بقلم أحمد بلحاج آية وارهام
شجرة الماء الحي
توطئة
1 ـ المشابهة للمحبوب
1.1 ـ المحبة تتكلم لغة الإشارة
2.1 ـ الإشارة لغة إلهية
3.1 المحبة هي الحقيقة
4.1 جدلية المحبة وسرها
5.1 الارتباط بين مفهومي المحبة والمعرفة
2 ـ الصعود إلى نقطة الفهم
2.1 ـ تكلم الله بلغات مختلفة
2.2 ـ مقام الرؤية بنور الله
5.2 ـ وحدة الشهود
3 ـ التصرف بتقنية "كن فيكون"
التصوف هو الماء الحي النابع من المعرفة والمحبة الغائرتين في ذات الإنسان المشرقة بجلال الله وجماله. فالإنسان الصوفي ماء حي ينبع إلى حياة أبدية (1)، وقلب تُغرقه أمواج النور الرباني الفائضة فيه. ألم يقل مولانا جلال الدين الرومي "المحيط الذي هو أنا، غرق في نفس أمواجه، يا له من محيط لا حدَّ له، ذلك الذي هو أنا".
إن هذه الأمواه الحية لَتَتَرفَّعُ عن التجمد الصوري الحائل، لأنها تتعلق بحوزة الحقيقة التي تهدي إليها الطريقة مبتدئة من الشريعة. فالحقيقة على هذا المستوى لم تَعُدْ منهاجًا للمفاهيم، بل قد أصبحت عنصرا كالنار والماء، وشجرة ربانية أنبتها الله تعالى في تربة القلوب الوالهة به، والساعية إليه؛ المحبة ماؤها، والمعرفة نورها، والفيوضات الإلهية ثمارها، تقود الناس إلى المعنى الكلي الذي يعطي للحياة غناها وكمالها، وينفي عنها رهق النقصان تحت ظل العبودية الكاملة لله.
ولن يتأتى هذا لهم إلا بأمرين اثنين هما: المحبةُ والمعرفة، وسنتناولهما بتركيز، مبينين آثار الاتصاف بهما، والتي هي التصرف بتقنية "كن فيكون"
1 ـ المشابهة للمحبوب:
إن تحديد المحبة متعذرة على من لم يُجَرِّبْها، و إن الشرط الأساس لحصول المحبة هو المشابهة للمحبوب، فهي استعدادٌ ينشأ في خيال المحب أولا، ويقوى في غيابه ثانيا.
والسادة العارفون بالله يفرقون بين ثلاثة أنواع من الحب؛ هي:
- الحب الإلهي
- الحب الروحاني
- الحب الطبيعي أو الجسدي
فالحب الإلهي يصدر من الخالق نحو المخلوقات، وهو يتجلى في محبة المخلوق للخالق. والحب الروحاني يتجلى فيما يريده المحب من إسعادٍ للمحبوب. والحب الطبيعي أو الجسدي يبحث فيه المحب عن إشباع أهوائه دون تفكير في المحبوب.
إن الحب الإلهي يتضمن ما يشعر به الإنسان نحو الله، مع أنهما ليسا من طبيعة واحدة، ولكنه يتأتى للإنسان من النوعين الآخرين. ولمساعدة النفس على الجمع بين هاتين الطبيعتين، فإن الله يتجلى في صورة حسية، ليقدر الإنسان على إدراك إشاراته، وذلك بواسطة مقدرته الخيالية التي يُدرك بها الحقائق الروحية المتجلية في شكل صور حسية ، إذ الإنسان يحب المحسوسات التي يتجلى فيها الجمال الإلهي. وفي الخيال يتم الجمع بين ما هو روحاني، ثم يرتفع بما هو طبيعي عن صورته الحسية.
إن الخيال الخلاق يُمكن المحب من إدراك صورة المحبوب التي كانت بداخله سابقًا على أنها صورة من اسم إلهي أودعه الله فيه عند خلقه. فالهدف الأساس من محبة الإنسان لله هو معرفة جوهر العلاقة بالمحبوب.
1.1 المحبة تتكلم لغة الإشارة
فمحبته إياك مرآة تُريك حكمته في خلقه، ومحبتُك إياه طاعةٌ تُشربك سني صفاته. وهذه المحبة لا تتكلم إلا لغة الإشارة، أعني لغة الإشارة، أعني لغة الإشارة الإلهية التي ليست من اللغات التي يمكن تعلمها أو تعليمها بالسبل التقليدية؛ إذ هي ليست من العلم الذي يؤخذ من الكتب، وإنما هو علم من صنف العلوم القلبية التي يُغدقها الله فضلا منه، ومنة على من يستحقها فقط من عباده بفضل تقواه وطاعته له، فعلم الإشارة هو أحد العلوم التي تصفها الآية الكريمة "واتقوا الله ويعلمكم الله" (2)، ذلك أن التقوى هي أساس كل خير، وسببُ مجيء الدنيا، ومجيء الحكمة والعلوم، وصفاء القلوب و الأسرار، فأنت "إذا أقدمت عليه عز وجل بَيَّن لك وكشف وشرح" (3)، فتستحيل الإشارة الخفية عبارة واضحٌ معناها وضوحَ الشمس. إن التقوى تجعل الله حاضرا دائما في قلب الإنسان المتقي، وكما الحديث القدسي " ما وسعتني السماوات و الأرض، ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن". وهذا هو حال القوم من أهل الإشارة الذين هم في انصراف كلي إلى الله، فإنهم يدركون ويفهمون إشاراته متى وأينما أرسلها، ولذلك كانوا أهل رقي روحي. فإن الذين يَفهم ويُفهم بالإشارة دون انتظار العبارة هو أقوى روحيا وفكريا من الذي يَفهم ويُفهم بالعبارة.
2.1 الإشارة لغة إلهية:
إن الإشارة لغة إلهية الصنع، غير مفهومة لمن هو ليس من أهل التقوى، و" إنما يعرف الإشارة أهل الإشارة" (4) لكونها لغةً خاصة يُعلمها الله لخاصة خلقه بفضل تقواهم له. وهي تختلف بذلك عن لغة الكلام التي هي لغةٌ عامة وهب الله القابلية على تعلمها لكل البشر من خلقه.
وإذن؛ فإن كل علم إلهي هو من علوم التقوى التي وصفها الله بقوله الكريم في الآية 282 من سورة البقرة المشار إليها آنفا. فكلما ازداد الإنسان تقوى ازداد حظه من العلم الإلهي ومن المعرفة اللدنية، وفي حالة علم الإشارة يُمكن لأحد الذين أنعم الله عليهم بقدر من هذا العلم أن يفهم من الإشارات ما يَغيب معناها عن أخٍ له أقلَّ نصيبا من هذا العلم.
وعليه فإن واقع السائر على الطريق الإلهي إلى الله يبدأ بالتغير من واقع ظاهره أسباب وباطنه الله، إلى واقع ظاهره وباطنه الله، من واقع يتجَلّى فيه باسمه "الباطن" من ظواهر سببية إلى واقع يتجلى فيه باسمه "الظاهر" من خلال خوارق "كن فيكون". فمن خلال تدخله المتزايد باسمه "الظاهر في حياة الإنسان يُعلم الله عبد أن يراه دائما.
فظهور الأسماء والأرقام والحيوانات و الأماكن، ومختلف الأشياء والحوادث في سياقات ظواهر خارقة للعادات والمألوفات كإشارات إلهية تُشير بمختلف الأشكال إلى خالقها، تجعل الإنسان يُبَايِنُ وبشكل تدريجي طبعه في النظر إلى مفردات الوجود من خلال دلالاتها وخواصها الفيزيائية وعلاقاتها السببية بعضها ببعض، ليبدأ النظر إليها كعلامات ودلائل تشير إلى الله عز وجل.وهذه هي المعرفة العليا التي يمنحنا إياها التصوف، وهي معرفة خارجة عن كل المعارف المتداولة والمعروفة، معرفة تجعلنا نصل إلى تخوم حقيقة الحقائق، فنتذكر الله كلما وقع بصرنا على شيء، وليس فقط عندما ننظر إلى الخوارق من الظواهر، وذلك لأن جوهر عام الحقيقة هو القدرة على النظر إلى العالم بنور الله الذي يجعل الناظر به يرى كل شيء على حقيقته: موجودًا قائمًا بالله، دائم الوجود بدوام مدد الله.
إن الأسباب هي حجاب بين العبد وربه، ولذلك فإن العبد لا يصل إلى الله إلا من بعد أن يصل إلى مرتبة النظر بالله، فلا يعود يرى الأسباب، وإنما يرى مُسبب الأسباب، ف"الاعتماد على الأسباب يُنْقِصُ الإيمان"، ويطفيء نور الإيقان، ويحجب القلب عن ربه عز وجل،ويستدعي المقت منه، ويسقطه من عينه، ويسدُّ بابَ قربه."(5) لأن المحبة انتفت، والحظوظ الدنيوية في النفس اشتعلت، فعميت بها البصيرة.
3.1 المحبة هي الحقيقة:
والمسألة هنا ليست مسألة المحبة بمعناها لَدَى علماء النفس، وإنما بمعنى الحقيقة التي كانت واقعا حياديا والجذبة الإلهية. فالحب هنا على النقيض من الصور التي تُشاهد باردة أو ميتةً، بل هو رُوحٌ تُحيي بحرارة حركيتها واقعياتٍ رمزيةً مبنية على الشهود الأساسي لمعنى الكلية، وهذه الكلية خاصة قد صيغت في القرآن الكريم في هاتين الآيتين "لله المشرق والمغرب فأينما تُولوا فَثَمَّ وجه الله" (6) و "قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان أيًّا ما تدعو فله الأسماء الحسنى" (7)، ففي الآية الثانية يُمكن للأسماء الإلهية أن تعنيَ وجهات النظر الروحية و الأديان أيضا، إذ الأديان المختلفة مثل حبات المسبحة، خيطها العرفان، وجوهرها التوحيد يمر فيها جميعا. (
4.1 جدلية المحبة وسرها:
ولذلك فإن كل تجربة صوفية هي تجربة محبة خاصة، ولكنها في الإسلام لها ميزة الاتصال بالتجربة النبوية. حيث أصبح معراج النبي صلى الله عليه وسلم نموذجا أصليا لكل تجربة روحانية تتغيا الوصول إلى الله، وكل متصوف سالك يعيش هذه التجربة في رؤيا أو معراج ذهني، ومن ثمة كانت الروحانية المؤسسة على هذا الشكل تُبلور ما يُسمى بمذهب التجلي، ومن هذا اللقاء بين التجربتين تنبثق فكرة الوحدة الصوفية باعتبارها فناء أي وحدة تناسبية Unio Sympathica التي هي انفعال مشترك co-passion بين العاشق وربه والحضور الفعلي لربه هو في الوجدان الذي يعيشه كمؤمن ، أي في تجليه الذي يجعله في تناسب انفعالي مع الموجود أو الموجودات التي يغشاها بوظيفة التجلي. أما وظيفة التجلي التي تتمتع بها المخلوقات فهي سر جدلية المحبة، فهذه الجدلية تكشف في طبيعة الحب الصوفي اللقاء بين الحب المحسوس والحب الروحاني.
فالجمال هو التجلي الأسمى، بيد أن لا يتكشف من حيث هو كذلك إلا الحب يقوم بتحويله، فالحب الصوفي هو ديانة الجمال، لأن الجمال هو سر التجليات، ولذلك كان بعيدا عن الزهد السلبي مقدار بعده عن النزعة الجمالية أو إباحة الغريزة التملكية (9)
5.1 الارتباط بين مفهومي المحبة والمعرفة :
فمعرفة سر تجليات الجمال والانشداه به هما جناحا العارف للوصول إلى الحضرة الربانية بقلب مليء بالله ولله، يسع الحضرة التي لا تسعها السموات والأرض، إذ لا معرفة دون محبة، ولا وصول دون التحلي بها، كما يُؤَصِّلُ ذلك ابن عربي.
ومفهوم المحبة والمعرفة عند القوم مؤسس على الحديث القدسي المشهور "كنت كنزا مَخفيا فأحببتُ أن أُعرف، فخلقت الخلق، فبي عرفوني"، ومن ثَمَّ كانت التجليات الإلهية التي جوهرها الأسماء الحسنى. فالله جل جلاله يتجلى للخلق من خلال أسمائه، إذ أن تجليه لا ينفك عن الصور الكونية تؤلهه و وتعبده " و إنْ من شيء إلا يُسبح بحمده"، وهذه العبودية له صادرة عن كونه راعيا للمخلوقات التي تكون عبوديتُها خدمةً مؤدية للمعرفة.
فمعرفة الله ـ لدى الصوفية ـ لا تتم إلا من خلال تجربة ذاتية يتذوق فيها المتصوف محبة الله، فهي معرفة للذات أولا ، لأن من عرف نفسه عرف ربه، فهذه المعرفة هي سر المحبة التي أودعها الله فيه، وهي الكنز المخفي الذي ينكشف للمحب. و إذا كان التجلي الإلهي هو علة الخلق فإن الله يُمَكِّنُ المخلوقات من معرفته عن طريق المحبة، لأنها تتذكر حقيقة وجودها الذي منحها إياه خالقُها، فتنساق إليه حين تجده في قلبها. (10)
ورغم ما للمحبة من آفات ومزالق، فإن الاتحاد بالمحبوب في الخيال هو أنبل من التقارب الحسي بينهما، ولا يقي من هذه الآفات والمزالق إلا ترسُّم الخطا النبوية التي توَصِّلُ إلى المحبة الإلهية، فالمحبة تنزلق حين تنحرف خطاها عن خُطَا الرسول صلى الله عليه وسلم الراسمةِ لطريق المحبة الشاملة التي تُرضي الله، وتجعل المتصف بها غارقا في بحر الجمال والكمالات والمعارف اللدنية. إذ لا معارف و لا كمالات لم تَفِضْ من عين الجمال، والجمال جمالان:
أولا: الجمال المطلق الذي يتجلى في حب التطهر أو الاستكمال المؤدي إلى الحكمة، والشهود البصائري المحب للكون بجميع مكوناته بعين مُكوِّنه.
ثانيا: الجمال النسبي الذي يُدرك دون الوصول إلى جوهر معرفته.
وعلى هذا الأساس؛ فإن الحب في شجرة التصوف ـ اللانهائية الأغصان والفروع والجذور ـ هو مبدأ الوجود، وهو الذي يُمكن الإنسان من التقرب إلى الله تعالى تقرب صفاءٍ وجمال، وتقربَ إحسانٍ إلى خلقه الذين هم عياله . وبهذا الحب يُعطي الإنسانُ لفكره وحياته معنًى عميقا، فيصبح فاعلاً في الوجود، متناغما معه، مُتَرَفقا ورحيما به، بصيرًا بإشكالاته، لأن طاقة الحب فيه تجعله فوق الزمن، لأنها من طاقة خالقه. (11)
2 ـ الصعود إلى نقطة الفهم:
إن الإسلام على المستوى الروحي يؤكد على المعرفة ما دامت معرفة تحقق غاية الوحدة، بمعنى أنها تُبَدِّدُ وهم الكثرة، وتتخطى ثنائية الفاعل والمفعول، والحب شكلٌ ومعيار للمعرفة التوحيدية، بل إنه مرحلة في الطريق إليها، فهو على المستوى الأرضي ينشد التعادل، ويضع كل شيء في نصابه، وعلاوة على ذلك فإنه يفرق بوضوح بين الفرد والجماعة في الوقت الذي يأخذ فيه بوضوح بين الفرد والجماعة في الوقت الذي يأخذ فيه بتضامنِ كلٍّ مع الآخرين بعين الاعتبار. فالمعرفة والمحبة في الاعتبار الصوفي هما اللتان تُجَلِّيَانِ الإسلام بامتياز كحالة إنسانية في تعادلها بالنسبة للمطلق سواء أكان ذلك في نفس الإنسان أم في المجتمع. (12)
إن قاعدة الصعود الروحي مبنية على أساس أن الله تعالى له الروح المحض، و أن الإنسان يشبهه أساسيا عن طريق العقل. فالإنسان يتحرك نحو الله معرفةً ومحبة بما هو أكثر تطابقا فيه ( = الصفات العلَى) مع الله باعثِ الإشراق وواهب الإخلاص. وهذا التحرك يسلكُ الطرق الأربعة التالية:
الطريق كرغبة ويتمثل في التجرد.
الطريق كإرادة ويتمثل في السعي.
الطريق كعقلٍ ويتمثل في التمييز والتركيز والشهود.
الطريق كمحبة ويتمثل في الرؤية برؤية المعبود.
فهذا التمييز الذي نقرأه في شجرة التصوف هو الذي يُعِينُنَا على فهم السبب في أن الروحية الإسلامية ـ بالرغم من قيامها على سر المعرفة ـ تتضمن كُلا من الترك والحب" (13)، فالمعرفة والمحبة من خصائص الإسلام الجوهرية؛ إذ العالم فيه عبارة عن سفرٍ ضخم مملوء بالآيات والرموز والإشارات التي هي عناصر الجمال المُخَاطِبَةُ لأفهامنا، فهي موجهة إلى الذين يفهمون. فالدنيا مؤلفة من صور أصبحت وكأنها معزوفة موسيقية سماوية تجمَّدت بالبرودة، والمعرفة والمحبة هما اللتان تذيبان جمودنا، وتُحرران اللحن الباطنيَ الثاويَ فينا وفي الوجود لا تحدها حدود، ولا تعقلها إلا قلوب العارفين الواقفةُ في شرفة الشهود، تنفعل بها وتتواجد؛ لما فيها من معاني النفَس الإلهي، وبداعةِ التناغم الكوني ، وصفاوةِ التعارف الروحي. ومن هنا ندرك أن الأغانيَ و الإيقاعات الصوفية ورقصاتِ التواجد ما هي في العمق العميق إلا تصرفات رمزية ومشاعر إرهاصية لإيقاعات الخلود المنتَظِمَة مع جذوة المحبة المشتعلة على الدوام في قلوب العارفين. ولذا كان لها ذلك التأثير الروحي الذي يؤدي إلى إفاضة مشاعر الرحيق الإلهي الخفي في شرايين المخلوقات قاطبة، فتنجذب إلى الله بمحبة تُجَسِّرُ الهُوة بين الظاهريةِ التي تتبعُ الحرفَ والعرفانيةِ التي تتبعُ النية الإلهية.(14)
1.2 تَكَلُّم الله بلغات مختلفة:
إن انجذاب المخلوقات إلى الله تحت تأثير تجليات أسمائه الحسنى هو الذي يضعنا في العمقِ من سؤال الدين، فإذا كانت هناك أديان مختلفة يُعَبِّر كل منها على حدِّ طبيعته بلغة مطلقة مقصورة عليه، فإن ذلك راجع إلى أن الفرق بين الأديان يتطابق بالمشابهة مع الفوارق بين ذاتيات البشر، فهي حق في نظر معتنقيها لأن الله هو الذي تكلم في كلم زمان،وهي مختلفة لأن الله تكلم لغاتٍ مختلفةً طبقًا للقابليات المتباينة، وهي كذلك مطلقة مقصورة لأن الله قد قال في كل منها "أنا" (15)، ومن ثم تكون النظرة التي نظر بها ابن عربي إلى العقائد الدينية الكلية هي النظرةَ الصوفيةَ الأعمقَ لجوهر الدين المَبْنِي على المعرفة والمحبة، ودليل ذلك قصيدتُه المشهورة التي يقول فيها:
أَدِينُ بِدِينِ اُلْحُبِّ أَنَّى تَوَجَّهَتْ
رَكَائِبُهُ، فَاُلْحُبُّ دِينِي، وَإِيمَانِي
2.2 مقام الرؤية بنور الله:
و إذا تمكنت المحبة من قلب العارف، وسيطرت المعرفة على كيانه أصبحت الحقيقة مِلْءَ بصره وبصيرته. والحقيقة هي علم بالوجود على ما هو عليه، وبمن فيه على ما هم عليه، وهذا لا يتحقق إلا بالنظر إلى الوجود بنور الله، فهو علمُ مُشَاهَدَةٍ وعيانٍ، حيث يشهد الإنسان الواصلُ ويعاينُ بنور الله؛ الذي لا يُمكنُ سبرُ حقيقةِ الوجود إلا بالنظر به.
إن الإنسان الذي يصل إلى علم الحقيقة، أي يكتسب مقام الرؤية بنور الله يرى تدخُّل الله متجليا في الظاهرة الطبيعية المألوفة وغير المألوفة، ويشهد بأن الإرادة الإلهية هي القانون الحقيقي الوحيد الذي يُسَيِّرُ كل شيء فالاختلاف بين ظواهر التدخل الإلهي المباشر، وظواهر التدخل الإلهي غير المباشر يختفي في عين الصوفي الناظر إلى الوجود بنور الله، وهذه هي أقصى قِمَّةِ المحبة والمعرفة.
3.2 الخيال هو عُضو إدراك التجليات:
فتجلياتُ الله في الكون، وتدخلاتُه المباشرة وغير المباشرة فيه، لا يُدركها إلا الخيال، فهو العضو المدرك لها، أي أنه يدركها إدراكا به يتم اللقاء بين السماء والأرض في منتصف الطريق الذي هو عَالمُ المثال. فإذا كان الخلق خيالا إلهيا وتجلياتٍ، فإن الخيالَ الفعال لدى الصوفي هو عضو إدراك كل هذا عن طريق "علم الهيئة اللطيفة" الذي يُعتبر القلب مركزا لها، فمن جهة هناك منهاج الصلاة الشهودية التي من خلالها يعي المصلي أن صلاته صلاة للحق، ومن جهة ثانية هناك الشهود الذي يتجاوز الفراغَ والهوةَ والتناقضات التي تركها التوحيدُ التجريدي مفتوحةً . (16)
4.2 الخيال الشهودي:
إن هذه العملية التي يقوم بها الخيال تندرج في مفهوم الروحانية، ولذلك اعتبره ابن عربي حضرة الحضرات، لأنه في الجوهر خيال فِعال، وفاعليته هذه تُعَيِّنُهُ جوهريا باعتباره خيالا شهوديا يتجاوز علم الملكوت Angéologie الفلسفي، إذ منه تأتي إلى النفس كل معرفة وكل استرجاع للمعارف السابقة عبر الروح القدس، فيتمُّ ربط الفرد الإنساني مباشرة بالجوهر الإلهي.
فعالم الخيال الفعال هو عالم الخيال الشهودي، عالم خيال الأشواق وموطن الحوادث الشهودية والرؤى الرمزية، العالم الذي يتم فيه تأمل النماذج الأصلية التي يحيل إليها المعنى الباطني للوحي. (17)
5.2 وحدة الشهود:
إن ميتافيزيقا الخيال مرتبطة ارتباطا عضويا بمفهوم التجلي وبمذهب التجلي Théophanismeالذي يوجه تصوف المحبين العارفين الواصلين، ويُهيمن على تجربتهم، وعلى المعرفة الصوفية عمومًا، ويُعارض في الآن ذاته لاهوت التجسيد l’ncarnation، وعوائد الفلسفات الوضعية والحَرفية والعقلانية أو التاريخانية. فهو يُمكننا من تفادي الأخطاء الصعبة، ووقاية التصوف ـ القائمة شجرته على المحبة والمعرفة، والنابتة في تربة الشهود البصائري ـ من أن ينعت أو يوصف بأنه "وحدة الوجود". وبخاصة تصوف ابن عربي وعبد الكريم الجيلي و أضرابهما من أقطاب المعرفة الصوفية. والمحبة العرفانية، إذ لا يُمكننا أن نفهم وحدة الشهود إلا بالارتفاع إلى مستوى من الإدراك التأويلي، يظل مبدئيا خارج المدى الذي يشتغل فيه تفكير الحَرْفيين الغلاة، ويكتشف بالتالي عن مصدر قوة المتصوفين المسلمين الذين مكَّنهم من اختراق الأزمنة، وجعلنا اليوم نتصور في العمق طريقً روحانيا مشتركا بين الفروع الثلاثة للديانة الإبراهيمية.
إنه الطريق المَلَكي بحقٍّ
طريق المُعتقَد والوحي النبوي الذي هو أبعدُ ما يكون عن التعارض مع الديانة والتجربة الصوفية، بل هو المرشد والنموذج الذي يرتكز إليه التصوف. (18)
3ـ التصرف بتقنية "كن فيكون":
بهذا المعنى تكون شجرة المعرفة والمحبة الصوفية قد آتت أكلها، وأُكْلَهَا هو العبودية الكاملة والفناء في الله اللذان يُوصلان العبد إلى درجة الطاعة التي تجعل منه واحدا من اللذين ينطبق عليهم قوله عز وجل في الحديث القدسي "عبدي؛أطعني تكنْ مثلي، تقول للشيء كن فيكون". وفي هذا السياق يروي الشيخ عبد القادر الجيلاني أنه: "قيل لبعضهم: من أين تأكل؟ فقال من البيدر الكبير، فقيل: وما البيدر الكبير؟ فقال:"كُنْ فيكون". (19) فالعبودية الكاملة هي أعلى مرتبة روحية يُمكن أن يصلها عبد، وتُعرف في علم التصوف بالفناء في الله، أسمى درجات الحب التي يُمكن للعبد أن يتبوأها في علاقته بربه، لأنه يفقد صفاتِه لتظهر عليه صفاتُ محبوبه، فالمحبة محوُ المحب بصفاته، وإثباتُ المحبوب بذاته. (20) ومن ثمة يُمكنه الله من التصرف بتقنية "كن فيكون"، كما أشار إلى ذلك الحديث القدسي.
إن العبد المحب إذا وصل إلى العبودية الكاملة أصب عبداً أمينا يحفظ أمانة "كن فيكون" ، لا يُفرط فيها، ولا يستخدمها إلا فيما يُريد الله، لأنه عبدٌ فقدَ نفسه وصار كله لربه. فلا إرادة خاصةً به فيما يقول وما يفعل، وإنما يصبح عبدا مُنَفِّذا للإرادة الإلهية. وهذه هي أجل درجات العبودية التي لا درجة فوقها، و أعظم درجات الحب التي يصلها العبد في علاقته بربه، حيث يصيرُ هُوَ لاَ هُوَ ، ومحبوبه هُوَ هُوَ، ويحصر ابن عربي علامات هذه الدرجة من الحاب في أربع آيات؛ هي:
1ـ أن يَصَمَّ سمعُه إلا عن كلام محبوبه.
2ـ أن تعمى عينه عن كل منظور سوى وجه محبوبه.
3ـ أن يخرسَ لسانه عن الكلام إلا عن ذكر محبوبه.
4ـ أن يَرمى قفلا على خزانة خياله، فلا يتخيل سوى صورة محبوبه، فيه يسمع، وبه يبصر، وبه يتكلم، وله يتكلم.
فالله تعالى قد جعل قانونا من قوانين علاقته بخلقه أن يحب كل مخلوق يتقرب إليه بالعبادات، فحب الله لعبده يجعل العبد محبا لربه، ويجعل صفات العبد تختفي ليتحلى بصفات ربه، فيسمع بالله، فلا يخفى عليه صوت، ويرى بالله، فلا يغيب عن بصره شيء، ويبطش بالله، فلا تمنعه قوة، ويمشي بالله، فتتلاشى أمامه المسافات،ويصبح كل فعله بالله. ولم يُخل الله زمانا من الأزمان، ولا مكانا من الأمكنة من مثل هؤلاء العباد الذين يتصرفون بتقنية "كن فيكون"،ليربطوا الناس بربهم، وقد صدق الشيخ عبد القادر الجيلاني حين قال:" من عباد الله عز وجل قومٌ يقولون للشيء"كن فيكون" ولكنكم لا ترونهم، وإن رأيتموهم لم تعرفوهم" (21)
الهوامش و الإحالات
1ـ إنجيل يوحنا، الإصحاح الرابع، 15
2ـ البقرة، الآية 282.
3ـ الشيخ عبد القادر الجيلاني: جلاء الخاطر من كلام الشيخ عبد القادر، تحقيق ونشر السيد الشيخ محمد الشيخ عبد الكريم الكسنزاني الحسيني، شركة عشتار للطباعة والنشر والتوزيع المحدودة، بغداد 1989م، ص:69.
4ـ المرجع السابق، ص: 56.
5 ـ نفسه، ص: 87.
6 ـ البقرة، الآية 115.
7 ـ الإسراء، الآية 11.
8 ـ فريد هوف شُووَانْ : حتى نفهم الإسلام، نقله إلى الإنجليزية: سيد حسين نصر، وإلى العربية: صلاح الصاوي، ط 1، الدار المتحدة للنشر، بيروت 1980م، ص: 48، وهامش: 40 ، 42 من الصفحة: 49.
9 ـ هنري كوربان : الخيال الخلاق في تصوف ابن عربي، ترجمة: فريد الزاهي، ط1، منشورات مرسم، الرباط 2006م، ص ص : 91، 92.
10 ـ جوانارونيكا : مفهوم الحب عند ابن عربي، محاضرة ألقتها في مؤسسة la source بالرباط بتاريخ 20 ماي 2006 م، ولخصتها مجلة ( عوارف )، العدد 1 خريف 2006 م، طنجة، ص: 206.
11 ـ المرجع السابق، ص: 208.
12 ـ فريد هوف شووان، مرجع مذكور، ص: 46.
13 ـ المرجع السابق، ص: 47.
14 ـ نفسه، ص: 47.
15 ـ نفسه، ص: 48.
16 ـ هنري كوربان : مرجع مذكور، ص: 92.
17 ـ المرجع السابق، ص ص : 20 ، 21 .
18 ـ نفسه، ص: 10 ، 11.
19 ـ عبد القادر الجيلاني: جلاء الخاطر، مرجع مذكور، ص: 54.
20 ـ د. لؤي فتوحي، دة. شذى الدركزلي، د جمال نصار حسين: علم خوارق العادات (البارانومالوجيا) ، ط1، الشركة العالمية للكتاب، بيروت 1999 م، ص: 276.
21 ـ عبد القادر الجيلاني، مرجع مذكور، ص: 56.
شجرة الماء الحي
توطئة
1 ـ المشابهة للمحبوب
1.1 ـ المحبة تتكلم لغة الإشارة
2.1 ـ الإشارة لغة إلهية
3.1 المحبة هي الحقيقة
4.1 جدلية المحبة وسرها
5.1 الارتباط بين مفهومي المحبة والمعرفة
2 ـ الصعود إلى نقطة الفهم
2.1 ـ تكلم الله بلغات مختلفة
2.2 ـ مقام الرؤية بنور الله
5.2 ـ وحدة الشهود
3 ـ التصرف بتقنية "كن فيكون"
التصوف هو الماء الحي النابع من المعرفة والمحبة الغائرتين في ذات الإنسان المشرقة بجلال الله وجماله. فالإنسان الصوفي ماء حي ينبع إلى حياة أبدية (1)، وقلب تُغرقه أمواج النور الرباني الفائضة فيه. ألم يقل مولانا جلال الدين الرومي "المحيط الذي هو أنا، غرق في نفس أمواجه، يا له من محيط لا حدَّ له، ذلك الذي هو أنا".
إن هذه الأمواه الحية لَتَتَرفَّعُ عن التجمد الصوري الحائل، لأنها تتعلق بحوزة الحقيقة التي تهدي إليها الطريقة مبتدئة من الشريعة. فالحقيقة على هذا المستوى لم تَعُدْ منهاجًا للمفاهيم، بل قد أصبحت عنصرا كالنار والماء، وشجرة ربانية أنبتها الله تعالى في تربة القلوب الوالهة به، والساعية إليه؛ المحبة ماؤها، والمعرفة نورها، والفيوضات الإلهية ثمارها، تقود الناس إلى المعنى الكلي الذي يعطي للحياة غناها وكمالها، وينفي عنها رهق النقصان تحت ظل العبودية الكاملة لله.
ولن يتأتى هذا لهم إلا بأمرين اثنين هما: المحبةُ والمعرفة، وسنتناولهما بتركيز، مبينين آثار الاتصاف بهما، والتي هي التصرف بتقنية "كن فيكون"
1 ـ المشابهة للمحبوب:
إن تحديد المحبة متعذرة على من لم يُجَرِّبْها، و إن الشرط الأساس لحصول المحبة هو المشابهة للمحبوب، فهي استعدادٌ ينشأ في خيال المحب أولا، ويقوى في غيابه ثانيا.
والسادة العارفون بالله يفرقون بين ثلاثة أنواع من الحب؛ هي:
- الحب الإلهي
- الحب الروحاني
- الحب الطبيعي أو الجسدي
فالحب الإلهي يصدر من الخالق نحو المخلوقات، وهو يتجلى في محبة المخلوق للخالق. والحب الروحاني يتجلى فيما يريده المحب من إسعادٍ للمحبوب. والحب الطبيعي أو الجسدي يبحث فيه المحب عن إشباع أهوائه دون تفكير في المحبوب.
إن الحب الإلهي يتضمن ما يشعر به الإنسان نحو الله، مع أنهما ليسا من طبيعة واحدة، ولكنه يتأتى للإنسان من النوعين الآخرين. ولمساعدة النفس على الجمع بين هاتين الطبيعتين، فإن الله يتجلى في صورة حسية، ليقدر الإنسان على إدراك إشاراته، وذلك بواسطة مقدرته الخيالية التي يُدرك بها الحقائق الروحية المتجلية في شكل صور حسية ، إذ الإنسان يحب المحسوسات التي يتجلى فيها الجمال الإلهي. وفي الخيال يتم الجمع بين ما هو روحاني، ثم يرتفع بما هو طبيعي عن صورته الحسية.
إن الخيال الخلاق يُمكن المحب من إدراك صورة المحبوب التي كانت بداخله سابقًا على أنها صورة من اسم إلهي أودعه الله فيه عند خلقه. فالهدف الأساس من محبة الإنسان لله هو معرفة جوهر العلاقة بالمحبوب.
1.1 المحبة تتكلم لغة الإشارة
فمحبته إياك مرآة تُريك حكمته في خلقه، ومحبتُك إياه طاعةٌ تُشربك سني صفاته. وهذه المحبة لا تتكلم إلا لغة الإشارة، أعني لغة الإشارة، أعني لغة الإشارة الإلهية التي ليست من اللغات التي يمكن تعلمها أو تعليمها بالسبل التقليدية؛ إذ هي ليست من العلم الذي يؤخذ من الكتب، وإنما هو علم من صنف العلوم القلبية التي يُغدقها الله فضلا منه، ومنة على من يستحقها فقط من عباده بفضل تقواه وطاعته له، فعلم الإشارة هو أحد العلوم التي تصفها الآية الكريمة "واتقوا الله ويعلمكم الله" (2)، ذلك أن التقوى هي أساس كل خير، وسببُ مجيء الدنيا، ومجيء الحكمة والعلوم، وصفاء القلوب و الأسرار، فأنت "إذا أقدمت عليه عز وجل بَيَّن لك وكشف وشرح" (3)، فتستحيل الإشارة الخفية عبارة واضحٌ معناها وضوحَ الشمس. إن التقوى تجعل الله حاضرا دائما في قلب الإنسان المتقي، وكما الحديث القدسي " ما وسعتني السماوات و الأرض، ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن". وهذا هو حال القوم من أهل الإشارة الذين هم في انصراف كلي إلى الله، فإنهم يدركون ويفهمون إشاراته متى وأينما أرسلها، ولذلك كانوا أهل رقي روحي. فإن الذين يَفهم ويُفهم بالإشارة دون انتظار العبارة هو أقوى روحيا وفكريا من الذي يَفهم ويُفهم بالعبارة.
2.1 الإشارة لغة إلهية:
إن الإشارة لغة إلهية الصنع، غير مفهومة لمن هو ليس من أهل التقوى، و" إنما يعرف الإشارة أهل الإشارة" (4) لكونها لغةً خاصة يُعلمها الله لخاصة خلقه بفضل تقواهم له. وهي تختلف بذلك عن لغة الكلام التي هي لغةٌ عامة وهب الله القابلية على تعلمها لكل البشر من خلقه.
وإذن؛ فإن كل علم إلهي هو من علوم التقوى التي وصفها الله بقوله الكريم في الآية 282 من سورة البقرة المشار إليها آنفا. فكلما ازداد الإنسان تقوى ازداد حظه من العلم الإلهي ومن المعرفة اللدنية، وفي حالة علم الإشارة يُمكن لأحد الذين أنعم الله عليهم بقدر من هذا العلم أن يفهم من الإشارات ما يَغيب معناها عن أخٍ له أقلَّ نصيبا من هذا العلم.
وعليه فإن واقع السائر على الطريق الإلهي إلى الله يبدأ بالتغير من واقع ظاهره أسباب وباطنه الله، إلى واقع ظاهره وباطنه الله، من واقع يتجَلّى فيه باسمه "الباطن" من ظواهر سببية إلى واقع يتجلى فيه باسمه "الظاهر" من خلال خوارق "كن فيكون". فمن خلال تدخله المتزايد باسمه "الظاهر في حياة الإنسان يُعلم الله عبد أن يراه دائما.
فظهور الأسماء والأرقام والحيوانات و الأماكن، ومختلف الأشياء والحوادث في سياقات ظواهر خارقة للعادات والمألوفات كإشارات إلهية تُشير بمختلف الأشكال إلى خالقها، تجعل الإنسان يُبَايِنُ وبشكل تدريجي طبعه في النظر إلى مفردات الوجود من خلال دلالاتها وخواصها الفيزيائية وعلاقاتها السببية بعضها ببعض، ليبدأ النظر إليها كعلامات ودلائل تشير إلى الله عز وجل.وهذه هي المعرفة العليا التي يمنحنا إياها التصوف، وهي معرفة خارجة عن كل المعارف المتداولة والمعروفة، معرفة تجعلنا نصل إلى تخوم حقيقة الحقائق، فنتذكر الله كلما وقع بصرنا على شيء، وليس فقط عندما ننظر إلى الخوارق من الظواهر، وذلك لأن جوهر عام الحقيقة هو القدرة على النظر إلى العالم بنور الله الذي يجعل الناظر به يرى كل شيء على حقيقته: موجودًا قائمًا بالله، دائم الوجود بدوام مدد الله.
إن الأسباب هي حجاب بين العبد وربه، ولذلك فإن العبد لا يصل إلى الله إلا من بعد أن يصل إلى مرتبة النظر بالله، فلا يعود يرى الأسباب، وإنما يرى مُسبب الأسباب، ف"الاعتماد على الأسباب يُنْقِصُ الإيمان"، ويطفيء نور الإيقان، ويحجب القلب عن ربه عز وجل،ويستدعي المقت منه، ويسقطه من عينه، ويسدُّ بابَ قربه."(5) لأن المحبة انتفت، والحظوظ الدنيوية في النفس اشتعلت، فعميت بها البصيرة.
3.1 المحبة هي الحقيقة:
والمسألة هنا ليست مسألة المحبة بمعناها لَدَى علماء النفس، وإنما بمعنى الحقيقة التي كانت واقعا حياديا والجذبة الإلهية. فالحب هنا على النقيض من الصور التي تُشاهد باردة أو ميتةً، بل هو رُوحٌ تُحيي بحرارة حركيتها واقعياتٍ رمزيةً مبنية على الشهود الأساسي لمعنى الكلية، وهذه الكلية خاصة قد صيغت في القرآن الكريم في هاتين الآيتين "لله المشرق والمغرب فأينما تُولوا فَثَمَّ وجه الله" (6) و "قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان أيًّا ما تدعو فله الأسماء الحسنى" (7)، ففي الآية الثانية يُمكن للأسماء الإلهية أن تعنيَ وجهات النظر الروحية و الأديان أيضا، إذ الأديان المختلفة مثل حبات المسبحة، خيطها العرفان، وجوهرها التوحيد يمر فيها جميعا. (
4.1 جدلية المحبة وسرها:
ولذلك فإن كل تجربة صوفية هي تجربة محبة خاصة، ولكنها في الإسلام لها ميزة الاتصال بالتجربة النبوية. حيث أصبح معراج النبي صلى الله عليه وسلم نموذجا أصليا لكل تجربة روحانية تتغيا الوصول إلى الله، وكل متصوف سالك يعيش هذه التجربة في رؤيا أو معراج ذهني، ومن ثمة كانت الروحانية المؤسسة على هذا الشكل تُبلور ما يُسمى بمذهب التجلي، ومن هذا اللقاء بين التجربتين تنبثق فكرة الوحدة الصوفية باعتبارها فناء أي وحدة تناسبية Unio Sympathica التي هي انفعال مشترك co-passion بين العاشق وربه والحضور الفعلي لربه هو في الوجدان الذي يعيشه كمؤمن ، أي في تجليه الذي يجعله في تناسب انفعالي مع الموجود أو الموجودات التي يغشاها بوظيفة التجلي. أما وظيفة التجلي التي تتمتع بها المخلوقات فهي سر جدلية المحبة، فهذه الجدلية تكشف في طبيعة الحب الصوفي اللقاء بين الحب المحسوس والحب الروحاني.
فالجمال هو التجلي الأسمى، بيد أن لا يتكشف من حيث هو كذلك إلا الحب يقوم بتحويله، فالحب الصوفي هو ديانة الجمال، لأن الجمال هو سر التجليات، ولذلك كان بعيدا عن الزهد السلبي مقدار بعده عن النزعة الجمالية أو إباحة الغريزة التملكية (9)
5.1 الارتباط بين مفهومي المحبة والمعرفة :
فمعرفة سر تجليات الجمال والانشداه به هما جناحا العارف للوصول إلى الحضرة الربانية بقلب مليء بالله ولله، يسع الحضرة التي لا تسعها السموات والأرض، إذ لا معرفة دون محبة، ولا وصول دون التحلي بها، كما يُؤَصِّلُ ذلك ابن عربي.
ومفهوم المحبة والمعرفة عند القوم مؤسس على الحديث القدسي المشهور "كنت كنزا مَخفيا فأحببتُ أن أُعرف، فخلقت الخلق، فبي عرفوني"، ومن ثَمَّ كانت التجليات الإلهية التي جوهرها الأسماء الحسنى. فالله جل جلاله يتجلى للخلق من خلال أسمائه، إذ أن تجليه لا ينفك عن الصور الكونية تؤلهه و وتعبده " و إنْ من شيء إلا يُسبح بحمده"، وهذه العبودية له صادرة عن كونه راعيا للمخلوقات التي تكون عبوديتُها خدمةً مؤدية للمعرفة.
فمعرفة الله ـ لدى الصوفية ـ لا تتم إلا من خلال تجربة ذاتية يتذوق فيها المتصوف محبة الله، فهي معرفة للذات أولا ، لأن من عرف نفسه عرف ربه، فهذه المعرفة هي سر المحبة التي أودعها الله فيه، وهي الكنز المخفي الذي ينكشف للمحب. و إذا كان التجلي الإلهي هو علة الخلق فإن الله يُمَكِّنُ المخلوقات من معرفته عن طريق المحبة، لأنها تتذكر حقيقة وجودها الذي منحها إياه خالقُها، فتنساق إليه حين تجده في قلبها. (10)
ورغم ما للمحبة من آفات ومزالق، فإن الاتحاد بالمحبوب في الخيال هو أنبل من التقارب الحسي بينهما، ولا يقي من هذه الآفات والمزالق إلا ترسُّم الخطا النبوية التي توَصِّلُ إلى المحبة الإلهية، فالمحبة تنزلق حين تنحرف خطاها عن خُطَا الرسول صلى الله عليه وسلم الراسمةِ لطريق المحبة الشاملة التي تُرضي الله، وتجعل المتصف بها غارقا في بحر الجمال والكمالات والمعارف اللدنية. إذ لا معارف و لا كمالات لم تَفِضْ من عين الجمال، والجمال جمالان:
أولا: الجمال المطلق الذي يتجلى في حب التطهر أو الاستكمال المؤدي إلى الحكمة، والشهود البصائري المحب للكون بجميع مكوناته بعين مُكوِّنه.
ثانيا: الجمال النسبي الذي يُدرك دون الوصول إلى جوهر معرفته.
وعلى هذا الأساس؛ فإن الحب في شجرة التصوف ـ اللانهائية الأغصان والفروع والجذور ـ هو مبدأ الوجود، وهو الذي يُمكن الإنسان من التقرب إلى الله تعالى تقرب صفاءٍ وجمال، وتقربَ إحسانٍ إلى خلقه الذين هم عياله . وبهذا الحب يُعطي الإنسانُ لفكره وحياته معنًى عميقا، فيصبح فاعلاً في الوجود، متناغما معه، مُتَرَفقا ورحيما به، بصيرًا بإشكالاته، لأن طاقة الحب فيه تجعله فوق الزمن، لأنها من طاقة خالقه. (11)
2 ـ الصعود إلى نقطة الفهم:
إن الإسلام على المستوى الروحي يؤكد على المعرفة ما دامت معرفة تحقق غاية الوحدة، بمعنى أنها تُبَدِّدُ وهم الكثرة، وتتخطى ثنائية الفاعل والمفعول، والحب شكلٌ ومعيار للمعرفة التوحيدية، بل إنه مرحلة في الطريق إليها، فهو على المستوى الأرضي ينشد التعادل، ويضع كل شيء في نصابه، وعلاوة على ذلك فإنه يفرق بوضوح بين الفرد والجماعة في الوقت الذي يأخذ فيه بوضوح بين الفرد والجماعة في الوقت الذي يأخذ فيه بتضامنِ كلٍّ مع الآخرين بعين الاعتبار. فالمعرفة والمحبة في الاعتبار الصوفي هما اللتان تُجَلِّيَانِ الإسلام بامتياز كحالة إنسانية في تعادلها بالنسبة للمطلق سواء أكان ذلك في نفس الإنسان أم في المجتمع. (12)
إن قاعدة الصعود الروحي مبنية على أساس أن الله تعالى له الروح المحض، و أن الإنسان يشبهه أساسيا عن طريق العقل. فالإنسان يتحرك نحو الله معرفةً ومحبة بما هو أكثر تطابقا فيه ( = الصفات العلَى) مع الله باعثِ الإشراق وواهب الإخلاص. وهذا التحرك يسلكُ الطرق الأربعة التالية:
الطريق كرغبة ويتمثل في التجرد.
الطريق كإرادة ويتمثل في السعي.
الطريق كعقلٍ ويتمثل في التمييز والتركيز والشهود.
الطريق كمحبة ويتمثل في الرؤية برؤية المعبود.
فهذا التمييز الذي نقرأه في شجرة التصوف هو الذي يُعِينُنَا على فهم السبب في أن الروحية الإسلامية ـ بالرغم من قيامها على سر المعرفة ـ تتضمن كُلا من الترك والحب" (13)، فالمعرفة والمحبة من خصائص الإسلام الجوهرية؛ إذ العالم فيه عبارة عن سفرٍ ضخم مملوء بالآيات والرموز والإشارات التي هي عناصر الجمال المُخَاطِبَةُ لأفهامنا، فهي موجهة إلى الذين يفهمون. فالدنيا مؤلفة من صور أصبحت وكأنها معزوفة موسيقية سماوية تجمَّدت بالبرودة، والمعرفة والمحبة هما اللتان تذيبان جمودنا، وتُحرران اللحن الباطنيَ الثاويَ فينا وفي الوجود لا تحدها حدود، ولا تعقلها إلا قلوب العارفين الواقفةُ في شرفة الشهود، تنفعل بها وتتواجد؛ لما فيها من معاني النفَس الإلهي، وبداعةِ التناغم الكوني ، وصفاوةِ التعارف الروحي. ومن هنا ندرك أن الأغانيَ و الإيقاعات الصوفية ورقصاتِ التواجد ما هي في العمق العميق إلا تصرفات رمزية ومشاعر إرهاصية لإيقاعات الخلود المنتَظِمَة مع جذوة المحبة المشتعلة على الدوام في قلوب العارفين. ولذا كان لها ذلك التأثير الروحي الذي يؤدي إلى إفاضة مشاعر الرحيق الإلهي الخفي في شرايين المخلوقات قاطبة، فتنجذب إلى الله بمحبة تُجَسِّرُ الهُوة بين الظاهريةِ التي تتبعُ الحرفَ والعرفانيةِ التي تتبعُ النية الإلهية.(14)
1.2 تَكَلُّم الله بلغات مختلفة:
إن انجذاب المخلوقات إلى الله تحت تأثير تجليات أسمائه الحسنى هو الذي يضعنا في العمقِ من سؤال الدين، فإذا كانت هناك أديان مختلفة يُعَبِّر كل منها على حدِّ طبيعته بلغة مطلقة مقصورة عليه، فإن ذلك راجع إلى أن الفرق بين الأديان يتطابق بالمشابهة مع الفوارق بين ذاتيات البشر، فهي حق في نظر معتنقيها لأن الله هو الذي تكلم في كلم زمان،وهي مختلفة لأن الله تكلم لغاتٍ مختلفةً طبقًا للقابليات المتباينة، وهي كذلك مطلقة مقصورة لأن الله قد قال في كل منها "أنا" (15)، ومن ثم تكون النظرة التي نظر بها ابن عربي إلى العقائد الدينية الكلية هي النظرةَ الصوفيةَ الأعمقَ لجوهر الدين المَبْنِي على المعرفة والمحبة، ودليل ذلك قصيدتُه المشهورة التي يقول فيها:
أَدِينُ بِدِينِ اُلْحُبِّ أَنَّى تَوَجَّهَتْ
رَكَائِبُهُ، فَاُلْحُبُّ دِينِي، وَإِيمَانِي
2.2 مقام الرؤية بنور الله:
و إذا تمكنت المحبة من قلب العارف، وسيطرت المعرفة على كيانه أصبحت الحقيقة مِلْءَ بصره وبصيرته. والحقيقة هي علم بالوجود على ما هو عليه، وبمن فيه على ما هم عليه، وهذا لا يتحقق إلا بالنظر إلى الوجود بنور الله، فهو علمُ مُشَاهَدَةٍ وعيانٍ، حيث يشهد الإنسان الواصلُ ويعاينُ بنور الله؛ الذي لا يُمكنُ سبرُ حقيقةِ الوجود إلا بالنظر به.
إن الإنسان الذي يصل إلى علم الحقيقة، أي يكتسب مقام الرؤية بنور الله يرى تدخُّل الله متجليا في الظاهرة الطبيعية المألوفة وغير المألوفة، ويشهد بأن الإرادة الإلهية هي القانون الحقيقي الوحيد الذي يُسَيِّرُ كل شيء فالاختلاف بين ظواهر التدخل الإلهي المباشر، وظواهر التدخل الإلهي غير المباشر يختفي في عين الصوفي الناظر إلى الوجود بنور الله، وهذه هي أقصى قِمَّةِ المحبة والمعرفة.
3.2 الخيال هو عُضو إدراك التجليات:
فتجلياتُ الله في الكون، وتدخلاتُه المباشرة وغير المباشرة فيه، لا يُدركها إلا الخيال، فهو العضو المدرك لها، أي أنه يدركها إدراكا به يتم اللقاء بين السماء والأرض في منتصف الطريق الذي هو عَالمُ المثال. فإذا كان الخلق خيالا إلهيا وتجلياتٍ، فإن الخيالَ الفعال لدى الصوفي هو عضو إدراك كل هذا عن طريق "علم الهيئة اللطيفة" الذي يُعتبر القلب مركزا لها، فمن جهة هناك منهاج الصلاة الشهودية التي من خلالها يعي المصلي أن صلاته صلاة للحق، ومن جهة ثانية هناك الشهود الذي يتجاوز الفراغَ والهوةَ والتناقضات التي تركها التوحيدُ التجريدي مفتوحةً . (16)
4.2 الخيال الشهودي:
إن هذه العملية التي يقوم بها الخيال تندرج في مفهوم الروحانية، ولذلك اعتبره ابن عربي حضرة الحضرات، لأنه في الجوهر خيال فِعال، وفاعليته هذه تُعَيِّنُهُ جوهريا باعتباره خيالا شهوديا يتجاوز علم الملكوت Angéologie الفلسفي، إذ منه تأتي إلى النفس كل معرفة وكل استرجاع للمعارف السابقة عبر الروح القدس، فيتمُّ ربط الفرد الإنساني مباشرة بالجوهر الإلهي.
فعالم الخيال الفعال هو عالم الخيال الشهودي، عالم خيال الأشواق وموطن الحوادث الشهودية والرؤى الرمزية، العالم الذي يتم فيه تأمل النماذج الأصلية التي يحيل إليها المعنى الباطني للوحي. (17)
5.2 وحدة الشهود:
إن ميتافيزيقا الخيال مرتبطة ارتباطا عضويا بمفهوم التجلي وبمذهب التجلي Théophanismeالذي يوجه تصوف المحبين العارفين الواصلين، ويُهيمن على تجربتهم، وعلى المعرفة الصوفية عمومًا، ويُعارض في الآن ذاته لاهوت التجسيد l’ncarnation، وعوائد الفلسفات الوضعية والحَرفية والعقلانية أو التاريخانية. فهو يُمكننا من تفادي الأخطاء الصعبة، ووقاية التصوف ـ القائمة شجرته على المحبة والمعرفة، والنابتة في تربة الشهود البصائري ـ من أن ينعت أو يوصف بأنه "وحدة الوجود". وبخاصة تصوف ابن عربي وعبد الكريم الجيلي و أضرابهما من أقطاب المعرفة الصوفية. والمحبة العرفانية، إذ لا يُمكننا أن نفهم وحدة الشهود إلا بالارتفاع إلى مستوى من الإدراك التأويلي، يظل مبدئيا خارج المدى الذي يشتغل فيه تفكير الحَرْفيين الغلاة، ويكتشف بالتالي عن مصدر قوة المتصوفين المسلمين الذين مكَّنهم من اختراق الأزمنة، وجعلنا اليوم نتصور في العمق طريقً روحانيا مشتركا بين الفروع الثلاثة للديانة الإبراهيمية.
إنه الطريق المَلَكي بحقٍّ
طريق المُعتقَد والوحي النبوي الذي هو أبعدُ ما يكون عن التعارض مع الديانة والتجربة الصوفية، بل هو المرشد والنموذج الذي يرتكز إليه التصوف. (18)
3ـ التصرف بتقنية "كن فيكون":
بهذا المعنى تكون شجرة المعرفة والمحبة الصوفية قد آتت أكلها، وأُكْلَهَا هو العبودية الكاملة والفناء في الله اللذان يُوصلان العبد إلى درجة الطاعة التي تجعل منه واحدا من اللذين ينطبق عليهم قوله عز وجل في الحديث القدسي "عبدي؛أطعني تكنْ مثلي، تقول للشيء كن فيكون". وفي هذا السياق يروي الشيخ عبد القادر الجيلاني أنه: "قيل لبعضهم: من أين تأكل؟ فقال من البيدر الكبير، فقيل: وما البيدر الكبير؟ فقال:"كُنْ فيكون". (19) فالعبودية الكاملة هي أعلى مرتبة روحية يُمكن أن يصلها عبد، وتُعرف في علم التصوف بالفناء في الله، أسمى درجات الحب التي يُمكن للعبد أن يتبوأها في علاقته بربه، لأنه يفقد صفاتِه لتظهر عليه صفاتُ محبوبه، فالمحبة محوُ المحب بصفاته، وإثباتُ المحبوب بذاته. (20) ومن ثمة يُمكنه الله من التصرف بتقنية "كن فيكون"، كما أشار إلى ذلك الحديث القدسي.
إن العبد المحب إذا وصل إلى العبودية الكاملة أصب عبداً أمينا يحفظ أمانة "كن فيكون" ، لا يُفرط فيها، ولا يستخدمها إلا فيما يُريد الله، لأنه عبدٌ فقدَ نفسه وصار كله لربه. فلا إرادة خاصةً به فيما يقول وما يفعل، وإنما يصبح عبدا مُنَفِّذا للإرادة الإلهية. وهذه هي أجل درجات العبودية التي لا درجة فوقها، و أعظم درجات الحب التي يصلها العبد في علاقته بربه، حيث يصيرُ هُوَ لاَ هُوَ ، ومحبوبه هُوَ هُوَ، ويحصر ابن عربي علامات هذه الدرجة من الحاب في أربع آيات؛ هي:
1ـ أن يَصَمَّ سمعُه إلا عن كلام محبوبه.
2ـ أن تعمى عينه عن كل منظور سوى وجه محبوبه.
3ـ أن يخرسَ لسانه عن الكلام إلا عن ذكر محبوبه.
4ـ أن يَرمى قفلا على خزانة خياله، فلا يتخيل سوى صورة محبوبه، فيه يسمع، وبه يبصر، وبه يتكلم، وله يتكلم.
فالله تعالى قد جعل قانونا من قوانين علاقته بخلقه أن يحب كل مخلوق يتقرب إليه بالعبادات، فحب الله لعبده يجعل العبد محبا لربه، ويجعل صفات العبد تختفي ليتحلى بصفات ربه، فيسمع بالله، فلا يخفى عليه صوت، ويرى بالله، فلا يغيب عن بصره شيء، ويبطش بالله، فلا تمنعه قوة، ويمشي بالله، فتتلاشى أمامه المسافات،ويصبح كل فعله بالله. ولم يُخل الله زمانا من الأزمان، ولا مكانا من الأمكنة من مثل هؤلاء العباد الذين يتصرفون بتقنية "كن فيكون"،ليربطوا الناس بربهم، وقد صدق الشيخ عبد القادر الجيلاني حين قال:" من عباد الله عز وجل قومٌ يقولون للشيء"كن فيكون" ولكنكم لا ترونهم، وإن رأيتموهم لم تعرفوهم" (21)
الهوامش و الإحالات
1ـ إنجيل يوحنا، الإصحاح الرابع، 15
2ـ البقرة، الآية 282.
3ـ الشيخ عبد القادر الجيلاني: جلاء الخاطر من كلام الشيخ عبد القادر، تحقيق ونشر السيد الشيخ محمد الشيخ عبد الكريم الكسنزاني الحسيني، شركة عشتار للطباعة والنشر والتوزيع المحدودة، بغداد 1989م، ص:69.
4ـ المرجع السابق، ص: 56.
5 ـ نفسه، ص: 87.
6 ـ البقرة، الآية 115.
7 ـ الإسراء، الآية 11.
8 ـ فريد هوف شُووَانْ : حتى نفهم الإسلام، نقله إلى الإنجليزية: سيد حسين نصر، وإلى العربية: صلاح الصاوي، ط 1، الدار المتحدة للنشر، بيروت 1980م، ص: 48، وهامش: 40 ، 42 من الصفحة: 49.
9 ـ هنري كوربان : الخيال الخلاق في تصوف ابن عربي، ترجمة: فريد الزاهي، ط1، منشورات مرسم، الرباط 2006م، ص ص : 91، 92.
10 ـ جوانارونيكا : مفهوم الحب عند ابن عربي، محاضرة ألقتها في مؤسسة la source بالرباط بتاريخ 20 ماي 2006 م، ولخصتها مجلة ( عوارف )، العدد 1 خريف 2006 م، طنجة، ص: 206.
11 ـ المرجع السابق، ص: 208.
12 ـ فريد هوف شووان، مرجع مذكور، ص: 46.
13 ـ المرجع السابق، ص: 47.
14 ـ نفسه، ص: 47.
15 ـ نفسه، ص: 48.
16 ـ هنري كوربان : مرجع مذكور، ص: 92.
17 ـ المرجع السابق، ص ص : 20 ، 21 .
18 ـ نفسه، ص: 10 ، 11.
19 ـ عبد القادر الجيلاني: جلاء الخاطر، مرجع مذكور، ص: 54.
20 ـ د. لؤي فتوحي، دة. شذى الدركزلي، د جمال نصار حسين: علم خوارق العادات (البارانومالوجيا) ، ط1، الشركة العالمية للكتاب، بيروت 1999 م، ص: 276.
21 ـ عبد القادر الجيلاني، مرجع مذكور، ص: 56.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin