَ الرجلُ فأغضَبَ الرّسولَ، قالَ :" مَنْ يُطِع اللهَ ورَسُولَهُ فقد رَشِدَ ومَنْ يَعصِهِمَا فقد غَوَى" الرسولُ انتَقَدَهُ لقولِهِ: "ومَنْ يَعصِهِمَا"، ما قالَ: "ومَنْ يعصي اللهَ ورسولَهُ" بل قالَ: "ومَنْ يَعصِهِمَا" جَـمَعَ في لفظٍ واحدٍ على هذا الوجهِ، وإنْ كانَ مرادُ الشخصِ تعظيمَ الرسولِ لكنَّهُ فَعَلَ فعلا لا يُوَافِقُ شَرعَ اللهِ تعالى لأنَّهُ قالَ: "ومَن يَعصِهِمَا فقد غَوَى".
فلذلكَ يَـجِبُ التحذيرُ من هؤلاءِ الذينَ يُـحَرّفُونَ دينَ اللهِ عَمَلا بقولِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: "الدّينُ النصيحةُ". وءاخرُ دعوانَا أنِ الـحمدُ للهِ ربّ العالمينَ
سلسلة الذهب - الجزء الأول
سلسلة-الذهبالحمدُ للهِ ربّ العالمينَ لهُ النعمةُ ولهُ الفضلُ ولهُ الثناءُ الحسنُ صلواتُ اللهِ البرّ الرَّحيمِ والملائكةِ المقربينَ على سيدِنا مُـحَمَّدٍ أشرفِ المرسلينَ وعلى إخوانِهِ الأنبياءِ والمرسلينَ وسلامُ اللهِ عليهم أجمعين.
أمّا بعد فقد رُوِيَ بالإسنادِ المتّصلِ الصحيحِ في كتابِ المستدْرَكِ للحاكِمِ أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم قال: "من رَأى عَورَةً فَسَتَرَهَا كان كمَنْ أَحيَا موؤودَةً من قَبرِهَا" هذا الحديثُ الصحيحُ يُـخبِرُنَا بأنَّ من رأى عورةً لِـمسلمٍ فستَرها أي لَـمْ يَبُـثَّهَا بينَ الناسِ بل أخفَاهَا فلَهُ أجرٌ شبيهٌ بأَجرِ مَنْ أحيَا موؤودةً، أي أنقَذَ بنتًا مولودَةً دُفنَتْ وهي حيَّةٌ كما كانَ جاهليةُ العربِ يفعلونَ، فأنقذَهَا قبلَ أن تَـموتَ.هذا لهُ أجرٌ عظيمٌ، وهذا الأمرُ كانَ في جاهليةِ العربِ أي قبلَ أن يُبعَثَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم بِـمدّةٍ، كانَ هذا الشىءُ معروفًا عند العربِ.
لكنَّ عمرَ بنَ الخطابِ ما فعلَ هذا، هذا كذبٌ مفترًى عليهِ أَنَّهُ كان قبلَ أن يُسلمَ وَأَدَ بنتًا لهُ، إِنَّـمَا بعضُ الناسِ فعلُوا حتّى بعضُ أصحابِ رسولِ اللهِ كانَ فيهِم رجلٌ معروفٌ بالكَرم والحِلمِ. لكنْ حدثَتْ لهُ حادثةٌ ففعلَ هذا، ثم بعدَ أن أسلمَ عَمِلَ حسناتٍ كثيرةً حتّى تنغمرَ تلكَ المعصيةُ التي فعلَهَا قبلَ أن يُسلِمَ من وَأدِ بناتٍ لهُ.
هذا الرجلُ سببُ إقدامِهِ على دَفنِ بناتٍ لهُ ثمانٍ أنهُ كانَتْ أغارَتْ قبيلةٌ من العربِ على قبيلتِهِ فسَبَتْ لهُ بنتًا. ثم حَصَلَ صُلحٌ بينَ القبيلتينِ فهذهِ البنتُ كانَ واحدٌ من تلكَ القبيلةِ التي أَسرَتْـهَا مالَ إليهَا تعلَّقَ بِـهَا وهي تعلقَتْ بهِ فخُيّرَتْ وقيلَ لَـها ترجعينَ إلى أبيكِ أم تبقَيْنَ هُنَا مع هذا الرّجلِ، قالَتْ: أَنَا أختارُ هذا الرّجلَ، اختارَتْ على أبيهَا هذا الرّجلَ مع أَنَّ أباهَا وجيهٌ في قومِهِ وكريمٌ وسَخيٌّ وحليمٌ ومعروفٌ بالذّكرِ الحسنِ عند الناسِ.
هنا غَضِبَ قالَ: كيف تُفضّـِلُ عليَّ هذا الشخصَ فحَلَفَ أنّهُ إن جاءْتْهُ بناتٌ بعدَ هذا يدفِنُهُنَ وهُنَّ حيّاتٌ فَدَفَنَ بعدَ ذلكَ ثمانِ بناتٍ وهنَّ حيّاتٌ، كُلَّمَا وُلِدَتْ لهُ واحدةٌ يَدفِنُهَا إلى أن كمَلَ عَدَدُ ثَـمَانٍ.
ثم بعدَ أنْ أَسلَمَ ندِمَ على ما فَعَلَ ندامةً شديدةً فقالَ لرسولِ اللهِ: يا رسولَ اللهِ ماذا أفعلُ أنا وَأَدْتُ ثَمَانِ بناتٍ فماذا أفعلُ، قالَ لهُ: (أعتِق رِقابًا) أي أُنَاسًا مَـملوكينَ حَرّرْهُم، قال: أنا صاحبُ إِبِلٍ، معناهُ عندِي إِبلٌ كثيرٌ أمَّا الرّقيقُ ما عندِي رقيقٌ، فتصدّقَ بنحوِ مائةِ إبلٍ حتى يُغطّيَ ما سبقَ لَهُ من وَأدِ بناتِهِ الثَّمانِ، واللهُ تباركَ وتعالى ذَكَرَ في القرءانِ الكريـمِ تَقبيحَ وَأدِ البناتِ قالَ تباركَ وتعالَى: ﴿وَإِذَا الموءودةُ سُئلَتْ بِأَيّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾ [سورة التكوير/ءاية 8-9]، هذا فعلٌ شنيعٌ من أشنَعِ الجرائمِ.
الحاصلُ أنَّ الرَّسولَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم شبّهَ هذا الذي يَرَى عورَةً لِمسلمٍ أي ما يُعابُ عليهِ ويُستَحَى منهُ أن يَطَّلِعَ عليهِ الناسُ إنْ رءاهَا فسَترَهَا بأجرِ هذا الإنسانِ الذي رأى مَوْءودَةً فأنقذَهَا قبلَ أن تموتَ بالتُّرابِ، وفي ذلكَ أجرٌ عظيمٌ، كذلكَ هذا فيهِ أجرٌ عظيمٌ الذي يرَى عورةً على مسلمٍ فيستُرهَا.
ثمّ هناكَ قِصّةٌ تُشبِهُ هذهِ حصلَتْ في خلافَةِ عمرَ حيثُ جاءَ رجلٌ إلى عمرَ بنِ الخطّابِ أميرِ المؤمنينَ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ لهُ: يا أميرَ المؤمنينَ إنّـِي كنتُ وَأَدتُ بنتًا لِـي في الجاهليّةِ ثم أخرجتُهَا قبلَ أن تَـمُوتَ ثمّ أدرَكْنَا الإسلامَ فأسلَمَتْ ونَـحنُ أسلَمنَا ثمّ ارتَكبَتْ حدًّا من حدودِ اللهِ، معناهُ زَنَتْ قبلَ أنْ تَتَزَوَّجَ، فأخذَتْ شفرةً لتذبَحَ نَفسَهَا أي من عُظمِ ما وقَعتْ فيهِ من الفَضيحةِ، أخذَتْ شفرةً لتنتَحِرَ فأدرَكناهَا وقد قَطَعَتْ بعضَ أَودَاجِهَا، فداوينَاهَا.
ثم تابَتْ توبةً حسنةً، ثمَّ خُطِبَت إلينَا من قومٍ فأخبَرْتُ ببعضِ ما جَرَى لَـها، على زعمِهِ لئلا يغُشَّهُم، قال لَـهُم: "بنتِـي هذهِ كانَ سَبَقَ لها كذا وكذا" حتّى يُقْدِموا على إتمامِ خِطبتِهَا أو يَفسَخُوا، أو يتركُوهَا، على زعمِهِ أنَّهُ يَنصَحُ الذي يَـخطُبُهَا لأنَّ بنتَهُ سبقَ لَـهَا كذا مِـمَّا هو عارٌ وعيبٌ.
فقالَ عمرُ: "أنتَ تبُثُّ ما سَتَرَهُ اللهُ تعالى، لَئِنْ أخبرتَ بذلكَ أحدًا لأجعلنَّك نَكَالا يتحدَّثُ به أهلُ الأمصَار"، معناهُ لَئِنْ عُدْتَ بعدَ هذا إلى إفشاءِ هذهِ العورةِ التي سَبَقَتْ لابنتِكَ إنْ تَـحَدَّثْتَ بِـهَا بعدَ هذا لأجعلنَّك نكالا أي عبرةً للناسِ بعقوبةٍ أُنَزّلُهَا بكَ يتحدَّثُ بِـهَا أهلُ الأمصارِ أي أهلُ المدنِ.
هذهِ الحادثةُ يُؤخَذُ منهَا حُكمَانِ شَرعِيّانِ، يُؤخَذُ منها أنَّ الإنسانَ بعدَ أن يتوبَ لا يَـجُوزُ ذِكرُهُ بالعارِ والعيبِ الذي سَبَقَ لَهُ، المسلمُ إذا سَبَقَ لَهُ عارٌ مَهْمَا كانَ ذلكَ العارُ ومَهْمَا كانَتْ تلكَ العورةُ لا يَـجُوزُ أنْ تُفْشَى بعد أن يتوبَ ذلكَ المسلمُ أو المسلمةُ، حتى في مثلِ هذهِ الحالةِ، مثلا بعدَ أن تابَ ذلكَ الشخصُ المسلمُ أرادَ إنسانٌ مصاهرتَهُ لا يَـجُوزُ أن نَكشِفَ ذلكَ العيبَ الذي سَبَقَ.
يؤخذُ من هذهِ القصةِ أنَّ هذهِ البنتَ لو لَـمْ تكن تابَتْ كانَ حقًّا على أبيهَا إذا خُطِبَتْ إليهِ أنْ يَتكلَّمَ فيهَا مع أنَّه أبوها، وإن سكَتَ هو وغيرُهُ ممّن عَلِمَ بالحادثةِ يكونونَ غاشّينَ، الأبُ يكونُ غاشًّا ومَن عَلِمَ بذلكَ مِـمَّنْ سواهُ من أهلِهَا أو غيرِ أهلِهَا يكونُونَ غَاشّينَ، لو لَـمْ تكنِ البنتُ تابَتْ لكانَ غشًّا، فلو كانَتِ البنتُ بَقِيَتْ على حالِـهَا لَـمْ تَتُبْ ثُـمَّ خُطِبَتْ ثم هو أخبرَ بشأنِـهَا بِـمَا جَرَى لَـها، عُمَرُ لا يُوَبِـّخُهُ لولا أنَّـها تَابَتْ ما وَبَّـخَهُ إِنَّـمَا وَبَّـخَهُ لأنّها تَابَتْ.
التــحذيرُ من الشخصِ الغشّاشِ أو الخائنِ الذي لَـمْ يَتُبْ من ذلكَ ليسَ مُحَرَّمًا بل هو واجبٌ.هذا فيمَا يتعلقُ بالأمرِ الذي لا يَتعدَّى إلى الغيرِ، أما الإنسانُ الذي يَغُشُّ الناسَ في تجارتِهِ أو تدريسِهِ لعلمِ الدينِ أو لعلمِ الدنيَا أو غيرِ ذلكَ من سائرِ فنونِ المعاملاتِ. الذي يَغُشُّ في ذلكَ وَاجِبٌ كَشفُهُ ولا يَـجُوزُ سترُهُ، كالذي يبيعُ البضائِعَ التي فيهَا عيبٌ من غيرِ أنْ يُبَيّـِنَ عيبَهَا، هذا فرضٌ على من عَلِمَ بِـحالِ هذا التاجرِ أنْ يُـحَذّرَ الناسَ منهُ.
كذلكَ إذا وَجَدَ إنسانًا يَعْمَلُ عندَ شخصٍ وهو خائنٌ، الشخصُ الذي يَعْرِفُ منهُ الخيانةَ يَـجِبُ عليهِ أن يُـحَذّرَ صَاحِبَ العَمَلِ، يقولُ لهُ فلانٌ كذا، هذا فرضٌ، هذا لا يُطْلَبُ سترُهُ، هذا كَشفُهُ مطلوبٌ لأنَّ النصيحةَ تَقتَضِي كشفَهُ. كذلكَ إذا إنسانٌ أرادَ أنْ يصادِقَ إنسانًا فالمسلمُ الذي يَعلَمُ من هذا الإنسانِ الذي يريدُ أن يُصادقَهُ ضررًا وغَشًّا وخيانةً يَـجِبُ عليهِ أن يكشِفَهُ ويُـحَذّرَ منهُ، يقولُ لهُ : لا تُصادِقْ فلانًا فإنَّهُ لا يَصلُحُ للمصادقةِ وإن كانَ لا يكتفِي بهذا القدرِ إلا أنْ يَكشِفَ لَهُ ما هو السّببُ الذي يَـجعَلُهُ غيرَ صالِحٍ للمصادقةِ يُبَيّـِنُ له يقولُ لَهُ: فَعَلَ كذا فَعَلَ كذا حتى يهجُرَهُ، ثُـمَّ بعدَ ذلكَ إنْ ظلَّ على مُصادقتِهِ فوَبَالُهُ عليهُ، أمَّا ذلكَ الشخصُ بَرَّأَ نفسَهُ، وهذا الكلامُ في أمرِ المسلمينَ أمَّا الكافِرُ فلا غيبةَ لهُ.
الرسولُ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم قال لشخصٍ خَطَبَ فأسَاءَ الخُطبةَ قال له: "بِئسَ الخطيبُ أنتَ" رواهُ أحمدُ في مسندِهِ؛ وذلكَ لأنَّهُ قالَ كلماتٍ خالفَ فيهَا الشرعَ، هو ما سَبَّ الرسولَ ولا انتَقَصَهُ بل على زعمِهِ كان يُعَظّـِمُ الرسولَ تعظيمًا بالغًا، لكنَّ الرّسولَ بعثَهُ اللهُ تعالى لبيانِ الحقّ والباطلِ، ما سَكَتَ لَهُ، قالَ لَهُ: "بِئسَ الخطيبُ أنتَ".
والقولُ الذي قالَهُ ذلكَ الرجلُ فأغضَبَ الرّسولَ، قالَ :" مَنْ يُطِع اللهَ ورَسُولَهُ فقد رَشِدَ ومَنْ يَعصِهِمَا فقد غَوَى" الرسولُ انتَقَدَهُ لقولِهِ: "ومَنْ يَعصِهِمَا"، ما قالَ: "ومَنْ يعصي اللهَ ورسولَهُ" بل قالَ: "ومَنْ يَعصِهِمَا" جَـمَعَ في لفظٍ واحدٍ على هذا الوجهِ، وإنْ كانَ مرادُ الشخصِ تعظيمَ الرسولِ لكنَّهُ فَعَلَ فعلا لا يُوَافِقُ شَرعَ اللهِ تعالى لأنَّهُ قالَ: "ومَن يَعصِهِمَا فقد غَوَى".
فلذلكَ يَـجِبُ التحذيرُ من هؤلاءِ الذينَ يُـحَرّفُونَ دينَ اللهِ عَمَلا بقولِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: "الدّينُ النصيحةُ". وءاخرُ دعوانَا أنِ الـحمدُ للهِ ربّ العالمينَ
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin