الدرس الخمسون
كيفيَّةُ التَّذكيةِ وحُرمةُ أكلِ الميتةِ (1)
جامع الخيرات
درسٌ ألقاهُ الفقيهُ المحدثُ الشيخُ عبد الله بن محمد الهرريُّ رحمه الله تعالى في السادسِ والعشرينَ من ربيع الأول سنة ثمان وتسعينَ وثلاثمائة وألف وهو في بيان التذكيةِ وحرمةِ أكلِ الميتةِ.
قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:
الحمدُ للهِ رب العالمين له النعمةُ ولهُ الفضلُ ولهُ الثناءُ الحسنُ وصلى اللهُ على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه وسلم.
أمَّا بعدُ فإنَّ أحسنَ الحديثِ كتابُ اللهِ وأحسنَ الهديِ هديُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشرُّ الأمورِ محدثاتُها وكلُّ محدَثةٍ بدعةٌ وكلُّ بدعةٍ ضلالةٌ. قال اللهُ تباركَ وتعالى في سورة المائدة ﴿حُرِّمَتْ عليكُمُ المَيتَةُ والدَّمُ ولحمُ الخِنزيرِ وما أُهِلَّ لغَيرِ اللهِ بهِ والمُنْخَنِقَةُ والمَوْقُوذَةُ والمُتَرَدِّيَةُ والنَّطيحةُ وما أكلَ السبُعُ إلا ما ذَكَّيتُم وما ذُبِحَ على النُّصُبِ وأن تَسْتَقْسِمُوا بالأزلامِ ذلكُم فِسقٌ﴾.
اللهُ تباركَ وتعالى ذكرَ في هذهِ الآيةِ تحريمَ أحدَ عشرَ شيئًا، الأولُ منها: الميتةُ: وهيَ ما زالتْ حياتُها بغيرِ ذكاةٍ شرعيةٍ كأنْ تموتَ بمرضٍ أو بذَبحِ مَن لا تَحِلُّ ذبيحَتُهُ كالمجوسيّ والمرتدّ والدُّرزيّ والبُوذيّ ولو ذَبَحوا كما يذبحُ المسلمونَ بقطعِ الحلقومِ أيْ مجرى النفسِ وبقطعِ الْمَرِيءِ أي مجرى الطعامِ والشرابِ ولو سمَّوا وكبَّروا فلا تحِلُّ ذبيحةُ هؤلاءِ. أما اليهوديُّ والنصرانيُّ فتحِلُّ ذبيحَتُهُما لأنَّ هذينِ معَ كفرِهِما أحلَّ اللهُ لنا أنْ نأكلَ ذبائِحَهُما إنْ ذبحا بالطريقةِ الإسلاميةِ. والمرأةُ المسلمةُ واليهوديةُ والنصرانيةُ إذا ذبحت فذبيحَتُها حلالٌ وكذلكَ الولدُ الذي هُوَ دونَ سنِّ البلوغِ إذا كانَ يُحسِنُ الذبحَ.
واليهوديُّ والنصرانيُّ لو لـم يُسمِّيا اللهَ فذَبيحَتُهُما حلالٌ، أما المسلمُ إنْ سمَّى اللهَ تعالى فذبيحَتُهُ حلالٌ باتِّفاقِ العلماءِ، وإنْ تركَ تسميةَ اللهِ عمدًا فقدْ قالَ أبو حنيفةَ وأحمدُ ومالكٌ لا تحلُّ ذبيحَتُهُ وإنْ تركَها سَهوًا تحلُّ ذبيحَتُهُ، وأما الإمامُ الشافعيُّ رضيَ اللهُ عنه فقالَ ذبيحةُ المسلمِ سمَّى اللهَ أو لـم يسمِّ فهيَ حلالٌ ولو تركَ التسميةَ عمدًا.
والمسلمُ أو اليهوديُّ أو النصرانيُّ إذا ضغطَ على الآلةِ التي تقطعُ رقبةَ الذبيحةِ فنزلتْ فقَطعتها حلَّ وتكونُ كالتي ذُبِحَتْ بالسكينِ، وإنْ كانتِ الماكينةُ بمُجرَّدِ ما تدخلُ البقرةُ أو غيرُها إليها تقطعُ رقبتَها فهذه ميتةٌ.
وأما المسلمُ الذي ارتدَّ إلى اليهوديةِ أو النصرانيةِ فذبيحَتُهُ حرامٌ.
ولا يجوزُ للمسلمِ أنْ يأكلَ اللحمَ حيثُما وجدَهُ من غيرِ أن يعلمَ أنهُ ذبحٌ شرعيٌّ، ولا ضرورةَ لأكلهِ معَ وجودِ السمكِ والخضارِ الحلالِ، وليُعلم أنَّ أولَ ما يَنْتُنُ منَ الإنسانِ في القبرِ بطنُهُ فليَكتفِ الإنسانُ بالخضارِ وذبحِ يدهِ في حالةٍ كهذهِ.
أما السمكُ فكيفَما وصلَ إلينا فحلالٌ سواءٌ عن طريقِ مجوسيّ أو كتابيّ فمَيتَةُ السمكِ حلالٌ.
الأمرُ الثاني: الدمُ: فهوَ حرامٌ حرَّمَهُ اللهُ تعالى سواءٌ كانَ دمَ ذبيحةٍ منَ الحيواناتِ المأكولةِ أو دمَ غيرِها وسواءٌ كانَ مائِعًا أو جَـمَدَ بعدَ انفِصالهِ من مخرَجِهِ فالدمُ الذي يخرجُ منَ الذبيحةِ ثمَّ يجمُدُ بطريقةٍ ما فحرامٌ أكلُهُ وقد تعوَّدُوا ذلكَ في أَوْروبا وهوَ منَ الكبائرِ وحرامٌ بيعهُ وشراؤُهُ.
والدمُ الذي حرَّمَهُ اللهُ تعالى هوَ الدمُ المسفوحُ أيِ السائلُ، قالَ اللهُ تعالى في سورةِ الأنعام ﴿قُل لا أجِدُ في ما أوحِيَ إليَّ مُحرَّمًا على طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلا أن يكونَ مَيتةً أوْ دمًا مَسفوحًا﴾ أما الدمُ غيرُ السائلِ فليسَ حرامًا فالكبدُ والطِّحالُ حلالٌ لأنهما ليسا دمًا مسفوحًا فمَن أكلَ الكبدَ نيئًا أو مَطبوخًا أو مَشويًا فهوَ حلالٌ وكذلكَ الطِّحالُ لأنَّ اللهَ قالَ ﴿أوْ دمًا مسفُوحًا﴾ ولـم يقُلْ أو غيرَ مسفوحٍ، أما الدمُ الذي يَنِزُّ منَ اللحمِ الطازَجِ ويَسيلُ منهُ فهذا غيرُ حرامٍ، كذلكَ لو احمَرَّ المرَقُ منَ اللحمِ الْمُقطَّعِ الطازجِ لا يحرمُ إنما الحرامُ هوَ الدمُ المسفوحُ.
الأمرُ الثالثُ: لحمُ الخنزيرِ: أي يحرمُ أكلُهُ سواءٌ كانَ بريًّا أو أهليًّا.
والميتةُ والدمُ ولحمُ الخنزيرِ وما أُهِلَّ لغيرِ اللهِ بهِ حرامٌ في جميعِ الشرائعِ ومِنها شرعُ المسيحِ.
الأمرُ الرابعُ: ما أهِلَّ لغيرِ اللهِ بهِ: أيْ ما ذُبِحَ لعبادةِ غيرِ اللهِ كتعظيمِ الأصنامِ، فالشىءُ الذي ذُكرَ عليهِ اسمُ غيرِ اللهِ عندَ ذبحِهِ حرامٌ، كما يفعلُ بعضُ الوثنيّينَ لما يذبحونَ لأوثانِهم ويذكرونَ عليه اسمَ ذلكَ الوثنِ تعظيمًا لهُ وتقرُّبًا إليهِ. كانَ لقبائلِ العربِ طواغيتُ، والطاغوتُ هوَ شيطانٌ ينزلُ على الإنسانِ ويتكلمُ على فمِهِ فكانُوا في الجاهلية يُعظِّمُونَ هذا الإنسانَ من أجلِ الشيطانِ الذي يَنزلُ فيهِ ويتكلمُ على لسانِهِ، كانوا يعبدونَ ذلكَ الشيطانَ لأنهُ عندما ينزلُ على هذا الإنسانِ كانَ يُـحَدِّثُهم ببعضِ ما يَـحدُثُ في المستقبلِ، كانَ يقولُ لهم هذا العامَ يحصلُ كذا يحصلُ وباءٌ وحرقٌ وقحلٌ وأحيانًا يقولُ فلانٌ يولَدُ لهُ ولدٌ، فلانٌ يموتُ ونحوَ ذلكَ منَ الأمورِ المستقبلةِ، وهذا الشيطانُ لا يعلمُ الغيب إنما يأخذُ الخبرَ منَ الملائكةِ إذِ الملائكةُ أولياءُ اللهِ وأحبابهُ يُطلِعُهُم اللهُ تعالى على كثيرٍ منَ المستقبلِ فهذا الشيطانُ يسمعُ مُستَخْفيًا حديثَ الملائكةِ فيما بينَهُم ثمَّ ينزلُ فيتَحدثُ بهِ لكنهُ لا يقتصرُ على الذي سمِعَهُ منَ الملائكةِ بل يُضيفُ إليهِ كذبًا كثيرًا فيتحقَّقُ الذي سمعهُ منَ الملائكةِ والأكاذيبُ التي ضمَّها لا تتحقَّقُ لكنَّ الناسَ الذينَ يُعظّمونَهُ متى ما صدقَ لهُ خبرٌ أو خبرانِ أو ثلاثةٌ فهذا يُغطّي عندَهُم الأكاذيبَ التي تحصلُ منهُ، فالذبحُ لهذا الشيطانِ هوَ ما ذكرهُ اللهُ تعالى بقولهِ ﴿وما أُهِلَّ لغيرِ اللهِ بهِ﴾ أما الأنبياءُ والأولياءُ والملائكةُ فيُطلِعُهم اللهُ على بعضِ الغَيبِ لأنَّ نفوسَهُم مُستَنيرةٌ بتقوى اللهِ فهؤلاءِ إنْ تحدَّثُوا عن بعضِ ما يحصلُ في المستقبلِ ليسَ عليهم ذنبٌ. فهذا الذي يَذبحُ للشيطانِ هوَ ما ذكرَهُ اللهُ تعالى ﴿وما أهِلَّ لغيرِ اللهِ بهِ﴾ وأكْلُهُ حرامٌ. في الجاهليةِ كانوا يذبحونَ تقرُّبًا إلى هذهِ الشياطينِ كذلكَ كانوا يذبحونَ لعبادةِ الأصنامِ فقد كانَ عندَهُم وثَنٌ كبيرٌ يُسمُّونَهُ هُبَلُ ووثنٌ اسمهُ مَناةُ وءاخرُ اسمُهُ اللاتُ وعندَهُم العُزَّى وهيَ شيطانةٌ أنثى ذهبَ خالدُ بنُ الوليدِ إلى الشجرةِ1التي كانت هيَ تُظهِرُ صوتَها فيها فقطَعها وصادفَ هناكَ الشيطانةَ عُزَّى فقتلَها كانت مُتشَكِّلةً بشكلِ أنثى منَ البشرِ وقال لها :
يا عُزَّى كُفْرانَكِ لا سُبحانَكِ ****** إنّي رأيتُ اللهَ قد أهانكِ اهـ
ومعَ كلّ واحدٍ مِنَّا قَرينٌ جنيٌّ وظيفَتُهُ أنْ يُوَسْوِسَ لابنِ ءادمَ يُرغِّبُهُ في المعصيةِ ويُثَبِّطهُ عن عملِ الخيرِ والصلاةِ، عندما يُريدُ أن يقومَ للصلاةِ يُثْقِلُ عليهِ رأسَه، وهناكَ غيرُ هؤلاءِ مَن يتَسَلَّطْنَ على النساءِ فيُؤذينَهُنَّ في أجسامِهنَّ ويَقتُلْنَ أولادَهُنَّ بتقديرِ اللهِ ويُسَمُّونَ الواحدةَ منهنَّ قرينةً. قال الله تعالى في سورة مريم ﴿ألَمْ ترَ أنَّا أرْسَلْنا الشياطينَ على الكافرينَ تَؤُزُّهُم أزًّا﴾ فاللهُ تعالى يفعلُ ما يريدُ ومعنى تَؤُزُّهُم أزًّا أيْ تُقَوِّيهم بالمعاصي وتَدفعُهم إليها. وتُقرأُ سورةُ الزلزلةِ وغيرُ ذلكَ بنيةِ قَلْعِ وإخراجِ الجنّ منَ المصابِ بهِ.
فكلُّ ذبيحةٍ ذُبِحَتْ لغيرِ اللهِ هيَ علينا حرامٌ إنْ كانتْ ذُبِحَتْ للتقرُّبِ منَ الجنِّ وإنْ ذُبِحَتْ للتقربِ إلى غيرهم. والذبيحةُ باسمِ المسيحِ أو باسمِ الصليبِ حرامٌ وأما إذا ذبحَ النصرانيُّ ساكتًا فذَبيحَتُهُ حلالٌ كما تقدَّمَ.
والإنسانُ الذي تسلَّطَ عليهِ الجنُّ فأوجَعَهُ وءالَمَهُ لا يجوزُ أن يَذبَحَ للجنّ بنيةِ إرضائِهِم ورفعِ أذاهُم عنهُ. الإنسانُ عندَ الضيقِ وعندَ المصائبِ قد يتورَّطُ في معصيةِ اللهِ تعالى فمَن حصلَ لهُ أذًى منَ الجنِّ يجبُ أن يَسْتَسْلِمَ لقضاءِ اللهِ تعالى. بعضُ الجنِّ يتأذَّونَ عندَ صبِّ الماءِ الساخنِ فالنارُ تحرقُهم معَ أنَّ أصلَهم منَ النارِ، إبليسُ خُلِقَ من لهبِ النارِ الصافي وفي الآخرةِ يحترقُ في جهنمَ أما الملائكةُ فليسوا مثلَ الجنّ لا يتأذَّونَ عندَ صبّ الماءِ الساخنِ فجهنَّمُ التي خلقَ اللهُ تعالى أعظمَ نارٍ، فيها يوجدُ ملائكةٌ، مُوَظَّفونَ فيها، لا تُحرِقُهم النارُ، قسمٌ كبيرٌ منَ الملائكةِ في جهنَّمَ والرؤساءُ منهُم تسعةَ عشرَ ورئيسهُم يُسمَّى مالِكًا وهؤلاءِ الرؤساءُ التسعةَ عشرَ لهم أتباعٌ كثيرٌ. فبعضُ الجنّ إذا تأذَّوا منَ الماءِ الساخنِ يُحاوِلونَ إيذاءَ مَنْ صبَّ هذا الماءَ فإذا ءاذَوهُ لا يجوزُ لهُ أن يلجأَ إلى ما حرَّمَ اللهُ لدَفعِ أذاهُم بل يقرأُ منَ القرءانِ أو أذكارًا أخرى بقراءةٍ صحيحةٍ لحمايةِ نفسهِ من ضررهم.
انتهى واللهُ تعالى أعلم.
(ولهذا الدرس تتمة تليه)
------------------
1- ذكرها النسائيّ في السنن الكبرى في باب سورة النجم.
كيفيَّةُ التَّذكيةِ وحُرمةُ أكلِ الميتةِ (1)
جامع الخيرات
درسٌ ألقاهُ الفقيهُ المحدثُ الشيخُ عبد الله بن محمد الهرريُّ رحمه الله تعالى في السادسِ والعشرينَ من ربيع الأول سنة ثمان وتسعينَ وثلاثمائة وألف وهو في بيان التذكيةِ وحرمةِ أكلِ الميتةِ.
قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:
الحمدُ للهِ رب العالمين له النعمةُ ولهُ الفضلُ ولهُ الثناءُ الحسنُ وصلى اللهُ على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه وسلم.
أمَّا بعدُ فإنَّ أحسنَ الحديثِ كتابُ اللهِ وأحسنَ الهديِ هديُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشرُّ الأمورِ محدثاتُها وكلُّ محدَثةٍ بدعةٌ وكلُّ بدعةٍ ضلالةٌ. قال اللهُ تباركَ وتعالى في سورة المائدة ﴿حُرِّمَتْ عليكُمُ المَيتَةُ والدَّمُ ولحمُ الخِنزيرِ وما أُهِلَّ لغَيرِ اللهِ بهِ والمُنْخَنِقَةُ والمَوْقُوذَةُ والمُتَرَدِّيَةُ والنَّطيحةُ وما أكلَ السبُعُ إلا ما ذَكَّيتُم وما ذُبِحَ على النُّصُبِ وأن تَسْتَقْسِمُوا بالأزلامِ ذلكُم فِسقٌ﴾.
اللهُ تباركَ وتعالى ذكرَ في هذهِ الآيةِ تحريمَ أحدَ عشرَ شيئًا، الأولُ منها: الميتةُ: وهيَ ما زالتْ حياتُها بغيرِ ذكاةٍ شرعيةٍ كأنْ تموتَ بمرضٍ أو بذَبحِ مَن لا تَحِلُّ ذبيحَتُهُ كالمجوسيّ والمرتدّ والدُّرزيّ والبُوذيّ ولو ذَبَحوا كما يذبحُ المسلمونَ بقطعِ الحلقومِ أيْ مجرى النفسِ وبقطعِ الْمَرِيءِ أي مجرى الطعامِ والشرابِ ولو سمَّوا وكبَّروا فلا تحِلُّ ذبيحةُ هؤلاءِ. أما اليهوديُّ والنصرانيُّ فتحِلُّ ذبيحَتُهُما لأنَّ هذينِ معَ كفرِهِما أحلَّ اللهُ لنا أنْ نأكلَ ذبائِحَهُما إنْ ذبحا بالطريقةِ الإسلاميةِ. والمرأةُ المسلمةُ واليهوديةُ والنصرانيةُ إذا ذبحت فذبيحَتُها حلالٌ وكذلكَ الولدُ الذي هُوَ دونَ سنِّ البلوغِ إذا كانَ يُحسِنُ الذبحَ.
واليهوديُّ والنصرانيُّ لو لـم يُسمِّيا اللهَ فذَبيحَتُهُما حلالٌ، أما المسلمُ إنْ سمَّى اللهَ تعالى فذبيحَتُهُ حلالٌ باتِّفاقِ العلماءِ، وإنْ تركَ تسميةَ اللهِ عمدًا فقدْ قالَ أبو حنيفةَ وأحمدُ ومالكٌ لا تحلُّ ذبيحَتُهُ وإنْ تركَها سَهوًا تحلُّ ذبيحَتُهُ، وأما الإمامُ الشافعيُّ رضيَ اللهُ عنه فقالَ ذبيحةُ المسلمِ سمَّى اللهَ أو لـم يسمِّ فهيَ حلالٌ ولو تركَ التسميةَ عمدًا.
والمسلمُ أو اليهوديُّ أو النصرانيُّ إذا ضغطَ على الآلةِ التي تقطعُ رقبةَ الذبيحةِ فنزلتْ فقَطعتها حلَّ وتكونُ كالتي ذُبِحَتْ بالسكينِ، وإنْ كانتِ الماكينةُ بمُجرَّدِ ما تدخلُ البقرةُ أو غيرُها إليها تقطعُ رقبتَها فهذه ميتةٌ.
وأما المسلمُ الذي ارتدَّ إلى اليهوديةِ أو النصرانيةِ فذبيحَتُهُ حرامٌ.
ولا يجوزُ للمسلمِ أنْ يأكلَ اللحمَ حيثُما وجدَهُ من غيرِ أن يعلمَ أنهُ ذبحٌ شرعيٌّ، ولا ضرورةَ لأكلهِ معَ وجودِ السمكِ والخضارِ الحلالِ، وليُعلم أنَّ أولَ ما يَنْتُنُ منَ الإنسانِ في القبرِ بطنُهُ فليَكتفِ الإنسانُ بالخضارِ وذبحِ يدهِ في حالةٍ كهذهِ.
أما السمكُ فكيفَما وصلَ إلينا فحلالٌ سواءٌ عن طريقِ مجوسيّ أو كتابيّ فمَيتَةُ السمكِ حلالٌ.
الأمرُ الثاني: الدمُ: فهوَ حرامٌ حرَّمَهُ اللهُ تعالى سواءٌ كانَ دمَ ذبيحةٍ منَ الحيواناتِ المأكولةِ أو دمَ غيرِها وسواءٌ كانَ مائِعًا أو جَـمَدَ بعدَ انفِصالهِ من مخرَجِهِ فالدمُ الذي يخرجُ منَ الذبيحةِ ثمَّ يجمُدُ بطريقةٍ ما فحرامٌ أكلُهُ وقد تعوَّدُوا ذلكَ في أَوْروبا وهوَ منَ الكبائرِ وحرامٌ بيعهُ وشراؤُهُ.
والدمُ الذي حرَّمَهُ اللهُ تعالى هوَ الدمُ المسفوحُ أيِ السائلُ، قالَ اللهُ تعالى في سورةِ الأنعام ﴿قُل لا أجِدُ في ما أوحِيَ إليَّ مُحرَّمًا على طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلا أن يكونَ مَيتةً أوْ دمًا مَسفوحًا﴾ أما الدمُ غيرُ السائلِ فليسَ حرامًا فالكبدُ والطِّحالُ حلالٌ لأنهما ليسا دمًا مسفوحًا فمَن أكلَ الكبدَ نيئًا أو مَطبوخًا أو مَشويًا فهوَ حلالٌ وكذلكَ الطِّحالُ لأنَّ اللهَ قالَ ﴿أوْ دمًا مسفُوحًا﴾ ولـم يقُلْ أو غيرَ مسفوحٍ، أما الدمُ الذي يَنِزُّ منَ اللحمِ الطازَجِ ويَسيلُ منهُ فهذا غيرُ حرامٍ، كذلكَ لو احمَرَّ المرَقُ منَ اللحمِ الْمُقطَّعِ الطازجِ لا يحرمُ إنما الحرامُ هوَ الدمُ المسفوحُ.
الأمرُ الثالثُ: لحمُ الخنزيرِ: أي يحرمُ أكلُهُ سواءٌ كانَ بريًّا أو أهليًّا.
والميتةُ والدمُ ولحمُ الخنزيرِ وما أُهِلَّ لغيرِ اللهِ بهِ حرامٌ في جميعِ الشرائعِ ومِنها شرعُ المسيحِ.
الأمرُ الرابعُ: ما أهِلَّ لغيرِ اللهِ بهِ: أيْ ما ذُبِحَ لعبادةِ غيرِ اللهِ كتعظيمِ الأصنامِ، فالشىءُ الذي ذُكرَ عليهِ اسمُ غيرِ اللهِ عندَ ذبحِهِ حرامٌ، كما يفعلُ بعضُ الوثنيّينَ لما يذبحونَ لأوثانِهم ويذكرونَ عليه اسمَ ذلكَ الوثنِ تعظيمًا لهُ وتقرُّبًا إليهِ. كانَ لقبائلِ العربِ طواغيتُ، والطاغوتُ هوَ شيطانٌ ينزلُ على الإنسانِ ويتكلمُ على فمِهِ فكانُوا في الجاهلية يُعظِّمُونَ هذا الإنسانَ من أجلِ الشيطانِ الذي يَنزلُ فيهِ ويتكلمُ على لسانِهِ، كانوا يعبدونَ ذلكَ الشيطانَ لأنهُ عندما ينزلُ على هذا الإنسانِ كانَ يُـحَدِّثُهم ببعضِ ما يَـحدُثُ في المستقبلِ، كانَ يقولُ لهم هذا العامَ يحصلُ كذا يحصلُ وباءٌ وحرقٌ وقحلٌ وأحيانًا يقولُ فلانٌ يولَدُ لهُ ولدٌ، فلانٌ يموتُ ونحوَ ذلكَ منَ الأمورِ المستقبلةِ، وهذا الشيطانُ لا يعلمُ الغيب إنما يأخذُ الخبرَ منَ الملائكةِ إذِ الملائكةُ أولياءُ اللهِ وأحبابهُ يُطلِعُهُم اللهُ تعالى على كثيرٍ منَ المستقبلِ فهذا الشيطانُ يسمعُ مُستَخْفيًا حديثَ الملائكةِ فيما بينَهُم ثمَّ ينزلُ فيتَحدثُ بهِ لكنهُ لا يقتصرُ على الذي سمِعَهُ منَ الملائكةِ بل يُضيفُ إليهِ كذبًا كثيرًا فيتحقَّقُ الذي سمعهُ منَ الملائكةِ والأكاذيبُ التي ضمَّها لا تتحقَّقُ لكنَّ الناسَ الذينَ يُعظّمونَهُ متى ما صدقَ لهُ خبرٌ أو خبرانِ أو ثلاثةٌ فهذا يُغطّي عندَهُم الأكاذيبَ التي تحصلُ منهُ، فالذبحُ لهذا الشيطانِ هوَ ما ذكرهُ اللهُ تعالى بقولهِ ﴿وما أُهِلَّ لغيرِ اللهِ بهِ﴾ أما الأنبياءُ والأولياءُ والملائكةُ فيُطلِعُهم اللهُ على بعضِ الغَيبِ لأنَّ نفوسَهُم مُستَنيرةٌ بتقوى اللهِ فهؤلاءِ إنْ تحدَّثُوا عن بعضِ ما يحصلُ في المستقبلِ ليسَ عليهم ذنبٌ. فهذا الذي يَذبحُ للشيطانِ هوَ ما ذكرَهُ اللهُ تعالى ﴿وما أهِلَّ لغيرِ اللهِ بهِ﴾ وأكْلُهُ حرامٌ. في الجاهليةِ كانوا يذبحونَ تقرُّبًا إلى هذهِ الشياطينِ كذلكَ كانوا يذبحونَ لعبادةِ الأصنامِ فقد كانَ عندَهُم وثَنٌ كبيرٌ يُسمُّونَهُ هُبَلُ ووثنٌ اسمهُ مَناةُ وءاخرُ اسمُهُ اللاتُ وعندَهُم العُزَّى وهيَ شيطانةٌ أنثى ذهبَ خالدُ بنُ الوليدِ إلى الشجرةِ1التي كانت هيَ تُظهِرُ صوتَها فيها فقطَعها وصادفَ هناكَ الشيطانةَ عُزَّى فقتلَها كانت مُتشَكِّلةً بشكلِ أنثى منَ البشرِ وقال لها :
يا عُزَّى كُفْرانَكِ لا سُبحانَكِ ****** إنّي رأيتُ اللهَ قد أهانكِ اهـ
ومعَ كلّ واحدٍ مِنَّا قَرينٌ جنيٌّ وظيفَتُهُ أنْ يُوَسْوِسَ لابنِ ءادمَ يُرغِّبُهُ في المعصيةِ ويُثَبِّطهُ عن عملِ الخيرِ والصلاةِ، عندما يُريدُ أن يقومَ للصلاةِ يُثْقِلُ عليهِ رأسَه، وهناكَ غيرُ هؤلاءِ مَن يتَسَلَّطْنَ على النساءِ فيُؤذينَهُنَّ في أجسامِهنَّ ويَقتُلْنَ أولادَهُنَّ بتقديرِ اللهِ ويُسَمُّونَ الواحدةَ منهنَّ قرينةً. قال الله تعالى في سورة مريم ﴿ألَمْ ترَ أنَّا أرْسَلْنا الشياطينَ على الكافرينَ تَؤُزُّهُم أزًّا﴾ فاللهُ تعالى يفعلُ ما يريدُ ومعنى تَؤُزُّهُم أزًّا أيْ تُقَوِّيهم بالمعاصي وتَدفعُهم إليها. وتُقرأُ سورةُ الزلزلةِ وغيرُ ذلكَ بنيةِ قَلْعِ وإخراجِ الجنّ منَ المصابِ بهِ.
فكلُّ ذبيحةٍ ذُبِحَتْ لغيرِ اللهِ هيَ علينا حرامٌ إنْ كانتْ ذُبِحَتْ للتقرُّبِ منَ الجنِّ وإنْ ذُبِحَتْ للتقربِ إلى غيرهم. والذبيحةُ باسمِ المسيحِ أو باسمِ الصليبِ حرامٌ وأما إذا ذبحَ النصرانيُّ ساكتًا فذَبيحَتُهُ حلالٌ كما تقدَّمَ.
والإنسانُ الذي تسلَّطَ عليهِ الجنُّ فأوجَعَهُ وءالَمَهُ لا يجوزُ أن يَذبَحَ للجنّ بنيةِ إرضائِهِم ورفعِ أذاهُم عنهُ. الإنسانُ عندَ الضيقِ وعندَ المصائبِ قد يتورَّطُ في معصيةِ اللهِ تعالى فمَن حصلَ لهُ أذًى منَ الجنِّ يجبُ أن يَسْتَسْلِمَ لقضاءِ اللهِ تعالى. بعضُ الجنِّ يتأذَّونَ عندَ صبِّ الماءِ الساخنِ فالنارُ تحرقُهم معَ أنَّ أصلَهم منَ النارِ، إبليسُ خُلِقَ من لهبِ النارِ الصافي وفي الآخرةِ يحترقُ في جهنمَ أما الملائكةُ فليسوا مثلَ الجنّ لا يتأذَّونَ عندَ صبّ الماءِ الساخنِ فجهنَّمُ التي خلقَ اللهُ تعالى أعظمَ نارٍ، فيها يوجدُ ملائكةٌ، مُوَظَّفونَ فيها، لا تُحرِقُهم النارُ، قسمٌ كبيرٌ منَ الملائكةِ في جهنَّمَ والرؤساءُ منهُم تسعةَ عشرَ ورئيسهُم يُسمَّى مالِكًا وهؤلاءِ الرؤساءُ التسعةَ عشرَ لهم أتباعٌ كثيرٌ. فبعضُ الجنّ إذا تأذَّوا منَ الماءِ الساخنِ يُحاوِلونَ إيذاءَ مَنْ صبَّ هذا الماءَ فإذا ءاذَوهُ لا يجوزُ لهُ أن يلجأَ إلى ما حرَّمَ اللهُ لدَفعِ أذاهُم بل يقرأُ منَ القرءانِ أو أذكارًا أخرى بقراءةٍ صحيحةٍ لحمايةِ نفسهِ من ضررهم.
انتهى واللهُ تعالى أعلم.
(ولهذا الدرس تتمة تليه)
------------------
1- ذكرها النسائيّ في السنن الكبرى في باب سورة النجم.
25/11/2024, 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
25/11/2024, 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
25/11/2024, 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
25/11/2024, 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
25/11/2024, 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
25/11/2024, 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin