الدرس السابع والعشرون
الصبر على المصائب
جامع الخيرات
درسٌ ألقاهُ الصوفيُّ العالـمُ الشيخُ عبد الله بن محمدٍ العبدريُّ رحمه الله تعالى سنةَ تسعٍ وتسعين وثلاثمائة وألفٍ أو قبلها وهو في بيان الصبرِ على المصائب.
قال رحمه الله تعالى رحمة واسعة:
الحمدُ للهِ رب العالمين له النعمةُ ولهُ الفضلُ ولهُ الثناءُ الحسنُ. صلواتُ اللهِ البَرِّ الرحيمِ والملائكةِ الـمُقرَّبينَ على سيدِنا محمدٍ أشرفِ الـمُرسَلينَ وعلى ءالِهِ وأصحابهِ وعلى جميعِ إخوانهِ الأنبياء والمرسلين وءال كلٍّ والصالحين.
أما بعدُ فقد قالَ اللهُ تباركَ وتعالى في سورةِ البقرة ﴿وبَشِّرِ الصّابرينَ * الّذينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لله وَ إِنَّا إِليهِ رَاجِعُونَ* أُوْلَـٰئِك عليهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُوْلَـٰئِك هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ في هذهِ الآيةِ تبشيرُ المؤمنينَ الذينَ يتّصِفُونَ بهذهِ الصفةِ التي ذكرَها اللهُ تعالى وهيَ أنَّهُم راضُونَ عنِ اللهِ تعالى أي لا يتَسَخَّطُونَ عليهِ ولا يَتَبَرَّمُونَ ولا يتضَجَّرونَ مِن قضائِهِ وإن كانتِ المصائبُ تُقلِقُهُم وتُحْزِنُهُم وتؤذِيهم في أجسادِهم لكنَّ قلوبَهُم راضيةٌ عنِ اللهِ تباركَ وتعالى، هؤلاءِ بشَّرَهُم اللهُ تعالى بأنَّهم تنالُهم صلواتٌ منَ اللهِ أيْ رحَماتٌ مَقرونةٌ بالتعظيمِ، ليسَ الـمُرادُ مجرَّدَ رحمةٍ لأنَّ مجردَ الرحمةِ في الدنيا تشملُ المؤمنَ والكافرَ إنَّما الصلواتُ هنا معناها الرحماتُ المقروناتُ بالتعظيمِ أيِ الرحماتُ الخاصةُ لأنَّ الرحماتِ خاصةٌ وعامَّةٌ رحماتٌ يشتركُ بها المؤمنُ وغيرُ المؤمنِ والبَرُّ والفاجرُ وهذهِ منَ الرحماتِ العامةِ التي تكونُ في الدنيا، ومنَ الرحماتِ العامةِ الانتفاعُ بهذا الهواءِ العليلِ والصحةِ والمالِ الوافرِ وغيرِ ذلكَ من أنواعِ النعمِ الدّنيويةِ، هذهِ منَ الرحماتِ العامةِ، أما الرحماتُ الخاصةُ فلا ينالها إلا المؤمنونَ الصابرونَ المسَلِّمونَ للهِ تسليمًا، وأولُ شرطٍ في نَيلِ واستحقاقِ الرحماتِ الخاصةِ الإيمانُ.
والإيمانُ هوَ الإيمانُ باللهِ ورسولهِ أيِ الاعتقادُ الجازمُ بوجودِهِ تعالى بلا تشبيهٍ ولا تكييفٍ وتركُ الاعتِراضِ في كلّ ما يقضِيهِ على العبادِ مما يسرُّهُم ومما يسُوؤُهم، وأما الإيمانُ برسولِهِ صلى الله عليه وسلم فهوَ التسليمُ لهُ صلى الله عليه وسلم في أنَّ كلَّ ما جاءَ بهِ حقٌّ، سواءٌ كانَ مما يتعلقُ بأحكامِ العبادِ في هذهِ الحياةِ الدنيا أم كانَ فيما يحدُثُ فيما بعدَ الموتِ في البرزخِ وفي الآخرةِ. هذا هوَ الإيمانُ.
أما قولهُ تعالى في سورةِ البقرةِ ﴿الذينَ إذا أصابَتْهُمْ مُصيبةٌ قالوا إنَّا للهِ وإنَّا إليهِ راجِعُونَ﴾ فالمعنى أنهم مُسَلِّمُونَ غيرُ معتَرِضينَ على ربِّهِم ثابتونَ على اعتقادِ التسليمِ للهِ تباركَ وتعالى فإنهم عرَفوا واعتقدوا وجزَموا بأنهم مِلْكٌ للهِ تعالى لهُ أنْ يفعلَ فيهم ما يشاءُ وأنهُم إليهِ راجِعُونَ أيْ أنَّ مآلَهم إلى الجزاءِ منَ اللهِ تباركَ وتعالى، جزاءُ المؤمنينَ على إيمانِهِم بَدْؤُهُ في البرزخِ بعدَ الموتِ ومُعظَمُهُ في الآخرةِ، فالجزاءُ الذي يكونُ في البرزخِ للمؤمنينَ مما يسرُّهُم فإنَّ اللهَ وعدَهُم أنهم متى ما خرجوا منَ الدنيا ليسَ عليهم ما يَسوؤهُم بل هم في حالهم كحالِ مَنْ كانَ مَسجونًا وكانَ في قَحْطٍ ثمَّ خرجَ منَ السجنِ وخرجَ منَ القحطِ والمجاعةِ إلى الرخاءِ والسَّعَةِ، هذا القبرُ الذي تخافُهُ النفوسُ ليسَ ما يحدُثُ فيهِ لكلِّ إنسانٍ على حدٍّ سواء، بل بعضُ الناسِ هذهِ القبورُ ألذُّ عندَهُم مما كانوا عليهِ قبلَ ذلكَ ولو كانوا يسكنُونَ القصورَ الفاخِرةَ وكانَ عندَهُم نعيمٌ كثيرٌ، يكفي في ذلكَ أنهم يرونَ كلَّ يومٍ مقعدَهُم في الجنةِ أوَّلَ النهارِ مرةً وءاخرَ النهارِ مرةً، هذا يفوقُ كلَّ لذَّاتِ الدنيا التي كانوا يُصيبُونها حينَ كانوا على وجهِ الأرضِ، وهناكَ غيرُ ذلكَ وهوَ أنهُ لا يُسلَّطُ عليهم في قبورِهِم ما يُؤذيهم مِن هوامَّ ولا يُقاسُونَ وَحْشَةَ الوَحْدَةِ في القبرِ ولا وحشةَ الظٌّلمةِ كلُّ ذلكَ مرفوعٌ عنهُم، وكذلكَ يُرفعُ عنهُم ضيقُ مِساحةِ القبرِ، وهناكَ غيرُ ذلكَ كتنويرِ القبرِ، وأما في الآخرةِ فما يَلقونَهُ منَ النعيمِ أعظمُ فأعظمُ.
قولُه تعالى ﴿الذينَ إذا أصابَتْهُم مُصيبَةٌ قالوا إنَّا للهِ﴾ معناهُ أنَّا مِلْكٌ للهِ تعالى يفعلُ بنا ما يُريدُ ونحنُ راضُونَ بما يفعلهُ بنا إنْ كانَ مما يُلائِمُ النفوسَ وإنْ كانَ مما لا يُلائمُ طبائعَ النفوسِ لأنَّ النفوسَ جُبِلَتْ على النُّفورِ من أشياءَ وعلى الـمَيلِ إلى أشياءَ، هؤلاءِ مُسَلَّمُونَ للهِ تسليمًا فيما يُلائمُ نفوسَهُم وفيما لا يُلائمُ نفوسَهُم مما قضى اللهُ تعالى وقدَّرَهُ عليهم، وفي الحديثِ الصحيحِ الواردِ فيما يُقالُ في الصلاةِ بينَ التكبيرةِ والقراءةِ نحنُ لكَ وإليكَ وفي مراسيلِ أبي داودَ أيِ الكتابِ الذي ألَّفَهُ أبو داودَ في المراسيلِ أي الأحاديثِ التي يذكرها التابعُونَ ولا يذْكُرونَ الصحابةَ الذينَ نقَلُوا عنهُم هذهِ الأحاديثَ، في هذا الكتابِ مذكورٌ مَرفوعًا "اللهمَّ إنما نحنُ بكَ وإليكَ". "إنَّما نحنُ بكَ" معناهُ أصلُ وُجودِنا بكَ أي بقُدرَتِكَ ومَشيئَتِكَ فلولا مَشيئَتُكَ وقدرتُكَ ما وُجِدنا وكذلكَ كلُّ صفاتٍ بنا فهيَ إنما وُجِدَت بكَ أي بقُدرَتِكَ ومشيئَتِكَ وعِلمِكَ، لا شىءَ مِنّا كانَ أيْ وُجدَ إلا بكَ أي بخلقِكَ وقدرتِكَ ومشيئَتِكَ وعلمِكَ، ذواتُنا وصفاتُنا الدائمةُ والطارئةُ التي تتغيرُ من وقتٍ إلى وقتٍ كلُّ ذلكَ بخَلقِكَ وُجدَ وبمشيئَتِكَ وعلمِكَ وتقديرِكَ وقضائِكَ وُجدَ، وأما قولهُ صلى الله عليه وسلم في هذا الأثرِ الـمُرسَلِ "وإليك" فمعناهُ مرجِعُنا إليكَ، أيْ كلُّ واحدٍ منَّا كُتبَ عليهِ الموتُ فإمَّا أن يموتَ على حالةٍ مَرْضِيَّةٍ عندَ اللهِ وإما أن يموتَ على حالةٍ غيرِ مرضيةٍ عندَ اللهِ.
ثمَّ اللهُ تباركَ وتعالى ذكرَ المصيبةَ بلفظِ النكرةِ في هذهِ الآيةِ ليُفهِمَنا أنَّ كلَّ مصيبةٍ تُصيبُ المسلمَ إنْ كانت صغيرةً وإنْ كانت كبيرةً فإنَّها تُفيدُهُ برفعِ الدرجاتِ وتكفيرِ السيئاتِ أيْ إنْ رضيَ عن ربِّهِ تباركَ وتعالى ففي كلّ ما يُصيبُهُ يرفعُ لهُ بهِ درجةٌ ويُكفِّرُ عنهُ بهِ خطيئةٌ، أيْ تُمحَى عنهُ بعضُ ذنوبِهِ، لا تمُرُّ عليهِ مصيبةٌ صغيرةٌ أو كبيرةٌ إلا وهوَ يستفيدُ منها هذهِ الفائدةَ ونِعْمَتِ الفائدةُ حتى المصيبةُ التي لا بالَ لها عندَ الناسِ كالشوكةِ التي يُشاكُها المسلمُ أو كالـهَمِّ الصغيرِ الذي يُصيبُ المسلمَ مما هوَ ليسَ ذا تأثيرٍ كبيرٍ، أما الهمُّ الذي لهُ تأثيرٌ كثيرٌ فيزدادُ المسلمُ منهُ استفادةً على حسبِ عِظَمِ ذلكَ الـهمّ.
ثُـمَّ هؤلاءِ المؤمنونَ الذينَ مدَحَهُم اللهُ تعالى شأنُـهم أنـهم في أيامِ الـهَرْجِ يُلازِمونَ طاعةَ اللهِ تعالى أيْ بقدرِ الإمكانِ أيْ لا يعصُونَهُ من أجلِ الـهَرْجِ بتركِ الفرائضِ وارتِكابِ المعاصي الهرْجُ هوَ كثرةُ القتلِ وقدْ صحَّ الحديثُ في ذلكَ أنهُ صلى الله عليه وسلم قال "العبادةُ في الهَرْجِ كهِجرةٍ إليَّ" اهـ رواهُ ابنُ حبانَ وغيرهُ1 أيْ أنَّ الذي يلتَزِمُ طاعةَ اللهِ في الهرجِ أيْ في أيامِ كثرةِ القتلِ كأنهُ منَ الذينَ هاجَروا أيْ في الوقتِ الذي كانت فيهِ الهجرةُ إلى الرسولِ صلى الله عليه وسلم فرضًا. بعدما هاجرَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم قبلَ فتْحِ مكةَ كانتِ الهجرةُ على المؤمنينَ فرضًا مَنِ استطاعَ أنْ يلحقَ بالرسولِ صلى الله عليه وسلم إلى المدينةِ كانَ فرضًا عليهِ أن يذهبَ إلى المدينةِ ليُؤازِرَ الإسلامَ أيْ ليُؤازِرَ الدعوةَ الإسلاميةَ بوجودِهِ حولَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم لأنهم يكونونَ على أُهبةِ الاستعدادِ إنِ اسْتَنْفَرَهُم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ليَنْفِروا ويُساعِدوهُ في نشرِ الدعوةِ الإسلاميةِ والتعليمِ والتبليغِ، كانَ مَن لـم يُهاجِرْ وهوَ مستطيعٌ في ذلكَ الوقتِ يكونُ ذنبُهُ كبيرةً منَ الكبائرِ، أما إنْ كانَ غيرَ مستطيعٍ فلـم يكُنْ عليهِ ذنبٌ، والذي هاجرَ ثمَّ تركَ المدينةَ ورجعَ إلى بلدِهِ التي هيَ بَعْدُ معَ الـمُشركينَ فكانَ ذنبُهُ من كبائرِ الذنوبِ مثلَ ءاكلِ الربا ومانِعِ الزكاةِ.
أما بعدَ فتحِ مكةَ فقد سقطت فرضيَّةُ الهِجرةِ فالمسلمُ يعيشُ أينَما شاءَ ويتَّقي ربَّهُ ولذلكَ قالَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ "لا هِجرةَ بعدَ الفتحِ ولكنْ جِهادٌ ونيَّةٌ" اهـ رواهُ أحمدُ والبخاريُّ ومسلمٌ والطبرانيُّ2 لأنَّ فتحَ مكةَ كانَ هوَ السببَ بتَدَفُّقِ العربِ في الجزيرةِ العربيةِ إلى الإسلامِ، قالَ الله تباركَ وتعالى في سورةِ النصر: ﴿إذا جاءَ نصْرُ اللهِ والفتحُ﴾ الرسولُ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ أنَّ دينَهُ انتشرَ وسيزدادُ بعدَ ذلكَ انتِشارًا وأنهُ أكثرُ الأنبياءِ أتباعًا، موسى عليه السلامُ ما وُجِدَ ممنْ دخلَ في دينِهِ كعددِ مَنْ دخلَ دعوةَ محمدٍ، فالذينَ تَبِعُوا محمدًا أكثرُ مِمّن تبعَ الأنبياءَ الأوّلينَ حتى إنّهم يكونونَ يومَ القيامةِ جميعُهم أربعينَ صفًا وتكونُ أمةُ محمدٍ ثمانينَ صفًا. اللهُ تعالى بشَّرَهُ بأنهُ بعدَ فتحِ مكةَ ينتشرُ الدينُ فتَحَقَّقَ ذلكَ بفضلِ اللهِ تعالى، قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "لا هجرةَ بعدَ الفتحِ ولكنْ جهادٌ ونيةٌ" اهـ فلا ينقطعُ الجهادُ والنيةُ إلى يومِ القيامةِ، إنْ عجزَ المسلمونَ عنِ الجهادِ بالفعلِ ينوونَ أنهم متى ما تَـمكّنوا يفعلونَ، مَن لـم يفعلْ ذلكَ فهوَ يـموتُ على شُعبةٍ منَ النفاقِ الرسولُ صلى الله عليه وسلم قالَ "مَنْ ماتَ ولـم يَغْزُ ولـم يُحدِّثْ بهِ نفسَهُ ماتَ على شُعبةٍ من نفاقٍ" اهـ رواه مسلمٌ في صحيحه3 ومعنى على شعبةٍ مِنْ نفاقٍ أيْ على جزءٍ منَ النفاقِ.
انتهى والله تعالى أعلم.
------------------
1- رواه ابن حبان في صحيحه في ذكر إعطاء الله جل و علا المتعبد عند وقوع الفتن ثواب الهجرة ورواه مسلم في صحيحه وابن ماجه في سننه.
2- في المعجم الكبير.
3- رواه مسلم في باب ذم من مات ولـم يغز ولـم يحدث نفسه بالغزو.
الصبر على المصائب
جامع الخيرات
درسٌ ألقاهُ الصوفيُّ العالـمُ الشيخُ عبد الله بن محمدٍ العبدريُّ رحمه الله تعالى سنةَ تسعٍ وتسعين وثلاثمائة وألفٍ أو قبلها وهو في بيان الصبرِ على المصائب.
قال رحمه الله تعالى رحمة واسعة:
الحمدُ للهِ رب العالمين له النعمةُ ولهُ الفضلُ ولهُ الثناءُ الحسنُ. صلواتُ اللهِ البَرِّ الرحيمِ والملائكةِ الـمُقرَّبينَ على سيدِنا محمدٍ أشرفِ الـمُرسَلينَ وعلى ءالِهِ وأصحابهِ وعلى جميعِ إخوانهِ الأنبياء والمرسلين وءال كلٍّ والصالحين.
أما بعدُ فقد قالَ اللهُ تباركَ وتعالى في سورةِ البقرة ﴿وبَشِّرِ الصّابرينَ * الّذينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لله وَ إِنَّا إِليهِ رَاجِعُونَ* أُوْلَـٰئِك عليهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُوْلَـٰئِك هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ في هذهِ الآيةِ تبشيرُ المؤمنينَ الذينَ يتّصِفُونَ بهذهِ الصفةِ التي ذكرَها اللهُ تعالى وهيَ أنَّهُم راضُونَ عنِ اللهِ تعالى أي لا يتَسَخَّطُونَ عليهِ ولا يَتَبَرَّمُونَ ولا يتضَجَّرونَ مِن قضائِهِ وإن كانتِ المصائبُ تُقلِقُهُم وتُحْزِنُهُم وتؤذِيهم في أجسادِهم لكنَّ قلوبَهُم راضيةٌ عنِ اللهِ تباركَ وتعالى، هؤلاءِ بشَّرَهُم اللهُ تعالى بأنَّهم تنالُهم صلواتٌ منَ اللهِ أيْ رحَماتٌ مَقرونةٌ بالتعظيمِ، ليسَ الـمُرادُ مجرَّدَ رحمةٍ لأنَّ مجردَ الرحمةِ في الدنيا تشملُ المؤمنَ والكافرَ إنَّما الصلواتُ هنا معناها الرحماتُ المقروناتُ بالتعظيمِ أيِ الرحماتُ الخاصةُ لأنَّ الرحماتِ خاصةٌ وعامَّةٌ رحماتٌ يشتركُ بها المؤمنُ وغيرُ المؤمنِ والبَرُّ والفاجرُ وهذهِ منَ الرحماتِ العامةِ التي تكونُ في الدنيا، ومنَ الرحماتِ العامةِ الانتفاعُ بهذا الهواءِ العليلِ والصحةِ والمالِ الوافرِ وغيرِ ذلكَ من أنواعِ النعمِ الدّنيويةِ، هذهِ منَ الرحماتِ العامةِ، أما الرحماتُ الخاصةُ فلا ينالها إلا المؤمنونَ الصابرونَ المسَلِّمونَ للهِ تسليمًا، وأولُ شرطٍ في نَيلِ واستحقاقِ الرحماتِ الخاصةِ الإيمانُ.
والإيمانُ هوَ الإيمانُ باللهِ ورسولهِ أيِ الاعتقادُ الجازمُ بوجودِهِ تعالى بلا تشبيهٍ ولا تكييفٍ وتركُ الاعتِراضِ في كلّ ما يقضِيهِ على العبادِ مما يسرُّهُم ومما يسُوؤُهم، وأما الإيمانُ برسولِهِ صلى الله عليه وسلم فهوَ التسليمُ لهُ صلى الله عليه وسلم في أنَّ كلَّ ما جاءَ بهِ حقٌّ، سواءٌ كانَ مما يتعلقُ بأحكامِ العبادِ في هذهِ الحياةِ الدنيا أم كانَ فيما يحدُثُ فيما بعدَ الموتِ في البرزخِ وفي الآخرةِ. هذا هوَ الإيمانُ.
أما قولهُ تعالى في سورةِ البقرةِ ﴿الذينَ إذا أصابَتْهُمْ مُصيبةٌ قالوا إنَّا للهِ وإنَّا إليهِ راجِعُونَ﴾ فالمعنى أنهم مُسَلِّمُونَ غيرُ معتَرِضينَ على ربِّهِم ثابتونَ على اعتقادِ التسليمِ للهِ تباركَ وتعالى فإنهم عرَفوا واعتقدوا وجزَموا بأنهم مِلْكٌ للهِ تعالى لهُ أنْ يفعلَ فيهم ما يشاءُ وأنهُم إليهِ راجِعُونَ أيْ أنَّ مآلَهم إلى الجزاءِ منَ اللهِ تباركَ وتعالى، جزاءُ المؤمنينَ على إيمانِهِم بَدْؤُهُ في البرزخِ بعدَ الموتِ ومُعظَمُهُ في الآخرةِ، فالجزاءُ الذي يكونُ في البرزخِ للمؤمنينَ مما يسرُّهُم فإنَّ اللهَ وعدَهُم أنهم متى ما خرجوا منَ الدنيا ليسَ عليهم ما يَسوؤهُم بل هم في حالهم كحالِ مَنْ كانَ مَسجونًا وكانَ في قَحْطٍ ثمَّ خرجَ منَ السجنِ وخرجَ منَ القحطِ والمجاعةِ إلى الرخاءِ والسَّعَةِ، هذا القبرُ الذي تخافُهُ النفوسُ ليسَ ما يحدُثُ فيهِ لكلِّ إنسانٍ على حدٍّ سواء، بل بعضُ الناسِ هذهِ القبورُ ألذُّ عندَهُم مما كانوا عليهِ قبلَ ذلكَ ولو كانوا يسكنُونَ القصورَ الفاخِرةَ وكانَ عندَهُم نعيمٌ كثيرٌ، يكفي في ذلكَ أنهم يرونَ كلَّ يومٍ مقعدَهُم في الجنةِ أوَّلَ النهارِ مرةً وءاخرَ النهارِ مرةً، هذا يفوقُ كلَّ لذَّاتِ الدنيا التي كانوا يُصيبُونها حينَ كانوا على وجهِ الأرضِ، وهناكَ غيرُ ذلكَ وهوَ أنهُ لا يُسلَّطُ عليهم في قبورِهِم ما يُؤذيهم مِن هوامَّ ولا يُقاسُونَ وَحْشَةَ الوَحْدَةِ في القبرِ ولا وحشةَ الظٌّلمةِ كلُّ ذلكَ مرفوعٌ عنهُم، وكذلكَ يُرفعُ عنهُم ضيقُ مِساحةِ القبرِ، وهناكَ غيرُ ذلكَ كتنويرِ القبرِ، وأما في الآخرةِ فما يَلقونَهُ منَ النعيمِ أعظمُ فأعظمُ.
قولُه تعالى ﴿الذينَ إذا أصابَتْهُم مُصيبَةٌ قالوا إنَّا للهِ﴾ معناهُ أنَّا مِلْكٌ للهِ تعالى يفعلُ بنا ما يُريدُ ونحنُ راضُونَ بما يفعلهُ بنا إنْ كانَ مما يُلائِمُ النفوسَ وإنْ كانَ مما لا يُلائمُ طبائعَ النفوسِ لأنَّ النفوسَ جُبِلَتْ على النُّفورِ من أشياءَ وعلى الـمَيلِ إلى أشياءَ، هؤلاءِ مُسَلَّمُونَ للهِ تسليمًا فيما يُلائمُ نفوسَهُم وفيما لا يُلائمُ نفوسَهُم مما قضى اللهُ تعالى وقدَّرَهُ عليهم، وفي الحديثِ الصحيحِ الواردِ فيما يُقالُ في الصلاةِ بينَ التكبيرةِ والقراءةِ نحنُ لكَ وإليكَ وفي مراسيلِ أبي داودَ أيِ الكتابِ الذي ألَّفَهُ أبو داودَ في المراسيلِ أي الأحاديثِ التي يذكرها التابعُونَ ولا يذْكُرونَ الصحابةَ الذينَ نقَلُوا عنهُم هذهِ الأحاديثَ، في هذا الكتابِ مذكورٌ مَرفوعًا "اللهمَّ إنما نحنُ بكَ وإليكَ". "إنَّما نحنُ بكَ" معناهُ أصلُ وُجودِنا بكَ أي بقُدرَتِكَ ومَشيئَتِكَ فلولا مَشيئَتُكَ وقدرتُكَ ما وُجِدنا وكذلكَ كلُّ صفاتٍ بنا فهيَ إنما وُجِدَت بكَ أي بقُدرَتِكَ ومشيئَتِكَ وعِلمِكَ، لا شىءَ مِنّا كانَ أيْ وُجدَ إلا بكَ أي بخلقِكَ وقدرتِكَ ومشيئَتِكَ وعلمِكَ، ذواتُنا وصفاتُنا الدائمةُ والطارئةُ التي تتغيرُ من وقتٍ إلى وقتٍ كلُّ ذلكَ بخَلقِكَ وُجدَ وبمشيئَتِكَ وعلمِكَ وتقديرِكَ وقضائِكَ وُجدَ، وأما قولهُ صلى الله عليه وسلم في هذا الأثرِ الـمُرسَلِ "وإليك" فمعناهُ مرجِعُنا إليكَ، أيْ كلُّ واحدٍ منَّا كُتبَ عليهِ الموتُ فإمَّا أن يموتَ على حالةٍ مَرْضِيَّةٍ عندَ اللهِ وإما أن يموتَ على حالةٍ غيرِ مرضيةٍ عندَ اللهِ.
ثمَّ اللهُ تباركَ وتعالى ذكرَ المصيبةَ بلفظِ النكرةِ في هذهِ الآيةِ ليُفهِمَنا أنَّ كلَّ مصيبةٍ تُصيبُ المسلمَ إنْ كانت صغيرةً وإنْ كانت كبيرةً فإنَّها تُفيدُهُ برفعِ الدرجاتِ وتكفيرِ السيئاتِ أيْ إنْ رضيَ عن ربِّهِ تباركَ وتعالى ففي كلّ ما يُصيبُهُ يرفعُ لهُ بهِ درجةٌ ويُكفِّرُ عنهُ بهِ خطيئةٌ، أيْ تُمحَى عنهُ بعضُ ذنوبِهِ، لا تمُرُّ عليهِ مصيبةٌ صغيرةٌ أو كبيرةٌ إلا وهوَ يستفيدُ منها هذهِ الفائدةَ ونِعْمَتِ الفائدةُ حتى المصيبةُ التي لا بالَ لها عندَ الناسِ كالشوكةِ التي يُشاكُها المسلمُ أو كالـهَمِّ الصغيرِ الذي يُصيبُ المسلمَ مما هوَ ليسَ ذا تأثيرٍ كبيرٍ، أما الهمُّ الذي لهُ تأثيرٌ كثيرٌ فيزدادُ المسلمُ منهُ استفادةً على حسبِ عِظَمِ ذلكَ الـهمّ.
ثُـمَّ هؤلاءِ المؤمنونَ الذينَ مدَحَهُم اللهُ تعالى شأنُـهم أنـهم في أيامِ الـهَرْجِ يُلازِمونَ طاعةَ اللهِ تعالى أيْ بقدرِ الإمكانِ أيْ لا يعصُونَهُ من أجلِ الـهَرْجِ بتركِ الفرائضِ وارتِكابِ المعاصي الهرْجُ هوَ كثرةُ القتلِ وقدْ صحَّ الحديثُ في ذلكَ أنهُ صلى الله عليه وسلم قال "العبادةُ في الهَرْجِ كهِجرةٍ إليَّ" اهـ رواهُ ابنُ حبانَ وغيرهُ1 أيْ أنَّ الذي يلتَزِمُ طاعةَ اللهِ في الهرجِ أيْ في أيامِ كثرةِ القتلِ كأنهُ منَ الذينَ هاجَروا أيْ في الوقتِ الذي كانت فيهِ الهجرةُ إلى الرسولِ صلى الله عليه وسلم فرضًا. بعدما هاجرَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم قبلَ فتْحِ مكةَ كانتِ الهجرةُ على المؤمنينَ فرضًا مَنِ استطاعَ أنْ يلحقَ بالرسولِ صلى الله عليه وسلم إلى المدينةِ كانَ فرضًا عليهِ أن يذهبَ إلى المدينةِ ليُؤازِرَ الإسلامَ أيْ ليُؤازِرَ الدعوةَ الإسلاميةَ بوجودِهِ حولَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم لأنهم يكونونَ على أُهبةِ الاستعدادِ إنِ اسْتَنْفَرَهُم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ليَنْفِروا ويُساعِدوهُ في نشرِ الدعوةِ الإسلاميةِ والتعليمِ والتبليغِ، كانَ مَن لـم يُهاجِرْ وهوَ مستطيعٌ في ذلكَ الوقتِ يكونُ ذنبُهُ كبيرةً منَ الكبائرِ، أما إنْ كانَ غيرَ مستطيعٍ فلـم يكُنْ عليهِ ذنبٌ، والذي هاجرَ ثمَّ تركَ المدينةَ ورجعَ إلى بلدِهِ التي هيَ بَعْدُ معَ الـمُشركينَ فكانَ ذنبُهُ من كبائرِ الذنوبِ مثلَ ءاكلِ الربا ومانِعِ الزكاةِ.
أما بعدَ فتحِ مكةَ فقد سقطت فرضيَّةُ الهِجرةِ فالمسلمُ يعيشُ أينَما شاءَ ويتَّقي ربَّهُ ولذلكَ قالَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ "لا هِجرةَ بعدَ الفتحِ ولكنْ جِهادٌ ونيَّةٌ" اهـ رواهُ أحمدُ والبخاريُّ ومسلمٌ والطبرانيُّ2 لأنَّ فتحَ مكةَ كانَ هوَ السببَ بتَدَفُّقِ العربِ في الجزيرةِ العربيةِ إلى الإسلامِ، قالَ الله تباركَ وتعالى في سورةِ النصر: ﴿إذا جاءَ نصْرُ اللهِ والفتحُ﴾ الرسولُ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ أنَّ دينَهُ انتشرَ وسيزدادُ بعدَ ذلكَ انتِشارًا وأنهُ أكثرُ الأنبياءِ أتباعًا، موسى عليه السلامُ ما وُجِدَ ممنْ دخلَ في دينِهِ كعددِ مَنْ دخلَ دعوةَ محمدٍ، فالذينَ تَبِعُوا محمدًا أكثرُ مِمّن تبعَ الأنبياءَ الأوّلينَ حتى إنّهم يكونونَ يومَ القيامةِ جميعُهم أربعينَ صفًا وتكونُ أمةُ محمدٍ ثمانينَ صفًا. اللهُ تعالى بشَّرَهُ بأنهُ بعدَ فتحِ مكةَ ينتشرُ الدينُ فتَحَقَّقَ ذلكَ بفضلِ اللهِ تعالى، قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "لا هجرةَ بعدَ الفتحِ ولكنْ جهادٌ ونيةٌ" اهـ فلا ينقطعُ الجهادُ والنيةُ إلى يومِ القيامةِ، إنْ عجزَ المسلمونَ عنِ الجهادِ بالفعلِ ينوونَ أنهم متى ما تَـمكّنوا يفعلونَ، مَن لـم يفعلْ ذلكَ فهوَ يـموتُ على شُعبةٍ منَ النفاقِ الرسولُ صلى الله عليه وسلم قالَ "مَنْ ماتَ ولـم يَغْزُ ولـم يُحدِّثْ بهِ نفسَهُ ماتَ على شُعبةٍ من نفاقٍ" اهـ رواه مسلمٌ في صحيحه3 ومعنى على شعبةٍ مِنْ نفاقٍ أيْ على جزءٍ منَ النفاقِ.
انتهى والله تعالى أعلم.
------------------
1- رواه ابن حبان في صحيحه في ذكر إعطاء الله جل و علا المتعبد عند وقوع الفتن ثواب الهجرة ورواه مسلم في صحيحه وابن ماجه في سننه.
2- في المعجم الكبير.
3- رواه مسلم في باب ذم من مات ولـم يغز ولـم يحدث نفسه بالغزو.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin