الدرس الثاني والأربعون
التحذيرُ من مُعاداةِ الأولياءِ
جامع الخيرات
درسٌ ألقاهُ العالِمُ العامِلُ الشيخُ عبدُ اللهِ بنُ محمدٍ العبدريُّ رحمه الله تعالى سنةَ ثمانٍ وتسعينَ وثلاثمائةٍ وألفٍ في بيروتَ في مسجد برجِ أبي حيدرٍ وهو في بيانِ التحذير مِنْ مُعاداةِ الأولياءِ والطعنِ في السابقينَ الأولينَ منَ الـمُهاجرينَ والأنصارِ.
قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:
الحمدُ لله ربّ العالمين وصلى الله على سيدِنا محمدٍ وعلى ءالهِ وصحبِهِ الطيبينَ الطاهرينَ وسلَّم، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا الله وحدَهُ لا شريكَ لهُ وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُهُ.
أمّا بعدُ فقد قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويهِ عنِ اللهِ تبارك وتعالى مَنْ عادى لي وليًّا فقد ءاذَنتُهُ بالحربِ وما تقرَّبَ إليَّ عبدي بشىءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضْتُ عليه ولا يزالُ عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافلِ حتى أحبَّهُ فإذا أحبَبْتُهُ كنتُ سمعَهُ الذي يسمعُ بهِ وبصَرَهُ الذي يُبصِرُ بهِ ويدَهُ التي يبطِشُ بها ورِجلَهُ التي يمشي بها اهـ الحديث أخرجه البخاريّ1.
والوليُّ هو الذي أدَّى الواجباتِ واجْتَنَبَ الـمُحرَّماتِ وأكثرَ منَ النوافلَ، فالطَّبَقةُ العُليا منَ المؤمنينَ بعدَ الأنبياءِ بالنسبةِ إلى البشرِ والجنّ همُ الأولياءُ ثم سائرُ المؤمنين. أمّا الملائكةُ فكلُّهُم أولياءُ اللهِ وإنْ كانوا على درجاتٍ فيما بينَهُم. وأكبرُ الأولياءِ في البشرِ وأعلاهُم درجةً هم أولياءُ الصحابةِ.
وأولياءُ أمةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم هم الذينَ عناهُم اللهُ تعالى بقولهِ في سورةِ براءة ﴿والسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ المُهاجِرينَ والأنصارِ والذينَ اتَّبَعُوهُم بإحسانٍ رضيَ اللهُ عنهُم ورَضُوا عنهُ وأعدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تجري تحتَها الأنهارُ خالِدينَ فيها أبدًا ذلكَ الفَوزُ العظيمُ﴾ وهؤلاءِ الأولياءُ لا ينقَطِعُونَ في أمةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم إلى يومِ القيامةِ. ثمَّ إنَّ مِنْ كراماتِ الأولياءِ أو مما يُكرِمُهُم اللهُ بهِ في الدنيا إجابةَ الدعوى وتكثيرَ القليلِ منَ الطعامِ وعدمَ التَّأثُّرِ بالسُّمِّ القاتلِ وعدمَ الاحتِراقِ بالنارِ. أما إجابةُ الدعوى فهيَ كثيرةٌ. كانَ سعدُ بنُ أبي وقاصٍ وهوَ الـمُسمَّى سعدَ بنَ مالكٍ المكيَّ القرشيَّ أحدُ العشرةِ المبشرينَ بالجنةِ مجابَ الدعوى إنْ دعا لشخصٍ أصابَتهُ تلكَ الدعوى وإن دعا على شخصٍ ظالمٍ أصابتْهُ تلكَ الدعوى وذلكَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم دعا لسعدِ بن أبي وقاص قال اللهُمَّ أجب دعوتهُ2 اهـ فكانت دعوتُهُ مستجابةً. مِنْ ذلكَ ما رواهُ قيسُ بن أبي حازم وكانَ من أكابرِ التابعينَ الذي لَقُوا الصحابةَ قال كنتُ في المدينةِ أطوفُ في السوقِ حتى بَلِغْتُ أحجارَ الزَّيتِ فلقِيتُ أناسًا مجتمِعينَ وإذا برَجُلٍ راكِبٍ دابةً بينهم فجاءَ سعدُ بنُ أبي وقاص فقال ما هذا فقالوا هذا رجلٌ يشتُمُ عليَّ بن أبي طالب فتقدَّمَ إليهِ فأفْرَجُوا له فقال سعد يا هذا علامَ تشتُمُ عليَّ بن أبي طالب ألم تعلَمْ أنهُ أولُ مَنْ أسلمَ، ألمْ تعلَمْ أنهُ أولُ مَن صلَّى معَ رسولِ اللهِ، وَذَكَرَ حتى قال ألم تعلَمْ أنهُ خَتَنُ3 رسولِ اللهِ، ألم تعلم أنهُ صاحبُ رايةِ رسولِ الله في غَزواتِهِ، ثم استقبلَ القبلةَ ورفعَ يدَيهِ فقالَ اللهُمَّ إن كانَ هذا يشتُمُ وليًّا من أوليائِكَ فلا تفرّق هذا الجمعَ حتى تُرِيَهُم قدرتَكَ فساخَت4 بهِ دابَّتُهُ فوقعَ على هامَتِهِ على تلكَ الأحجارِ فانْفَلَقَ دِماغُهُ فماتَ5 اهـ.
ثم بعدَ ذلكَ ذُكِرَ لهُ أنَّ رجُلاً منَ الحُكَّامِ الجائرينَ قالَ في بيتِ مالِ المسلمينَ إنَّ هذهِ الأموالَ نفعلُ بها ما نشاءُ ونمنعُ عنها مَن نشاءُ فقام سعدٌ ليَدْعُوَ عليهِ فنزلَ ذلكَ الرجلُ خوفًا مِن أن يدعُوَ عليه فتُصيبَهُ دعوتُهُ فيهلِكَ وقالَ إنما هي أموالُ اللهِ6، كانَ أحدَ وُلاةِ بني أميةَ الجائِرينَ الذينَ يَسْتَبِّدُّونَ ببيتِ مالِ الـمُسلمينَ فيُعْطُونَ مَنْ يُواليهِم ويَمْنَعُونَ عن كثيرٍ ممن يسْتَحِقُّونَ.
وهكذا يَنْتَقِمُ اللهُ تعالى ممن يشاءُ ممن يؤذي أولياءَهُ وينتَهِكُ حُرمَتَهُم، وهذا الذي يؤذي الأولياءَ لا يأمَنْ أنْ يصيبَهُ اللهُ تعالى قبلَ موتِهِ بمصيبةٍ تَقْصِمُ ظهرَهُ جزاءً لهُ على فعلِهِ.
ثم يُعلَمُ من هذا الحديثِ الصحيحِ أنَّ أكابرَ أًصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم المهاجِرينَ الأوَّلينَ لـم يكن بينَهُم حِقدٌ وعَدَاوةٌ بل كانَ كلُّ واحدٍ منهُم يَعرِفُ الفَضْلَ لأخيهِ الذي يجمَعُهُ بهِ صحبَتُهُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم والسابقيةُ في مؤازَرَتِهِ فمَنْ قامَ بالتَّعَصُّبِ وطعنَ في بعضٍ منهم ومَدَحَ البعضَ فإنَّ عاقِبَتَهُ وخيمةٌ ومن لـم يشأ اللهُ له النجاةَ لا يعتَبِرُ مهما شاهدَ أو سمِعَ بما فيه عبرةٌ.
كان أحدُ فقهاءِ اليَمَنِ سليطَ اللسانِ على بعضِ الفُقهاءِ المعتَبرينَ من الأولياءِ الكِبارِ، وهذا الفقيهُ الوليُّ الإمامُ هو الفقيهُ المشهورُ محيي الدينِ النوويُّ، وكانَ هذا اليمنيُّ يؤذي النوويَّ فلمَّا ماتَ اليمنيُّ واسمُهُ جمالُ الدينِ اندلَعَ لسانُهُ بشكلٍ بَشِعٍ وجاءَ شىءٌ يشبِهُ الـهِرَّةَ فاقتَطَعَ لسانَهُ وذهبَ بهِ واختفى7، هذا بعضُ ما جزاهُ اللهُ تعالى بهِ قبلَ أن يُغَيَّبَ إلى بطنِ الأرضِ. فالحذرَ الحذرَ من القدحِ والطعنِ في واحدٍ من السابقينَ الأولينَ منَ الـمُهاجرينَ أو الأنصارِ، والأنصارُ هم أهلُ المدينةِ الذينَ نصرُوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فسمَّاهُم اللهُ تعالى بهذا الاسمِ الشريفِ الأنصار وهو اسمٌ لـم يكُن لهم قبلَ الإسلامِ إنما الإسلامُ شرَّفَهُم به، كذلكَ ليَحْذَر المؤمنُ المشفِقُ على نفسِهِ منَ التعرُّضِ لمعاداةِ أيِّ وليٍّ من أولياءِ الله.
وسعدُ بنُ أبي وقاص هو أفضلُ المؤمنينَ بعدَ الخلفاءِ الراشدينَ منَ الطبقةِ العليا. أما أبو هريرة فلا يُعَدُّ منَ السابقينَ الأوَّلين لكنَّهُ يُعَدُّ من علماءِ الصحابةِ ومن الذينَ كانَ لهم حظٌّ وافرٌ مِن حبِّ اللهِ ورسولهِ، وقدْ أدْرَكَ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم صحبةَ ثلاثِ سنواتٍ لازَمَهُ فيها فأخذَ مِنَ العلمِ الكثيرَ الكثيرَ لأنهُ كانَ متفرِّغًا لـم يكُن متزوِّجًا ولـم يكُن يشغَلُهُ أهلٌ ولا مالٌ فلـم يكُنْ يَمْتَهِنُ مِهْنةً ولا كانَ لهُ ابنٌ يشغَلُهُ ولا أهلٌ تقطعُهُ خِدْمَتُهُم عن مُلازَمَةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فجمعَ في هذهِ السنواتِ مِنْ علمِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ما لـم يَجْمَعْهُ كثيرٌ منَ الذينَ لازَمُوا رسولَ اللهِ أكثرَ من عشرِ سنواتٍ، واللهُ تعالى هو ذو الفضلِ والمنّ كما قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في بعضِ دَعَواتِهِ لا مانِعَ لما أعطَيْتَ ولا مُعْطِيَ لما مَنَعْتَ8 اهـ فمِنْ علاماتِ الـمَقْتِ أنْ يجعلَ الإنسانُ همَّهُ الطعنَ بهؤلاءِ الأبرارِ الأطهارِ.
والهِجرةُ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لها مكانةٌ عاليةٌ عندَ اللهِ، كانَ رجلٌ من أصحابِ رسولِ الله قد هاجرَ هو وصاحبٌ لهُ من بلادِهما وتُسَمَّى دَوْسًا إلى المدينةِ المنورةِ بعدما هاجرَ إليها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بمدَّةٍ، تركَا وطَنَهُما حُبًّا في اللهِ ورَسُولهِ واغْتَرَبا إلى مدينةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وكانَ أحدُ الرجُلَينِ أصابَهُ مرضٌ ثم اشتدَّ عليهِ الألمُ فأخذَ حديدةً فقطعَ مفاصلَ يدَيهِ فصارَ الدمُ يَشْخُبُ فماتَ بنزيف الدم، ثم رءاهُ رفيقُهُ المهاجرُ في الرؤيا برؤيةٍ حسنةٍ، لـم يرَهُ برؤيةٍ سيئةٍ، فقالَ لهُ ما فعلَ بكَ ربُّكَ قالَ غفرَ لي بهِجْرَتي إلى النبيِّ9، فإذا كانَ هذا حالَ هذا الـمُهاجرِ الذي فعلَ أكبرَ الجرائمَ بعدَ الكفرِ فكيفَ يكونُ المهاجِرونَ السابِقونَ الأوَّلونَ.
إذا كانَ اللهُ تبارك وتعالى شبَّهَ غِيبَةَ الرجلِ المسلمِ مِنْ غيرِ سببٍ شرعيٍّ من غيرِ تقييدٍ بالصالحينَ الأولياءَ بالأكلِ من لحمِ أخيهِ ميتًا فما يكونُ الذي يَغتابُ أبا بكرٍ أو عُمرَ أو عثمان أو أبا هريرةَ أو سعدَ بن مالك، أليسَ هذا ذنبًا ومعصيةً شنيعةً. الله تعالى عظَّمَ حرمةَ المؤمنِ فقد رُوِّينا بالإسنادِ الصحيحِ أنَّ حُرمةَ المؤمنِ عندَ اللهِ تعالى أعظمُ مِنْ حُرمةِ الكعبةِ10. وأما غيبةُ الأتقياءِ الصالـحينَ فمعصيةٌ كبيرةٌ مَن أكثرَ منها ولـم يَتُبْ يكونُ من أهلِ عذابِ القبرِ.
فما أعظمَ خُبثَ مَنْ يُعادي واحدًا منَ السابقينَ الأولينَ من المهاجرينَ والأنصار والذينَ اتَّبَعُوهُم بإحسانٍ وما أعظمَ جهلَهُ إن أقْدَمَ على الطعنِ فيمن زكَّاهُمُ الله.
انتهى واللهُ تعالى أعلم.
------------------
1- أخرجه البخاري في صحيحه باب التواضع.
2- رواه الحاكم في المستدرك في كتاب المغازي و السرايا.
3- الختن زوج البنت كما في غريب الحديث لابن الجوزي.
4- أي غاصت في الأرض انظر تاج العروس.
5- رواه الحاكم في المستدرك في باب ذكر مناقب أبي إسحاق سعد بن أبي وقاص.
6- رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين باب ذكر مناقب أبي إسحاق سعد بن أبي وقاص.
7- انظر الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة للحافظ ابن حجر.
8- رواهُ مسلم في صحيحه باب ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع.
9- أخرجه البخاري في الأدب المفرد باب رفع الأيدي في الدعاء و مسلم في صحيحه باب الدليل على أن قاتل نفسه لا يكفر.
10- رواه الترمذي في سننه باب ما جاء في تعظيم المؤمن، والبيهقي في شعب الإيمان فصل فيما ورد من الأخبار في التشديد على من اقترض من عرض أخيه المسلم شيئًا بسب أو غيره.
التحذيرُ من مُعاداةِ الأولياءِ
جامع الخيرات
درسٌ ألقاهُ العالِمُ العامِلُ الشيخُ عبدُ اللهِ بنُ محمدٍ العبدريُّ رحمه الله تعالى سنةَ ثمانٍ وتسعينَ وثلاثمائةٍ وألفٍ في بيروتَ في مسجد برجِ أبي حيدرٍ وهو في بيانِ التحذير مِنْ مُعاداةِ الأولياءِ والطعنِ في السابقينَ الأولينَ منَ الـمُهاجرينَ والأنصارِ.
قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:
الحمدُ لله ربّ العالمين وصلى الله على سيدِنا محمدٍ وعلى ءالهِ وصحبِهِ الطيبينَ الطاهرينَ وسلَّم، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا الله وحدَهُ لا شريكَ لهُ وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُهُ.
أمّا بعدُ فقد قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويهِ عنِ اللهِ تبارك وتعالى مَنْ عادى لي وليًّا فقد ءاذَنتُهُ بالحربِ وما تقرَّبَ إليَّ عبدي بشىءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضْتُ عليه ولا يزالُ عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافلِ حتى أحبَّهُ فإذا أحبَبْتُهُ كنتُ سمعَهُ الذي يسمعُ بهِ وبصَرَهُ الذي يُبصِرُ بهِ ويدَهُ التي يبطِشُ بها ورِجلَهُ التي يمشي بها اهـ الحديث أخرجه البخاريّ1.
والوليُّ هو الذي أدَّى الواجباتِ واجْتَنَبَ الـمُحرَّماتِ وأكثرَ منَ النوافلَ، فالطَّبَقةُ العُليا منَ المؤمنينَ بعدَ الأنبياءِ بالنسبةِ إلى البشرِ والجنّ همُ الأولياءُ ثم سائرُ المؤمنين. أمّا الملائكةُ فكلُّهُم أولياءُ اللهِ وإنْ كانوا على درجاتٍ فيما بينَهُم. وأكبرُ الأولياءِ في البشرِ وأعلاهُم درجةً هم أولياءُ الصحابةِ.
وأولياءُ أمةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم هم الذينَ عناهُم اللهُ تعالى بقولهِ في سورةِ براءة ﴿والسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ المُهاجِرينَ والأنصارِ والذينَ اتَّبَعُوهُم بإحسانٍ رضيَ اللهُ عنهُم ورَضُوا عنهُ وأعدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تجري تحتَها الأنهارُ خالِدينَ فيها أبدًا ذلكَ الفَوزُ العظيمُ﴾ وهؤلاءِ الأولياءُ لا ينقَطِعُونَ في أمةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم إلى يومِ القيامةِ. ثمَّ إنَّ مِنْ كراماتِ الأولياءِ أو مما يُكرِمُهُم اللهُ بهِ في الدنيا إجابةَ الدعوى وتكثيرَ القليلِ منَ الطعامِ وعدمَ التَّأثُّرِ بالسُّمِّ القاتلِ وعدمَ الاحتِراقِ بالنارِ. أما إجابةُ الدعوى فهيَ كثيرةٌ. كانَ سعدُ بنُ أبي وقاصٍ وهوَ الـمُسمَّى سعدَ بنَ مالكٍ المكيَّ القرشيَّ أحدُ العشرةِ المبشرينَ بالجنةِ مجابَ الدعوى إنْ دعا لشخصٍ أصابَتهُ تلكَ الدعوى وإن دعا على شخصٍ ظالمٍ أصابتْهُ تلكَ الدعوى وذلكَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم دعا لسعدِ بن أبي وقاص قال اللهُمَّ أجب دعوتهُ2 اهـ فكانت دعوتُهُ مستجابةً. مِنْ ذلكَ ما رواهُ قيسُ بن أبي حازم وكانَ من أكابرِ التابعينَ الذي لَقُوا الصحابةَ قال كنتُ في المدينةِ أطوفُ في السوقِ حتى بَلِغْتُ أحجارَ الزَّيتِ فلقِيتُ أناسًا مجتمِعينَ وإذا برَجُلٍ راكِبٍ دابةً بينهم فجاءَ سعدُ بنُ أبي وقاص فقال ما هذا فقالوا هذا رجلٌ يشتُمُ عليَّ بن أبي طالب فتقدَّمَ إليهِ فأفْرَجُوا له فقال سعد يا هذا علامَ تشتُمُ عليَّ بن أبي طالب ألم تعلَمْ أنهُ أولُ مَنْ أسلمَ، ألمْ تعلَمْ أنهُ أولُ مَن صلَّى معَ رسولِ اللهِ، وَذَكَرَ حتى قال ألم تعلَمْ أنهُ خَتَنُ3 رسولِ اللهِ، ألم تعلم أنهُ صاحبُ رايةِ رسولِ الله في غَزواتِهِ، ثم استقبلَ القبلةَ ورفعَ يدَيهِ فقالَ اللهُمَّ إن كانَ هذا يشتُمُ وليًّا من أوليائِكَ فلا تفرّق هذا الجمعَ حتى تُرِيَهُم قدرتَكَ فساخَت4 بهِ دابَّتُهُ فوقعَ على هامَتِهِ على تلكَ الأحجارِ فانْفَلَقَ دِماغُهُ فماتَ5 اهـ.
ثم بعدَ ذلكَ ذُكِرَ لهُ أنَّ رجُلاً منَ الحُكَّامِ الجائرينَ قالَ في بيتِ مالِ المسلمينَ إنَّ هذهِ الأموالَ نفعلُ بها ما نشاءُ ونمنعُ عنها مَن نشاءُ فقام سعدٌ ليَدْعُوَ عليهِ فنزلَ ذلكَ الرجلُ خوفًا مِن أن يدعُوَ عليه فتُصيبَهُ دعوتُهُ فيهلِكَ وقالَ إنما هي أموالُ اللهِ6، كانَ أحدَ وُلاةِ بني أميةَ الجائِرينَ الذينَ يَسْتَبِّدُّونَ ببيتِ مالِ الـمُسلمينَ فيُعْطُونَ مَنْ يُواليهِم ويَمْنَعُونَ عن كثيرٍ ممن يسْتَحِقُّونَ.
وهكذا يَنْتَقِمُ اللهُ تعالى ممن يشاءُ ممن يؤذي أولياءَهُ وينتَهِكُ حُرمَتَهُم، وهذا الذي يؤذي الأولياءَ لا يأمَنْ أنْ يصيبَهُ اللهُ تعالى قبلَ موتِهِ بمصيبةٍ تَقْصِمُ ظهرَهُ جزاءً لهُ على فعلِهِ.
ثم يُعلَمُ من هذا الحديثِ الصحيحِ أنَّ أكابرَ أًصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم المهاجِرينَ الأوَّلينَ لـم يكن بينَهُم حِقدٌ وعَدَاوةٌ بل كانَ كلُّ واحدٍ منهُم يَعرِفُ الفَضْلَ لأخيهِ الذي يجمَعُهُ بهِ صحبَتُهُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم والسابقيةُ في مؤازَرَتِهِ فمَنْ قامَ بالتَّعَصُّبِ وطعنَ في بعضٍ منهم ومَدَحَ البعضَ فإنَّ عاقِبَتَهُ وخيمةٌ ومن لـم يشأ اللهُ له النجاةَ لا يعتَبِرُ مهما شاهدَ أو سمِعَ بما فيه عبرةٌ.
كان أحدُ فقهاءِ اليَمَنِ سليطَ اللسانِ على بعضِ الفُقهاءِ المعتَبرينَ من الأولياءِ الكِبارِ، وهذا الفقيهُ الوليُّ الإمامُ هو الفقيهُ المشهورُ محيي الدينِ النوويُّ، وكانَ هذا اليمنيُّ يؤذي النوويَّ فلمَّا ماتَ اليمنيُّ واسمُهُ جمالُ الدينِ اندلَعَ لسانُهُ بشكلٍ بَشِعٍ وجاءَ شىءٌ يشبِهُ الـهِرَّةَ فاقتَطَعَ لسانَهُ وذهبَ بهِ واختفى7، هذا بعضُ ما جزاهُ اللهُ تعالى بهِ قبلَ أن يُغَيَّبَ إلى بطنِ الأرضِ. فالحذرَ الحذرَ من القدحِ والطعنِ في واحدٍ من السابقينَ الأولينَ منَ الـمُهاجرينَ أو الأنصارِ، والأنصارُ هم أهلُ المدينةِ الذينَ نصرُوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فسمَّاهُم اللهُ تعالى بهذا الاسمِ الشريفِ الأنصار وهو اسمٌ لـم يكُن لهم قبلَ الإسلامِ إنما الإسلامُ شرَّفَهُم به، كذلكَ ليَحْذَر المؤمنُ المشفِقُ على نفسِهِ منَ التعرُّضِ لمعاداةِ أيِّ وليٍّ من أولياءِ الله.
وسعدُ بنُ أبي وقاص هو أفضلُ المؤمنينَ بعدَ الخلفاءِ الراشدينَ منَ الطبقةِ العليا. أما أبو هريرة فلا يُعَدُّ منَ السابقينَ الأوَّلين لكنَّهُ يُعَدُّ من علماءِ الصحابةِ ومن الذينَ كانَ لهم حظٌّ وافرٌ مِن حبِّ اللهِ ورسولهِ، وقدْ أدْرَكَ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم صحبةَ ثلاثِ سنواتٍ لازَمَهُ فيها فأخذَ مِنَ العلمِ الكثيرَ الكثيرَ لأنهُ كانَ متفرِّغًا لـم يكُن متزوِّجًا ولـم يكُن يشغَلُهُ أهلٌ ولا مالٌ فلـم يكُنْ يَمْتَهِنُ مِهْنةً ولا كانَ لهُ ابنٌ يشغَلُهُ ولا أهلٌ تقطعُهُ خِدْمَتُهُم عن مُلازَمَةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فجمعَ في هذهِ السنواتِ مِنْ علمِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ما لـم يَجْمَعْهُ كثيرٌ منَ الذينَ لازَمُوا رسولَ اللهِ أكثرَ من عشرِ سنواتٍ، واللهُ تعالى هو ذو الفضلِ والمنّ كما قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في بعضِ دَعَواتِهِ لا مانِعَ لما أعطَيْتَ ولا مُعْطِيَ لما مَنَعْتَ8 اهـ فمِنْ علاماتِ الـمَقْتِ أنْ يجعلَ الإنسانُ همَّهُ الطعنَ بهؤلاءِ الأبرارِ الأطهارِ.
والهِجرةُ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لها مكانةٌ عاليةٌ عندَ اللهِ، كانَ رجلٌ من أصحابِ رسولِ الله قد هاجرَ هو وصاحبٌ لهُ من بلادِهما وتُسَمَّى دَوْسًا إلى المدينةِ المنورةِ بعدما هاجرَ إليها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بمدَّةٍ، تركَا وطَنَهُما حُبًّا في اللهِ ورَسُولهِ واغْتَرَبا إلى مدينةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وكانَ أحدُ الرجُلَينِ أصابَهُ مرضٌ ثم اشتدَّ عليهِ الألمُ فأخذَ حديدةً فقطعَ مفاصلَ يدَيهِ فصارَ الدمُ يَشْخُبُ فماتَ بنزيف الدم، ثم رءاهُ رفيقُهُ المهاجرُ في الرؤيا برؤيةٍ حسنةٍ، لـم يرَهُ برؤيةٍ سيئةٍ، فقالَ لهُ ما فعلَ بكَ ربُّكَ قالَ غفرَ لي بهِجْرَتي إلى النبيِّ9، فإذا كانَ هذا حالَ هذا الـمُهاجرِ الذي فعلَ أكبرَ الجرائمَ بعدَ الكفرِ فكيفَ يكونُ المهاجِرونَ السابِقونَ الأوَّلونَ.
إذا كانَ اللهُ تبارك وتعالى شبَّهَ غِيبَةَ الرجلِ المسلمِ مِنْ غيرِ سببٍ شرعيٍّ من غيرِ تقييدٍ بالصالحينَ الأولياءَ بالأكلِ من لحمِ أخيهِ ميتًا فما يكونُ الذي يَغتابُ أبا بكرٍ أو عُمرَ أو عثمان أو أبا هريرةَ أو سعدَ بن مالك، أليسَ هذا ذنبًا ومعصيةً شنيعةً. الله تعالى عظَّمَ حرمةَ المؤمنِ فقد رُوِّينا بالإسنادِ الصحيحِ أنَّ حُرمةَ المؤمنِ عندَ اللهِ تعالى أعظمُ مِنْ حُرمةِ الكعبةِ10. وأما غيبةُ الأتقياءِ الصالـحينَ فمعصيةٌ كبيرةٌ مَن أكثرَ منها ولـم يَتُبْ يكونُ من أهلِ عذابِ القبرِ.
فما أعظمَ خُبثَ مَنْ يُعادي واحدًا منَ السابقينَ الأولينَ من المهاجرينَ والأنصار والذينَ اتَّبَعُوهُم بإحسانٍ وما أعظمَ جهلَهُ إن أقْدَمَ على الطعنِ فيمن زكَّاهُمُ الله.
انتهى واللهُ تعالى أعلم.
------------------
1- أخرجه البخاري في صحيحه باب التواضع.
2- رواه الحاكم في المستدرك في كتاب المغازي و السرايا.
3- الختن زوج البنت كما في غريب الحديث لابن الجوزي.
4- أي غاصت في الأرض انظر تاج العروس.
5- رواه الحاكم في المستدرك في باب ذكر مناقب أبي إسحاق سعد بن أبي وقاص.
6- رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين باب ذكر مناقب أبي إسحاق سعد بن أبي وقاص.
7- انظر الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة للحافظ ابن حجر.
8- رواهُ مسلم في صحيحه باب ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع.
9- أخرجه البخاري في الأدب المفرد باب رفع الأيدي في الدعاء و مسلم في صحيحه باب الدليل على أن قاتل نفسه لا يكفر.
10- رواه الترمذي في سننه باب ما جاء في تعظيم المؤمن، والبيهقي في شعب الإيمان فصل فيما ورد من الأخبار في التشديد على من اقترض من عرض أخيه المسلم شيئًا بسب أو غيره.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin