الذوق الجمالي في تجربة الكشف والتجلي عند محي الدين ابن عربي
إن الجمالية كلمة مشتقة من الجمال والحديث عنها جزء من علم الجمال فالإحساس بالجمال شعور وجودي، عند الإنسان البدائي مثل ما هو عند أكثر الناس تحضرا وهو موجود في كل مكان، فالإنسان يتأمل بذوقه مكونات الطبيعة والمحيط كله فيستخدم أدواته ليرسم مناظر من إبداعه[1] ورغم ضغوط الحياة يظل هذا الإحساس الجميل متحركا في نفسه فيعيش تجربة جمالية تكون محصلة تفاعل الإنسان ومحيطه. فإذا كنا نؤمن بأن الجمالية مرتبطة بالذوق الجمالي فماذا نقصد بالذوق الجمالي ؟ وما علاقته بتجربة الكشف عند ابن عربي ؟
" من لم يحركه العود وأوتاره والربيع و أزهاره فهو فاسد المزاج ليس له علاج" إن مثل هذه المقولة تحرك فينا مفهوم الذوق الجمالي وهي في الحقيقة كافية لوحدها للدلالة على مفهوم الذوق الجمالي. يقول فولتير في قاموسه الفلسفي " لايكفي أن ندرك جمال العمل ونتعرف عليه بل يجب أن نحس بهذا الجمال ونتأثر به ولايكفي أن نحس ونتأثر به بطريقة مبهمة بل يجب أن نتبين كافة عناصره وبسرعة ويقول الفنان التشكيلي " جون ديلاكروا" "ربما التذوق نادرا ندرة الجمال وهو الذي يجعلنا نحس الجمال حيث يوجد وهو الذي يجعل كبار الفنانين الذين وهبوا القدرة على الإبداع الفني يهتدون إليه .
فالتذوق هو عملية اتصال وتواصل بين أعمال الفنان وبين المتذوق والمستمتع بها والتفاعل معها برؤية تأملية. ([2]) فإذا تتبعنا الذوق الجمالي مند الفلسفة الأفلاطونية نجد أن أفكار أفلاطون الجمالية ومن قبله سقراط امتداد للتيار العقلاني المثالي لفيتاغورس، تقوم على مثاليته في التمييز بين عالمين "عالم الظلال والقشور" وعالم المثل" فالجمال الحقيقي يكمن في عالم المثل الذي هو عالم حقيقة الجمال. وأن ما في الطبيعة من إنسجام وتناغم ما هو إلاّ محاكاة للأصل ورمز يشير إلى الأصل، ويدفعنا إلى كلية أزلية مطلقة. فالأشياء تبدوا جميلة أو غير جميلة حسب درجة استعدادها ‘فالأشياء تكون أكثر جمالا كلما تخلّصت من طابعها المادي، وارتقت إلى صورها الروحية. ولأنها لا تستطيع أن تتخلص من مادتها تماما ‘فهي بالتالي لن تكون ذات ذوق جمالي تام على نحو مطلق، مثله مثل أي كمال آخر أمر لا يتحقق في هذا العالم. إلاّ أن غياب الذوق الجمالي المطلق لا يعني غياب الجمال فالجمال موجود يتدرج من الذوق الجمالي الحسي، إلى الذوق الجمالي العقلي أو الروحي الذي يبلغ دروته في الإنسان عن طريق الاقتراب من الجمال المطلق.
فيعتبر الذوق الجمالي الأفلاطوني ذوقا تصاعديا متسلسلا من درجة إلى أخرى، حتى يتم التوصل إلى المفهوم السامي للذوق الجمالي، حيث يتحد هذا الذوق الجمالي بالخير. وقد رأى أفلاطون أن في أصل كل ذوق جمالي لابد من ذوق أولي يجعل الأشياء جميلة ([3]) ويتدرّج الذوق الجمالي عند أفلاطون على مراحل ثلاثة:
1- الذوق الجمالي الالشكلي أي جمال الأشكال {جمال الحس}
2- الذوق الجمالي الأخلاقي والعقلي أي جمال الأفكار وهو {جمال المعرفة}
3- الذوق الجمالي المطلق أي الذوق الجمالي الأبدي { الجمال المثالي} واضح جدا من هذا التقسيم للذوق الجمالي أن أفلاطون قد أضاف، إلى جانب النزعة العقلية السقراطية اتجاها صوفيا للذوق الجمالي, هذا الاتجاه الصوفي للذوق الجمالي نلمسه من خلال كتاب " الجمهورية" ترسم لنا ذوقا جماليا وصوفيا في مضمونه بصورة تصاعدية.
إن هذا الذوق الجمالي الذي تلعب فيه المخيّلة دورا أساسيا خاصة حينما نتحدث عن الإستيطيقا(*) التي تحدث عنها " إيمانويل كانط "kant في النقد الثالث وأعطى كانط نظرية جديدة في الذوق، فاعتبر الذوق الجمالي يقوم على المتناقضات، أي بناء الذوق على الحكم الجمالي الكلي و الصادق، والذاتي في الوقت نفسه. وأن اللّذة مقيدة والذوق الجمالي أمر حرا، يخلو من كل مضمون وهذا الجليل إفساد للشكل في الطبيعة، لأن كانط يتناول الحكم الذوق الجمالي من وجهات أربعة هما {الكيفية- الكمية – النسبية – والشكل } أما بالنسبة لحكم اللّحظة الكيفية فهي حكم الذوق حكما حياديا غير متحيّز. يقول كانط Kant في كتابه "نقد ملكة الحكم "..إن الذوق هو ملكة الحكم بالرضى على شيء ما، أو على شكل تقدمه والشيء الذي يرضي هو بالتالي الجميل " ([4]) كما أن المتعة التي لا تقودها بالضرورة الرغبة في الموضوع ‘ والتي ليست تمتعا بالموضوع، و إنما من تأثير هذه المتعة تسمى بالمتعة التأملية المجردة أو الرضى السلبي هذا النوع من الشعور هو ما نسميه بالذوق .
واضح جدا أن في الإستطيقا الكانطية نزوع صوفي عميق، غير أن التصوف والعرفان الإسلامي يتميّز بخاصية الذوق، وهو ذوق يختلف عن ذالك الذي نجده في الفلسفات الأخرى، لأن مفاهيم الذوق الصوفي لا تحصل عن طريق التأمل العقلي ‘بل هو ذوق كشفي و عرفاني أساسه القلب. فنقطة انطلاق الذوق الجمالي الصوفي قد بدأت في المنهج الإشراقي حينما شرح "الغزالي" ما ورد في القرآن الكريم من قوله تعالى " الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح...." ([5]) حيث يصف الله بأنه نور الأنوار الذي تستمد سائر الموجودات نورها منه وهي تبدأ بالروحانيات {أي الملائكة} التي تترتب بحسب قربها أو بعدها عنه، وتتدرج حتى تصل الأجسام الارضية التي تستمد وجودها من النور المطلق، ومن هنا يترقّى العارفون فيرون بالمشاهدة العيانية أن ليس في الوجود إلاّ الله، وأن كل شيء هالك إلاّ وجهه. وتبدأ معرفتهم بالحس وتنتهي بالعقل، إلاّ أن أعلى مراتب المعرفة ليست العقل أو الإيمان، بل مرتبة جمالية الذوق والكشف التي هي بمثابة نور يقذفه الله في الصدر ، وذالك بالإقرار بأنه هو الموجود الفرد الفاعل الأحد، والنور الذي ليس وراءه نور آخر، وإن إدراك هذا النور لا يكون بالنظر المجرد ولا بالإتحاد المشاهدة ([6]) ولقد لقيت هذه الأفكار رواجا كبيرا في المشرق الإسلامي خاصة، إلى أن وصلت عند "شهاب الدين السهروردي" المعروف بشيخ الإشراق {1153-1191} الذي أرسى أساسها النظري، وقام أتباعه بنشر فلسفته عن طريق شرح مؤلفاته {من أهمها هياكل الأنوار} و {حكمة الإشراق} الذي يعد أهم مرجع في التصوف الإشراقي التي تأثر فيها –على ما يبدو- بالثورة الروحية التي فجّرها الغزالي والحلوليون والزهاد قبله، وفي بعضها ينطلق مما سبق أن انتهى إليه([7]) غيره. فالكشف إذن ذوق جمالي يحدث بحضور الأنوار في قلب الصوفي عند ارتقائه إلى عالم الحصرة الإلهية، وعن تشرّبه من المعارف الأزلية، وفي هذا المقام تضيء في قلبه شموس وأقمار، فتنكشف للعارف الأنوار الربانية في بصيرة الصدق فيتذوّق جمالية الكشف والتجلي، حتى تبدو دون احتجاب خلف المحسوسات أو الأستار، وفي هذا تكون غيبة الصوفي عن ذاته تشكل ذوقا جماليا يتجسّد في اضمحلال كيانه الإنساني مع سطوة نور التجلي الإلهي(6) غير أن الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي {1165-1240} الذي ترك عددا هائلا من المؤلفات {الفتوحات المكية وفصوص الحكم وديوان ترجمان الأشواق وإنشاء الدوائر...} تطرح قضايا جمالية ذوقية وقضايا أنطولوجية ‘ وكوسمولوجية {كونية} من وجهة نظر التصوف الإسلامي .
فإذا كان الذوق الجمالي الصوفي يقوم على الكشف فإن الكشف نفسه يتأسس على ذوق صوفي أكثر أهمية من الكشف وهو التجلي وجماليات أذواقه ؟
يرى الشيخ محي الدين ابن عربي أن كل كشف لا يكون عن تجلي لا يوثق به، فما التجلي وكيف يحدث في العارف ذوقا جماليا ؟
إن التجلي :theophanie في اللغة يعني الظهور، وعند فلاسفة الصوفية عبارة عن ظهور ذات الله وصفاته وهذا هو التجلي الرباني، ويسمى شأنا إلهيا بالنسبة إلى الحق سبحانه وتعالى وحالا بالنسبة إلى العبد، ولا يخلو ذلك المتجلي من أن يكون الحاكم عليه أسماء من أسماء الله تعالى أو من أوصافا من أوصافه، فذلك الحاكم هو المتجلي ([8]) ويقصد به عند الصوفية " ما يظهر للقلوب من أنوار الغيوب، ويقسم إلى ثلاثة أقسام التجلي الأول هو التجلي الذاتي يمثل تجل للذات وحدها ولذاتها وهي الحضرة الأحدية التي لا نعت فيها ولا رسم، إذ الذات التي هي وجود الحق المحض وحدته عينه، لأن ما سوى الوجود من حيث هو وجود ليس إلاّ العدم المطلق، والتجلي الثاني هو الذي يظهر في أعيان الممكنات الثانية التي هي شؤون الذات لذاته تعالى وهو التعين الأول بصفة العالمية و القابلية، وآخر التجلي الشهودي وهو ظهور الوجود المسمى بالنور، وهو ظهور الحق بأسمائه في الأكوان التي من صورها، وذالك ظهور نفس الرحمن الذي يوجه الكل" ([9]) واضح جدا أن التجليات تعبر عن صفات الحق تعالى المتعددة بتعدد أسمائه التي تتجلى لقلوب العارفين في شكل أنوار، تسمح بمكاشفة ومشاهدة الحقائق التي تظل مرتبطة بالصوفي وبأذواقه الجمالية لهذه التجليات وذالك بالتحرر من أثر الجسم و الشوق والإنجداب نحو الحق تعالى. وأعلى مراتب الذوق الصوفي هو الفناء annihilation هذا الذوق الجمالي الذي لايشعر فيه الصوفي بنفسه ولا بشيء من لوازم نفسه أي ذوق جمالي يتم فيه تبديل صفات الصوفي البشرية بصفات محبوبه وهو الله دون ذات محبوبه فكلما تطهّر من صفة بشرية قامت صفة إلهية مقامها فيكون الحق سمعه وبصره. والفناء ذوق جمالي يتجلى بسقوط الأوصاف المذمومة ، وثبوت الصفات المحمودة.وعلامة الفناء وذوقه الجمالي يتحقق حينما ينقطع الصوفي عن الخلق كما لو كان مغيّبا في الرحم فلا يرى شيئا غير الله ويكون ناسيا نفسه وكل الأشياء سوى الله، غير أن هذا الإنقطاع يحقق ذوقا جماليا حينما يتحقق بالتجلي وليس الفناء بنهاية الحياة ورجوع الروح إلى بارئها بل هو فناء عن الذات وبقاء في الله.
ترتبط حقيقة التجلي عند ابن عربي بالذوق الجمالي الكشفي والتجلي كلمة قرآنية عي البديل للفيض والصدور عند أفلوطين([10]) ويعرفه ابن عربي بقوله " إعلم أن التجلى عند القوم ما ينكشف للقلوب من أنوار الغيوب وهو على مقامات (**) مختلفة : فمنها ما يتعلق بأنوار المعاني المجردة عن المواد من المعارف والأسرار ومنها ما يتعلق بأنوار الأنوار ‘ ومنها ما يتعلق بأنوار الأرواح وهم الملائكة، ومنها ما يتعلق بأنوار الرياح، ومنها ما يتعلق بأنوار الطبيعة، ومنها ما يتعلق بأنوار الأسماء، ومنها ما يتعلق بأنوار المولدات والأمهات والعلل والأسباب على مراتبها فكل نور من هذه الأنوار إذا طلع من أفق ووافق عين البصيرة سالما من العمى والغشي والصداع والرمد وأفات العين كشف بكل نور ما إنبسط به "([11]) يمكن لنا من خلال هذا التعريف أن نقف على ذوق جمالي باطني يتضمّنه مفهومه للتجلي إذ أن إنكشاف الحقائق الغيبية للقلوب نتيجة للأنوار العرفانية التي تشرق عليها بالذوق الصوفي القائم على المكاشفة والمشاهدة بالمجاهدة لكل ما من شأنه أن يغشيها ويبعدها من علائق الجسم ومعطيات الحواس فيتذوق العارف جمالية ذلك النور الذي يقذفه الله في القلب{القلب عند الصوفية جوهر نوراني مجرد، يتوسط بين الروح و النفس} الصوفي العارف فيعرف به كل الأسرار التي تقف وراء الموجودات ويتذوق من مشاهدته بها ذوقا جماليا لتجليه في محتلف الصور. فالصوفي العارف يعيش حالة من الوجد الصوفي من خلاله يتذوق حقائق جمالية ذوقية للتجلي و الكشف الصوفي، وهذا التجلى الذوقي الجميل ، له مراتب :
إن الحديث عن علاقة مراتب التجلي بجمالية الكشف والذوق الصوفي ترتبط بما يصل إليه خيال الصوفي من صور غيبية تربط بين الذات الإلهية و العالم المترتب عنها، وهي ما يطلق عليها بالوسائط التي تصبح عند ابن عربي ذات مدلول قرآني وهو البرزخ (*) في مقابل اللوغوس عند اليونان وهذه التجليات ذات طابع ذوقي جمالي باطني :
التجليات في عالم الخيال المطلق :
في هذا المستوى يلعب الخيال الصوفي دوره الأساسي في تحريك المخيّلة لتتذوق جمالية التجلي في الخيال المطلق، فهي تجليات تعبر عن أعلى درجات الوجود الذي يلي الذات الإلهية مباشرة وهي تسمى بالبرزخ الأعلى{يسمى بالبرزخ الجامع أو الأعظم ...وهو الحضرة الواحدية والتعيين الأول الذي هو أصل البرازخ كلها ..والبرزخ هو الحائل بين الشيئين أو الحاجز بين الأجساد الكثيفة وعالم الأرواح المجردة، الدنيا والآخرة.}.
التجليات في عالم الأمر:
في هذا المستوى يكشف الصوفي العارف ذوقا جماليا يتعلق بتجل المجموعة الثانية من الوسائط و تمثل العقول و الأرواح الكلية المتجلية من المبدع الأول وهو القلم{هو علم التفصيل} الذي يعتبر وسيطا بين العالم السابق له بإعتباره متحدا بحقائقه ‘والعالم التالي له بإعتباره منطلقا لعناصره ويمثل تجليات له تتبدى في شكل حقائق متنوعة أولها اللوح المحفوظ {محل التدوين و التسطير المؤجل إلى حد معلوم-أي لوح القدر} وفي هذا المستوى من التجلي يقف الصوفي العارف على ذوق جمالي لا يتذوقه إلاّ من قذف الله في قلبه نورا به يتذوق الحقائق العليا المفارقة للمادة.
التجليات في عالم الشهادة :
في هذا النوع من التجليات يرتبط الذوق الصوفي وجماليات التجلي والكشف بعالم الكون والفساد توجد هذه الأذواق الجمالية في مرتبة دنيا بالمقارنة مع ما سبقها من وسائط، ترتبط بالأفلاك المتحركة حول محور فلك الشمس حيث تعتبر أساس النور الذي يتجلى به فيها هذا النور الكاشف للذوق الجمالي في عالم الكون والفساد هو عند ابن عربي ثنائي الوضيفة الجمالية فكما أنه نور يكشف جمالية ويوصل إلى ذوق ومتعة فهو كذلك نور حاجب للحقيقة الجمالية الذوقية فنور فلك الشمس التي تعتبر أساس النور الذي يتجلى به فيها والذي ينعكس على باقي الكواكب الأخرى. وإنطلاقا من تصنيف ابن عربي لأنواع التجلي نستطيع القول أن جمالية الذوق الصوفي تقوم على الكشف و التجلي الذي يعبر عن ذوق عرفاني وتجربة روحية باطنية. هذا الذوق الكشفي والتجلي الجمالي الذي يستبدل التأمل العقلي بالمجاهدة والمكاشفة والمكاشفة لتجلي الحق تعالى في أعيان الممكنات من خلال الأنوار التي تنزل على قلوب أولياءه من العارفين فتنكشف لهم أسرار الوجود الذي تتذوق جماليته الذات كلما إبتعدت عن تأثير البدن .
والحاصل أن التجلي الإلهي يكشف عن ذوق جمالي يقوم على جمالية الكشف والتجلي خاصة في كتاب التجليات الإلهية وفي الفتوحات المكية وفصوص الحكم "فيتجلى لتلك العين بالإسم الجميل فتتعشّق به، فيصير عين ذلك الممكن مظهر له"([12]) نفهم أن هذا النوع من الذوق والكشف لجمالية التجلي بين الحق والخلق لأن الحب الإلهي بالنسبة للصوفي هو أساس الكشف والتجلي " كنت كنزا مخفيا فأردت أن أعرف فخلفت آدم فكان آدم عين جلاء المرآة"([13]) فجمالية الذوق الصوفي خاصة في الجمال الإلهي تحكمها صفة الأزلية، لأن جمال الحق يتجلى بجلال جماله، والله لما أراد أن يعرف بإرادته هو في معرفة نفسه في " مرآة نفسه أي الكون خلق الإنسان في أكمل صورة وجعل جمال حسن صورته دليلا على جمال صانعه {الحق تعالى} لذالك فإن التجلي الإلهي يعكس ذوقا جماليا يتمثل في الحركة التي يقوم بها الصوفي تجاه الذات الإلهية، وهي حركة في عالم الطبيعة والكثرة والتغير والتنوع. فكل الموجودات بتنوع جمالها في الكون تعكس جمال الصور بما في ذالك المرأة والطبيعة. وكل الكائنات الوجودية تعد عند الصوفي معبرتا عن تجلي ذوق جمالي للصور الوجودية ‘غير أن الذوق الجمالي الإلهي هو الحقيقة الأبدية، وابن عربي يضع علاقة تداخل بين الله والإنسان داخل العالم بل هي في الحقيقة علاقة وحدة لأن حب الطبيعة أو حب المرأة في الطبيعة هو تجلي اللاهوت في الناسوت. وهو ذوق جمالي يدل على حال العشق و الهيام وهذا ما يجعلنا نربط بين جمالية الذوق في الكشف و التجلي بالعشق الإلهي، الذي يتجلى في الكائنات الوجودية أو في الطبيعة و المرأة. وهو سر المناجاة في كتاب التجليات حيث يقول ابن عربي " كم أندرج لك في الروائح فلا تشم، وفي الطعوم فلا تطعم لي ذوقا، مالك لا تلمسني في الملموسات ؟ مالك لا تدركني في المشمومات ؟ مالك لا تبصرني ؟ مالك لا تسمعني؟ مالك...؟"([14]) نفهم من ذلك أن الكشف و التجلي ذوق جمالي رفيع يثبت أن هنالك علاقة إتصال بين الطبيعي والإلهي عند ابن عربي وذالك عن طريق جمالية الذوق الصوفي، وأن نقطة الحب هي مركز الذوق الجمالي والمجلى للحقيقة الإلهية في العالم .لأن ابن عربي حينما يتحدث عن الكائنات الوجودية في العالم، أو ما يمثل الصور بالنسبة للصوفي، فإنه يشكل نقلة نوعية بالنسبة للصوفية المتأخرين الذين يعتقدون بأن الله يعشق خارج العالم {الغزالي مثلا} غير أن ابن عربي يقول بالكشف والتجلي الإلهي داخل العالم ويكشف عن جمالية الذوق الصوفي في الكشف و التجلي يقول " منا من يحبه لنفسه، ومنا من يحبه للمجموع ولهم أتم المحبة " .إن هذا القول يعني أن الكشف والتجلي ذوق جمالي يحدث داخل العالم، فهو إستحضار ذوقي وتجلي جمالي للذات الإلهية في الكون :يقول ابن عربي في ذلك شعرا :
فكان عيني فكنت عينه **** وكان كوني فكنت كونه
ياعين عيني ويا كون كوني*** الكون كونه و العين عينه ([15])
وقد ربط الشيخ محي الدين ابن عربي بين جمالية الذوق والكشف و التجلي، مع مدهبه في وحدة الوجود وأساس هذا الربط هو الحب و تجلياته يقول ابن عربي عن هذا الذوق الجمالي " فلو كان يحب شخصه أو وجوده في عينه، فهو شخصيته أو في وجوده فلا فائدة لتعلق الحب به ...والحب لا يزال مع وجود العناق والوصال فمن أوصاف المحبة أن يجمع المحب بين الضدين، ليصبح كونة على الصورة لما فيه من الإختيار وهذا هو الفرق بين ما هو روحي وما هو طبيعي"([16]) نفهم من ذلك أن تذوّق جمالية التجلي والكشف تحدث حينما لا يستطيع العاشق أن يفرق في لحظة وجدانية معينة بين الوصال وبين المحبوب . فالعاشق للجمال ولذوق الكشف يطلب الوصال في محبوبه ويطلب في ذات اللحظة المحبوب، في هذا الوصال بالذات : يقول ابن عربي " عين وجود محبوبه عين وصلته لابد من ذالك "(3) نفهم من هذا القول أن تذوّق جماليات التجلي والكشف تشترط القرب والوصال بالمعنى الحسي العيني والجسدي وفي الوقت نفسه حينما يتم إعلاء هذا الذوق إلى المستوى الروحي فإن تذوّق جمالية التجلي يكون أكثرقوة وعمقا لأن الصوفي في هذا الحال لا يشترط جود المعشوق إنه ذوق جمالي كشفي يتجاوز حتى العاشق والمعشوق الحسيان يقول ابن عربي في ذلك " وإن كان معدوما فإنه ممثل في الحصرة الخيالية " ([17])معنى ذالك أن تجلي صورة المحبوب تضل صورة عالقة في مخيّلة العاشق كصورة طبيعية، في حين أن التجلي الطبيعي لصورة المحبوب لا تتعلق إلاّ بتلك الصورة الواحدة التي يعنيها . لأنها صورة محدودة تتعلق باللذة والنكاح في الإتصال يقول ابن عربي " فيشاهده متصلا به إتصال اللطف ألطف منه في عينه في الوجود الخارج، وهو الذي إنشغل به قيس المجنون عن ليلى حين جاءته من خارج فقال لها إليك عني لئلا تحبه كثافة المحسوس منها عن لطف هذه المشاهدة الخيالية " يمكن أن نفهم من هذا أن تحقيق الذوق نوعين ذوق جمالي أدنى لأنه حسي وذوق جمالي أعلى لأنه مرتبط بالكشف و التجلي فالعاشق الصوفي يمثل لمعشوقه صورة في خياله أرفع درجة من الصور الحسية التي هو عليها .إن هذا الذوق الجمالي الذي يجده الصوفي من خلال تجربة الكشف و التجلي يجد فيها الصوفي العاشق متعته و ذوقه الذي يكمن في الفناء و في إستحالة هذه المعرفة وفي ذالك السفر الأبدي و التجربة الأنطولوجية وذالك الإغتراب عن العالم .وفي اللحظة نفسها إختراق في هذا العالم بالشوق و الإشتياق إلى ذالك المحبوب الأبدي الحق تعالى الذي كلما إقترب منه المحب أو العاشق كلما إحتجب عنه إن هذا الديالكتيك بين الكشف و التجلي و الإحتجاب هو الذي يسميه " أنري كوربان" "ديالكتيك الحب" وهو سر المتعة و الذوق الجالي في تجربة الكشف و التجلي .يقول في ذالك ابن عربي :
"الكل هو المعشوق والعاشق حجاب فقط***والمعشوق حي والعاشق ميّت"([18])
أن خبرة الإحتجاب وإن كانت تختلف عن تجربة التجلي والكشف إلاّ أن المحبوب يحتجب و يختفي حتى يحرك في المحب العاشق لوعة الشوق والإشتياق، هذا الإشتياق الذي يحوّله الصوفي إلى لحظات ذوق كشفي وجماليات تجلي يحاول من خلالها أن يصل إلى إدراك جمالية محبوبه الأبدي يقول ابن عربي :
أن الأحباب أرباب *** و المحبوب خلف الباب ([19])
معنى ذالك أن المحبوب الحق تعالى محتجب، وكلما إقترب منه المحب عن طريق طلب الوصال ‘حتجب ثم يحاول المحب البحث عنه في أعيان الممكنات، هاذ البحث عن الذوق الجمالي الأبدي في المرأة و العالم يجعل العاشق الصوفي شبيه إلى حد كبير بذالك "العاشق الدونجواني"(*) يتنقل بين الصور لكنه يبحث في اللحظة ذاتها عن معشوقه الأبدي الذي لا تجسده الرسوم و الصور تجسيدا مطلقا .غير أن العاشق الدونجواني يعيش تجربة العشق المتغير و المتجدد، ويتذوق تجربة الكشف و التجلي لأنه ينتقل من صورة معشوقه إلى صورة آخرى حتى أنه لا يكاد يتوقف عن هذا التنقل، كرغبة جامحة غير منتهية أو " كمراهقة أبدية" كما يرى غريغوريو مرانونg-maranon ([20]) .غير لأن الإسهاب في الحديث عن تجربة التجلي كذوق صوفي عرفاني والإسهاب في مكابرة هذا العشق يحوّل عشقه إلى عشق نرجسي فهو في الحقيقة لا يتعشق في النهاية إلاّ ذاته، ولذالك كان محكوما عليه بالعزلة .غير أن تجربة الذوق الجمالي في تجربة الكشف والتجلي يتنقل فيها الصوفي العارف من صورة إلى أخلرى وفي فضاء أوسع إنه الفضاء الوجودي، الذي غايته في ذالك الوصول إلى ذوق كشفي وتجلي الحق في أعيان الممكنات. هذا الموضوع الأصيل والغاية الأبدية فالصوفي عندما يحب الكون يحبه كصورة لمعشوقه وليس كصورة لذاته. والحاصل أن تجربة جمالية الذوق في الكشف والتجلي ذات بعد أنطولوجي تتعدى حدود الذاتية. إنها تجربة ذوقية كشفية تتجاوز حدود العقل، أي أنها تجربة ذوق جمالية وتجليات تتعدر على كل خطاب يود التحليل و الفهم، وهي بذالك تجربة يتكتّمها باطن عميق في حياة الصوفي الروحية ‘ لأنها تجربة تعاش وهي بذالك ذوق لايفهم إلاّ في حدود هذا المعيشensemble-de vecu وهي أذواق جمالية وتجليات تفصح عن ذالك التأويل الأنطولوجي صوفي خاصة عند ابن عربي لأن هذا التأويل الأنطولوجي وهذا الفهم للذوق الصوفي و جمالية تجليه يساعدنا على فهم هذه التجربة الذوقية، هذا التأويل في نظر كل من "هيدغر" و " غدامير" و بول ريكور" يفتح إشكاليات ذات طابع وجودي تتمثل أساسا في الفهم " فهم الكائن في العالم " أي فهم الكائن الذي يتأول خطابا داخل العالم يقول "بول ريكور" حول إشكالية البعد الأنطولوجي للكائن الذي يتأول لهذا الخطاب " إن كل عالم من العوالم قائم على اللسان، منفتح بذاته على كل فهم ممكن وهو قابل للإتساع اللامحدود"([21])
ولما كان الصوفي العارف يستخدم لغة الباطن في التعبيرعن أذواقه و مواجيده التي تتجلى في عالمه الباطني فإن الكشف الذي يقصده ابن عربي في معانه القاموسي المقابل لكلمة "الكشف" إما بمصطلح الإستبطان introspection أو بمصطلح حدس intuition يحدد لالاند مصطلح introspection(*) واضح جدا من خلال تحديد هذه المصطلحات أن الذوق الجمالي في تجربة الكشف ال التجلي تجربة عرفانية صوفية لأن الصوفي العارف وابن عربي بالخصوص لا يهمه الجانب الحسي للتجلي لأنه يتعامل مع مجال آخر أسمى و أعلى وهو المستوى الإلهي لذالك يأخذ المعنى التأويلي لا المعنى الوصفي .يحاول ابن عربي تحديد تجربته الذوقية الجمالية من خلال تحديد مفهوم الكشف بقوله " الكشف ما يطلق بإيزاء تحقيق الإشارة" ولكن كيف يمكن أن تتحقق هذه الإشارة الإلهية ؟ بتوفير المشاهدة والتجلي لأن الكشف عند ابن عربي مرتبط بالمشاهدة والتجلي معا. وتجربة جمالية التجلي وذوقها الصوفي تشير إلى حضور الأسرار الإلهية في داخل الذات وفي خارجها. وهو ما يساوي الكائنات الوجودية فإن هذا التجلي بمختلف أنواعه { تجلي الإشارة وتجلي النعوت وتجلي الإنّية وتجلي المدركات...} فإنه يوازي المشاهدة التي تكون من الذات لكن هذه المشاهدة لا تتحقق كذوق كشفي وكتجلي جمالي إلاّ عندما ترتقي من " التتحرك إلى المحرك"([22]) أي عندما تصل إلى ما يسميه ابن عربي "بالحد الغيبي" الذي يحرك كل شيء أي يحرك الحد الموضوعي أو عالم الصورة والمشاهدة .عندما يتحقق هذا الشرط الذي إن جاز أن أسميه بالشرط الصوفي العرفاني يمكن خلالها تحقيق ذوق جمالي و تجربة كشفية.
فالكشف والتجلي لا يمكن اختصارهما في معنى الظهور العادي أو الحدس كما تطرحه نظرية المعرفة التقليدية، بل إنه عبارة عن فن في تأويل المعطى تأويلا يرتكز على "البصيرة الباطنية"([23]) في مقابل الإدراك الحسي البسيط، ما دام الصوفي يندفع بكل إمكانياته الذاتية نحو البحث عن تجليات الجمال الإلهي ليحقق ذوقا صوفيا خالصا من خلال الصور الإلهية من حواس وعقل وخيال إبداعي للكشف عن مدلول تلك الرموز الإلهية وتلك التجربة الأنطولوجية. ثم من جهة أخرى فإن كلمة فتح يقصد بها ابن عربي الكشف والتجلي بعيدا عن الرياضة والمجاهدة {سلوك المريد} لكن هل الفتح يلغي جمالية تجليات الذوق الصوفي؟ على إعتبار أنه يحققه وهو الكشف والتجلي المباشر؟ في الحقيقة إن هذا النوع من الذوق الجمالي الذي يلغيه هو مفهوم الكشف الفاتح، القائم على الرياضات والمجاهدات التي يتعلمها المريد ويسلكها .وقد حدد المتصوفة قواعد هذا السلوك الصوفي كما يمكن التعرف عليها من خلال رسائل ابن عربي. فالفتح والتجلي والكشف المباشر ليس وليد الصدفة ولا يحدث إلاّ بالمعاناة والمكابدة والصبر و الصفاء " فالقلوب إذا فمت بها الهمم صفت و نظفت، فعلت فوصلت فأدركت فأكرمكم الله بالتفاضل على حسب الطريق ..."[24](2) إذ الفتح بهذا المعنى يتطلب استعدادا ذاتيا للتلقي على المستوى الأنطولوجي فجمالية الذوق الصوفي وتجربة الكشف والتجلي التي يخوضها الصوفي العارف تطرح إشكالا فلسفيا ومعرفيا في حدود المعادلة التقليدية " العقل و اللاعقل لكن اعتمادا على المنهج الفينومينولوجي الأنطولوجي، في تحديد مفهوم التجربة الذوقية للتجلي الجمالي يمكّننا من نقل الكشف الصوفي من الإطار الذي سجنته فيه نظرية المعرفة التقليدية إلى إطار التأويل المعاصر، الذي يمكّننا من التعامل مع هذا الكشف كتجربة أنطولوجية تتلاءم مع تجربة الذوق الجمالي وتجلياته .
على هذا الأساس من محاولة فهم جمالية الذوق الصوفي وتجربة الكشف والتجلي، تظهر أهمية اللغة التي يعبر بها الصوفي العارف عن أحواله ومواجيده الذوقية التي تنكشف وتتجلي لقلبه وعليه فإن الصوفي يتأول المعاني التي ترد على قلبه فكلامه هو تأويله والصوفي عشقه للصور الوجودية هو في الوقت نفسه كلامه، فهو في اللحظة التي يهيم فيها بالصور الوجودية التي هي تجليات للجمال الإلهي الأبدي يتأول معانيها فلسان الغاشق الصوفي هو كلامه وعشقه " فلسان العاشق لا ينطق إلاّ بالجنون " لذالك فإن منهج التأويل يختلف عن منهج التفسير الذي يقوم أساسا عى المنطق الداخلي لبنية النص‘أو القصيدة الشعرية وهذا ما يكشف التحليل البنيوي برمته، مقتصرا على بنية اللغة، وهذا الفهم الجديد للذوق الجمالي وتجلياته يدفعنا إلى القول بوجود كوجيتو جديد، إنه كوجيتو صوفي قائم على التأويل الصوفي لتلك الأذواق والتجليات يحدد "غادامير" هذا الفهم المنهجي بقوله " إنه الاستعداد الكامل لترك النص يقول شيأ بنفسه " ([25]) وهذا معناه أن منهج التأويل يختلف عن منهج التفسير، ومنهج التأويل كما يرى " بول ريكور" هو الذي يجعل هذه التجربة الصوفية تتأسس على منهج التأويل حيث يقول" ما كان شيئا غريبا عن الذات المؤولة أو يساوي بينه وبينها أو يجعله معاصرا لها ومماثلا"، إن الصوفي في لحظة العشق و الهيام يتأول أذواقه وتجليات هذا الجمال الوارد على قلبه، فهو يقوم بإعلاء لحالة العشق و الهيام هذه إلى مستويات الخيال بل هي عند ابن عربي وراء الخيال نفسه .
إن تجربة الكشف والتجلي عند ابن عربي تكشف في الحقيقة عن ذوق جمالي يعبر عن العرفان الصوفي، فهو في البداية يربط الكشف والتجلي بعامل مهم في حياة الصوفي وهو الحب. إذ نقطة الحب هذه هي التي سوف يقوم ابن عربي في كتاب ترجمان الأشواق خصوصا بإعلاء أشواقه من المستوى الحسي إلى المستوى الروحي ليصل في الأخير لإلى المستوى الإلهي
ويعبر ابن عربي عن هذه التجربة الذوقية التي تتجلى له في شخص "النظام" بقوله :
طال شوقي لطفلة ذات نثر *** ونظام ومنبر وبيان
من بنات الملوك في دار فرس*** من أجل البلاد من أصفهان
هي بنت العراق بنت إمامي*** وأنا ضدها سليل يماني
هل رأيتم ياسادتي أو سمعتم *** أن ضدان قط يجتمعان ([26])
إن تجليات الجمال كما يعرف في التصوف أن الحق تعالى يتجلى في كل الأشياء من أعيان الممكنات وأكبر مجلى للجمال الإلهي هو الأنثى ويجسّد هذا الذوق الجمالي المنكشف والمتجلي في شخص النظام من خلال العشق إذ أن العشق الصوفي تعبير رمزي عن تجليات الجمال الإلهي حيث يقول :
إذا ما إلتقينا للوداع حسبتنا *** لذى الضم و التعنيق حرفا مشددا ([27])
معنى ذالك أن الحرف المشدد في اللغة هو بحرفين ولكن هذان الحرفان لا يظهران فهما يكتبان بحرف واحد {حب} ولكن يشدد للدلالة على أن هناك إثنين. ([28])
وعلى هذا الأساس من محاولة الكشف عن تجليات الجمال الإلهي وتذوقه فإن الصوفي العارف يتجاوز في عشقه حتى العاشق والمعشوق الحسّيان، وذالك حينما يصل إن التمييز بين الشوق والإشتياق، فالشوق يعبّر عن ذوق جمالي حسي يكون أساسه اللقاء والوصال والصم والعناق بينما الإشتياق تعبير عن تجليات وأذواق روحية وإلهية
يقول في ذالك :
لشوق يسكن باللّقاء *** و الإشتياق يهيج بالإرتقاء
لا يعرف الإشتياق *** إلاّ العشاق
فمن سكن باللقاء فما هو بعاشق *** عند أرباب الحقائق
من قام بثيابه الحريق *** كيف يسكن
كيف يصحّ السكون *** وهل في العشق كمون
هو كله ظهور *** ومقامه نشور
واضح جدا أن ابن عربي ينتقل إلى إعلاء حالة الشوق من المستوى الحسي إلى الاشتياق ولذلك قال أن الشوق يسكن عند اللقاء والاشتياق يهيج عند الإرتقاء إلى الحضرة الإلهية .
إن كتاب ترجمان الأشواق يعبر من خلاله ابن عربي عن تجربة التجليات وجمالية الذوق الكشفي من خلال العشق الإلهي والتيه الوجودي في السبوحات الإلهية، فلما كان الإنسان الكامل غاية العرفان فإن الفاعل هو الله وإن المتذوق والمتجلي له هذا الذوق الجمالي هو الإنسان الكامل، ولما كان الله هو غاية هذا التجلي وهذه التجربة الذوقية فإنه يتّخد في القلب أشكالا تختلف باختلاف مدى استعداد القلب لتلقي نورانية الله غير المحدودة أي باختلاف الأفراد وطبائعهم . ثم أن ابن عربي ذهب إلى القول بالاتصال بالله وعدته في ذالك الذوق الصوفي الذي عماده الفناء في الله ولا يتأتى ذالك جزافا واعتباطا بل هو يتطلب رياضات ومجاهدات روحية و نفسية وفكرية مرورا بسبعة مقامات، ينتقل فيها المتذوق من حال إلى حال، ومن مقام إلى مقام ويتمثل هذا المقام أو الاتصال، بالفناء عن المعاصي كلها والتطهر من جميع الذنوب ليتذوق العارف جمالية تجلي الحقيقة الإلهية بالفناء في الله وبالتالي يتذوق الصوفي النور المحض أو الخير المحض بعيداعن الظلمة المحضة. وقد لا يصل المسلم المعتدل إلى درجة من الذوق الصوفي الراقي فيحرم من تجربة الكشف وجمالية التجلي يشعر معه أنه اتحد بالله فعلا ويشعر بأنه توصل إلى حق اليقين لمجرد كونه مسلما فحسب، وهذا يخالف حقائق التاريخ.
الهوامش:
[1] - د بشير نهري / علم الجمال والنقد {فلسفة الجمال} طبعة جامعة دمشق/ط1/1989/ص42
[2] - د.مصطفى عبده – مدخل إلى فلسفة الجمال مكتبة مدبولي القاهرة –ط1/1982/ص25
[3] - المرجع نفسه /ص111
* - الإستطيقاaesthetic علم المدرك الحسي كما أطلقها ألكسيس بومجاردن الذي إعتبر الشيء الجميل ينتج من إدراك الحواس و أن الفن جمالا أملي على تصور عقلي .
[4]-إيمانويل كانط /نقد ملكة الحكم/ت-غانم هنا- مركز الدراسات العربية/ ط1سنة2005/ص78
[5] - سورة النور الآية-35
[6] - يوسف زيدان ‘ شعراء الصوفية – دار الجيل ‘ط2-بيروت-1996/ص24-52
[7] - المرجع نفسه/ص26-27/في كتاب السهروردي {حكمة الإشراق} يعدد تلك الأنوار التي تشرق على السالكين إخوان التجريد ويذكر صفة كل رتبة نورانية بإسهاب كبير.
[8] - عبد المنعم حنفي المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة –مكتبة مدبولي –ط3-2000/ص184
[9] - مراد وهبة /المعجم الفلسفي /دار قباء للطباعة و النشر و التوزيع-1988/ص735
[10] - نصر حامد أبو زيد –فلسفة التأويل –دراسة في تأويل القرآن عند محي الدين ابن عربي-المركزالثقافي العربي ط5-2003/ص40
** - المقام هو عبارة عن إستفاء حقوق المراسم الشرعية مما تعين عليه بامر الشارع من المعاملات وصنوف العبادات على التمام و الكمال
[11] - ابن عربي الفتوحات المكية –ج4/دار الكتب العلمية ط2-2006-بيروت لبنان/ص171
* - هو الحائل بين الشيئين و يعبر عنه بعلم المثال ‘ الحاجز بين الأجساد الكثيفة و عالم الأرواح المجردة –الدنيا و الآخرة .
[12] - ابن عربي محي الدين –كتاب الجلالة ضمن رسائل ابن عربي –دار إحياء الثرات العربي –ط1-1984-/ص137
[13] - ابن عربي /فصوص الحكم / الفص الآدمي/شرح الشيخ-عبد الرزاق الكاشاني-مؤسسة التاريخ العربي-ط1-2006/ص344
[14] - محي الدين ابن عربي – الفتوحات المكية –ج3/ص145
[15] - سهيلة عبد الباعث الترجمان/نظرية وخدة الوجود بين ابن عربي و الجيلي/منشورات خزعل-ط1-2002/ص601
[16] - امحي الدين ابن عربي-الفتوحات المكية-ج2/ص196-197
[17] - محي الدين ابن عربي المصدر نفسه/ص425
[18] - محي الدين ابن عربي –ديوان ترجمان الأشواق ت د-عبد الرحمن نجيم –القاهرة –دار صادر للنشر-ط2/ص124
[19] - المصدر نفسه /ص122
* - الدونجوان : هو العاشق في أسطورة الدونجوان الإسبانية /وهي شخصية أسطورية أكثر منها واقعية .
[20] - gregorio- miranon-donjuanisme-gallinard-1967-trad-m-blacourbe-page28
[21] - بول ريكور –فلسفة اللغة مقال مترجم –د علي مقلد –مجلة العرب و الفكر العالمي –العدد 08/1989-/ص25
* - راجع المعجم الفلسفي –د-مراد وهبة –دار مأمون للطباعة /ط3/1979/ص176
[22] - نصر حامد أبوزيد –فلسفة التأويل /دراسة في تأويل القرآن الكريم/ص292
[23] - سهيلة عبد الباعث الترجمان-نظرية وحدة الوجود بين ابن عربي و الجيلي/ المرجع السابق/ص174
[24] - محي الدين ابن عربي /الفتوحات المكية/المصدر السابق/ص292
[25] - هشام معافة -التأويل و الفن عند هانس جيورج غادامير-الدار العربية للعلوم ناشرون-ط1-2010/ص106
[26] - محي الدين ابن عربي /ديوان ترجمان الأشواق/دار صادر بيروت لبنان-1986-/ص361
[27] - يوسف زيدان –شرح فوائح الجمال وفواتح الجلال –لنجم الدين كبرى-الدارالمصرية اللبنانية -1989/ص134
[28] - المرجع نفسه/ص153
مراجع المقال:
1-ابن عربي الفتوحات المكية أربع أجزاء دار الكتب العلمية –ط1-2006بيروت لبنان
2-ابن عربي افصوص الحكم –تحقيق ابو العلا عفيفي- بيروت-دار الكتاب العربي-دت
3-يوسف زيدان-شرح فوائح الجمال وفواتح الجلال-لنجم الدين الكبرى-الدار المصرية اللبنانية-ط1-1989
4-نصر حامد أبوزيد:فلسفة التأويل-دراسة في تأويل القرآن عند محي الدين ابن عربي-بيروت-دار الوحدة-1983
5-ابن عربي-ديوان ترجمان الأشواق-ترجمة-عبد الرحمن النجيم-دار صادر-ط2-1989
المؤلف:
شعوفي قويدر
إن الجمالية كلمة مشتقة من الجمال والحديث عنها جزء من علم الجمال فالإحساس بالجمال شعور وجودي، عند الإنسان البدائي مثل ما هو عند أكثر الناس تحضرا وهو موجود في كل مكان، فالإنسان يتأمل بذوقه مكونات الطبيعة والمحيط كله فيستخدم أدواته ليرسم مناظر من إبداعه[1] ورغم ضغوط الحياة يظل هذا الإحساس الجميل متحركا في نفسه فيعيش تجربة جمالية تكون محصلة تفاعل الإنسان ومحيطه. فإذا كنا نؤمن بأن الجمالية مرتبطة بالذوق الجمالي فماذا نقصد بالذوق الجمالي ؟ وما علاقته بتجربة الكشف عند ابن عربي ؟
" من لم يحركه العود وأوتاره والربيع و أزهاره فهو فاسد المزاج ليس له علاج" إن مثل هذه المقولة تحرك فينا مفهوم الذوق الجمالي وهي في الحقيقة كافية لوحدها للدلالة على مفهوم الذوق الجمالي. يقول فولتير في قاموسه الفلسفي " لايكفي أن ندرك جمال العمل ونتعرف عليه بل يجب أن نحس بهذا الجمال ونتأثر به ولايكفي أن نحس ونتأثر به بطريقة مبهمة بل يجب أن نتبين كافة عناصره وبسرعة ويقول الفنان التشكيلي " جون ديلاكروا" "ربما التذوق نادرا ندرة الجمال وهو الذي يجعلنا نحس الجمال حيث يوجد وهو الذي يجعل كبار الفنانين الذين وهبوا القدرة على الإبداع الفني يهتدون إليه .
فالتذوق هو عملية اتصال وتواصل بين أعمال الفنان وبين المتذوق والمستمتع بها والتفاعل معها برؤية تأملية. ([2]) فإذا تتبعنا الذوق الجمالي مند الفلسفة الأفلاطونية نجد أن أفكار أفلاطون الجمالية ومن قبله سقراط امتداد للتيار العقلاني المثالي لفيتاغورس، تقوم على مثاليته في التمييز بين عالمين "عالم الظلال والقشور" وعالم المثل" فالجمال الحقيقي يكمن في عالم المثل الذي هو عالم حقيقة الجمال. وأن ما في الطبيعة من إنسجام وتناغم ما هو إلاّ محاكاة للأصل ورمز يشير إلى الأصل، ويدفعنا إلى كلية أزلية مطلقة. فالأشياء تبدوا جميلة أو غير جميلة حسب درجة استعدادها ‘فالأشياء تكون أكثر جمالا كلما تخلّصت من طابعها المادي، وارتقت إلى صورها الروحية. ولأنها لا تستطيع أن تتخلص من مادتها تماما ‘فهي بالتالي لن تكون ذات ذوق جمالي تام على نحو مطلق، مثله مثل أي كمال آخر أمر لا يتحقق في هذا العالم. إلاّ أن غياب الذوق الجمالي المطلق لا يعني غياب الجمال فالجمال موجود يتدرج من الذوق الجمالي الحسي، إلى الذوق الجمالي العقلي أو الروحي الذي يبلغ دروته في الإنسان عن طريق الاقتراب من الجمال المطلق.
فيعتبر الذوق الجمالي الأفلاطوني ذوقا تصاعديا متسلسلا من درجة إلى أخرى، حتى يتم التوصل إلى المفهوم السامي للذوق الجمالي، حيث يتحد هذا الذوق الجمالي بالخير. وقد رأى أفلاطون أن في أصل كل ذوق جمالي لابد من ذوق أولي يجعل الأشياء جميلة ([3]) ويتدرّج الذوق الجمالي عند أفلاطون على مراحل ثلاثة:
1- الذوق الجمالي الالشكلي أي جمال الأشكال {جمال الحس}
2- الذوق الجمالي الأخلاقي والعقلي أي جمال الأفكار وهو {جمال المعرفة}
3- الذوق الجمالي المطلق أي الذوق الجمالي الأبدي { الجمال المثالي} واضح جدا من هذا التقسيم للذوق الجمالي أن أفلاطون قد أضاف، إلى جانب النزعة العقلية السقراطية اتجاها صوفيا للذوق الجمالي, هذا الاتجاه الصوفي للذوق الجمالي نلمسه من خلال كتاب " الجمهورية" ترسم لنا ذوقا جماليا وصوفيا في مضمونه بصورة تصاعدية.
إن هذا الذوق الجمالي الذي تلعب فيه المخيّلة دورا أساسيا خاصة حينما نتحدث عن الإستيطيقا(*) التي تحدث عنها " إيمانويل كانط "kant في النقد الثالث وأعطى كانط نظرية جديدة في الذوق، فاعتبر الذوق الجمالي يقوم على المتناقضات، أي بناء الذوق على الحكم الجمالي الكلي و الصادق، والذاتي في الوقت نفسه. وأن اللّذة مقيدة والذوق الجمالي أمر حرا، يخلو من كل مضمون وهذا الجليل إفساد للشكل في الطبيعة، لأن كانط يتناول الحكم الذوق الجمالي من وجهات أربعة هما {الكيفية- الكمية – النسبية – والشكل } أما بالنسبة لحكم اللّحظة الكيفية فهي حكم الذوق حكما حياديا غير متحيّز. يقول كانط Kant في كتابه "نقد ملكة الحكم "..إن الذوق هو ملكة الحكم بالرضى على شيء ما، أو على شكل تقدمه والشيء الذي يرضي هو بالتالي الجميل " ([4]) كما أن المتعة التي لا تقودها بالضرورة الرغبة في الموضوع ‘ والتي ليست تمتعا بالموضوع، و إنما من تأثير هذه المتعة تسمى بالمتعة التأملية المجردة أو الرضى السلبي هذا النوع من الشعور هو ما نسميه بالذوق .
واضح جدا أن في الإستطيقا الكانطية نزوع صوفي عميق، غير أن التصوف والعرفان الإسلامي يتميّز بخاصية الذوق، وهو ذوق يختلف عن ذالك الذي نجده في الفلسفات الأخرى، لأن مفاهيم الذوق الصوفي لا تحصل عن طريق التأمل العقلي ‘بل هو ذوق كشفي و عرفاني أساسه القلب. فنقطة انطلاق الذوق الجمالي الصوفي قد بدأت في المنهج الإشراقي حينما شرح "الغزالي" ما ورد في القرآن الكريم من قوله تعالى " الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح...." ([5]) حيث يصف الله بأنه نور الأنوار الذي تستمد سائر الموجودات نورها منه وهي تبدأ بالروحانيات {أي الملائكة} التي تترتب بحسب قربها أو بعدها عنه، وتتدرج حتى تصل الأجسام الارضية التي تستمد وجودها من النور المطلق، ومن هنا يترقّى العارفون فيرون بالمشاهدة العيانية أن ليس في الوجود إلاّ الله، وأن كل شيء هالك إلاّ وجهه. وتبدأ معرفتهم بالحس وتنتهي بالعقل، إلاّ أن أعلى مراتب المعرفة ليست العقل أو الإيمان، بل مرتبة جمالية الذوق والكشف التي هي بمثابة نور يقذفه الله في الصدر ، وذالك بالإقرار بأنه هو الموجود الفرد الفاعل الأحد، والنور الذي ليس وراءه نور آخر، وإن إدراك هذا النور لا يكون بالنظر المجرد ولا بالإتحاد المشاهدة ([6]) ولقد لقيت هذه الأفكار رواجا كبيرا في المشرق الإسلامي خاصة، إلى أن وصلت عند "شهاب الدين السهروردي" المعروف بشيخ الإشراق {1153-1191} الذي أرسى أساسها النظري، وقام أتباعه بنشر فلسفته عن طريق شرح مؤلفاته {من أهمها هياكل الأنوار} و {حكمة الإشراق} الذي يعد أهم مرجع في التصوف الإشراقي التي تأثر فيها –على ما يبدو- بالثورة الروحية التي فجّرها الغزالي والحلوليون والزهاد قبله، وفي بعضها ينطلق مما سبق أن انتهى إليه([7]) غيره. فالكشف إذن ذوق جمالي يحدث بحضور الأنوار في قلب الصوفي عند ارتقائه إلى عالم الحصرة الإلهية، وعن تشرّبه من المعارف الأزلية، وفي هذا المقام تضيء في قلبه شموس وأقمار، فتنكشف للعارف الأنوار الربانية في بصيرة الصدق فيتذوّق جمالية الكشف والتجلي، حتى تبدو دون احتجاب خلف المحسوسات أو الأستار، وفي هذا تكون غيبة الصوفي عن ذاته تشكل ذوقا جماليا يتجسّد في اضمحلال كيانه الإنساني مع سطوة نور التجلي الإلهي(6) غير أن الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي {1165-1240} الذي ترك عددا هائلا من المؤلفات {الفتوحات المكية وفصوص الحكم وديوان ترجمان الأشواق وإنشاء الدوائر...} تطرح قضايا جمالية ذوقية وقضايا أنطولوجية ‘ وكوسمولوجية {كونية} من وجهة نظر التصوف الإسلامي .
فإذا كان الذوق الجمالي الصوفي يقوم على الكشف فإن الكشف نفسه يتأسس على ذوق صوفي أكثر أهمية من الكشف وهو التجلي وجماليات أذواقه ؟
يرى الشيخ محي الدين ابن عربي أن كل كشف لا يكون عن تجلي لا يوثق به، فما التجلي وكيف يحدث في العارف ذوقا جماليا ؟
إن التجلي :theophanie في اللغة يعني الظهور، وعند فلاسفة الصوفية عبارة عن ظهور ذات الله وصفاته وهذا هو التجلي الرباني، ويسمى شأنا إلهيا بالنسبة إلى الحق سبحانه وتعالى وحالا بالنسبة إلى العبد، ولا يخلو ذلك المتجلي من أن يكون الحاكم عليه أسماء من أسماء الله تعالى أو من أوصافا من أوصافه، فذلك الحاكم هو المتجلي ([8]) ويقصد به عند الصوفية " ما يظهر للقلوب من أنوار الغيوب، ويقسم إلى ثلاثة أقسام التجلي الأول هو التجلي الذاتي يمثل تجل للذات وحدها ولذاتها وهي الحضرة الأحدية التي لا نعت فيها ولا رسم، إذ الذات التي هي وجود الحق المحض وحدته عينه، لأن ما سوى الوجود من حيث هو وجود ليس إلاّ العدم المطلق، والتجلي الثاني هو الذي يظهر في أعيان الممكنات الثانية التي هي شؤون الذات لذاته تعالى وهو التعين الأول بصفة العالمية و القابلية، وآخر التجلي الشهودي وهو ظهور الوجود المسمى بالنور، وهو ظهور الحق بأسمائه في الأكوان التي من صورها، وذالك ظهور نفس الرحمن الذي يوجه الكل" ([9]) واضح جدا أن التجليات تعبر عن صفات الحق تعالى المتعددة بتعدد أسمائه التي تتجلى لقلوب العارفين في شكل أنوار، تسمح بمكاشفة ومشاهدة الحقائق التي تظل مرتبطة بالصوفي وبأذواقه الجمالية لهذه التجليات وذالك بالتحرر من أثر الجسم و الشوق والإنجداب نحو الحق تعالى. وأعلى مراتب الذوق الصوفي هو الفناء annihilation هذا الذوق الجمالي الذي لايشعر فيه الصوفي بنفسه ولا بشيء من لوازم نفسه أي ذوق جمالي يتم فيه تبديل صفات الصوفي البشرية بصفات محبوبه وهو الله دون ذات محبوبه فكلما تطهّر من صفة بشرية قامت صفة إلهية مقامها فيكون الحق سمعه وبصره. والفناء ذوق جمالي يتجلى بسقوط الأوصاف المذمومة ، وثبوت الصفات المحمودة.وعلامة الفناء وذوقه الجمالي يتحقق حينما ينقطع الصوفي عن الخلق كما لو كان مغيّبا في الرحم فلا يرى شيئا غير الله ويكون ناسيا نفسه وكل الأشياء سوى الله، غير أن هذا الإنقطاع يحقق ذوقا جماليا حينما يتحقق بالتجلي وليس الفناء بنهاية الحياة ورجوع الروح إلى بارئها بل هو فناء عن الذات وبقاء في الله.
ترتبط حقيقة التجلي عند ابن عربي بالذوق الجمالي الكشفي والتجلي كلمة قرآنية عي البديل للفيض والصدور عند أفلوطين([10]) ويعرفه ابن عربي بقوله " إعلم أن التجلى عند القوم ما ينكشف للقلوب من أنوار الغيوب وهو على مقامات (**) مختلفة : فمنها ما يتعلق بأنوار المعاني المجردة عن المواد من المعارف والأسرار ومنها ما يتعلق بأنوار الأنوار ‘ ومنها ما يتعلق بأنوار الأرواح وهم الملائكة، ومنها ما يتعلق بأنوار الرياح، ومنها ما يتعلق بأنوار الطبيعة، ومنها ما يتعلق بأنوار الأسماء، ومنها ما يتعلق بأنوار المولدات والأمهات والعلل والأسباب على مراتبها فكل نور من هذه الأنوار إذا طلع من أفق ووافق عين البصيرة سالما من العمى والغشي والصداع والرمد وأفات العين كشف بكل نور ما إنبسط به "([11]) يمكن لنا من خلال هذا التعريف أن نقف على ذوق جمالي باطني يتضمّنه مفهومه للتجلي إذ أن إنكشاف الحقائق الغيبية للقلوب نتيجة للأنوار العرفانية التي تشرق عليها بالذوق الصوفي القائم على المكاشفة والمشاهدة بالمجاهدة لكل ما من شأنه أن يغشيها ويبعدها من علائق الجسم ومعطيات الحواس فيتذوق العارف جمالية ذلك النور الذي يقذفه الله في القلب{القلب عند الصوفية جوهر نوراني مجرد، يتوسط بين الروح و النفس} الصوفي العارف فيعرف به كل الأسرار التي تقف وراء الموجودات ويتذوق من مشاهدته بها ذوقا جماليا لتجليه في محتلف الصور. فالصوفي العارف يعيش حالة من الوجد الصوفي من خلاله يتذوق حقائق جمالية ذوقية للتجلي و الكشف الصوفي، وهذا التجلى الذوقي الجميل ، له مراتب :
إن الحديث عن علاقة مراتب التجلي بجمالية الكشف والذوق الصوفي ترتبط بما يصل إليه خيال الصوفي من صور غيبية تربط بين الذات الإلهية و العالم المترتب عنها، وهي ما يطلق عليها بالوسائط التي تصبح عند ابن عربي ذات مدلول قرآني وهو البرزخ (*) في مقابل اللوغوس عند اليونان وهذه التجليات ذات طابع ذوقي جمالي باطني :
التجليات في عالم الخيال المطلق :
في هذا المستوى يلعب الخيال الصوفي دوره الأساسي في تحريك المخيّلة لتتذوق جمالية التجلي في الخيال المطلق، فهي تجليات تعبر عن أعلى درجات الوجود الذي يلي الذات الإلهية مباشرة وهي تسمى بالبرزخ الأعلى{يسمى بالبرزخ الجامع أو الأعظم ...وهو الحضرة الواحدية والتعيين الأول الذي هو أصل البرازخ كلها ..والبرزخ هو الحائل بين الشيئين أو الحاجز بين الأجساد الكثيفة وعالم الأرواح المجردة، الدنيا والآخرة.}.
التجليات في عالم الأمر:
في هذا المستوى يكشف الصوفي العارف ذوقا جماليا يتعلق بتجل المجموعة الثانية من الوسائط و تمثل العقول و الأرواح الكلية المتجلية من المبدع الأول وهو القلم{هو علم التفصيل} الذي يعتبر وسيطا بين العالم السابق له بإعتباره متحدا بحقائقه ‘والعالم التالي له بإعتباره منطلقا لعناصره ويمثل تجليات له تتبدى في شكل حقائق متنوعة أولها اللوح المحفوظ {محل التدوين و التسطير المؤجل إلى حد معلوم-أي لوح القدر} وفي هذا المستوى من التجلي يقف الصوفي العارف على ذوق جمالي لا يتذوقه إلاّ من قذف الله في قلبه نورا به يتذوق الحقائق العليا المفارقة للمادة.
التجليات في عالم الشهادة :
في هذا النوع من التجليات يرتبط الذوق الصوفي وجماليات التجلي والكشف بعالم الكون والفساد توجد هذه الأذواق الجمالية في مرتبة دنيا بالمقارنة مع ما سبقها من وسائط، ترتبط بالأفلاك المتحركة حول محور فلك الشمس حيث تعتبر أساس النور الذي يتجلى به فيها هذا النور الكاشف للذوق الجمالي في عالم الكون والفساد هو عند ابن عربي ثنائي الوضيفة الجمالية فكما أنه نور يكشف جمالية ويوصل إلى ذوق ومتعة فهو كذلك نور حاجب للحقيقة الجمالية الذوقية فنور فلك الشمس التي تعتبر أساس النور الذي يتجلى به فيها والذي ينعكس على باقي الكواكب الأخرى. وإنطلاقا من تصنيف ابن عربي لأنواع التجلي نستطيع القول أن جمالية الذوق الصوفي تقوم على الكشف و التجلي الذي يعبر عن ذوق عرفاني وتجربة روحية باطنية. هذا الذوق الكشفي والتجلي الجمالي الذي يستبدل التأمل العقلي بالمجاهدة والمكاشفة والمكاشفة لتجلي الحق تعالى في أعيان الممكنات من خلال الأنوار التي تنزل على قلوب أولياءه من العارفين فتنكشف لهم أسرار الوجود الذي تتذوق جماليته الذات كلما إبتعدت عن تأثير البدن .
والحاصل أن التجلي الإلهي يكشف عن ذوق جمالي يقوم على جمالية الكشف والتجلي خاصة في كتاب التجليات الإلهية وفي الفتوحات المكية وفصوص الحكم "فيتجلى لتلك العين بالإسم الجميل فتتعشّق به، فيصير عين ذلك الممكن مظهر له"([12]) نفهم أن هذا النوع من الذوق والكشف لجمالية التجلي بين الحق والخلق لأن الحب الإلهي بالنسبة للصوفي هو أساس الكشف والتجلي " كنت كنزا مخفيا فأردت أن أعرف فخلفت آدم فكان آدم عين جلاء المرآة"([13]) فجمالية الذوق الصوفي خاصة في الجمال الإلهي تحكمها صفة الأزلية، لأن جمال الحق يتجلى بجلال جماله، والله لما أراد أن يعرف بإرادته هو في معرفة نفسه في " مرآة نفسه أي الكون خلق الإنسان في أكمل صورة وجعل جمال حسن صورته دليلا على جمال صانعه {الحق تعالى} لذالك فإن التجلي الإلهي يعكس ذوقا جماليا يتمثل في الحركة التي يقوم بها الصوفي تجاه الذات الإلهية، وهي حركة في عالم الطبيعة والكثرة والتغير والتنوع. فكل الموجودات بتنوع جمالها في الكون تعكس جمال الصور بما في ذالك المرأة والطبيعة. وكل الكائنات الوجودية تعد عند الصوفي معبرتا عن تجلي ذوق جمالي للصور الوجودية ‘غير أن الذوق الجمالي الإلهي هو الحقيقة الأبدية، وابن عربي يضع علاقة تداخل بين الله والإنسان داخل العالم بل هي في الحقيقة علاقة وحدة لأن حب الطبيعة أو حب المرأة في الطبيعة هو تجلي اللاهوت في الناسوت. وهو ذوق جمالي يدل على حال العشق و الهيام وهذا ما يجعلنا نربط بين جمالية الذوق في الكشف و التجلي بالعشق الإلهي، الذي يتجلى في الكائنات الوجودية أو في الطبيعة و المرأة. وهو سر المناجاة في كتاب التجليات حيث يقول ابن عربي " كم أندرج لك في الروائح فلا تشم، وفي الطعوم فلا تطعم لي ذوقا، مالك لا تلمسني في الملموسات ؟ مالك لا تدركني في المشمومات ؟ مالك لا تبصرني ؟ مالك لا تسمعني؟ مالك...؟"([14]) نفهم من ذلك أن الكشف و التجلي ذوق جمالي رفيع يثبت أن هنالك علاقة إتصال بين الطبيعي والإلهي عند ابن عربي وذالك عن طريق جمالية الذوق الصوفي، وأن نقطة الحب هي مركز الذوق الجمالي والمجلى للحقيقة الإلهية في العالم .لأن ابن عربي حينما يتحدث عن الكائنات الوجودية في العالم، أو ما يمثل الصور بالنسبة للصوفي، فإنه يشكل نقلة نوعية بالنسبة للصوفية المتأخرين الذين يعتقدون بأن الله يعشق خارج العالم {الغزالي مثلا} غير أن ابن عربي يقول بالكشف والتجلي الإلهي داخل العالم ويكشف عن جمالية الذوق الصوفي في الكشف و التجلي يقول " منا من يحبه لنفسه، ومنا من يحبه للمجموع ولهم أتم المحبة " .إن هذا القول يعني أن الكشف والتجلي ذوق جمالي يحدث داخل العالم، فهو إستحضار ذوقي وتجلي جمالي للذات الإلهية في الكون :يقول ابن عربي في ذلك شعرا :
فكان عيني فكنت عينه **** وكان كوني فكنت كونه
ياعين عيني ويا كون كوني*** الكون كونه و العين عينه ([15])
وقد ربط الشيخ محي الدين ابن عربي بين جمالية الذوق والكشف و التجلي، مع مدهبه في وحدة الوجود وأساس هذا الربط هو الحب و تجلياته يقول ابن عربي عن هذا الذوق الجمالي " فلو كان يحب شخصه أو وجوده في عينه، فهو شخصيته أو في وجوده فلا فائدة لتعلق الحب به ...والحب لا يزال مع وجود العناق والوصال فمن أوصاف المحبة أن يجمع المحب بين الضدين، ليصبح كونة على الصورة لما فيه من الإختيار وهذا هو الفرق بين ما هو روحي وما هو طبيعي"([16]) نفهم من ذلك أن تذوّق جمالية التجلي والكشف تحدث حينما لا يستطيع العاشق أن يفرق في لحظة وجدانية معينة بين الوصال وبين المحبوب . فالعاشق للجمال ولذوق الكشف يطلب الوصال في محبوبه ويطلب في ذات اللحظة المحبوب، في هذا الوصال بالذات : يقول ابن عربي " عين وجود محبوبه عين وصلته لابد من ذالك "(3) نفهم من هذا القول أن تذوّق جماليات التجلي والكشف تشترط القرب والوصال بالمعنى الحسي العيني والجسدي وفي الوقت نفسه حينما يتم إعلاء هذا الذوق إلى المستوى الروحي فإن تذوّق جمالية التجلي يكون أكثرقوة وعمقا لأن الصوفي في هذا الحال لا يشترط جود المعشوق إنه ذوق جمالي كشفي يتجاوز حتى العاشق والمعشوق الحسيان يقول ابن عربي في ذلك " وإن كان معدوما فإنه ممثل في الحصرة الخيالية " ([17])معنى ذالك أن تجلي صورة المحبوب تضل صورة عالقة في مخيّلة العاشق كصورة طبيعية، في حين أن التجلي الطبيعي لصورة المحبوب لا تتعلق إلاّ بتلك الصورة الواحدة التي يعنيها . لأنها صورة محدودة تتعلق باللذة والنكاح في الإتصال يقول ابن عربي " فيشاهده متصلا به إتصال اللطف ألطف منه في عينه في الوجود الخارج، وهو الذي إنشغل به قيس المجنون عن ليلى حين جاءته من خارج فقال لها إليك عني لئلا تحبه كثافة المحسوس منها عن لطف هذه المشاهدة الخيالية " يمكن أن نفهم من هذا أن تحقيق الذوق نوعين ذوق جمالي أدنى لأنه حسي وذوق جمالي أعلى لأنه مرتبط بالكشف و التجلي فالعاشق الصوفي يمثل لمعشوقه صورة في خياله أرفع درجة من الصور الحسية التي هو عليها .إن هذا الذوق الجمالي الذي يجده الصوفي من خلال تجربة الكشف و التجلي يجد فيها الصوفي العاشق متعته و ذوقه الذي يكمن في الفناء و في إستحالة هذه المعرفة وفي ذالك السفر الأبدي و التجربة الأنطولوجية وذالك الإغتراب عن العالم .وفي اللحظة نفسها إختراق في هذا العالم بالشوق و الإشتياق إلى ذالك المحبوب الأبدي الحق تعالى الذي كلما إقترب منه المحب أو العاشق كلما إحتجب عنه إن هذا الديالكتيك بين الكشف و التجلي و الإحتجاب هو الذي يسميه " أنري كوربان" "ديالكتيك الحب" وهو سر المتعة و الذوق الجالي في تجربة الكشف و التجلي .يقول في ذالك ابن عربي :
"الكل هو المعشوق والعاشق حجاب فقط***والمعشوق حي والعاشق ميّت"([18])
أن خبرة الإحتجاب وإن كانت تختلف عن تجربة التجلي والكشف إلاّ أن المحبوب يحتجب و يختفي حتى يحرك في المحب العاشق لوعة الشوق والإشتياق، هذا الإشتياق الذي يحوّله الصوفي إلى لحظات ذوق كشفي وجماليات تجلي يحاول من خلالها أن يصل إلى إدراك جمالية محبوبه الأبدي يقول ابن عربي :
أن الأحباب أرباب *** و المحبوب خلف الباب ([19])
معنى ذالك أن المحبوب الحق تعالى محتجب، وكلما إقترب منه المحب عن طريق طلب الوصال ‘حتجب ثم يحاول المحب البحث عنه في أعيان الممكنات، هاذ البحث عن الذوق الجمالي الأبدي في المرأة و العالم يجعل العاشق الصوفي شبيه إلى حد كبير بذالك "العاشق الدونجواني"(*) يتنقل بين الصور لكنه يبحث في اللحظة ذاتها عن معشوقه الأبدي الذي لا تجسده الرسوم و الصور تجسيدا مطلقا .غير أن العاشق الدونجواني يعيش تجربة العشق المتغير و المتجدد، ويتذوق تجربة الكشف و التجلي لأنه ينتقل من صورة معشوقه إلى صورة آخرى حتى أنه لا يكاد يتوقف عن هذا التنقل، كرغبة جامحة غير منتهية أو " كمراهقة أبدية" كما يرى غريغوريو مرانونg-maranon ([20]) .غير لأن الإسهاب في الحديث عن تجربة التجلي كذوق صوفي عرفاني والإسهاب في مكابرة هذا العشق يحوّل عشقه إلى عشق نرجسي فهو في الحقيقة لا يتعشق في النهاية إلاّ ذاته، ولذالك كان محكوما عليه بالعزلة .غير أن تجربة الذوق الجمالي في تجربة الكشف والتجلي يتنقل فيها الصوفي العارف من صورة إلى أخلرى وفي فضاء أوسع إنه الفضاء الوجودي، الذي غايته في ذالك الوصول إلى ذوق كشفي وتجلي الحق في أعيان الممكنات. هذا الموضوع الأصيل والغاية الأبدية فالصوفي عندما يحب الكون يحبه كصورة لمعشوقه وليس كصورة لذاته. والحاصل أن تجربة جمالية الذوق في الكشف والتجلي ذات بعد أنطولوجي تتعدى حدود الذاتية. إنها تجربة ذوقية كشفية تتجاوز حدود العقل، أي أنها تجربة ذوق جمالية وتجليات تتعدر على كل خطاب يود التحليل و الفهم، وهي بذالك تجربة يتكتّمها باطن عميق في حياة الصوفي الروحية ‘ لأنها تجربة تعاش وهي بذالك ذوق لايفهم إلاّ في حدود هذا المعيشensemble-de vecu وهي أذواق جمالية وتجليات تفصح عن ذالك التأويل الأنطولوجي صوفي خاصة عند ابن عربي لأن هذا التأويل الأنطولوجي وهذا الفهم للذوق الصوفي و جمالية تجليه يساعدنا على فهم هذه التجربة الذوقية، هذا التأويل في نظر كل من "هيدغر" و " غدامير" و بول ريكور" يفتح إشكاليات ذات طابع وجودي تتمثل أساسا في الفهم " فهم الكائن في العالم " أي فهم الكائن الذي يتأول خطابا داخل العالم يقول "بول ريكور" حول إشكالية البعد الأنطولوجي للكائن الذي يتأول لهذا الخطاب " إن كل عالم من العوالم قائم على اللسان، منفتح بذاته على كل فهم ممكن وهو قابل للإتساع اللامحدود"([21])
ولما كان الصوفي العارف يستخدم لغة الباطن في التعبيرعن أذواقه و مواجيده التي تتجلى في عالمه الباطني فإن الكشف الذي يقصده ابن عربي في معانه القاموسي المقابل لكلمة "الكشف" إما بمصطلح الإستبطان introspection أو بمصطلح حدس intuition يحدد لالاند مصطلح introspection(*) واضح جدا من خلال تحديد هذه المصطلحات أن الذوق الجمالي في تجربة الكشف ال التجلي تجربة عرفانية صوفية لأن الصوفي العارف وابن عربي بالخصوص لا يهمه الجانب الحسي للتجلي لأنه يتعامل مع مجال آخر أسمى و أعلى وهو المستوى الإلهي لذالك يأخذ المعنى التأويلي لا المعنى الوصفي .يحاول ابن عربي تحديد تجربته الذوقية الجمالية من خلال تحديد مفهوم الكشف بقوله " الكشف ما يطلق بإيزاء تحقيق الإشارة" ولكن كيف يمكن أن تتحقق هذه الإشارة الإلهية ؟ بتوفير المشاهدة والتجلي لأن الكشف عند ابن عربي مرتبط بالمشاهدة والتجلي معا. وتجربة جمالية التجلي وذوقها الصوفي تشير إلى حضور الأسرار الإلهية في داخل الذات وفي خارجها. وهو ما يساوي الكائنات الوجودية فإن هذا التجلي بمختلف أنواعه { تجلي الإشارة وتجلي النعوت وتجلي الإنّية وتجلي المدركات...} فإنه يوازي المشاهدة التي تكون من الذات لكن هذه المشاهدة لا تتحقق كذوق كشفي وكتجلي جمالي إلاّ عندما ترتقي من " التتحرك إلى المحرك"([22]) أي عندما تصل إلى ما يسميه ابن عربي "بالحد الغيبي" الذي يحرك كل شيء أي يحرك الحد الموضوعي أو عالم الصورة والمشاهدة .عندما يتحقق هذا الشرط الذي إن جاز أن أسميه بالشرط الصوفي العرفاني يمكن خلالها تحقيق ذوق جمالي و تجربة كشفية.
فالكشف والتجلي لا يمكن اختصارهما في معنى الظهور العادي أو الحدس كما تطرحه نظرية المعرفة التقليدية، بل إنه عبارة عن فن في تأويل المعطى تأويلا يرتكز على "البصيرة الباطنية"([23]) في مقابل الإدراك الحسي البسيط، ما دام الصوفي يندفع بكل إمكانياته الذاتية نحو البحث عن تجليات الجمال الإلهي ليحقق ذوقا صوفيا خالصا من خلال الصور الإلهية من حواس وعقل وخيال إبداعي للكشف عن مدلول تلك الرموز الإلهية وتلك التجربة الأنطولوجية. ثم من جهة أخرى فإن كلمة فتح يقصد بها ابن عربي الكشف والتجلي بعيدا عن الرياضة والمجاهدة {سلوك المريد} لكن هل الفتح يلغي جمالية تجليات الذوق الصوفي؟ على إعتبار أنه يحققه وهو الكشف والتجلي المباشر؟ في الحقيقة إن هذا النوع من الذوق الجمالي الذي يلغيه هو مفهوم الكشف الفاتح، القائم على الرياضات والمجاهدات التي يتعلمها المريد ويسلكها .وقد حدد المتصوفة قواعد هذا السلوك الصوفي كما يمكن التعرف عليها من خلال رسائل ابن عربي. فالفتح والتجلي والكشف المباشر ليس وليد الصدفة ولا يحدث إلاّ بالمعاناة والمكابدة والصبر و الصفاء " فالقلوب إذا فمت بها الهمم صفت و نظفت، فعلت فوصلت فأدركت فأكرمكم الله بالتفاضل على حسب الطريق ..."[24](2) إذ الفتح بهذا المعنى يتطلب استعدادا ذاتيا للتلقي على المستوى الأنطولوجي فجمالية الذوق الصوفي وتجربة الكشف والتجلي التي يخوضها الصوفي العارف تطرح إشكالا فلسفيا ومعرفيا في حدود المعادلة التقليدية " العقل و اللاعقل لكن اعتمادا على المنهج الفينومينولوجي الأنطولوجي، في تحديد مفهوم التجربة الذوقية للتجلي الجمالي يمكّننا من نقل الكشف الصوفي من الإطار الذي سجنته فيه نظرية المعرفة التقليدية إلى إطار التأويل المعاصر، الذي يمكّننا من التعامل مع هذا الكشف كتجربة أنطولوجية تتلاءم مع تجربة الذوق الجمالي وتجلياته .
على هذا الأساس من محاولة فهم جمالية الذوق الصوفي وتجربة الكشف والتجلي، تظهر أهمية اللغة التي يعبر بها الصوفي العارف عن أحواله ومواجيده الذوقية التي تنكشف وتتجلي لقلبه وعليه فإن الصوفي يتأول المعاني التي ترد على قلبه فكلامه هو تأويله والصوفي عشقه للصور الوجودية هو في الوقت نفسه كلامه، فهو في اللحظة التي يهيم فيها بالصور الوجودية التي هي تجليات للجمال الإلهي الأبدي يتأول معانيها فلسان الغاشق الصوفي هو كلامه وعشقه " فلسان العاشق لا ينطق إلاّ بالجنون " لذالك فإن منهج التأويل يختلف عن منهج التفسير الذي يقوم أساسا عى المنطق الداخلي لبنية النص‘أو القصيدة الشعرية وهذا ما يكشف التحليل البنيوي برمته، مقتصرا على بنية اللغة، وهذا الفهم الجديد للذوق الجمالي وتجلياته يدفعنا إلى القول بوجود كوجيتو جديد، إنه كوجيتو صوفي قائم على التأويل الصوفي لتلك الأذواق والتجليات يحدد "غادامير" هذا الفهم المنهجي بقوله " إنه الاستعداد الكامل لترك النص يقول شيأ بنفسه " ([25]) وهذا معناه أن منهج التأويل يختلف عن منهج التفسير، ومنهج التأويل كما يرى " بول ريكور" هو الذي يجعل هذه التجربة الصوفية تتأسس على منهج التأويل حيث يقول" ما كان شيئا غريبا عن الذات المؤولة أو يساوي بينه وبينها أو يجعله معاصرا لها ومماثلا"، إن الصوفي في لحظة العشق و الهيام يتأول أذواقه وتجليات هذا الجمال الوارد على قلبه، فهو يقوم بإعلاء لحالة العشق و الهيام هذه إلى مستويات الخيال بل هي عند ابن عربي وراء الخيال نفسه .
إن تجربة الكشف والتجلي عند ابن عربي تكشف في الحقيقة عن ذوق جمالي يعبر عن العرفان الصوفي، فهو في البداية يربط الكشف والتجلي بعامل مهم في حياة الصوفي وهو الحب. إذ نقطة الحب هذه هي التي سوف يقوم ابن عربي في كتاب ترجمان الأشواق خصوصا بإعلاء أشواقه من المستوى الحسي إلى المستوى الروحي ليصل في الأخير لإلى المستوى الإلهي
ويعبر ابن عربي عن هذه التجربة الذوقية التي تتجلى له في شخص "النظام" بقوله :
طال شوقي لطفلة ذات نثر *** ونظام ومنبر وبيان
من بنات الملوك في دار فرس*** من أجل البلاد من أصفهان
هي بنت العراق بنت إمامي*** وأنا ضدها سليل يماني
هل رأيتم ياسادتي أو سمعتم *** أن ضدان قط يجتمعان ([26])
إن تجليات الجمال كما يعرف في التصوف أن الحق تعالى يتجلى في كل الأشياء من أعيان الممكنات وأكبر مجلى للجمال الإلهي هو الأنثى ويجسّد هذا الذوق الجمالي المنكشف والمتجلي في شخص النظام من خلال العشق إذ أن العشق الصوفي تعبير رمزي عن تجليات الجمال الإلهي حيث يقول :
إذا ما إلتقينا للوداع حسبتنا *** لذى الضم و التعنيق حرفا مشددا ([27])
معنى ذالك أن الحرف المشدد في اللغة هو بحرفين ولكن هذان الحرفان لا يظهران فهما يكتبان بحرف واحد {حب} ولكن يشدد للدلالة على أن هناك إثنين. ([28])
وعلى هذا الأساس من محاولة الكشف عن تجليات الجمال الإلهي وتذوقه فإن الصوفي العارف يتجاوز في عشقه حتى العاشق والمعشوق الحسّيان، وذالك حينما يصل إن التمييز بين الشوق والإشتياق، فالشوق يعبّر عن ذوق جمالي حسي يكون أساسه اللقاء والوصال والصم والعناق بينما الإشتياق تعبير عن تجليات وأذواق روحية وإلهية
يقول في ذالك :
لشوق يسكن باللّقاء *** و الإشتياق يهيج بالإرتقاء
لا يعرف الإشتياق *** إلاّ العشاق
فمن سكن باللقاء فما هو بعاشق *** عند أرباب الحقائق
من قام بثيابه الحريق *** كيف يسكن
كيف يصحّ السكون *** وهل في العشق كمون
هو كله ظهور *** ومقامه نشور
واضح جدا أن ابن عربي ينتقل إلى إعلاء حالة الشوق من المستوى الحسي إلى الاشتياق ولذلك قال أن الشوق يسكن عند اللقاء والاشتياق يهيج عند الإرتقاء إلى الحضرة الإلهية .
إن كتاب ترجمان الأشواق يعبر من خلاله ابن عربي عن تجربة التجليات وجمالية الذوق الكشفي من خلال العشق الإلهي والتيه الوجودي في السبوحات الإلهية، فلما كان الإنسان الكامل غاية العرفان فإن الفاعل هو الله وإن المتذوق والمتجلي له هذا الذوق الجمالي هو الإنسان الكامل، ولما كان الله هو غاية هذا التجلي وهذه التجربة الذوقية فإنه يتّخد في القلب أشكالا تختلف باختلاف مدى استعداد القلب لتلقي نورانية الله غير المحدودة أي باختلاف الأفراد وطبائعهم . ثم أن ابن عربي ذهب إلى القول بالاتصال بالله وعدته في ذالك الذوق الصوفي الذي عماده الفناء في الله ولا يتأتى ذالك جزافا واعتباطا بل هو يتطلب رياضات ومجاهدات روحية و نفسية وفكرية مرورا بسبعة مقامات، ينتقل فيها المتذوق من حال إلى حال، ومن مقام إلى مقام ويتمثل هذا المقام أو الاتصال، بالفناء عن المعاصي كلها والتطهر من جميع الذنوب ليتذوق العارف جمالية تجلي الحقيقة الإلهية بالفناء في الله وبالتالي يتذوق الصوفي النور المحض أو الخير المحض بعيداعن الظلمة المحضة. وقد لا يصل المسلم المعتدل إلى درجة من الذوق الصوفي الراقي فيحرم من تجربة الكشف وجمالية التجلي يشعر معه أنه اتحد بالله فعلا ويشعر بأنه توصل إلى حق اليقين لمجرد كونه مسلما فحسب، وهذا يخالف حقائق التاريخ.
الهوامش:
[1] - د بشير نهري / علم الجمال والنقد {فلسفة الجمال} طبعة جامعة دمشق/ط1/1989/ص42
[2] - د.مصطفى عبده – مدخل إلى فلسفة الجمال مكتبة مدبولي القاهرة –ط1/1982/ص25
[3] - المرجع نفسه /ص111
* - الإستطيقاaesthetic علم المدرك الحسي كما أطلقها ألكسيس بومجاردن الذي إعتبر الشيء الجميل ينتج من إدراك الحواس و أن الفن جمالا أملي على تصور عقلي .
[4]-إيمانويل كانط /نقد ملكة الحكم/ت-غانم هنا- مركز الدراسات العربية/ ط1سنة2005/ص78
[5] - سورة النور الآية-35
[6] - يوسف زيدان ‘ شعراء الصوفية – دار الجيل ‘ط2-بيروت-1996/ص24-52
[7] - المرجع نفسه/ص26-27/في كتاب السهروردي {حكمة الإشراق} يعدد تلك الأنوار التي تشرق على السالكين إخوان التجريد ويذكر صفة كل رتبة نورانية بإسهاب كبير.
[8] - عبد المنعم حنفي المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة –مكتبة مدبولي –ط3-2000/ص184
[9] - مراد وهبة /المعجم الفلسفي /دار قباء للطباعة و النشر و التوزيع-1988/ص735
[10] - نصر حامد أبو زيد –فلسفة التأويل –دراسة في تأويل القرآن عند محي الدين ابن عربي-المركزالثقافي العربي ط5-2003/ص40
** - المقام هو عبارة عن إستفاء حقوق المراسم الشرعية مما تعين عليه بامر الشارع من المعاملات وصنوف العبادات على التمام و الكمال
[11] - ابن عربي الفتوحات المكية –ج4/دار الكتب العلمية ط2-2006-بيروت لبنان/ص171
* - هو الحائل بين الشيئين و يعبر عنه بعلم المثال ‘ الحاجز بين الأجساد الكثيفة و عالم الأرواح المجردة –الدنيا و الآخرة .
[12] - ابن عربي محي الدين –كتاب الجلالة ضمن رسائل ابن عربي –دار إحياء الثرات العربي –ط1-1984-/ص137
[13] - ابن عربي /فصوص الحكم / الفص الآدمي/شرح الشيخ-عبد الرزاق الكاشاني-مؤسسة التاريخ العربي-ط1-2006/ص344
[14] - محي الدين ابن عربي – الفتوحات المكية –ج3/ص145
[15] - سهيلة عبد الباعث الترجمان/نظرية وخدة الوجود بين ابن عربي و الجيلي/منشورات خزعل-ط1-2002/ص601
[16] - امحي الدين ابن عربي-الفتوحات المكية-ج2/ص196-197
[17] - محي الدين ابن عربي المصدر نفسه/ص425
[18] - محي الدين ابن عربي –ديوان ترجمان الأشواق ت د-عبد الرحمن نجيم –القاهرة –دار صادر للنشر-ط2/ص124
[19] - المصدر نفسه /ص122
* - الدونجوان : هو العاشق في أسطورة الدونجوان الإسبانية /وهي شخصية أسطورية أكثر منها واقعية .
[20] - gregorio- miranon-donjuanisme-gallinard-1967-trad-m-blacourbe-page28
[21] - بول ريكور –فلسفة اللغة مقال مترجم –د علي مقلد –مجلة العرب و الفكر العالمي –العدد 08/1989-/ص25
* - راجع المعجم الفلسفي –د-مراد وهبة –دار مأمون للطباعة /ط3/1979/ص176
[22] - نصر حامد أبوزيد –فلسفة التأويل /دراسة في تأويل القرآن الكريم/ص292
[23] - سهيلة عبد الباعث الترجمان-نظرية وحدة الوجود بين ابن عربي و الجيلي/ المرجع السابق/ص174
[24] - محي الدين ابن عربي /الفتوحات المكية/المصدر السابق/ص292
[25] - هشام معافة -التأويل و الفن عند هانس جيورج غادامير-الدار العربية للعلوم ناشرون-ط1-2010/ص106
[26] - محي الدين ابن عربي /ديوان ترجمان الأشواق/دار صادر بيروت لبنان-1986-/ص361
[27] - يوسف زيدان –شرح فوائح الجمال وفواتح الجلال –لنجم الدين كبرى-الدارالمصرية اللبنانية -1989/ص134
[28] - المرجع نفسه/ص153
مراجع المقال:
1-ابن عربي الفتوحات المكية أربع أجزاء دار الكتب العلمية –ط1-2006بيروت لبنان
2-ابن عربي افصوص الحكم –تحقيق ابو العلا عفيفي- بيروت-دار الكتاب العربي-دت
3-يوسف زيدان-شرح فوائح الجمال وفواتح الجلال-لنجم الدين الكبرى-الدار المصرية اللبنانية-ط1-1989
4-نصر حامد أبوزيد:فلسفة التأويل-دراسة في تأويل القرآن عند محي الدين ابن عربي-بيروت-دار الوحدة-1983
5-ابن عربي-ديوان ترجمان الأشواق-ترجمة-عبد الرحمن النجيم-دار صادر-ط2-1989
المؤلف:
شعوفي قويدر
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin