الزهــــــــــد
سلسلة الذهب - الجزء الأول
سلسلة-الذهبالحمدُ للهِ ربّ العالمينَ، وأفضَلُ الصّلاةِ وأتمُّ التسليمِ على سَيّدِ الخلقِ أَجمعينَ سيدِنَا محمّدٍ وعلى ءالهِ وصحبِهِ الطيبينَ الطاهرينَ ومَنِ اهتدَى بهداهُم إلى يومِ الدّينِ.
وبعدُ يقولُ اللهُ تبارَك وَتَعَالى في القرءانِ الكريمِ: ﴿مَثَلُ الذينَ يُنْفقُونَ أموالَهُم في سبيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ في كُلّ سُنْبُلَةٍ مائةُ حَبَّةٍ واللهُ يُضاعِفُ لمن يَشَاءُ واللهُ واسعٌ عليمٌ﴾ [البقرة/261].
إنَّ التّقوَى والورعَ والترفعَ عن أكلِ الحرامِ من شِيَمِ عبادِ اللهِ الصّالِـحينَ فاتّقُوا اللهَ حيثُمَا كنتُم واتقُوا اللهَ في أنفسِكُم وأولادِكُم واتّقُوا اللهَ في مكسبِكُم ومأكلِكُم ومشربِكُم فإنَّ هذهِ الدنيَا لا تُغنِـي عن الآخرةِ شيئًا. واللهُ تبارك وتعالى الفعَّالُ لِمَا يريدُ جعلَ العبادَ على قسمينِ: جعلَ قِسمًا غَنيًّا مُوسِرًا وقِسمًا فَقِيرًا واللهُ تعالى لا يُسأَلُ عَمَّا يَفعَلُ وهُم يُسأَلُونَ، هُوَ الإلهُ الواحدُ فهو الحاكِمُ المطلَقُ وهو الآمِرُ المطلَقُ وهو النَّاهِي المـُطلَقُ وهو الفَعَّالُ لِمَا يريدُ. خَلَقَ العبادَ على ما أَرادَ، منهُم الشقيُّ ومنهُم السَّعيدُ، منهُم القويُّ ومنهُم الضَّعيفُ، منهُم الثَّريُّ ومنهُم الفقيرُ، تعالى اللهُ عن أنْ يكونَ ظالِمًا فهوَ الفَعَالُ لِمَا يريدُ.
وأمَّا الذينَ ءاتاهمُ اللهُ تعالى زينةَ الدّنيَا وزُخرُفَهَا وكانُوا مؤمنينَ واستعمَلُوهَا في طاعةِ ربّـهِم فطوبَـى لَـهُم وحُسنُ مئابٍ. وأمَّا الذينَ أُوْتُوا نصيبًا من الدّنيَا واستعملُوهَا في الشهواتِ المحرّماتِ ولَـمْ يستعملُوهَا في الطّاعاتِ فهؤلاءِ انقلبَتْ عليهِم هذهِ النّعمُ نقمةً فِي الآخِرةِ؛ فإنَّ المرءَ يُقالُ لهُ يومَ القيامةِ: ألَـمْ نُصِحَّ جِسمَكَ ونَسْقِكَ من الماءِ الباردِ؟ حتَّى الماءُ الباردُ هذهِ النعمةُ العظيمةُ التي أنعَمَ اللهُ بِـهَا علينَا يُسأَلُ المرءُ عنهَا يومَ لا يَنفَعُ مالٌ ولا بنونَ إلا مَنْ أَتَى اللهَ بقَلْبٍ سَلِيمٍ.
ففِرعَوْنُ الذي ءَاتَاهُ اللهُ مُلْكَ مِصرَ وقالَ: "هذهِ الأَنهارُ تَجرِي من تَـحتِـي"، ربُّ العالمينَ أخبرَنَا حكايةً عن موسَى بنِ عمرانَ أنَّهُ قالَ: ﴿وقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ﴾ [يونس/88].
فاللهُ يَعلَمُ أنَّ فرعونَ سيَطْغَى وسيَزْدَادُ تَكَبُّرًا وتَـجبُّرًا وظُلْمًا للعبادِ وأنَّ المالَ والجاهَ والسّلطةَ التي ءاتاهُ اللهُ إيّاهَا لَنْ يستعملَهَا في الطاعةِ أبدًا ومع ذلكَ فقدْ ءاتاهُ اللهُ هذا السُّلطانَ وهذا المالَ، لِـمَ؟ لأنَّ اللهَ فعالٌ لِمَا يريدُ.
تُرى وهل من شرطِ الزُّهدِ أنْ يكونَ المرءُ فقيرًا؟ تُرَى وهَلْ من شَرطِ الزهدِ والورعِ والتمسُّكِ بالعباداتِ أنْ يكونَ المرءُ فقيرًا؟ ليسَ شرطًا ليَكُونَ المرءُ زاهدًا عابدًا ناسِكًا أنْ يكونَ فقيرًا ليسَ لَهُ مالٌ فَقَدْ قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: "نِعْمَ المالُ الصَالِحُ للرَّجُلِ الصَّالحِ".
إذنْ ربُّ العبادِ جَعَلَ العبادَ على قسمينِ جَعَلَ قِسمًا منهُم مؤمنينَ وقسمًا منهُم كافرِينَ، جَعَلَ العِبَادَ على قسمينِ: قِسمًا ثريًّا غَنِيًّا وقِسمًا فَقِيرًا، فاللهُ تبارَكَ وتعالَى جَعَلَ الدّنيَا يشتركُ في التّنعمِ فيهَا المؤمنونَ والكَافِرُونَ، وأمَّا نعيمُ الآخرةِ فهو خاصٌّ بالمؤمنينِ وهذا معنَى حديثِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: "الدُّنيا سِجْنُ المؤمِنِ وجنّةُ الكافرِ".
واليومَ لا يَـخْفَى ما يعانِيهِ المسلمُونَ مِنْ شدّةِ البلاءِ وتوالِي النَّكباتِ والمصائبِ عليهِم، تُرَى كيفَ كانَتْ مواقِفُ الصّحابةِ أغنياءِ النُّفوسِ الذينَ أَعزَّهُمُ اللهُ تعالى بالإسلامِ وكيفَ بَذَلُوا المالَ وجاهدُوا بالنَّفسِ مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ.
وما أحوَجَنَا اليومَ لِموقفٍ كموقفِ أبي بكرٍ الصّديقِ رَضِيَ اللهُ عنهُ الذي تَبَرَّعَ بأكثرِ مالِهِ ليُجَهّزَ جيشَ المسلمينِ ولَـمْ يُبْقِ لنفسِهِ ولأَهلِهِ إلا النَّزْرَ القليلَ. هذا هُو أبُو بكرٍ الصديقُ رَضِيَ اللهُ عنهُ رأسُ هذهِ الأمةِ المحمّديةِ بعدَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ كانَ غَنيًا ثريًّا وَسَّعَ اللهُ عليهِ بالمالِ ومعَ ذَلكَ كانَ زاهدًا عابدًا ناسِكًا رقيقَ النّفسِ.
وكذلكَ عثمانُ بنُ عفانَ رَضِيَ اللهُ عنهُ الذي جَهَّزَ جَيشَ العُسْرةِ بعَشَرَةِ ءالافِ دينارٍ من الذهبِ، وقَدَّمَ كُلَّ قافلتِهِ التِي كانَتْ قادِمةً من بَلاَدِ الشّامِ بأقتابِـهَا وأحلاسِهَا وحُـمُولتِهَا. قَدَّمَهَا بينَ يَدَي رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ حتَّى استَهَلَّ وجهُهُ فَرِحًا لِما فعلَ عثمانُ ابنُ عفانَ الذي دَعَمَ موقفَ الإسلامِ والمسلمينَ بأنْ جَهَّزَ جيشَ العُسْرةِ وقَدَّمَ قافلتَهُ التجاريةَ القادمةَ مِنْ بلادِ الشامِ عَامَ القَحْطِ للمُسلمينَ، أوَلم يكنْ عثمانُ زاهدًا؟ مع كونِهِ ثريًّا بالمالِ كَانَ عابدًا زاهدًا ناسكًا.
إذنْ فالزهدُ والورعُ ليسَا متوقِفَينَ على الفقرِ والقلّةِ، وليسَ كلُّ فقيرٍ قَلِيلُ المالِ وَرِعًا، وإنَّـمَا الورعُ والتقوَى يكونَانِ بالتزامِ الطاعاتِ واجتنابِ المحرّماتِ ومنهَا اجتنابُ أَكلِ مالِ الحرامِ. فكَمَا أنَّ الغنِـيَّ مُطالَبٌ بالبذلِ والعطاءِ والسَّخاءِ إضافةً إلى الواجباتِ كذلكَ الفقيرُ مطالَبٌ بالزهدِ، مطالَبٌ بالقناعةِ، مطالَبٌ بأنْ يَقنَعَ بالمالِ الحلالِ مَهْمَا كانَ قِليلًا لا أنْ يَتَوَرَّطَ في أكلِ مالِ الحرامِ لِيَتَوَسَّعَ وأهلَه ولِيَتَلَذَّذَ مع أهلِهِ بهذا المالِ الحرامِ ويظنَّ أنْ ليسَ عليه منْ يراقبُهُ.
الزّهدُ ليسَ متوقّفًا على الفقرِ والبذلُ والعطاءُ ليس مَقصُورًا على الأغنياءِ. فليسَ كُلُّ الصّحابةِ كانُوا أغنياءَ بالمالِ، وإنَّـمَا كلُّهُم كانُوا أغنياءَ بالنّفوسِ. فكَمَا بذلَ أبُو بكرٍ الصّديقُ رَضِيَ اللهُ عنهُ ومِنْ بعدِهِ عثمانُ كذلكَ فَعَلَ عبدُ الرحمنِ بنُ عوفٍ وغيرُهُ من أغنياءِ الصحابةِ رضوانُ اللهِ عليهِم. وأمَّا أولئكَ الذينَ لَـمْ يَكُنْ لَدَيهِم مالٌ تُرَى ماذَا قَدَّمُوا في سبيلِ اللهِ؟ أَلـَمْ يَكُنْ خالدُ بنُ الوليدِ مثالا يُـحتَذَى لطالبِ الاستشهادِ في سبيلِ اللهِ ولا يَـخفَى كَمْ هِيَ النّفسُ غاليةٌ أغلَى من المالِ فمَنْ لم يكُنْ منهُم ذا مالٍ ضَحَّى بنفسِهِ ومَنْ كانَ منهُم ذَا مالٍ بَذَلَ وسَخَا بِـمالِهِ وبنفسِهِ.
هؤلاءِ الصّحابةُ رضوانُ اللهِ عليهِم غنِيُّهُم وفقيرُهُم بالمالِ كانُوا مثالا للزهدِ والورعِ وما أحوجَنَا اليومَ ونحنُ في عُسرةٍ أنْ تتحرَّكَ صناديقُ الأثرياءِ لإسعافِ المنكوبينَ وأهلِ الضّروراتِ وفي نفسِ الوقتِ أنْ يلتزمَ الفقراءُ بابَ القناعةِ والتّقوَى والورعِ والزهْدِ بأنْ يقَنَعُوا بالْمالِ الحلالِ مَهْمَا كانَ قليلا. اللهُ تبارك وتعالى فعَّالٌ لِمَا يريدُ.
اقتدُوا بأبِي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليّ، اقتدُوا بعبدِ الرحمنِ بنِ عوفٍ وخالدِ بنِ الوليدِ، أولئكَ الذينَ ضَحَّوا بأنفسِهِم من أجلِ تحقيقِ مقاصدِ الإسلامِ ومَنْ كانَ منكُم ذا مالٍ فلينفقْ من مالِهِ واللهُ تبارك وتعالى يقولُ في القرءانِ الكَريمِ: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَةٍ مّاْئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة/261).
وءاخرُ دعوانَا أنِ الحمدُ للهِ ربِ العالمينَ.
سلسلة الذهب - الجزء الأول
سلسلة-الذهبالحمدُ للهِ ربّ العالمينَ، وأفضَلُ الصّلاةِ وأتمُّ التسليمِ على سَيّدِ الخلقِ أَجمعينَ سيدِنَا محمّدٍ وعلى ءالهِ وصحبِهِ الطيبينَ الطاهرينَ ومَنِ اهتدَى بهداهُم إلى يومِ الدّينِ.
وبعدُ يقولُ اللهُ تبارَك وَتَعَالى في القرءانِ الكريمِ: ﴿مَثَلُ الذينَ يُنْفقُونَ أموالَهُم في سبيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ في كُلّ سُنْبُلَةٍ مائةُ حَبَّةٍ واللهُ يُضاعِفُ لمن يَشَاءُ واللهُ واسعٌ عليمٌ﴾ [البقرة/261].
إنَّ التّقوَى والورعَ والترفعَ عن أكلِ الحرامِ من شِيَمِ عبادِ اللهِ الصّالِـحينَ فاتّقُوا اللهَ حيثُمَا كنتُم واتقُوا اللهَ في أنفسِكُم وأولادِكُم واتّقُوا اللهَ في مكسبِكُم ومأكلِكُم ومشربِكُم فإنَّ هذهِ الدنيَا لا تُغنِـي عن الآخرةِ شيئًا. واللهُ تبارك وتعالى الفعَّالُ لِمَا يريدُ جعلَ العبادَ على قسمينِ: جعلَ قِسمًا غَنيًّا مُوسِرًا وقِسمًا فَقِيرًا واللهُ تعالى لا يُسأَلُ عَمَّا يَفعَلُ وهُم يُسأَلُونَ، هُوَ الإلهُ الواحدُ فهو الحاكِمُ المطلَقُ وهو الآمِرُ المطلَقُ وهو النَّاهِي المـُطلَقُ وهو الفَعَّالُ لِمَا يريدُ. خَلَقَ العبادَ على ما أَرادَ، منهُم الشقيُّ ومنهُم السَّعيدُ، منهُم القويُّ ومنهُم الضَّعيفُ، منهُم الثَّريُّ ومنهُم الفقيرُ، تعالى اللهُ عن أنْ يكونَ ظالِمًا فهوَ الفَعَالُ لِمَا يريدُ.
وأمَّا الذينَ ءاتاهمُ اللهُ تعالى زينةَ الدّنيَا وزُخرُفَهَا وكانُوا مؤمنينَ واستعمَلُوهَا في طاعةِ ربّـهِم فطوبَـى لَـهُم وحُسنُ مئابٍ. وأمَّا الذينَ أُوْتُوا نصيبًا من الدّنيَا واستعملُوهَا في الشهواتِ المحرّماتِ ولَـمْ يستعملُوهَا في الطّاعاتِ فهؤلاءِ انقلبَتْ عليهِم هذهِ النّعمُ نقمةً فِي الآخِرةِ؛ فإنَّ المرءَ يُقالُ لهُ يومَ القيامةِ: ألَـمْ نُصِحَّ جِسمَكَ ونَسْقِكَ من الماءِ الباردِ؟ حتَّى الماءُ الباردُ هذهِ النعمةُ العظيمةُ التي أنعَمَ اللهُ بِـهَا علينَا يُسأَلُ المرءُ عنهَا يومَ لا يَنفَعُ مالٌ ولا بنونَ إلا مَنْ أَتَى اللهَ بقَلْبٍ سَلِيمٍ.
ففِرعَوْنُ الذي ءَاتَاهُ اللهُ مُلْكَ مِصرَ وقالَ: "هذهِ الأَنهارُ تَجرِي من تَـحتِـي"، ربُّ العالمينَ أخبرَنَا حكايةً عن موسَى بنِ عمرانَ أنَّهُ قالَ: ﴿وقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ﴾ [يونس/88].
فاللهُ يَعلَمُ أنَّ فرعونَ سيَطْغَى وسيَزْدَادُ تَكَبُّرًا وتَـجبُّرًا وظُلْمًا للعبادِ وأنَّ المالَ والجاهَ والسّلطةَ التي ءاتاهُ اللهُ إيّاهَا لَنْ يستعملَهَا في الطاعةِ أبدًا ومع ذلكَ فقدْ ءاتاهُ اللهُ هذا السُّلطانَ وهذا المالَ، لِـمَ؟ لأنَّ اللهَ فعالٌ لِمَا يريدُ.
تُرى وهل من شرطِ الزُّهدِ أنْ يكونَ المرءُ فقيرًا؟ تُرَى وهَلْ من شَرطِ الزهدِ والورعِ والتمسُّكِ بالعباداتِ أنْ يكونَ المرءُ فقيرًا؟ ليسَ شرطًا ليَكُونَ المرءُ زاهدًا عابدًا ناسِكًا أنْ يكونَ فقيرًا ليسَ لَهُ مالٌ فَقَدْ قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: "نِعْمَ المالُ الصَالِحُ للرَّجُلِ الصَّالحِ".
إذنْ ربُّ العبادِ جَعَلَ العبادَ على قسمينِ جَعَلَ قِسمًا منهُم مؤمنينَ وقسمًا منهُم كافرِينَ، جَعَلَ العِبَادَ على قسمينِ: قِسمًا ثريًّا غَنِيًّا وقِسمًا فَقِيرًا، فاللهُ تبارَكَ وتعالَى جَعَلَ الدّنيَا يشتركُ في التّنعمِ فيهَا المؤمنونَ والكَافِرُونَ، وأمَّا نعيمُ الآخرةِ فهو خاصٌّ بالمؤمنينِ وهذا معنَى حديثِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: "الدُّنيا سِجْنُ المؤمِنِ وجنّةُ الكافرِ".
واليومَ لا يَـخْفَى ما يعانِيهِ المسلمُونَ مِنْ شدّةِ البلاءِ وتوالِي النَّكباتِ والمصائبِ عليهِم، تُرَى كيفَ كانَتْ مواقِفُ الصّحابةِ أغنياءِ النُّفوسِ الذينَ أَعزَّهُمُ اللهُ تعالى بالإسلامِ وكيفَ بَذَلُوا المالَ وجاهدُوا بالنَّفسِ مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ.
وما أحوَجَنَا اليومَ لِموقفٍ كموقفِ أبي بكرٍ الصّديقِ رَضِيَ اللهُ عنهُ الذي تَبَرَّعَ بأكثرِ مالِهِ ليُجَهّزَ جيشَ المسلمينِ ولَـمْ يُبْقِ لنفسِهِ ولأَهلِهِ إلا النَّزْرَ القليلَ. هذا هُو أبُو بكرٍ الصديقُ رَضِيَ اللهُ عنهُ رأسُ هذهِ الأمةِ المحمّديةِ بعدَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ كانَ غَنيًا ثريًّا وَسَّعَ اللهُ عليهِ بالمالِ ومعَ ذَلكَ كانَ زاهدًا عابدًا ناسِكًا رقيقَ النّفسِ.
وكذلكَ عثمانُ بنُ عفانَ رَضِيَ اللهُ عنهُ الذي جَهَّزَ جَيشَ العُسْرةِ بعَشَرَةِ ءالافِ دينارٍ من الذهبِ، وقَدَّمَ كُلَّ قافلتِهِ التِي كانَتْ قادِمةً من بَلاَدِ الشّامِ بأقتابِـهَا وأحلاسِهَا وحُـمُولتِهَا. قَدَّمَهَا بينَ يَدَي رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ حتَّى استَهَلَّ وجهُهُ فَرِحًا لِما فعلَ عثمانُ ابنُ عفانَ الذي دَعَمَ موقفَ الإسلامِ والمسلمينَ بأنْ جَهَّزَ جيشَ العُسْرةِ وقَدَّمَ قافلتَهُ التجاريةَ القادمةَ مِنْ بلادِ الشامِ عَامَ القَحْطِ للمُسلمينَ، أوَلم يكنْ عثمانُ زاهدًا؟ مع كونِهِ ثريًّا بالمالِ كَانَ عابدًا زاهدًا ناسكًا.
إذنْ فالزهدُ والورعُ ليسَا متوقِفَينَ على الفقرِ والقلّةِ، وليسَ كلُّ فقيرٍ قَلِيلُ المالِ وَرِعًا، وإنَّـمَا الورعُ والتقوَى يكونَانِ بالتزامِ الطاعاتِ واجتنابِ المحرّماتِ ومنهَا اجتنابُ أَكلِ مالِ الحرامِ. فكَمَا أنَّ الغنِـيَّ مُطالَبٌ بالبذلِ والعطاءِ والسَّخاءِ إضافةً إلى الواجباتِ كذلكَ الفقيرُ مطالَبٌ بالزهدِ، مطالَبٌ بالقناعةِ، مطالَبٌ بأنْ يَقنَعَ بالمالِ الحلالِ مَهْمَا كانَ قِليلًا لا أنْ يَتَوَرَّطَ في أكلِ مالِ الحرامِ لِيَتَوَسَّعَ وأهلَه ولِيَتَلَذَّذَ مع أهلِهِ بهذا المالِ الحرامِ ويظنَّ أنْ ليسَ عليه منْ يراقبُهُ.
الزّهدُ ليسَ متوقّفًا على الفقرِ والبذلُ والعطاءُ ليس مَقصُورًا على الأغنياءِ. فليسَ كُلُّ الصّحابةِ كانُوا أغنياءَ بالمالِ، وإنَّـمَا كلُّهُم كانُوا أغنياءَ بالنّفوسِ. فكَمَا بذلَ أبُو بكرٍ الصّديقُ رَضِيَ اللهُ عنهُ ومِنْ بعدِهِ عثمانُ كذلكَ فَعَلَ عبدُ الرحمنِ بنُ عوفٍ وغيرُهُ من أغنياءِ الصحابةِ رضوانُ اللهِ عليهِم. وأمَّا أولئكَ الذينَ لَـمْ يَكُنْ لَدَيهِم مالٌ تُرَى ماذَا قَدَّمُوا في سبيلِ اللهِ؟ أَلـَمْ يَكُنْ خالدُ بنُ الوليدِ مثالا يُـحتَذَى لطالبِ الاستشهادِ في سبيلِ اللهِ ولا يَـخفَى كَمْ هِيَ النّفسُ غاليةٌ أغلَى من المالِ فمَنْ لم يكُنْ منهُم ذا مالٍ ضَحَّى بنفسِهِ ومَنْ كانَ منهُم ذَا مالٍ بَذَلَ وسَخَا بِـمالِهِ وبنفسِهِ.
هؤلاءِ الصّحابةُ رضوانُ اللهِ عليهِم غنِيُّهُم وفقيرُهُم بالمالِ كانُوا مثالا للزهدِ والورعِ وما أحوجَنَا اليومَ ونحنُ في عُسرةٍ أنْ تتحرَّكَ صناديقُ الأثرياءِ لإسعافِ المنكوبينَ وأهلِ الضّروراتِ وفي نفسِ الوقتِ أنْ يلتزمَ الفقراءُ بابَ القناعةِ والتّقوَى والورعِ والزهْدِ بأنْ يقَنَعُوا بالْمالِ الحلالِ مَهْمَا كانَ قليلا. اللهُ تبارك وتعالى فعَّالٌ لِمَا يريدُ.
اقتدُوا بأبِي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليّ، اقتدُوا بعبدِ الرحمنِ بنِ عوفٍ وخالدِ بنِ الوليدِ، أولئكَ الذينَ ضَحَّوا بأنفسِهِم من أجلِ تحقيقِ مقاصدِ الإسلامِ ومَنْ كانَ منكُم ذا مالٍ فلينفقْ من مالِهِ واللهُ تبارك وتعالى يقولُ في القرءانِ الكَريمِ: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَةٍ مّاْئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة/261).
وءاخرُ دعوانَا أنِ الحمدُ للهِ ربِ العالمينَ.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin