حضرة سيدنا آدم عليه السلام
الذي أُمِرَت الملائكة بالسجود له
حضرة سيدنا آدم عليه السلام
لقد خلق الله هذا الكون بتجلي أسمائه الحسنى وصفاته العُليا، وكانت إرادته بخلق الكون في الأزل حيث كان ولم يكن شيء معه وقد أحب الله أن يُعرف من خلال هذا الخلق.
إن أكثر المواضيع التي ظهرت فيها تجليات ما استطعنا وما لم نستطع أن نعلمه من صفات الله تعالى هي ثلاثة:
أ- الكون.
ب- القرآن الكريم.
ج- الإنسان.
فالكون مظهر فعلي للأسماء الإلهية. وأما القرآن الكريم فهو مظهر كلامي للأسماء الإلهية، وبعبارة أخرى فإن القرآن الكريم هو عالم مغَلَّفٌ في صورة كلام.
وأما الإنسان فنستطيع أن نشبهه بلبِّ الكون وبذرته، لأنه الكائن الوحيد الذي كان له الحظ في الأخذ من جميع صفات الله تقريباً، بقلة أو بكثرة، وهذا سبب نعته بأشرف المخلوقات، ولكن لأنه تجلّى فيه صفات الجلال كـ “المضل“[1] و”المتكبر“[2]، وصفات الجمال كـ ” الهادي” و “الرحمن” و “الرحيم” وغيرها فإنه مَيّال إلى الخير وإلى الشر بالفطرة، وفي ذلك قال الله تعالى:
﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَ. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ (الشمس، 7-10)
ومن هنا فإن على الإنسان أن يحاول الوصول إلى درجة الكمال، وذلك يكون عن طريق اتباع إرشاد الأنبياء والأولياء، ذلك الإرشاد الذي يدعونا إلى تزكية نفوسنا وتصفية قلوبنا، والتخلص من الطباع والصفات السُّفلية الموجودة بداخلنا، والعمل على تنمية الصفات الروحانية.
ولأن الملائكة ليست لديها قدرة أو استعداد للشَّر فإن الإنسان يمكنه أن يتخطى درجتهم بوصوله إلى الله . ولذلك فإن درجة الإنسان تكون بين مقامين؛ فقد تكون في مقامٍ عالٍ أعلى من مقام الملائكة، وقد تكون في الدرك الأسفل أدنى من مقام الحيوان، فبين هذين المقامين تكون درجته، وذلك حسب اتباعه لوحي الله تعالى. إن الإنسان الذي يستطيع اجتياز حاجز النفس يقدم لنا نموذجاً فنياً رائعاً وعملاً عظيماً، فهو فاتحة كتاب هذا الكون وخلاصته وسر خلقه، لأنه بالرغم من كونه عبارة عن دم ولحم في الظاهر إلا أنه يكمن داخل هذا الظاهر كائن معنوي يحوي الكثير من أسرار وأنوار وحقائق التجليات الإلهية.
يوضح لنا هذه الحقيقة سيدنا علي رضي الله عنه في هذين البيتين:
دواؤك فيك وما تبصر وداؤك منك وما تشعر
وتزعم أنـــــك جرم صغير وفيك انطوى العالَمُ الأكبر
ربط بعض العلماء بين الأعضاء والأحداث الموجودة في جسم الإنسان وبين الكائنات والحوادث المبثوثة في الكون؛ فشبَّهوا العظام بالجبال، والشعر بالنباتات، والأوردة والشرايين بالأنهار، والتَّنَفُّس بالرياح، والتكلُّم بالرعد. أي إنه يوجد في هذا الإنسان الذي هو شكل مصَغَّر عن الكون أثر ورائحة هذا الكون الكبير.
المهم أن نحاول قراءة الآيات السبحانية المبثوثة في جميع أنحاء الكون وأن نفهمها على وجهتها الحقيقية. فإن الآية الأولى التي أوحى بها الله تعالى إلى نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم هي قوله تعالى: “اقرأ”، ومعنى القراءة هنا لا يقتصر على الشيء المكتوب فقط، بل يدل أيضاً على إنعام النظر بالعين، والتذكر والتفكر بالعقل. ومن هذا المنطلق قد تعني الآية الكريمة المعنى التالي:
(أيها الرسول، اقرأ الكلام الإلهي، تذكر وتفكر في الحقائق المكنونة في نفسك وفي الكون، وحاول إدراك حقائق الأشياء).
وبناء على هذا المعنى وضع شارحوا “المثنوي” التفسير التالي:
(ابتُدئ القرآن الكريم بـ “اقرأ” وأما المثنوي فبـ “بِشْنَوْ” يعني: “استمع”، كلمة “بِشْنَوْ” هي تفسير كلمة “اقرأ”، بمعنى: “استمع إلى الكلام الإلهي، استمع إلى الأسرار، استمع إلى الحقائق المكنوزة في داخلك).
إن ظهور الإنسان في هذا العالم قد بدأ بآدم ، فهو الإنسان الأول والنبي الأول والمرشد الكامل الأول، وإن نسل البشرية جمعاء المتسلسل منذ بدايتها إلى يوم القيامة كان محتوىً ومدموجاً بعضها فوق بعض في شخصه، وذلك عندما خلقه الله، ويشير الله تعالى إلى هذه الحقيقة بقوله:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً﴾ (النساء، 1)
ويخبرنا أيضاً أنه كرم الإنسان وشرَّفه على جميع خلقه بقوله :
﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ (الإسراء، 70)
إن هذا المخلوق الرائع – أي الإنسان- يمثل قمة الإبداع الإلهي في هذا العالم المُزَيّن بنقوش القدرة الإلهية. وفي هذا الموضوع يقول سليمان شلبي في “المولد”: “خَلَقَ الحقُّ آدمَ وزَيَّنَ به العالمَ” وكأنهما توأمان، وبعبارة أخرى فقد ألقي على عاتق الإنسان أكبر وظيفة، ألا وهي فهم أسرار الكون وإدراك حقائق الأشياء، وذلك لأنه نموذج مصغر عن الكون.
وكما تحوي حبة القمح بداخلها جميع الخصائص الموجودة في جنسها من القمح فإن بذرة كل نوع من أي جنس تحوي بداخلها خصائص وطباع جنسها. والإنسان كذلك هو كائن متميز يحتوي على حقائق جميع الأشياء الموجودة في هذا الكون. ومن هذا الوجه فكأن الإنسان بذرة أو جوهر انطوى بداخله العالم.
حيث يقول في شأن هذه الحقيقة الشيخ غالب:
انظر إلى نفسك بتمعُّن، فأنت زبدة العالَم، وأنت آدم الذي هو بؤبؤ الكون.
هناك الكثير من المقاصد الإلهية في خلق الإنسان؛ فمنها أن الله سبحانه أراد أن يظهر لنا دليلاً جلياً على جماله وإبداع خلقه، فالمراد الإلهي في خلق الإنسان مهم جداً لدرجة أن الله سبحانه من أجل تحقيق مقصده خَلَقَ الكون بما فيه مما يمكن إدراكه وما لا يمكن وسخره للإنسان لكي يستفيد منه.
إن الإنسان مكلَّف بعمارة الأرض، وبأعمال هي عبارة عن حصائد قلبه، لأنه خُلِق ليكون خليفة الله على الأرض. ووظيفة الخلافة هذه التي تعني العيش كوكيل للّه تعالى هي بناءً على احتوائه القابلية التي تمكنه من تحقيق تلك الوظيفة الكامنة في فطرته. واللَّه سبحانه قد وضع للإنسان برنامجاً لا بد منه لكي ينمي هذا الإستعداد كما تنمو البذرة في المنبت، ألا وهو الأوامر والنواهي الموجودة في القرآن الكريم.
وقد بين الله تعالى في الحديث القدسي الدرجات المعنوية للذين يسيرون في هذا الطريق، فقال تعالى:
“من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه” (البخاري، الرقائق، 38)
وفي الآية الكريمة:
﴿اَلْحَمْدُ ِللّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الفاتحة، 1)
فإن الله سبحانه وتعالى قد خلق عوالم كثيرة، وقد جاء بشأن عدد هذه العوالم في روايات مختلفة أنها بين 18000 و 360000 عالَم. وقد تعتبر هذه الروايات كناية عن الكثرة بسبب أن عقل الإنسان لا يستطيع أن يدرك عدد هذه العوالم. وهذه العوالم كلها ممكن أن نصنفها ضمن شكلين رئيسين:
1- عالم الخلق.
2- عالم الأمر.
وقد حصل الإنسان على حصة في خلقه من هذين العالمين.
وبين الله تعالى خلقه لعالمي الخلق والأمر بقوله:
﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَاْلأَمْرُ تَبَارَكَ الله ُرَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ (الأعراف، 54)
وقد قدم المفسر ألمالي لي حمدي يازِر شرحاً يتعلق بهذه الآية فقال: (إن التقدير والتكوين من الأزل إلى الأبد له سبحانه، وإن القبول ووضع التشريع له أيضاً.
ومن هنا فإن المخلوقات الموجودة حجماً ومقدارا ملكه، والأوامر التي تجري عليها والتي ليس لها مقدار ولا حجم له أيضاً، أي إن الخلق له والأمر له. فالجسم والمادة والشكل بإيجادها وتكوينها، والروح والقوة التي تديرها هي من تأثيره وقوته. ولا يمكن لغيره أن يصدر منه إيجاد عدم أو إيجاد ممكنات. فالإيجاد له، وجعل الشيء واجبا يرجع له، والمعجزة له، والقانون له، وكل ما سواه خاضع لحُكمه، هذا ما يؤخذ من قوله تعالى:
﴿لَهُ الْخَلْقُ وَاْلأَمْرُ﴾. أما هو فخالق كل شيء، وصاحب التصرف المطلق، ولا يوجد كائن غير مستند لإيجاده، ولا يمكن أن يصدر أمر على خلاف أمره وإيجاده).
إن العالم المتشكل من الأكوان المخلوقة والمحدودة بالزمان والمكان يقال له عالم الخلق، كما يقال له عالم المُلك والشهادة، والأشياء التي نحسها بحواسنا الخمسة الظاهرية هي من هذا العالم.
أما العالم الغيبي المعنوي والروحي فيقال له عالم الأمر.
وبعبارة أخرى عالم الأمر هو العالم الكائن بأمر الله تعالى بكلمة “كن”، والغير متعلق بموضوع المادة والزمان، ويقال له عالم الملكوت وعالم الغيب أيضاً، والعقل والنفس والروح والقلب والسر وغيرها من اللطائف تعود لهذا العالم. وقد بين الله تعالى في القرآن الكريم أن الروح من عالم الأمر فقال:
﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ (الإسراء، 85)
والآية الكريمة التي تشير إلى نوعي الخلق في هذين العالمين هي قوله تعالى:
﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (يس، 82)
الأسباب والحِكَم الأساسية من خلقنا:
1- المقصد الأساس من خلق الإنسان هي عبوديته ومعرفته للّه تعالى. قال تعالى:
﴿وَماَخَلَقْتُ الْجِنَّ[3] وَاْلاِنْسَ اِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات، 56)
إن العبودية التي هي الغاية المذكورة من خلق الإنسان في هذه الآية الكريمة هي مرتبة شريفة لدرجة أننا نرى موقعها الجليل في كلمة الشهادة، وبناءً عليه فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان عبداً أولاً ثم أصبح رسولاً، وهذا يدلنا على أن العبودية تكون أولاً، أما الرسالة فهي لا تخرج عن حدود العبودية. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم تنبيهاً لمن بالغ في تعظيمه زيادة على حده، وللدلالة على أهمية مرتبة العبودية:
“لا ترفعوني فوق حقي، فإن الله اتخذني عبداً قبل أن يتخذني رسولاً” (الهيثمي، 9\21)
وقال الله تعالى في آية أخرى:
﴿قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّى لَوْلا دُعَاؤُكُمْ…﴾(الفرقان، 77)
أي لولا عبوديتكم بالدعاء والتضرع لما كان لكم قيمة عند الله تعالى ولا يُبالي ولا يَعْبأُ بكم. ومن معاني العبودية “معرفة الله”، ولذا فإن الإمام الماتُريدي رحمه الله وضع شرطين للإيمان، وهما:
أ- معرفة الله
إن خلق الإنسان متعلق بغاية تحقيق العبودية، ومعرفة الإنسان للّه . ولهذا قال الله تعالى في الآية الكريمة السابقة التي تبين سبب خلقنا: (لِيَعْبُدُونِ)
وقد فسر بعض المفسرين هذه الكلمة بكلمة: “ليعرفون” أي ليصلوا إلى معرفة الله في القلب، والتي تؤدي إلى معرفته حقيقة. (تفسير ابن كثير، 4، 255)
إن السبب الرئيسي لخلق الإنسان هو وجود الله تعالى، وإرادته إن يُعرَف، ولهذا قال الله تعالى في الحديث القدسي:
“كنت كنزاً مخفياً فأحببتُ أن أُعرَف، فخلقتُ الخلقَ لأُعرَف“[4]
ب- المحبة
يقول الله تعالى في الآية الكريمة:
﴿…وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً ِللّهِ…﴾ (البقرة، 165)
ولهذا فإن حب الله تعالى أكثر من أي شيء آخر حباً شديداً هو من أهم الأسباب والحِكَم لخلقنا، لأن الله تعالى أحَبَّنا، وأنعم علينا بنعمه التي لا تحصى، ولذلك فقد طلب من عباده أن يحبوا ذاته الإلهية، وأن لا يطغى حبهم لأي شيء آخر على حبهم له تعالى، فإن تصرفوا بخلاف ما طلب منهم فإنه يُعلِمهم أن عاقبتهم ستكون وخيمة، وأنه ينتظرهم عذاب أليم، وقد بيَّن الله تعالى في الآية الكريمة، فقال:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ…﴾ (المائدة، 54)
وفي آية أخرى كأن الله سبحانه وتعالى يخبرنا بأن السبب الأول لهلاك بعض الأفراد والأقوام هو قطع المحبة، فيقول:
﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِى سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ (التوبة، 24)
وقد جاء في الحديث الشريف أن حلاوة الإيمان لا يذوقها إلا من يحمل هذه الخصائص الثلاثة:
– أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما
– أن يحب في الله ويبغض في الله
– وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُلقَى في النار. (انظر: البخاري، الإيمان 9، 14، مسلم، الإيمان 67)
ولكن شرط محبة الله هي المحبة المفرطة لرسول الله صلى الله عليه وسلم النابعة من القلب، والتي ينتج عنها اتِّباعه والاقتداء به، وذلك يعني الفناء فيه، يقول الله تعالى:
﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (آل عمران، 31)
وقد جاء في الحديث الشريف أيضاً أن محبة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم هي شرط للإيمان الحقيقي، قال صلى الله عليه وسلم:
“واللَّه لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من أمه ووالده وولده والناس إجمعين” (البخاري، الإيمان،
2- إن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان لكي يُظهر العظمة والإبداع في خلقه، فالإنسان من روائع الخلق وبدائع الوجود، ولذا فقد قال الله تعالى:
﴿وَفِي اْلأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ. وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ﴾ (الذاريات، 20-21)
وفي آية أخرى أيضاً بعد أن بين الله تعالى لنا مراحل خلق الإنسان يلفت نظرنا إلى عظمته، فيقول :
﴿فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [5] (المؤمنون، 14)
وهناك وجه آخر لعظمة خلق الإنسان، ألا وهو كونه أشرف المخلوقات واتخاذ الله سبحانه له خليفة في الأرض، يقول الله تعالى:
﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي اْلأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة،30)
وقد وضع المفسر ألمالي لي حمدي يَزِر لقوله تعالى جَاعِلٌ فِي اْلأَرْضِ خَلِيفَةً التفسير التالي: (سأهبه نصيباً من إرادتي ومن قدرتي ومن بعض صفاتي، وهو باسمي وبوكالتي سيكون صاحب التصرف في العديد من المخلوقات، ونيابة عني سيطبق أحكامي، ولن يكون أصلاً في هذا الخصوص، فهو لن يطبق الأحكام باسمه الشخصي أصالة، ولكنه سيكون نائبي ووكيلي، وسيكون مأمورا بتنفيذ إراداتي وأوامري وبتطبيق قوانيني بإرادته هو، ثم سيكون من يأتي بعده خلفاً له، فتكون وظيفتهم نفس وظيفته، وعندها يظهر سر قوله تعالى:
﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ…﴾ (الأنعام، 165) (الماللي محمد حمدي يازير، حق ديني قرآن ديلي، أستانبول، 1935، 1، 299-300)
حقاً لقد خُلق الإنسان بأوصاف واستعدادات يغبطه عليها الملائكة لقربها من الحق تعالى. ونرى هذه الحقيقة في قوله تعالى:
﴿لَقَدْ خَلَقْنَا اْلإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ (التين، 4)
3- إن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان لكي يُظهر تجلي الأسماء الإلهية في مستوى أعلى.
ويشير إلى هذا المعنى الحديث الشريف:
“تَخَلَّقوا بخُلُق الله” (المناوي، التعاريف، ص 564)، لأن أكبر نسبة تَجلٍّ للأخلاق الإلهية نجدها في الإنسان من بين كل المخلوقات. ولأن الملائكة ليس لها نصيب من تجلي بعض الأسماء كالمضلِ والمتكبرِ فإن نفسها لا تشكل مانعاً ولا ترتكب ذنباً. ولهذا فإن الإستعداد الذي يُمَكِّن صاحبه من تخطي النفس والوصول إلى الله سبحانه وخلافته قد امتن الله به فقط على الإنسان وحده.
ولهذا فإن أشرف المخلوقات سيدُنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم قد نفذ في معراجه إلى حيث لم يستطع أن ينفذ أكبر الملائكة سيدُنا جبريلُ من الحدود، أي إلى سدرة المنتهى.
والخلاصة أن الإنسان يجب أن يعيش حياته مدركا أنه عبد للّه أرسله إلى هذه الدنيا، وأن يكون همه دائما شكر النعم اللا متناهية التي أنعمها الله عليه.
خلق سيدنا آدم عليه السلام
إنَّ خالقَ ومالكَ هذا الكون هو الله ، وقد أراد خلق الإنسان وشَرَّفه على سائر المخلوقات لكي يعرفه، ولكي يطيعه ويعبده، ويعمر الأرض. وقد أبلغ الله سبحانه ملائكته الذين كان قد خلقهم من قبلُ واصطفاهم لعبادته هذه الإرادة الإلهية، فقال الله تعالى:
﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي اْلأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة، 30)
وقد كانت ردة فعل الملائكة تجاه هذا الأمر أنهم جميعاً قالوا:
﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ (البقرة، 32)
فالخلافة كالوكالة، وهي تقابل الأصالة، أي النيابة عن الغير، وهي تقريباً تعني تمثيل الغير بأخذ مكانه. والخليفة هنا بمعنى الوكيل الذي يمثل إرادة الله تعالى في الأرض والذي يمتثل لأوامره ونواهيه، ومن هنا فإن الإنسان سيكون واسطة ووسيلة لإتمام نور الله تعالى.[6]
والوكالة في نفس الوقت تعني تكريم وتشريف الأصل للفرع، وجَعْلُ الله أنبياءه خلفاء على هذه الأرض يعتبر من هذا القبيل. وفي الحقيقة إن هناك إشارة لذلك في الروح المنفوخة في الإنسان، أي يوجد وصف لهذا التوجيه فيها، وإلا لم تكن هذه الخلافة لتأتي بمعنى الوكالة عن الألوهية بأي شكل من الأشكال.
في هذه الآية الكريمة عندما أجرى الله نوعاً من المشاورة مع الملائكة وأخبرهم أنه سيخلق خليفة له كأنهم بدؤوا يظهرون أنهم أليق بمقام الخلافة هذا، وبرهنوا على ذلك أنهم يسبحون الله وينزهونه، ولكن الله رد عليهم قائلاً: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ مُعْلمهم بذلك أن خاصية التسبيح والتنزيه التي يتصفون بها ليست كافية لأن تخولهم خلافته، وأن الخلافة يمكن أن تستأهل بنفخ سره، أي روحه، فيمن يخلفه، وتعليمه الأسماء.
وهكذا فقد كانت الخلافة لائقة بالإنسان، وذلك لكونه من بدائع المحدثات أي من روائع إبداع الخلق الإلهي ظاهراً وباطناً، فهو المخلُوقُ الرائع الذي اجتمع فيه تجلي كل أسماء الله تقريبا.
حكم السؤال الذي سألته الملائكة للّه سبحانه وتعالى:
1- أرادت الملائكة أن تعرف الحكمة من خلق الإنسان، وإلا فلم يكن الغرض من سؤالهم الإعتراض أو حسد سيدنا آدم عليه السلام، لأنه حسب ما أخبرتنا النصوص فإن الملائكة لا تتصف بمعصية الله أو الإعتراض عليه سبحانه، ولا بالأخلاق السيئة كالحسد والحقد.
2- هناك احتمال أن تكون الملائكة استطاعت أن تعرف من اللوح المحفوظ أن الإنسان سيفسد في الأرض ويسفك الدماء، فمن الممكن أن تكون قد سألت لهذا السبب، حيث إن بعض علماء الكلام ذهبوا إلى أن الملائكة تستطيع أن تقرأ ما هو مكتوب في اللوح المحفوظ. (انظر: الرازي، التفسير، 31/114)
3- قد تكون الملائكة سألت هذا السؤال لأن الله سبحانه قد أطلعهم على هذا الحال (حال الإنسان) من قبل.
4- طبقاً لرأي آخر فإن الملائكة سألت هذا السؤال لأنها كانت على علم بالفساد والخراب الذي سوف يحدثه الجِنُّ.
يروى أن المولى عندما أراد أن يخلق آدم عليه السلام بعث الله جبرئيل إِلَى الأَرْضِ لِيَأْتِيَهُ بِطِينٍ مِنْهَا، فَقَالَتِ الأَرْضُ: إِنِّي أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ أَنْ تُنْقِصَ مِنِّي شيئا وتشينى[7]، فَرَجَعَ وَلَمْ يَأْخُذْ، وَقَالَ: يَا رَبِّ إِنَّهَا عَاذَتْ بِكَ فَأَعَذْتُهَا، فَبَعَثَ مِيكَائِيلَ فَعَاذَتْ مِنْهُ فاعاذها فرجع، فقال كما قال جبرئيل، فبعث إسرافيل فَعَاذَتْ مِنْهُ، فَأَعَاذَهَا فَرَجَعَ، فَقَالَ كَمَا قَالَ جبرئيل، فَبَعَثَ مَلَكُ الْمَوْتِ فَعَاذَتْ مِنْهُ، فَقَالَ: وَأَنَا أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَرْجِعَ، وَلَمْ أُنَفِّذْ أَمْرَهُ، فاخذ مِنْ وَجْهِ الأَرْضِ، وَخَلَطَ فَلَمْ يَأْخُذْ مِنْ مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَأَخَذَ مِنْ تُرْبَةٍ حَمْرَاءَ وَبَيْضَاءَ وَسَوْدَاءَ، فَلِذَلِكَ خَرَجَ بَنُو آدَمَ مُخْتَلِفِينَ، فَصَعِدَ بِهِ فَبَلَّ التُّرَابَ حَتَّى عَادَ طِينًا لازِبًا- وَاللازِبُ هُوَ الَّذِي يَلْتَزِقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ- ثُمَّ تُرِكَ حَتَّى تَغَيَّرَ وَأَنْتَنَ، وَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ: «مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ» ، قَالَ: مُنْتِنٌ[8].
وبسبب القرار الذي اتخذه عزرائيل في هذا الموقف وكلَّ الله تعالى إليه وظيفة قبض الأرواح. ولأن الإنسان خُلق من تراب فإنه يحمل خصائصه، فالتراب ييبس أحيانا، ويُصلى من الحر، ويتلهف شوقاً إلى الماء. يتحمل قسوة موسم الشتاء، ولكنه سرعان ما ينتعش ببركة أمطار الربيع، وعندها يعرض لنا مختلف أشكال القدرة الإلهية المتمثلة بالجمال والألوان والروائح والتناغم.
والإنسان يشابه التراب أيضاً في قدَر آخر، وذلك أن الشهوات الدنيوية تعصف بالإنسان كما يعصف الإعصار الموجود في الصحراء بالرمال، ثم يهدأ. فإن النفس إنْ تسلَّطَتْ على الإنسان تجعل حياته تعسة، ولكنه بتخطيه حاجز النفس يصل إلى الكمال. وكما أن التراب يجد الحياة في أمطار الربيع فإنه ينال معها الفيض وتجليات الرحمة ويؤثر ما ناله إلى غيره. وهكذا فإن الإنسان ينفق النعم التي اكتسبها من أجل رضاء الله مثله في ذلك مثل التراب المُنبِت في فصل الربيع وبركته وجماله.
وبسبب أن جسد الإنسان الفاني مخلوق من التراب فإنه يتغذى عليه وفي النهاية يفنى فيه، أي يعود لأصله. إن جميع العناصر الموجودة في التراب موجودة في جسم الإنسان، سواء بقلة أو بكثرة، وأيضا فإن جسم الإنسان هو مظهر آخر من مظاهر التراب، حيث جاء في رواية أن آدم سمي “آدم” لأنه خلق من تراب[9]. والآية الكريمة التي تخبرنا أن آدم عليه السلام خلق من تراب هي قوله تعالى:
﴿…خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (آل عمران، 59)
وكما أن التراب له ألوان مختلفة كالأحمر والأسود والأبيض وغيرها فإن للإنسان المخلوق منه كذلك ألواناً مختلفةً أيضاً. ومن ناحية أخرى فكما أن بعض أجزاء التراب صلب وبعضها لَيّن فإن الناس من حيث الإستعداد والقابلية متنوعون كذلك. وهذا ما يخبرنا به الله سبحانه في قوله:
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ. وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ (فاطر، 27-28)
وفي هذا الشأن يقول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم:
“إِنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ: جَاءَ مِنْهُمُ الْأَحْمَرُ، وَالْأَبْيَضُ، وَالْأَسْوَدُ، وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَالسَّهْلُ، وَالْحَزْنُ، وَالْخَبِيثُ، وَالطَّيِّبُ «زَادَ فِي حَدِيثِ يَحْيَى» وَبَيْنَ ذَلِكَ“. (أبو داود، السنة، 16)
وحسب ما روي فإن الله عَجَنَ التراب الذي خُلق منه آدم عليه السلام بيده أربعين يوماً (الطبري، التفسير، 3، 306) وإن كَيفيّةَ كل يوم من هذه الأيام هو مجهول بالنسبة لدينا.
وحسب ما أطلعتنا عليه المصادر فإن الطين الذي خُلق منه آدم عليه السلام تُرِك أربعين سنةً، وأحمي على قالبه النار، وأمطر عليه أمطار الحزن تسعاً وثلاثين سنةً، وأمطار السرور سنة واحدةً، ولهذا فإن الحزن عند ابن آدم أكثر من السرور. وقد قال أصحاب الحكمة:
ها هي الدنيا إذا أضحكتْ يوما أبكتْ أياماً
المطر المذكور هنا ليس مادياً، وإنما هو تجليات معنوية، سمي مطراً مجازاً.
الحزن دائماً يعقبه سرور، فالمكافآت الكبرى تأتي دائماً بعد الصبر والمعاناة، وذلك كمعجزة المعراج، فإن الله أنعم على نبينا بها بعد جولته الشاقة والمؤلمة إلى الطائف، والمرحلة المدنية السعيدة جاءت بعد المرحلة المكية الصعبة. فقد قال الله تعالى:
﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ (الانشراح، 5-6)[10]
عندما نزلت سورة الانشراح سُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الله تعالى قرن العسر بيسرين، فخرج إلى أصحابه مسروراً فرحاً وهو يضحك وقال: “لن يغلب عسرٌ يسرين” ثم تلا:
﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ (الحاكم، 2، 575)
يقول الشاعر لمن واجه ظرفاً صعباً من مشقات هذه الحياة مرشداً إياه إلى طريق الخلاص:
اِذَا ضَاقَ بِـــــكَ اْلاَمْرُ تَفَكَّرْ فِى «أَلَمْ نَشْرَحْ»
فَعُسْرٌ بَيْنَ يُسْرَيْنِ اِذَا فَكَّرْتَهُ تَفْرَحْ
لا شك أن الدنيا دار ابتلاء مليء بالمحن المختلفة، وذلك ما أخبرنا الله به في قوله تعالى:
﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ اْلأَمْوَالِ وَاْلأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. اَلَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا ِللّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ. أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ (البقرة، 155- 157)
حتى الجمادات والنباتات فإنه عندها نضوج بعد مرورها بمرحلة عمومية من مراحل الصبر، فمجيء الربيع يكون بعد تحمل التراب العذاب في موسم الشتاء، والإنسان أيضاً ينضج بالصبر وتحمل المشقة، ويصبح إنساناً كاملاً. يبين الله تعالى لنا في القرآن الكريم مراحل خلق آدم عليه السلام من تراب كما يلي:
مرحلة التراب
﴿…خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (آل عمران، 59)
ولأن الإنسان خُلق من تراب فإنه يحتوي على خصائصه المختلفة في بنيته، فكما أن من التراب الطيني، ومنه الرملي، ومنه الناعم ومنه الخشن، فكذلك الناس يعرضون لنا في طبيعتهم هذا الإختلاف. وكذلك فإن التراب يُداس، ويمكن أن يُعمل عليه أي شيء بشكل مريح، ولا يصدر من التراب أي تذمر تجاه هذه الأمور، وهكذا فإن الصفات الموجودة في الإنسان كالصبر والتواضع تأتي من هنا. وبالمقابل فإن بعض الأوصاف كالسكون والعطل والكسل الموجود في التراب نراه في الإنسان أيضاً.
مرحلة الطين
﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍٍ﴾ (السجدة، 7)
في مرحلة الطين يأتي دور الماء. قبل كل شيء فإن الماء منظِّف، فيمثل النظافة، ومن هذا المنظور فإن الماء يمثل العفة والشرف وطهارة الحواس المادية والمعنوية عند الإنسان.
مرحلة الطين اللازب (الملتصق بعضه ببعض)
﴿…إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لاَزِبٍ﴾ (الصافات، 11)
اللصوق يمثل عدم الإنقطاع وحس الولاء والتعلق عند الإنسان، وأيضاً فإن العناد والإصرار في الدفاع عن فكر معين عند الإنسان ناتج عن هذه المرحلة.
مرحلة الصلصال (الطين المجفف بالهواء)
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا اْلإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾ (الحجر، 26)
في مرحلة الصلصال من حمإ مسنون المذكورة يدخل عنصر الهواء، والهواء يُدخِل لطين الإنسان قابليته للحركة، فعدم الإستقرار والتقلب وعدم الوفاء بالعهد والتهدم ومثل ذلك من الأوصاف الموجودة في طبيعة الإنسان ناتجة عن هذه المرحلة.
مرحلة الحمأ المسنون (الطين المُشَكَّل)
﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ﴾ (الحجر، 28)
تشير مرحلة الحمأ المسنون إلى خاصية قابلية الإنسان للتشكل والتربية والتزكية، ويمكن لهذه الخاصية أن تُستعمل في الخير أو الشر، والمهم أنها تمكنه من تقويم نفسه.
مرحلة “صلصال كالفخار”
﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِِ﴾ (الرحمن، 14)
يدخل في هذه المرحلة عنصر النار. وتنشأ من هذه النار بعض أوصاف الإنسان، كالكبر والغرور والحسد ومخالفة أوامر الله والخيانة.
تلخص لنا الآيات 12-14 من سورة المؤمنون أحداث خلق الإنسان منذ حضرة آدم عليه السلام إلى من بعده ممن جاء من صلبه من النّاس، يقول الحق تعالى:
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا اْلإِنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً[11] فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ (المؤمنون، 12- 14)
لم يستطع علم الطب أن يصل إلى هذه الحقائق إلا في عصرنا هذا، ولكن الله سبحانه أخبرنا بمراحل خلق الإنسان في القرآن الكريم على نحو موافق للحقائق العلمية قبل ألف وأربعمئة سنة ونيّف.
يذكر الله تعالى في الآيات الكريمة السابقة مراحل خلق الإنسان المليئة بالعبر والملفتة للنظر. إن الطين الذي يشكل المرحلة الأولى من مراحل خلق الإنسان، أي مرحلة التراب المستعمل في خلق آدم عليه السلام ، هو من حيث المظهر مادة ليس لها جمال ولا قيمة، وأما ما بعدها من المراحل
فهي تقدم لنا مادّة غير جذّابة، بل مُقرفة، تعرض لنا مناظر من ماء مهين لا قيمة له، وتخثر دم جامد دَبِق (العلقة)، ومضغة. وبعد ذلك تتدخل التجليات الإلهية، فتظهر قدرة الله تعالى في بديع تشكيل الإنسان وروعة وظرافة مظهره. ويعقُبُ ذلك زوال القوة المودَعة في هذه المادة، وخروج الروح منها، فتنعكس الرحلة سيرها، ويُكمِلُ ذلك الجسد رحلته بعد اكتمال مراحل نضوجه، ويعود مرة أخرى إلى المكان الذي أتى منه، ألا وهو التراب، فيتعَفَّن ويتحلّل فيه. وبعد ذلك يأتي دور بذرة الجسد الوحيدة التي لا تَفنى ولا تتعفَّن، والتي تُسَمّى “عُجبُ الذَّنَب”، والتي تكون في هذا البدن المتعفِّن كأنها قطرة زِئبق، فتُنبِتُ الجسد مرة أخرى وتدب فيه الحياة بشكل سريع، وتخرجه من مرقده.
وقد دعا الله سبحانه وتعالى الإنسان إلى التفكُّر في سير رحلته هذه في آيات كثيرة، ومنها قوله تعالى:
﴿وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ﴾ (يس، 68)
وقوله تعالى:
﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾ (الروم، 54)
وقوله أيضاً:
﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾ (طه، 55)
مما سبق تخبرنا هذه الحقائق أنَّ بدن الإنسان نتيجة للمراحل التي يمر بها في الدنيا، ووفقاً لطبيعته وظروفه الذاتية فإنه محكوم عليه بالفناء، وأن الشيء الأصيل والدائم الأبدي هو سلطان الروح التي يكون معها طريق السعادة أو الشقاوة، الطريق إلى الجنة أو إلى النار.
نفخ الروح (نفث الروح)
بعد أن خلق جسد الإنسان من قبضة تراب، نفخ فيه سرا من روحه منعماً عليه بأعظم المراتب بين المخلوقات. غير أن الحياة الموجودة في الإنسان المخلوق كجسد كانت قد بدأت بنفخ الروح. ومن هذا المنطلق فإن نفخ الروح يعد قبل كل شئ تقدير من الله تعالى لعبده، ومنحه الحياة. ويبين الله تعالى هذه الحقيقة في الآية الكريمة:
﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ…﴾ (الحجر، 29)
إن نفخ الله تعالى من روحه في آدم عليه السلام إنما هو تعبير مجازى. وكذلك في منح الله تعالى العبدَ بعضاً من صفاته وفقاً لقدرات العبد واستعداداته. وبهذا النفخ يعرف الإنسان ربه ببركة وقدرة هذه الأمانة التي تلقاها منه، ويكون عبداً له. ويكون الإنسان على بصيرة من الأسرار والعظمة الإلهية على قدر طاقته وقدرته. أما مركز هذه الإحاطة فهو القلب. والقلب هنا ليس ككيان فيزيقي، إنما بوصفه مكاناً للتجلي ومركزاً للإحساس. إن امتلاك النفس السلطانية يجعل الإنسان بثلاث مهام أساسية ويكون مزوداً بالقدرة على الإيفاء بتلك المهام وهي:
معرفة نفسه، أي معرفة ذاته وحقيقتها.
معرفة خالقه، أي معرفة ربه (معرفة الله)
إدراك فقره وحاجته إلى خالقه، الوصول إلى العدم
ولقد ورد في الأثر أن:
(من عرف نفسه فقد عرف ربه)
إن أول موجود خُلق إنما هو النور المحمدي، مثلما أن روحه الشريفة هي الأولى في خلق الأرواح. أما الأرواح الأخرى فهي من قبيل مكنون الجوهر وذلك من أجل معرفة قدر وقيمة روحه الشريفة.
ولهذا السبب يقال لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم: “أبو الأرواح”.
ويروي أبو هريرة أن الصحابة رضي الله عنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلين:
“مَتَى وَجَبَتْ لَكَ النُّبُوَّةُ ”
فأجاب عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا:
“وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالجَسَدِ” (الترمذى، المناقب، 1، 3609)
وعلى هذا يكون سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو الأول في النبوة أيضاً. وإن الحكمة الكامنة في كونه الأول من حيث خلق الجسد، الروح، والنبوة سنتناولها لاحقا في موضوع أمر الله للملائكة بالسجود لسيدنا آدم عليه السلام . ويمكننا أن ندرس الروح في قسمين:
الروح السلطانية:
وهي من عالم الأمر. وتكون منفصلة عن الجسد. وكونها معه إنما يكون لسيطرتها عليه وتحكمها فيه. ولا يؤثر فيها كون الجسد يفنى ويتعفن. غير أن الرغبات الجسدية بهذه الصورة تتخلص من السيطرة التي هي عليها.
الروح الحيوانية:
وهي من عالم الخلق. وتنتشر في كل أنحاء البدن. تكون سيطرتها الأساسية على الدم. مركزها هو المخ. وهي تشكل نقطة البداية بالنسبة للأفعال والحركات. ولو لم تكن هناك الروح الحيوانية لما أصبح هناك تأثيرا في الجسد.[12]
الأطوار الخمسة للروح:
طور العدم: كان الله تعالى موجودا وحده في الأزل، ولم يكن يوجد هناك أي موجود آخر سواه. وخلال تلك الفترة كانت الأرواح في عدم تام. وهكذا تخبرنا الآية الكريمة:
﴿هَلْ أَتَىٰ عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً﴾ (الإنسان، 1)
طور وجود عالم الأرواح (مرحلة ألست):
خلق الله تعالى الأرواحَ قبل خلق الأجساد لحِكَم كثيرة جداً. وهكذا يتناول الحديث الشريف هذه الحقيقة:
“خُلقت الأرواحُ قبل الأجساد بألفي عام” (الديلمى، المسند، جـ2، ص 187- 188)
طور إرسال الأرواح إلى الأجساد:
إن الأرواح التي خلقت قبل الأجساد بأزمنة بعيدة، و التي أُخذ منها العهد والميثاق فيما يتعلق بالإقرار بربوبية الله ، كان قد شُرع في نقلها وإرسالها إلى الأجساد واحدة فواحدة بما يتواءم مع خطة القدر التي كانت قد أُعدت في الأزل. وهكذا تتحدث الآية الكريمة عن نفخ الروح في آدم عليه السلام بوصفه أول إنسان:
﴿…وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى﴾ (الحجر، 29)
طور الانفصال عن الأبدان:
تنفصل الأرواح التي استوفت أجلها الذي كان قد قُسِم لها في هذه الحياة الفانية، تنفصل واحدة فواحدة عن أبدان التي لبثت فيها فترة مؤقتةً. وهذا المصير المحتوم الذي لا يمكن لأي أحد أن ينجو منه يقال له: الموت. وهكذا تخبرنا الآية الكريمة:
﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ…﴾ (آل عمران، 185)
طور العودة إلى الأبدان مرة أخرى:
الموت في العقيدة الإسلامية ليس فناءً وزوالاً، إنما هو أشبه تمام الشبه بميلاد الطفل الموجود في رحم الأم حينما ينقطع ارتباطه به. فحينما تتخلص الروح من هذا العالم الفاني يكون ميلادها في صباح حياة أبدية.
وهناك سيحاسب الإنسان عن الحياة التي عاشها في الدنيا، وكنتيجة لهذا، فإما سيصل الإنسان إلى سعادة لا حد لها، أو يتعرض لعذاب أبدى (أعاذنا الله ).
وهاتان آيتان اثنتان من بين مئات الآيات المتعلقة بهذا الموضوع:
﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ (يس، 79)
وعندما يتحدث المولى في الآية السابعة من سورة التكوير عن علامات يوم القيامة الشديدة والرادعة يخبرنا الله تعالى برده الأرواح للجسد من جديد:
﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ (التكوير، 7)
ليس ممكناً بأي حال من الأحوال معرفة ماهية الروح التي تُنفخ من قبل الله تعالى في الإنسان بوصفها سراً. ذلك لأنها تنتمي إلى عالم الغيبيات وتعبر عن ماهية لن يستطيع أن يعيها إدراك البشر. وبناء على هذا يخبرنا المولى في الآية الكريمة بشأن ماهية الروح:
الذي أُمِرَت الملائكة بالسجود له
حضرة سيدنا آدم عليه السلام
لقد خلق الله هذا الكون بتجلي أسمائه الحسنى وصفاته العُليا، وكانت إرادته بخلق الكون في الأزل حيث كان ولم يكن شيء معه وقد أحب الله أن يُعرف من خلال هذا الخلق.
إن أكثر المواضيع التي ظهرت فيها تجليات ما استطعنا وما لم نستطع أن نعلمه من صفات الله تعالى هي ثلاثة:
أ- الكون.
ب- القرآن الكريم.
ج- الإنسان.
فالكون مظهر فعلي للأسماء الإلهية. وأما القرآن الكريم فهو مظهر كلامي للأسماء الإلهية، وبعبارة أخرى فإن القرآن الكريم هو عالم مغَلَّفٌ في صورة كلام.
وأما الإنسان فنستطيع أن نشبهه بلبِّ الكون وبذرته، لأنه الكائن الوحيد الذي كان له الحظ في الأخذ من جميع صفات الله تقريباً، بقلة أو بكثرة، وهذا سبب نعته بأشرف المخلوقات، ولكن لأنه تجلّى فيه صفات الجلال كـ “المضل“[1] و”المتكبر“[2]، وصفات الجمال كـ ” الهادي” و “الرحمن” و “الرحيم” وغيرها فإنه مَيّال إلى الخير وإلى الشر بالفطرة، وفي ذلك قال الله تعالى:
﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَ. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ (الشمس، 7-10)
ومن هنا فإن على الإنسان أن يحاول الوصول إلى درجة الكمال، وذلك يكون عن طريق اتباع إرشاد الأنبياء والأولياء، ذلك الإرشاد الذي يدعونا إلى تزكية نفوسنا وتصفية قلوبنا، والتخلص من الطباع والصفات السُّفلية الموجودة بداخلنا، والعمل على تنمية الصفات الروحانية.
ولأن الملائكة ليست لديها قدرة أو استعداد للشَّر فإن الإنسان يمكنه أن يتخطى درجتهم بوصوله إلى الله . ولذلك فإن درجة الإنسان تكون بين مقامين؛ فقد تكون في مقامٍ عالٍ أعلى من مقام الملائكة، وقد تكون في الدرك الأسفل أدنى من مقام الحيوان، فبين هذين المقامين تكون درجته، وذلك حسب اتباعه لوحي الله تعالى. إن الإنسان الذي يستطيع اجتياز حاجز النفس يقدم لنا نموذجاً فنياً رائعاً وعملاً عظيماً، فهو فاتحة كتاب هذا الكون وخلاصته وسر خلقه، لأنه بالرغم من كونه عبارة عن دم ولحم في الظاهر إلا أنه يكمن داخل هذا الظاهر كائن معنوي يحوي الكثير من أسرار وأنوار وحقائق التجليات الإلهية.
يوضح لنا هذه الحقيقة سيدنا علي رضي الله عنه في هذين البيتين:
دواؤك فيك وما تبصر وداؤك منك وما تشعر
وتزعم أنـــــك جرم صغير وفيك انطوى العالَمُ الأكبر
ربط بعض العلماء بين الأعضاء والأحداث الموجودة في جسم الإنسان وبين الكائنات والحوادث المبثوثة في الكون؛ فشبَّهوا العظام بالجبال، والشعر بالنباتات، والأوردة والشرايين بالأنهار، والتَّنَفُّس بالرياح، والتكلُّم بالرعد. أي إنه يوجد في هذا الإنسان الذي هو شكل مصَغَّر عن الكون أثر ورائحة هذا الكون الكبير.
المهم أن نحاول قراءة الآيات السبحانية المبثوثة في جميع أنحاء الكون وأن نفهمها على وجهتها الحقيقية. فإن الآية الأولى التي أوحى بها الله تعالى إلى نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم هي قوله تعالى: “اقرأ”، ومعنى القراءة هنا لا يقتصر على الشيء المكتوب فقط، بل يدل أيضاً على إنعام النظر بالعين، والتذكر والتفكر بالعقل. ومن هذا المنطلق قد تعني الآية الكريمة المعنى التالي:
(أيها الرسول، اقرأ الكلام الإلهي، تذكر وتفكر في الحقائق المكنونة في نفسك وفي الكون، وحاول إدراك حقائق الأشياء).
وبناء على هذا المعنى وضع شارحوا “المثنوي” التفسير التالي:
(ابتُدئ القرآن الكريم بـ “اقرأ” وأما المثنوي فبـ “بِشْنَوْ” يعني: “استمع”، كلمة “بِشْنَوْ” هي تفسير كلمة “اقرأ”، بمعنى: “استمع إلى الكلام الإلهي، استمع إلى الأسرار، استمع إلى الحقائق المكنوزة في داخلك).
إن ظهور الإنسان في هذا العالم قد بدأ بآدم ، فهو الإنسان الأول والنبي الأول والمرشد الكامل الأول، وإن نسل البشرية جمعاء المتسلسل منذ بدايتها إلى يوم القيامة كان محتوىً ومدموجاً بعضها فوق بعض في شخصه، وذلك عندما خلقه الله، ويشير الله تعالى إلى هذه الحقيقة بقوله:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً﴾ (النساء، 1)
ويخبرنا أيضاً أنه كرم الإنسان وشرَّفه على جميع خلقه بقوله :
﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ (الإسراء، 70)
إن هذا المخلوق الرائع – أي الإنسان- يمثل قمة الإبداع الإلهي في هذا العالم المُزَيّن بنقوش القدرة الإلهية. وفي هذا الموضوع يقول سليمان شلبي في “المولد”: “خَلَقَ الحقُّ آدمَ وزَيَّنَ به العالمَ” وكأنهما توأمان، وبعبارة أخرى فقد ألقي على عاتق الإنسان أكبر وظيفة، ألا وهي فهم أسرار الكون وإدراك حقائق الأشياء، وذلك لأنه نموذج مصغر عن الكون.
وكما تحوي حبة القمح بداخلها جميع الخصائص الموجودة في جنسها من القمح فإن بذرة كل نوع من أي جنس تحوي بداخلها خصائص وطباع جنسها. والإنسان كذلك هو كائن متميز يحتوي على حقائق جميع الأشياء الموجودة في هذا الكون. ومن هذا الوجه فكأن الإنسان بذرة أو جوهر انطوى بداخله العالم.
حيث يقول في شأن هذه الحقيقة الشيخ غالب:
انظر إلى نفسك بتمعُّن، فأنت زبدة العالَم، وأنت آدم الذي هو بؤبؤ الكون.
هناك الكثير من المقاصد الإلهية في خلق الإنسان؛ فمنها أن الله سبحانه أراد أن يظهر لنا دليلاً جلياً على جماله وإبداع خلقه، فالمراد الإلهي في خلق الإنسان مهم جداً لدرجة أن الله سبحانه من أجل تحقيق مقصده خَلَقَ الكون بما فيه مما يمكن إدراكه وما لا يمكن وسخره للإنسان لكي يستفيد منه.
إن الإنسان مكلَّف بعمارة الأرض، وبأعمال هي عبارة عن حصائد قلبه، لأنه خُلِق ليكون خليفة الله على الأرض. ووظيفة الخلافة هذه التي تعني العيش كوكيل للّه تعالى هي بناءً على احتوائه القابلية التي تمكنه من تحقيق تلك الوظيفة الكامنة في فطرته. واللَّه سبحانه قد وضع للإنسان برنامجاً لا بد منه لكي ينمي هذا الإستعداد كما تنمو البذرة في المنبت، ألا وهو الأوامر والنواهي الموجودة في القرآن الكريم.
وقد بين الله تعالى في الحديث القدسي الدرجات المعنوية للذين يسيرون في هذا الطريق، فقال تعالى:
“من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه” (البخاري، الرقائق، 38)
وفي الآية الكريمة:
﴿اَلْحَمْدُ ِللّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الفاتحة، 1)
فإن الله سبحانه وتعالى قد خلق عوالم كثيرة، وقد جاء بشأن عدد هذه العوالم في روايات مختلفة أنها بين 18000 و 360000 عالَم. وقد تعتبر هذه الروايات كناية عن الكثرة بسبب أن عقل الإنسان لا يستطيع أن يدرك عدد هذه العوالم. وهذه العوالم كلها ممكن أن نصنفها ضمن شكلين رئيسين:
1- عالم الخلق.
2- عالم الأمر.
وقد حصل الإنسان على حصة في خلقه من هذين العالمين.
وبين الله تعالى خلقه لعالمي الخلق والأمر بقوله:
﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَاْلأَمْرُ تَبَارَكَ الله ُرَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ (الأعراف، 54)
وقد قدم المفسر ألمالي لي حمدي يازِر شرحاً يتعلق بهذه الآية فقال: (إن التقدير والتكوين من الأزل إلى الأبد له سبحانه، وإن القبول ووضع التشريع له أيضاً.
ومن هنا فإن المخلوقات الموجودة حجماً ومقدارا ملكه، والأوامر التي تجري عليها والتي ليس لها مقدار ولا حجم له أيضاً، أي إن الخلق له والأمر له. فالجسم والمادة والشكل بإيجادها وتكوينها، والروح والقوة التي تديرها هي من تأثيره وقوته. ولا يمكن لغيره أن يصدر منه إيجاد عدم أو إيجاد ممكنات. فالإيجاد له، وجعل الشيء واجبا يرجع له، والمعجزة له، والقانون له، وكل ما سواه خاضع لحُكمه، هذا ما يؤخذ من قوله تعالى:
﴿لَهُ الْخَلْقُ وَاْلأَمْرُ﴾. أما هو فخالق كل شيء، وصاحب التصرف المطلق، ولا يوجد كائن غير مستند لإيجاده، ولا يمكن أن يصدر أمر على خلاف أمره وإيجاده).
إن العالم المتشكل من الأكوان المخلوقة والمحدودة بالزمان والمكان يقال له عالم الخلق، كما يقال له عالم المُلك والشهادة، والأشياء التي نحسها بحواسنا الخمسة الظاهرية هي من هذا العالم.
أما العالم الغيبي المعنوي والروحي فيقال له عالم الأمر.
وبعبارة أخرى عالم الأمر هو العالم الكائن بأمر الله تعالى بكلمة “كن”، والغير متعلق بموضوع المادة والزمان، ويقال له عالم الملكوت وعالم الغيب أيضاً، والعقل والنفس والروح والقلب والسر وغيرها من اللطائف تعود لهذا العالم. وقد بين الله تعالى في القرآن الكريم أن الروح من عالم الأمر فقال:
﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ (الإسراء، 85)
والآية الكريمة التي تشير إلى نوعي الخلق في هذين العالمين هي قوله تعالى:
﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (يس، 82)
الأسباب والحِكَم الأساسية من خلقنا:
1- المقصد الأساس من خلق الإنسان هي عبوديته ومعرفته للّه تعالى. قال تعالى:
﴿وَماَخَلَقْتُ الْجِنَّ[3] وَاْلاِنْسَ اِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات، 56)
إن العبودية التي هي الغاية المذكورة من خلق الإنسان في هذه الآية الكريمة هي مرتبة شريفة لدرجة أننا نرى موقعها الجليل في كلمة الشهادة، وبناءً عليه فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان عبداً أولاً ثم أصبح رسولاً، وهذا يدلنا على أن العبودية تكون أولاً، أما الرسالة فهي لا تخرج عن حدود العبودية. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم تنبيهاً لمن بالغ في تعظيمه زيادة على حده، وللدلالة على أهمية مرتبة العبودية:
“لا ترفعوني فوق حقي، فإن الله اتخذني عبداً قبل أن يتخذني رسولاً” (الهيثمي، 9\21)
وقال الله تعالى في آية أخرى:
﴿قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّى لَوْلا دُعَاؤُكُمْ…﴾(الفرقان، 77)
أي لولا عبوديتكم بالدعاء والتضرع لما كان لكم قيمة عند الله تعالى ولا يُبالي ولا يَعْبأُ بكم. ومن معاني العبودية “معرفة الله”، ولذا فإن الإمام الماتُريدي رحمه الله وضع شرطين للإيمان، وهما:
أ- معرفة الله
إن خلق الإنسان متعلق بغاية تحقيق العبودية، ومعرفة الإنسان للّه . ولهذا قال الله تعالى في الآية الكريمة السابقة التي تبين سبب خلقنا: (لِيَعْبُدُونِ)
وقد فسر بعض المفسرين هذه الكلمة بكلمة: “ليعرفون” أي ليصلوا إلى معرفة الله في القلب، والتي تؤدي إلى معرفته حقيقة. (تفسير ابن كثير، 4، 255)
إن السبب الرئيسي لخلق الإنسان هو وجود الله تعالى، وإرادته إن يُعرَف، ولهذا قال الله تعالى في الحديث القدسي:
“كنت كنزاً مخفياً فأحببتُ أن أُعرَف، فخلقتُ الخلقَ لأُعرَف“[4]
ب- المحبة
يقول الله تعالى في الآية الكريمة:
﴿…وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً ِللّهِ…﴾ (البقرة، 165)
ولهذا فإن حب الله تعالى أكثر من أي شيء آخر حباً شديداً هو من أهم الأسباب والحِكَم لخلقنا، لأن الله تعالى أحَبَّنا، وأنعم علينا بنعمه التي لا تحصى، ولذلك فقد طلب من عباده أن يحبوا ذاته الإلهية، وأن لا يطغى حبهم لأي شيء آخر على حبهم له تعالى، فإن تصرفوا بخلاف ما طلب منهم فإنه يُعلِمهم أن عاقبتهم ستكون وخيمة، وأنه ينتظرهم عذاب أليم، وقد بيَّن الله تعالى في الآية الكريمة، فقال:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ…﴾ (المائدة، 54)
وفي آية أخرى كأن الله سبحانه وتعالى يخبرنا بأن السبب الأول لهلاك بعض الأفراد والأقوام هو قطع المحبة، فيقول:
﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِى سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ (التوبة، 24)
وقد جاء في الحديث الشريف أن حلاوة الإيمان لا يذوقها إلا من يحمل هذه الخصائص الثلاثة:
– أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما
– أن يحب في الله ويبغض في الله
– وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُلقَى في النار. (انظر: البخاري، الإيمان 9، 14، مسلم، الإيمان 67)
ولكن شرط محبة الله هي المحبة المفرطة لرسول الله صلى الله عليه وسلم النابعة من القلب، والتي ينتج عنها اتِّباعه والاقتداء به، وذلك يعني الفناء فيه، يقول الله تعالى:
﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (آل عمران، 31)
وقد جاء في الحديث الشريف أيضاً أن محبة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم هي شرط للإيمان الحقيقي، قال صلى الله عليه وسلم:
“واللَّه لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من أمه ووالده وولده والناس إجمعين” (البخاري، الإيمان،
2- إن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان لكي يُظهر العظمة والإبداع في خلقه، فالإنسان من روائع الخلق وبدائع الوجود، ولذا فقد قال الله تعالى:
﴿وَفِي اْلأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ. وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ﴾ (الذاريات، 20-21)
وفي آية أخرى أيضاً بعد أن بين الله تعالى لنا مراحل خلق الإنسان يلفت نظرنا إلى عظمته، فيقول :
﴿فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [5] (المؤمنون، 14)
وهناك وجه آخر لعظمة خلق الإنسان، ألا وهو كونه أشرف المخلوقات واتخاذ الله سبحانه له خليفة في الأرض، يقول الله تعالى:
﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي اْلأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة،30)
وقد وضع المفسر ألمالي لي حمدي يَزِر لقوله تعالى جَاعِلٌ فِي اْلأَرْضِ خَلِيفَةً التفسير التالي: (سأهبه نصيباً من إرادتي ومن قدرتي ومن بعض صفاتي، وهو باسمي وبوكالتي سيكون صاحب التصرف في العديد من المخلوقات، ونيابة عني سيطبق أحكامي، ولن يكون أصلاً في هذا الخصوص، فهو لن يطبق الأحكام باسمه الشخصي أصالة، ولكنه سيكون نائبي ووكيلي، وسيكون مأمورا بتنفيذ إراداتي وأوامري وبتطبيق قوانيني بإرادته هو، ثم سيكون من يأتي بعده خلفاً له، فتكون وظيفتهم نفس وظيفته، وعندها يظهر سر قوله تعالى:
﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ…﴾ (الأنعام، 165) (الماللي محمد حمدي يازير، حق ديني قرآن ديلي، أستانبول، 1935، 1، 299-300)
حقاً لقد خُلق الإنسان بأوصاف واستعدادات يغبطه عليها الملائكة لقربها من الحق تعالى. ونرى هذه الحقيقة في قوله تعالى:
﴿لَقَدْ خَلَقْنَا اْلإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ (التين، 4)
3- إن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان لكي يُظهر تجلي الأسماء الإلهية في مستوى أعلى.
ويشير إلى هذا المعنى الحديث الشريف:
“تَخَلَّقوا بخُلُق الله” (المناوي، التعاريف، ص 564)، لأن أكبر نسبة تَجلٍّ للأخلاق الإلهية نجدها في الإنسان من بين كل المخلوقات. ولأن الملائكة ليس لها نصيب من تجلي بعض الأسماء كالمضلِ والمتكبرِ فإن نفسها لا تشكل مانعاً ولا ترتكب ذنباً. ولهذا فإن الإستعداد الذي يُمَكِّن صاحبه من تخطي النفس والوصول إلى الله سبحانه وخلافته قد امتن الله به فقط على الإنسان وحده.
ولهذا فإن أشرف المخلوقات سيدُنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم قد نفذ في معراجه إلى حيث لم يستطع أن ينفذ أكبر الملائكة سيدُنا جبريلُ من الحدود، أي إلى سدرة المنتهى.
والخلاصة أن الإنسان يجب أن يعيش حياته مدركا أنه عبد للّه أرسله إلى هذه الدنيا، وأن يكون همه دائما شكر النعم اللا متناهية التي أنعمها الله عليه.
خلق سيدنا آدم عليه السلام
إنَّ خالقَ ومالكَ هذا الكون هو الله ، وقد أراد خلق الإنسان وشَرَّفه على سائر المخلوقات لكي يعرفه، ولكي يطيعه ويعبده، ويعمر الأرض. وقد أبلغ الله سبحانه ملائكته الذين كان قد خلقهم من قبلُ واصطفاهم لعبادته هذه الإرادة الإلهية، فقال الله تعالى:
﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي اْلأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة، 30)
وقد كانت ردة فعل الملائكة تجاه هذا الأمر أنهم جميعاً قالوا:
﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ (البقرة، 32)
فالخلافة كالوكالة، وهي تقابل الأصالة، أي النيابة عن الغير، وهي تقريباً تعني تمثيل الغير بأخذ مكانه. والخليفة هنا بمعنى الوكيل الذي يمثل إرادة الله تعالى في الأرض والذي يمتثل لأوامره ونواهيه، ومن هنا فإن الإنسان سيكون واسطة ووسيلة لإتمام نور الله تعالى.[6]
والوكالة في نفس الوقت تعني تكريم وتشريف الأصل للفرع، وجَعْلُ الله أنبياءه خلفاء على هذه الأرض يعتبر من هذا القبيل. وفي الحقيقة إن هناك إشارة لذلك في الروح المنفوخة في الإنسان، أي يوجد وصف لهذا التوجيه فيها، وإلا لم تكن هذه الخلافة لتأتي بمعنى الوكالة عن الألوهية بأي شكل من الأشكال.
في هذه الآية الكريمة عندما أجرى الله نوعاً من المشاورة مع الملائكة وأخبرهم أنه سيخلق خليفة له كأنهم بدؤوا يظهرون أنهم أليق بمقام الخلافة هذا، وبرهنوا على ذلك أنهم يسبحون الله وينزهونه، ولكن الله رد عليهم قائلاً: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ مُعْلمهم بذلك أن خاصية التسبيح والتنزيه التي يتصفون بها ليست كافية لأن تخولهم خلافته، وأن الخلافة يمكن أن تستأهل بنفخ سره، أي روحه، فيمن يخلفه، وتعليمه الأسماء.
وهكذا فقد كانت الخلافة لائقة بالإنسان، وذلك لكونه من بدائع المحدثات أي من روائع إبداع الخلق الإلهي ظاهراً وباطناً، فهو المخلُوقُ الرائع الذي اجتمع فيه تجلي كل أسماء الله تقريبا.
حكم السؤال الذي سألته الملائكة للّه سبحانه وتعالى:
1- أرادت الملائكة أن تعرف الحكمة من خلق الإنسان، وإلا فلم يكن الغرض من سؤالهم الإعتراض أو حسد سيدنا آدم عليه السلام، لأنه حسب ما أخبرتنا النصوص فإن الملائكة لا تتصف بمعصية الله أو الإعتراض عليه سبحانه، ولا بالأخلاق السيئة كالحسد والحقد.
2- هناك احتمال أن تكون الملائكة استطاعت أن تعرف من اللوح المحفوظ أن الإنسان سيفسد في الأرض ويسفك الدماء، فمن الممكن أن تكون قد سألت لهذا السبب، حيث إن بعض علماء الكلام ذهبوا إلى أن الملائكة تستطيع أن تقرأ ما هو مكتوب في اللوح المحفوظ. (انظر: الرازي، التفسير، 31/114)
3- قد تكون الملائكة سألت هذا السؤال لأن الله سبحانه قد أطلعهم على هذا الحال (حال الإنسان) من قبل.
4- طبقاً لرأي آخر فإن الملائكة سألت هذا السؤال لأنها كانت على علم بالفساد والخراب الذي سوف يحدثه الجِنُّ.
يروى أن المولى عندما أراد أن يخلق آدم عليه السلام بعث الله جبرئيل إِلَى الأَرْضِ لِيَأْتِيَهُ بِطِينٍ مِنْهَا، فَقَالَتِ الأَرْضُ: إِنِّي أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ أَنْ تُنْقِصَ مِنِّي شيئا وتشينى[7]، فَرَجَعَ وَلَمْ يَأْخُذْ، وَقَالَ: يَا رَبِّ إِنَّهَا عَاذَتْ بِكَ فَأَعَذْتُهَا، فَبَعَثَ مِيكَائِيلَ فَعَاذَتْ مِنْهُ فاعاذها فرجع، فقال كما قال جبرئيل، فبعث إسرافيل فَعَاذَتْ مِنْهُ، فَأَعَاذَهَا فَرَجَعَ، فَقَالَ كَمَا قَالَ جبرئيل، فَبَعَثَ مَلَكُ الْمَوْتِ فَعَاذَتْ مِنْهُ، فَقَالَ: وَأَنَا أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَرْجِعَ، وَلَمْ أُنَفِّذْ أَمْرَهُ، فاخذ مِنْ وَجْهِ الأَرْضِ، وَخَلَطَ فَلَمْ يَأْخُذْ مِنْ مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَأَخَذَ مِنْ تُرْبَةٍ حَمْرَاءَ وَبَيْضَاءَ وَسَوْدَاءَ، فَلِذَلِكَ خَرَجَ بَنُو آدَمَ مُخْتَلِفِينَ، فَصَعِدَ بِهِ فَبَلَّ التُّرَابَ حَتَّى عَادَ طِينًا لازِبًا- وَاللازِبُ هُوَ الَّذِي يَلْتَزِقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ- ثُمَّ تُرِكَ حَتَّى تَغَيَّرَ وَأَنْتَنَ، وَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ: «مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ» ، قَالَ: مُنْتِنٌ[8].
وبسبب القرار الذي اتخذه عزرائيل في هذا الموقف وكلَّ الله تعالى إليه وظيفة قبض الأرواح. ولأن الإنسان خُلق من تراب فإنه يحمل خصائصه، فالتراب ييبس أحيانا، ويُصلى من الحر، ويتلهف شوقاً إلى الماء. يتحمل قسوة موسم الشتاء، ولكنه سرعان ما ينتعش ببركة أمطار الربيع، وعندها يعرض لنا مختلف أشكال القدرة الإلهية المتمثلة بالجمال والألوان والروائح والتناغم.
والإنسان يشابه التراب أيضاً في قدَر آخر، وذلك أن الشهوات الدنيوية تعصف بالإنسان كما يعصف الإعصار الموجود في الصحراء بالرمال، ثم يهدأ. فإن النفس إنْ تسلَّطَتْ على الإنسان تجعل حياته تعسة، ولكنه بتخطيه حاجز النفس يصل إلى الكمال. وكما أن التراب يجد الحياة في أمطار الربيع فإنه ينال معها الفيض وتجليات الرحمة ويؤثر ما ناله إلى غيره. وهكذا فإن الإنسان ينفق النعم التي اكتسبها من أجل رضاء الله مثله في ذلك مثل التراب المُنبِت في فصل الربيع وبركته وجماله.
وبسبب أن جسد الإنسان الفاني مخلوق من التراب فإنه يتغذى عليه وفي النهاية يفنى فيه، أي يعود لأصله. إن جميع العناصر الموجودة في التراب موجودة في جسم الإنسان، سواء بقلة أو بكثرة، وأيضا فإن جسم الإنسان هو مظهر آخر من مظاهر التراب، حيث جاء في رواية أن آدم سمي “آدم” لأنه خلق من تراب[9]. والآية الكريمة التي تخبرنا أن آدم عليه السلام خلق من تراب هي قوله تعالى:
﴿…خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (آل عمران، 59)
وكما أن التراب له ألوان مختلفة كالأحمر والأسود والأبيض وغيرها فإن للإنسان المخلوق منه كذلك ألواناً مختلفةً أيضاً. ومن ناحية أخرى فكما أن بعض أجزاء التراب صلب وبعضها لَيّن فإن الناس من حيث الإستعداد والقابلية متنوعون كذلك. وهذا ما يخبرنا به الله سبحانه في قوله:
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ. وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ (فاطر، 27-28)
وفي هذا الشأن يقول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم:
“إِنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ: جَاءَ مِنْهُمُ الْأَحْمَرُ، وَالْأَبْيَضُ، وَالْأَسْوَدُ، وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَالسَّهْلُ، وَالْحَزْنُ، وَالْخَبِيثُ، وَالطَّيِّبُ «زَادَ فِي حَدِيثِ يَحْيَى» وَبَيْنَ ذَلِكَ“. (أبو داود، السنة، 16)
وحسب ما روي فإن الله عَجَنَ التراب الذي خُلق منه آدم عليه السلام بيده أربعين يوماً (الطبري، التفسير، 3، 306) وإن كَيفيّةَ كل يوم من هذه الأيام هو مجهول بالنسبة لدينا.
وحسب ما أطلعتنا عليه المصادر فإن الطين الذي خُلق منه آدم عليه السلام تُرِك أربعين سنةً، وأحمي على قالبه النار، وأمطر عليه أمطار الحزن تسعاً وثلاثين سنةً، وأمطار السرور سنة واحدةً، ولهذا فإن الحزن عند ابن آدم أكثر من السرور. وقد قال أصحاب الحكمة:
ها هي الدنيا إذا أضحكتْ يوما أبكتْ أياماً
المطر المذكور هنا ليس مادياً، وإنما هو تجليات معنوية، سمي مطراً مجازاً.
الحزن دائماً يعقبه سرور، فالمكافآت الكبرى تأتي دائماً بعد الصبر والمعاناة، وذلك كمعجزة المعراج، فإن الله أنعم على نبينا بها بعد جولته الشاقة والمؤلمة إلى الطائف، والمرحلة المدنية السعيدة جاءت بعد المرحلة المكية الصعبة. فقد قال الله تعالى:
﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ (الانشراح، 5-6)[10]
عندما نزلت سورة الانشراح سُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الله تعالى قرن العسر بيسرين، فخرج إلى أصحابه مسروراً فرحاً وهو يضحك وقال: “لن يغلب عسرٌ يسرين” ثم تلا:
﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ (الحاكم، 2، 575)
يقول الشاعر لمن واجه ظرفاً صعباً من مشقات هذه الحياة مرشداً إياه إلى طريق الخلاص:
اِذَا ضَاقَ بِـــــكَ اْلاَمْرُ تَفَكَّرْ فِى «أَلَمْ نَشْرَحْ»
فَعُسْرٌ بَيْنَ يُسْرَيْنِ اِذَا فَكَّرْتَهُ تَفْرَحْ
لا شك أن الدنيا دار ابتلاء مليء بالمحن المختلفة، وذلك ما أخبرنا الله به في قوله تعالى:
﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ اْلأَمْوَالِ وَاْلأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. اَلَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا ِللّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ. أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ (البقرة، 155- 157)
حتى الجمادات والنباتات فإنه عندها نضوج بعد مرورها بمرحلة عمومية من مراحل الصبر، فمجيء الربيع يكون بعد تحمل التراب العذاب في موسم الشتاء، والإنسان أيضاً ينضج بالصبر وتحمل المشقة، ويصبح إنساناً كاملاً. يبين الله تعالى لنا في القرآن الكريم مراحل خلق آدم عليه السلام من تراب كما يلي:
مرحلة التراب
﴿…خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (آل عمران، 59)
ولأن الإنسان خُلق من تراب فإنه يحتوي على خصائصه المختلفة في بنيته، فكما أن من التراب الطيني، ومنه الرملي، ومنه الناعم ومنه الخشن، فكذلك الناس يعرضون لنا في طبيعتهم هذا الإختلاف. وكذلك فإن التراب يُداس، ويمكن أن يُعمل عليه أي شيء بشكل مريح، ولا يصدر من التراب أي تذمر تجاه هذه الأمور، وهكذا فإن الصفات الموجودة في الإنسان كالصبر والتواضع تأتي من هنا. وبالمقابل فإن بعض الأوصاف كالسكون والعطل والكسل الموجود في التراب نراه في الإنسان أيضاً.
مرحلة الطين
﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍٍ﴾ (السجدة، 7)
في مرحلة الطين يأتي دور الماء. قبل كل شيء فإن الماء منظِّف، فيمثل النظافة، ومن هذا المنظور فإن الماء يمثل العفة والشرف وطهارة الحواس المادية والمعنوية عند الإنسان.
مرحلة الطين اللازب (الملتصق بعضه ببعض)
﴿…إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لاَزِبٍ﴾ (الصافات، 11)
اللصوق يمثل عدم الإنقطاع وحس الولاء والتعلق عند الإنسان، وأيضاً فإن العناد والإصرار في الدفاع عن فكر معين عند الإنسان ناتج عن هذه المرحلة.
مرحلة الصلصال (الطين المجفف بالهواء)
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا اْلإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾ (الحجر، 26)
في مرحلة الصلصال من حمإ مسنون المذكورة يدخل عنصر الهواء، والهواء يُدخِل لطين الإنسان قابليته للحركة، فعدم الإستقرار والتقلب وعدم الوفاء بالعهد والتهدم ومثل ذلك من الأوصاف الموجودة في طبيعة الإنسان ناتجة عن هذه المرحلة.
مرحلة الحمأ المسنون (الطين المُشَكَّل)
﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ﴾ (الحجر، 28)
تشير مرحلة الحمأ المسنون إلى خاصية قابلية الإنسان للتشكل والتربية والتزكية، ويمكن لهذه الخاصية أن تُستعمل في الخير أو الشر، والمهم أنها تمكنه من تقويم نفسه.
مرحلة “صلصال كالفخار”
﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِِ﴾ (الرحمن، 14)
يدخل في هذه المرحلة عنصر النار. وتنشأ من هذه النار بعض أوصاف الإنسان، كالكبر والغرور والحسد ومخالفة أوامر الله والخيانة.
تلخص لنا الآيات 12-14 من سورة المؤمنون أحداث خلق الإنسان منذ حضرة آدم عليه السلام إلى من بعده ممن جاء من صلبه من النّاس، يقول الحق تعالى:
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا اْلإِنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً[11] فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ (المؤمنون، 12- 14)
لم يستطع علم الطب أن يصل إلى هذه الحقائق إلا في عصرنا هذا، ولكن الله سبحانه أخبرنا بمراحل خلق الإنسان في القرآن الكريم على نحو موافق للحقائق العلمية قبل ألف وأربعمئة سنة ونيّف.
يذكر الله تعالى في الآيات الكريمة السابقة مراحل خلق الإنسان المليئة بالعبر والملفتة للنظر. إن الطين الذي يشكل المرحلة الأولى من مراحل خلق الإنسان، أي مرحلة التراب المستعمل في خلق آدم عليه السلام ، هو من حيث المظهر مادة ليس لها جمال ولا قيمة، وأما ما بعدها من المراحل
فهي تقدم لنا مادّة غير جذّابة، بل مُقرفة، تعرض لنا مناظر من ماء مهين لا قيمة له، وتخثر دم جامد دَبِق (العلقة)، ومضغة. وبعد ذلك تتدخل التجليات الإلهية، فتظهر قدرة الله تعالى في بديع تشكيل الإنسان وروعة وظرافة مظهره. ويعقُبُ ذلك زوال القوة المودَعة في هذه المادة، وخروج الروح منها، فتنعكس الرحلة سيرها، ويُكمِلُ ذلك الجسد رحلته بعد اكتمال مراحل نضوجه، ويعود مرة أخرى إلى المكان الذي أتى منه، ألا وهو التراب، فيتعَفَّن ويتحلّل فيه. وبعد ذلك يأتي دور بذرة الجسد الوحيدة التي لا تَفنى ولا تتعفَّن، والتي تُسَمّى “عُجبُ الذَّنَب”، والتي تكون في هذا البدن المتعفِّن كأنها قطرة زِئبق، فتُنبِتُ الجسد مرة أخرى وتدب فيه الحياة بشكل سريع، وتخرجه من مرقده.
وقد دعا الله سبحانه وتعالى الإنسان إلى التفكُّر في سير رحلته هذه في آيات كثيرة، ومنها قوله تعالى:
﴿وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ﴾ (يس، 68)
وقوله تعالى:
﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾ (الروم، 54)
وقوله أيضاً:
﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾ (طه، 55)
مما سبق تخبرنا هذه الحقائق أنَّ بدن الإنسان نتيجة للمراحل التي يمر بها في الدنيا، ووفقاً لطبيعته وظروفه الذاتية فإنه محكوم عليه بالفناء، وأن الشيء الأصيل والدائم الأبدي هو سلطان الروح التي يكون معها طريق السعادة أو الشقاوة، الطريق إلى الجنة أو إلى النار.
نفخ الروح (نفث الروح)
بعد أن خلق جسد الإنسان من قبضة تراب، نفخ فيه سرا من روحه منعماً عليه بأعظم المراتب بين المخلوقات. غير أن الحياة الموجودة في الإنسان المخلوق كجسد كانت قد بدأت بنفخ الروح. ومن هذا المنطلق فإن نفخ الروح يعد قبل كل شئ تقدير من الله تعالى لعبده، ومنحه الحياة. ويبين الله تعالى هذه الحقيقة في الآية الكريمة:
﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ…﴾ (الحجر، 29)
إن نفخ الله تعالى من روحه في آدم عليه السلام إنما هو تعبير مجازى. وكذلك في منح الله تعالى العبدَ بعضاً من صفاته وفقاً لقدرات العبد واستعداداته. وبهذا النفخ يعرف الإنسان ربه ببركة وقدرة هذه الأمانة التي تلقاها منه، ويكون عبداً له. ويكون الإنسان على بصيرة من الأسرار والعظمة الإلهية على قدر طاقته وقدرته. أما مركز هذه الإحاطة فهو القلب. والقلب هنا ليس ككيان فيزيقي، إنما بوصفه مكاناً للتجلي ومركزاً للإحساس. إن امتلاك النفس السلطانية يجعل الإنسان بثلاث مهام أساسية ويكون مزوداً بالقدرة على الإيفاء بتلك المهام وهي:
معرفة نفسه، أي معرفة ذاته وحقيقتها.
معرفة خالقه، أي معرفة ربه (معرفة الله)
إدراك فقره وحاجته إلى خالقه، الوصول إلى العدم
ولقد ورد في الأثر أن:
(من عرف نفسه فقد عرف ربه)
إن أول موجود خُلق إنما هو النور المحمدي، مثلما أن روحه الشريفة هي الأولى في خلق الأرواح. أما الأرواح الأخرى فهي من قبيل مكنون الجوهر وذلك من أجل معرفة قدر وقيمة روحه الشريفة.
ولهذا السبب يقال لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم: “أبو الأرواح”.
ويروي أبو هريرة أن الصحابة رضي الله عنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلين:
“مَتَى وَجَبَتْ لَكَ النُّبُوَّةُ ”
فأجاب عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا:
“وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالجَسَدِ” (الترمذى، المناقب، 1، 3609)
وعلى هذا يكون سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو الأول في النبوة أيضاً. وإن الحكمة الكامنة في كونه الأول من حيث خلق الجسد، الروح، والنبوة سنتناولها لاحقا في موضوع أمر الله للملائكة بالسجود لسيدنا آدم عليه السلام . ويمكننا أن ندرس الروح في قسمين:
الروح السلطانية:
وهي من عالم الأمر. وتكون منفصلة عن الجسد. وكونها معه إنما يكون لسيطرتها عليه وتحكمها فيه. ولا يؤثر فيها كون الجسد يفنى ويتعفن. غير أن الرغبات الجسدية بهذه الصورة تتخلص من السيطرة التي هي عليها.
الروح الحيوانية:
وهي من عالم الخلق. وتنتشر في كل أنحاء البدن. تكون سيطرتها الأساسية على الدم. مركزها هو المخ. وهي تشكل نقطة البداية بالنسبة للأفعال والحركات. ولو لم تكن هناك الروح الحيوانية لما أصبح هناك تأثيرا في الجسد.[12]
الأطوار الخمسة للروح:
طور العدم: كان الله تعالى موجودا وحده في الأزل، ولم يكن يوجد هناك أي موجود آخر سواه. وخلال تلك الفترة كانت الأرواح في عدم تام. وهكذا تخبرنا الآية الكريمة:
﴿هَلْ أَتَىٰ عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً﴾ (الإنسان، 1)
طور وجود عالم الأرواح (مرحلة ألست):
خلق الله تعالى الأرواحَ قبل خلق الأجساد لحِكَم كثيرة جداً. وهكذا يتناول الحديث الشريف هذه الحقيقة:
“خُلقت الأرواحُ قبل الأجساد بألفي عام” (الديلمى، المسند، جـ2، ص 187- 188)
طور إرسال الأرواح إلى الأجساد:
إن الأرواح التي خلقت قبل الأجساد بأزمنة بعيدة، و التي أُخذ منها العهد والميثاق فيما يتعلق بالإقرار بربوبية الله ، كان قد شُرع في نقلها وإرسالها إلى الأجساد واحدة فواحدة بما يتواءم مع خطة القدر التي كانت قد أُعدت في الأزل. وهكذا تتحدث الآية الكريمة عن نفخ الروح في آدم عليه السلام بوصفه أول إنسان:
﴿…وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى﴾ (الحجر، 29)
طور الانفصال عن الأبدان:
تنفصل الأرواح التي استوفت أجلها الذي كان قد قُسِم لها في هذه الحياة الفانية، تنفصل واحدة فواحدة عن أبدان التي لبثت فيها فترة مؤقتةً. وهذا المصير المحتوم الذي لا يمكن لأي أحد أن ينجو منه يقال له: الموت. وهكذا تخبرنا الآية الكريمة:
﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ…﴾ (آل عمران، 185)
طور العودة إلى الأبدان مرة أخرى:
الموت في العقيدة الإسلامية ليس فناءً وزوالاً، إنما هو أشبه تمام الشبه بميلاد الطفل الموجود في رحم الأم حينما ينقطع ارتباطه به. فحينما تتخلص الروح من هذا العالم الفاني يكون ميلادها في صباح حياة أبدية.
وهناك سيحاسب الإنسان عن الحياة التي عاشها في الدنيا، وكنتيجة لهذا، فإما سيصل الإنسان إلى سعادة لا حد لها، أو يتعرض لعذاب أبدى (أعاذنا الله ).
وهاتان آيتان اثنتان من بين مئات الآيات المتعلقة بهذا الموضوع:
﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ (يس، 79)
وعندما يتحدث المولى في الآية السابعة من سورة التكوير عن علامات يوم القيامة الشديدة والرادعة يخبرنا الله تعالى برده الأرواح للجسد من جديد:
﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ (التكوير، 7)
ليس ممكناً بأي حال من الأحوال معرفة ماهية الروح التي تُنفخ من قبل الله تعالى في الإنسان بوصفها سراً. ذلك لأنها تنتمي إلى عالم الغيبيات وتعبر عن ماهية لن يستطيع أن يعيها إدراك البشر. وبناء على هذا يخبرنا المولى في الآية الكريمة بشأن ماهية الروح:
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin