صحبة الولي المرشد العارف الوارث من شروط التربية والسلوك
ضرورة البحث عن ولي عارف :
- قال عبد القادر الجيلاني : "زرعي قد نبت وتجَمَّل، وزرعُك كلما نبتَ أُحْرِقَ، كن عاقلا! دع رياستك وتعال اقعد ههنا كواحد من الجماعة حتى ينزرع كلامي في أرض قلبك. لو كان لك عقل لقعدت في صحبتي، وقنعت مني في كل يوم بلقمة، وصبرت على خشونة كلامي. كل من كان له إيمان يثبت ويَنْبُتُ، ومن ليس له إيمان يهرُبُ مني".[1]
كيف بدأت الصحبة ومعانيها :
· مثال هذه الصحبة من القرآن :
- عقد تلمذة بمقتضاه التزم التلميذ موسى، وهو النبي الرسول من أولي العزم، باتباع شيخه، وطاعته، والصبر على مبادرته. وفي القصة تشريع موعظة للأمة التي تتلو القرآن.
كان موسى فردا في هذا العقد كما كان الخضر عليهما السلام، فهي صحبة فردية[2].
· النبي محمد صلى الله عليه وسلم :
قال الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ}.1 نقف مع كلمة «معه»، فبهذه المعية والصحبة كانوا رجالا.
- كان رسول الله صلى الله عليم وسلم يقول كلما ارتحل في سفره: «اللهم أنت الخليفة في الأهل والصاحب في السفر»،
فلقوة تعلقه صلى الله عليه وسلم بربه عز وجل سرت من قلبه الطاهر مادة الإيمان إلى من صحبه، ثم امتدت الصحبة وراثة فكانت رحمة بين الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، تسري من قلب لقلب، ومن جيل لجيل، بالصحبة والمحبة والتلمذة.
- روى الشيخان واللفظ لمسلم عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يأتي على الناس زمان يغزو فئام (جماعة) من الناس. فيقال لهم: فيكم من رأى رسول الله صلى عليه وسلم؟ فيقولون: نعم! فيفتح لهم. ثم يغزو فئام من الناس، فيقال لهم: فيكم من رأى من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم! فيفتح لهم. ثم يغزو فئام من الناس، فيقال لهم: هل فيكم من رأى من صحب من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم! فيفتح لهم».
- وروى الشيخان واللفظ لمسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خير أمتي القرن الذين يلوني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته».
بعد رسول الله انقطع الناس عن هذه المعاني واكتفوا بذكرالصالحين والتبرك بأحوالهم :
من أصول الشيخ البنا رحمه الله: «ومحبة الصالحين واحترامهم والثناء عليهم بما عرف من طيب أعمالهم قربة إلى الله تبارك وتعالى.
ومحبة الصالحين واجبة :
لكن احترام الأولياء من بعيد، ومحبتهم بلا صحبة، والثناء عليهم دون أن يكون الثناء حافزا لنا على اللحاق بهم، أعمال لا تثمر إيمانا وإن أثمرت ثوابا، ومن الناس من يحترم الأموات، ويحب الأموات، ويثني عليهم وحدهم، معتقدا أنه لا ولي لله من معاصريه، هؤلاء يحرمون ثمرة صحبة الصالحين.
اكتفاء الناس اليوم بالكتب عن البحث عن القدوة الحية :
- للأستاذ عبد السلام ياسين تعليق لطيف قال:" هل جاءنا الدين من الأوراق والكتب أم من قنوات القلوب المؤمنة؟ من أبوين ربيا على الإيمان، ومعلم صالح، وواعظ متق، وعالم عامل، ونموذج حي ماثل يحتذى حذوه، ويقتدى به ويحَب ؟... هل هي سلسلة من أصحاب، والمصاحبة انقطعت، أم الأمر لا يزال مستمرا من قلب لقلوب ؟ نقف ونبحث ونتساءل عن الكيفية التي أوتي بها الصحابة الإيمان قبل القرآن، فتلقوا القرآن بتعظيم وطاعة، بينما آخرون ينثرونه نثر الدقل.
ذاق الصحابة حلاوة الإيمان وطعموا طعمه، وحصل لهم اليقين، ذوَّقوا طعم الإيمان تابعيهم وذوَّق تابعوهم تابعيهم، والجداول النورانية حية لا تزال متدفقة ينور الله بها عباده.و يحيي بها أرض القلوب كما يحيي بغيث السحاب أرض الزرع.
من يتربى من الكتب مثل من يتداوى من الكتب دون طبيب فيوشك أن يخر صريعا :
- يعطي الإمام (عبد القادر الجيلاني بعد ذكر لكلامه في الصحبة) الصحبة أهميتَها، وهي في المكان الأول. لا تكون المجاهدة بدونها إلا غلُوّا في التعبد قد يكون قاطعا عن الله عز وجل من حيث لا يدري المعانِي المكابِدُ الذي يعتمد على جهده وعمله من دون الله، فإذا هو طريح جريح سليب قتيل على حافة الطريق...[3]
خبر صحبة الملازمة لم ينقطع بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم
اختلف المسلمون بهذا الشأن وتناقشوا كثيرا على مر التاريخ ولم يحسم هذا الأمر بشكل قطعي، ولكن كانت تبرز بين الحين والآخر تجارب لعلماء فطاحل يشهد لهم الكل بالصلاح والعلم والورع، تجارب تشهد أن صحبة العارفين بالله تعالى شرط لمريد الإحسان.
- يقول الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين في هذا الصدد "ومن معاني الصحبة والجماعة الذاكرة دخول إلى حضرة طبيب يعالج الروح (..) ومن الناس من لا يشعر أن له قلبا ولا يعترف بأن له روحا، ومثل هذا لا علاج له. ومنهم من ينكر أن يكون ثم طبيب للقلوب لديه الدواء الذي يحيي موات القلوب وهذا ميؤوس من تدرجه في معراج الإسلام والإيمان والإحسان، إلا أن يشاء الله فيلهمه سلوك الصالحين"..
· والوقائع الدالة على صدق هذا الكلام كثيرة، تكفي شهادة الإمام الغزالي حجة الإسلام في "المنقذ من الضلال" لمن أخذه الشوق إلى لقاء الله وتعطش قلبه لحب الله واستيقظ في داخله الطلب: طلب وجه الله. لا إله إلا الله محمد رسول الله.
لذلك لا نفتأ نؤكد بأن الصحبة مفتاح، وعنها يتفرع الخير كله: نعمة في الدنيا ونعيم في الآخرة.
مفهوم الصحبة جوهري في الاسلام :
* وبعد أن تجتاز وحدك امتحان الفراق لا بد لك من لقاء. لا بد أن تتجه نحو صحبة أخرى تتخذ لك مكانا بينها. لا بد أن تتكيف مع وسط آخر يتبناك. لا بديل لك حينئذ عن صحبة روحية، لأن الصحبة مفهوم مركزي في الإسلام، ولأن الله عز وجل غالبا ما يهيئ لمن سلك سبيل التوبة أشخاصا ذوي قلوب صافية. والمسجد أمثل مكان للعثور على الصحبة المثلى [4]
من يريد الإحسان لا بد له أن يسلك على يد خبير :
(من) .. يريد البقاء في مرتبة الإسلام لن يحس أبدا بضرورة صحبة شيخ عارف بالله يدله على مقام الإحسان، ليصبح من المحسنين، إيقانا وإتقانا ومعاملة، وهذا لا يحكم عليه بالضلال، لكنه حرم خيرا كثيرا لأنه قنع بالقليل، والرضا بالقليل من صاحب الكثير حرمان.
وإنما ينفع الله عز وجل المؤمن الصادق الجاد في الإقبال على ربه أول ما ينفعه بصحبة رجل صالح، ولي مرشد، يقيضه له، ويقذف في قلبه حبه.
ومتى كان المصحوب وليا لله حقا والصاحب صادقا في طلبه وجه الله ظهرت ثمرة الصحبة.
- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل»[5]
والآيات والأحاديث المشيرة إلى الصحبة والحاثة عليها كثير، وكل تاريخ الإيمان يشهد بأن قلب الداعي إلى الله على بصيرة، نبيا كان أو وليا، هو النبع الروحي الذي اغترفت منه أجيال الصالحين بالصحبة، والملازمة، والمحبة، والتلمذة، والمخاللة.
وعلى قدر المصحوب إيمانا وإحسانا وولاية ينتفع الصاحب.[6]
- وعن ضرورة الشيخ المربي لمريد الوصول إلى الله ومعرفته والقرب من جنابه يقول: «اصحب أرباب القلوب حتى يصير لك قلب. لا بد لك من شيخ حكيم عامل بحكم الله عز وجل يهذبك ويعلمك وينصحك».[7]
- وكما نصح الإمام الغزالي في كتابه «المنقذ من الضلال» بالصحبة، وكما برهن عمليا عن صدقه في طلب وجه الله وإيقانه بضرورة صحبة شيخ كامل حين خرج -وهو حجة المسلمين تشد إليه الرحال- في طلب مصحوب، تاركا المال والجاه والدنيا، كذلك ينصح الجيلاني حين يقول: «خذ مني دواء لمرض دينك، واستعمله وقد جاءتك العافية. من تقدم كانوا يطوفون الشرق والغرب في طلب الأولياء والصالحين الذين هم أطباء القلوب والدين. فإذا حصل لهم واحد منهم طلبوا منه دواء لأديانهم».[8]
المصحوب المجرب والسالك :
وقال الغزالي رحمه الله : (مما يجب في حق سالكِ طريق الحق أن يكون له مرشدٌ ومربٌّ ليدله على الطريق، ويرفع عنه الأخلاق المذمومة، ويضع مكانها الأخلاق المحمودة، ومعنى التربية أن يكون المربي كالزارع الذي يربي الزرع، فكلما رأى حجراً أو نباتاً مضراً بالزرع قلعه وطرحه خارجاً، ويسقي الزرع مراراً إلى أن ينمو ويتربى، ليكون أحسن من غيره ؛ وإذا علمت أن الزرع محتاج للمربي، علمت أنه لا بد للسالك من مرشد البتة، لأن الله تعالى أرسل الرسل عليهم الصلاة والسلام للخلق ليكونوا دليلاً لهم، ويرشدوهم إلى الطريق المستقيم ؛ وقبل انتقال المصطفى عليه الصلاة والسلام إلى الدار الآخرة قد جعل الخلفاء الراشدين نواباً عنه ليدلوا الخلق إلى طريق الله ؛ وهكذا إلى يوم القيامة، فالسالك لا يستغني عن المرشد البتة) ["خلاصة التصانيف في التصوف" لحجة الإسلام الغزالي ص18. توفي سنة 505هـ في طوس].
- وفي الحلية عن سفيان الثوري يقول فيما أوصى به على بن الحسن السلمي ...لا تأخذن دينك إلا ممن هو مشفق على دينه، فإن مثل الذي هو غير مشفق على دينه، كمثل طبيب به داء لا يستطيع أن يعالج داء نفسه، وينصح بالقسمة، كيف يعالج داء الناس وينصح لهم. فهذا الذي لا يشفق على دينه كيف يشفق على دينك. ويا أخي إنما دينك لحمك ودمك، ابك على نفسك وارحمها فان أنت لم ترحمها لم ترحم، وليكن جليسك من يزهدك في الدنيا ويرغبك في الآخرة وإياك ومجالسة أهل الدنيا الذين يخوضون في حديث الدنيا، فإنهم يفسدون عليك دينك وقلبك.
ويقول الغزالي: (إن الله عز وجل إذا أراد بعبد خيراً بصَّره بعيوب نفسه، فمن كانت بصيرته نافذة لم تخْفَ عليه عيوبه، فإذا عرف العيوب أمكنه العلاج. ولكن أكثر الخلق جاهلون بعيوب أنفسهم يرى أحدهم القذى في عين أخيه ولا يرى الجذع في عين نفسه، فمن أراد أن يعرف عيوب نفسه فله أربعة طرق:
* الأول: أن يجلس بين يدي شيخ بصير بعيوب النفس، مطلعٍ على خفايا الآفات، ويحكّمه في نفسه، ويتبع إشاراته في مجاهداته، وهذا شأن المريد مع شيخه، والتلميذ مع أستاذه، فيعرّفه أستاذه وشيخه عيوب نفسه، ويعرّفه طريق علاجها... الخ) ["الإحياء" ج3/ص55].
وقال أيضاً: (ليس شيخك مَنْ سمعت منه، وإنما شيخك من أخذت عنه، وليس شيخك من واجهتك عبارته، وإنما شيخك الذي سَرَتْ فيك إشارته، وليس شيخك من دعاك إلى الباب، وإنما شيخك الذي رَفَع بينك وبينه الحجاب، وليس شيخك من واجهك مقاله، إنما شيخك الذي نهض بك حاله.
- وقال أيضاً: (لا تصحب من لا يُنهِضُكَ حاله، ولا يدلك على الله مقاله) ["إيقاظ الهمم
ندرتهم في كل زمان وخاصة في هذا الزمان :
واعلم أن العالم العامل بعلمه نادر فى هذا الزمن، فإنك إذا طلبت قارئًا وجدت ما لا يحصى، وإذا طلبت طبيبًا وجدت الكثير، وإذا طلبت فقيهًا وجدت مثل ذلك، ولكن إذا طلبت من يدلك على الله بقوله وعمله، ومن يعرفك بعيوب نفسك صادقًا مخلصًا، لم تجد إلا قليلاً، فإن ظفرت به فأمسكه بكلتا يديك، واحرص على مصاحبته، وأكثر من مجالسته، فهو أنفع شىء لك فى الحياة.
لان طريق السلوك وتهذيب النفس طريق قل من يعتني به :
- وعن وهب بن منبه، عن طاووس، عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه: " يا علي استكثر من المعارف من المؤمنين، فكم من معرفة في الدنيا بركة في الآخرة " فمضى علي رضي الله تعالى عنه فأقام حيناً لا يلقى أحداً إلا اتخذه للآخرة ثم جاء من بعد فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما فعلت فيما أمرتك؟ " فقال: فعلت يا رسول الله، فقال له عليه السلام: " قابل أخبارهم " فأتى على النبي صلى الله عليه وسلم وهو منكس رأسه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبتسم: " ما أحسب يا علي ثبت معك إلا أبناء الآخرة " . فقال له علي: لا والذي بعثك بالحق، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين " . " الزخرف 67 " .
فان وجدتهم فاصبر وعض عليهم بالنواجد فلن يصبر معك إلا هم
- قال الله تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) [الكهف:28].
· الأدب مع المربي :
والصحبة هي الباب وهي المفتاح.
- قال الإمام الرفاعي يوصي بالأدب مع الشيخ المربي: "ولا ترغب في الكرامات، فإن الأولياء يستترون من الكرامات كما تستتر النساء من الحيض. ولازم باب الله. ووجه قلبك لرسول الله. واجعل الاستمداد من بابه العالي بواسطة شيخك المرشد. وقم بخدمة شيخك بالإخلاص من غير طلب ولا أرَبٍ، واذهب معه بمسلك الأدب. واحفظ غَيْبَتَهُ، وتَقَيَّدْ بخدمته، وأكثر الخدمة في منزله، وأقلل الكلام في حضرته. وانظر إليه بنظر التعظيم والوقار، لا نظر التصغير والاحتقار".[9]
· شروط الصحبة القاسية أيام سلوك المجاهدة :
كان للصحبة شروط أيام سلوك المجاهدة في الخلوة، كان المشايخ يصرفون الوارد المريد ليتطهر قبل أن يجلس إليهم. في زماننا، والحمد لله وله المنة، تُباغت الرحمة الإلهية قلوب هذا الشباب فإذا هي تطير محلقة بأجنحة الصدق. إن وجدت صادقين.
- جاء رجل إلى عارف بالله في الزمان القديم يطلب الصحبة. فقال له العارف: "إن مثلي معك كرجل وقع في القاذورات، فذهب إلى العطار وقال: أين الطيب؟
فقال العطار: اذهب اشتر الأشنان (صابون ذلك الزمان)، واغسل نفسك ولباسك، ثم تعال فتطيبْ! قال العارف للمريد: "وكذلك أنت، لطخْت نفسك بأنجاس الذنوب، فخذ أشنان الحسرة، وطين الندامة، وماء التوبة والإنابة، وطهر ظواهرك في إجّانة (قصعة يغسلون فيها) الخوف والرجاء، من أنجاس الجرم والجفاء. ثم اذهب إلى حمام الزهد والتقى، واغسل نفسك بماء الصدق والصفاء. ثم ائتني حتى أطيبك بعطر معرفتي!". 1
لست أدري ما أجاب المريد. ويكون جواب مريد عصرنا عن مثل هذه الشروط: "يا سيدي! لو كنت أعلم ما هو صابون الحسرة على ما فات، وما هو طين الندامة، وما هو ماء التوبة، وما معنى الندامة، وما ظواهر الإسلام وبواطن الإيمان، وما محاسن الخوف والرجاء، ومساوىء القطيعة مع الله والجفاء، وأين حمام الزهد والتقى يغتسل فيه مثلي لما جئتك!".[10]
صحبة الصالحين ومجالستهم
الطيور على أشكالها تقع :
- وكان مالك بن دينار يقول: لا يتفق اثنان في عشرة إلا وفي أحدهما وصف من الآخر وإن أجناس الناس كأجناس الطير ولا يتفق نوعان من الطير في الطيران إلا وبينهما مناسبة قال فرأى يوماً غراباً مع حمامة فعجب من ذلك فقال: اتفقا وليسا من شكل واحد ثم طارا فإذا هما أعرجان فقال: من ههنا اتفقا.
ومن النصائح القيّمة والنفيسة التي ينصح بها المربّون: مجالسة الصالحين ومصاحبة الأخيار.
- وقد قالوا: أول الاستقامة صحبة العلماء بالله عز وجل.
ولعمري هي نصيحة غالية نفيسة لا يعلم نفاستها إلا من ذاق حلاوة صحبتهم ولذة مجالستهم وخدمتهم، فإنك مهما تعلمت من الكتب ومهما حفظت من المسائل؛ فإنّ هناك أشياء كثيرة ستبقى غائبة عنك لا يمكن لك أن تتعلمها إلا من خلال صحبة الرجال ومجالسة الأخيار.
- ولذا عقد البخاري -رحمه الله- لها في صحيحه باباً سماه: باب استحباب مجالسة الصالحين.
وأيضاً عقد مسلم في صحيحه باباً سماه: باب استحباب مجالسة الصالحين ومجانبة قرناء السوء، وروى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَولهَإِنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ(
- ويروى عن لقمان أنه قال لابنه: يا بنى جالس العلماء، وزاحمهم بركبتيك، فإن الله يحيى القلوب بنور الحكمة، كما يحيى الأرض الميتة بوابل السماء.
- قال جعفر بن سليمان: مهما فترت في العمل نظرت إلى محمد بن واسع وإقباله على الطاعة فيرجع إلي نشاطي في العبادة وفارقني الكسل وعملت عليه أسبوعاً
مذاكرة سيرهم وأحوالهم
فإن لم تسنح لك الفرصة لمجالستهم، ولم يسعفك الزمان بمصاحبتهم ومرافقتهم، فقد فاتك شيء كثير، وعندئذ لتكن مذاكرة سيرهم وأحوالهم بديلاً لك عن ذلك.
قال الراغب : قال بعض الحكماء : مجالسة العلماء ترغبك في الثواب , ومجالسة الحكماء تقربك من الحمد وتبعدك عن الذم , ومجالسة الكبراء تزهدك فيما عدا فضل الله الباري تعالى.
وفي حلية الأولياء أنّ ميموناً كان يقول: العلماء هم ضالتي في كل بلدة وهم بغيتي ووجدت صلاح قلبي في مجالسة العلماء.
وعن الشافعي -رحمه الله- : ثلاثة تزيد في العقل مجالسة العلماء، ومجالسة الصالحين، وترك الكلام فما لا يعني.
وفي تفسير ابن عجيبة: فالأولياء حجة الله على العلماء ، والعلماء حجة الله على العوام ، فمن لم يستقم ظاهره عُوتب على تفريطه في صحبة العلماء ، ومن لم يستقم باطنه عاتبه الله تعالى على ترك صُحبة الأولياء ، أعني العارفين.
محبتهم :
- وقال ابن السماك عند موته: اللهم إنك تعلم أني إذا كنت أعصيك كنت أحب من يطيعك فاجعل ذلك قربة لي إليك.
ما نوع من تصحب؟ :
وقال بعض العلماء: لا تصحب إلا أحد رجلين: رجل تتعلم منه شيئاً من أمر دينك فينفعك أو رجل تعلمه شيئاً في أمر دينه فيقبل منك والثالث فاهرب منه.
- وقال بعضهم: الناس أربعة: فواحد حلو كله فلا يشبع منه.
وآخر مر كله فلا يؤكل منه .
وآخر فيه حموضة فخذ من هذا قبل أن يأخذ منك .
وآخر فيه ملوحة فخذ منه وقت الحاجة فقط.
- وقال أبي عبد الله جعفر بن محمد...قال لي أبي: يا بني..انظر خمسة لا تحادثهم ولا تصاحبهم ولا ترى معهم في الطريق
قلت يا أبي: جعلت فداك، من هؤلاء الخمسة ؟
قال إياك ومصاحبة الفاسق فانه يبيعك بأكلة أو أقل منها...
قلت: يا أبي وما أقل منها؟
قال:الطمع فيها ثم لا ينالها...
قلت: يا أبي وما الثاني؟؟
قال:إياك ومصاحبة البخيل ، فانه يخذلك في ماله أحوج ما تكون إليه..
قلت:يا أبي وما الثالث؟؟
قال : إياك ومصاحبة الكذاب فانه يقرب منك البعيد ويباعد عنك القريب...
قلت:يا أبي وما الرابع؟
قال:إياك ومصاحبة الأحمق، فانه يريد أن ينفعك فيضرك..
قلت:يا أبي وما الخامس؟؟
قال: إياك ومصاحبه القاطع لرحمه فاني وجدته ملعونا في كتاب الله
"الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل"
- وقال المأمون: الإخوان ثلاثة: أحدهم مثله مثل الغذاء لا يستغنى عنه والآخر مثله مثل الدواء يحتاج إليه في وقت دون وقت والثلث مثله مثل الداء لا يحتاج إليه قط: ولكن العبد قد يبتلي به وهو الذي لا أنس فيه ولا نفع.
[1] الفتح الرباني ص 282.
[2] المنهاج النبوي 137
[3] الاحسان 2 -- 458
[4] الاسلام والحداثة 241
[5] في ما رواه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح وقال فيه الترمذي: حديث حسن:
[6] المنهاج النبوي 126 /128
[7]الفتح الرباني، ص 330.
[8] المنهاج 129
[9] البرهان المؤيد، ص 96
[10] الاحسان 1 / 123 – 124
ضرورة البحث عن ولي عارف :
- قال عبد القادر الجيلاني : "زرعي قد نبت وتجَمَّل، وزرعُك كلما نبتَ أُحْرِقَ، كن عاقلا! دع رياستك وتعال اقعد ههنا كواحد من الجماعة حتى ينزرع كلامي في أرض قلبك. لو كان لك عقل لقعدت في صحبتي، وقنعت مني في كل يوم بلقمة، وصبرت على خشونة كلامي. كل من كان له إيمان يثبت ويَنْبُتُ، ومن ليس له إيمان يهرُبُ مني".[1]
كيف بدأت الصحبة ومعانيها :
· مثال هذه الصحبة من القرآن :
- عقد تلمذة بمقتضاه التزم التلميذ موسى، وهو النبي الرسول من أولي العزم، باتباع شيخه، وطاعته، والصبر على مبادرته. وفي القصة تشريع موعظة للأمة التي تتلو القرآن.
كان موسى فردا في هذا العقد كما كان الخضر عليهما السلام، فهي صحبة فردية[2].
· النبي محمد صلى الله عليه وسلم :
قال الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ}.1 نقف مع كلمة «معه»، فبهذه المعية والصحبة كانوا رجالا.
- كان رسول الله صلى الله عليم وسلم يقول كلما ارتحل في سفره: «اللهم أنت الخليفة في الأهل والصاحب في السفر»،
فلقوة تعلقه صلى الله عليه وسلم بربه عز وجل سرت من قلبه الطاهر مادة الإيمان إلى من صحبه، ثم امتدت الصحبة وراثة فكانت رحمة بين الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، تسري من قلب لقلب، ومن جيل لجيل، بالصحبة والمحبة والتلمذة.
- روى الشيخان واللفظ لمسلم عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يأتي على الناس زمان يغزو فئام (جماعة) من الناس. فيقال لهم: فيكم من رأى رسول الله صلى عليه وسلم؟ فيقولون: نعم! فيفتح لهم. ثم يغزو فئام من الناس، فيقال لهم: فيكم من رأى من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم! فيفتح لهم. ثم يغزو فئام من الناس، فيقال لهم: هل فيكم من رأى من صحب من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم! فيفتح لهم».
- وروى الشيخان واللفظ لمسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خير أمتي القرن الذين يلوني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته».
بعد رسول الله انقطع الناس عن هذه المعاني واكتفوا بذكرالصالحين والتبرك بأحوالهم :
من أصول الشيخ البنا رحمه الله: «ومحبة الصالحين واحترامهم والثناء عليهم بما عرف من طيب أعمالهم قربة إلى الله تبارك وتعالى.
ومحبة الصالحين واجبة :
لكن احترام الأولياء من بعيد، ومحبتهم بلا صحبة، والثناء عليهم دون أن يكون الثناء حافزا لنا على اللحاق بهم، أعمال لا تثمر إيمانا وإن أثمرت ثوابا، ومن الناس من يحترم الأموات، ويحب الأموات، ويثني عليهم وحدهم، معتقدا أنه لا ولي لله من معاصريه، هؤلاء يحرمون ثمرة صحبة الصالحين.
اكتفاء الناس اليوم بالكتب عن البحث عن القدوة الحية :
- للأستاذ عبد السلام ياسين تعليق لطيف قال:" هل جاءنا الدين من الأوراق والكتب أم من قنوات القلوب المؤمنة؟ من أبوين ربيا على الإيمان، ومعلم صالح، وواعظ متق، وعالم عامل، ونموذج حي ماثل يحتذى حذوه، ويقتدى به ويحَب ؟... هل هي سلسلة من أصحاب، والمصاحبة انقطعت، أم الأمر لا يزال مستمرا من قلب لقلوب ؟ نقف ونبحث ونتساءل عن الكيفية التي أوتي بها الصحابة الإيمان قبل القرآن، فتلقوا القرآن بتعظيم وطاعة، بينما آخرون ينثرونه نثر الدقل.
ذاق الصحابة حلاوة الإيمان وطعموا طعمه، وحصل لهم اليقين، ذوَّقوا طعم الإيمان تابعيهم وذوَّق تابعوهم تابعيهم، والجداول النورانية حية لا تزال متدفقة ينور الله بها عباده.و يحيي بها أرض القلوب كما يحيي بغيث السحاب أرض الزرع.
من يتربى من الكتب مثل من يتداوى من الكتب دون طبيب فيوشك أن يخر صريعا :
- يعطي الإمام (عبد القادر الجيلاني بعد ذكر لكلامه في الصحبة) الصحبة أهميتَها، وهي في المكان الأول. لا تكون المجاهدة بدونها إلا غلُوّا في التعبد قد يكون قاطعا عن الله عز وجل من حيث لا يدري المعانِي المكابِدُ الذي يعتمد على جهده وعمله من دون الله، فإذا هو طريح جريح سليب قتيل على حافة الطريق...[3]
خبر صحبة الملازمة لم ينقطع بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم
اختلف المسلمون بهذا الشأن وتناقشوا كثيرا على مر التاريخ ولم يحسم هذا الأمر بشكل قطعي، ولكن كانت تبرز بين الحين والآخر تجارب لعلماء فطاحل يشهد لهم الكل بالصلاح والعلم والورع، تجارب تشهد أن صحبة العارفين بالله تعالى شرط لمريد الإحسان.
- يقول الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين في هذا الصدد "ومن معاني الصحبة والجماعة الذاكرة دخول إلى حضرة طبيب يعالج الروح (..) ومن الناس من لا يشعر أن له قلبا ولا يعترف بأن له روحا، ومثل هذا لا علاج له. ومنهم من ينكر أن يكون ثم طبيب للقلوب لديه الدواء الذي يحيي موات القلوب وهذا ميؤوس من تدرجه في معراج الإسلام والإيمان والإحسان، إلا أن يشاء الله فيلهمه سلوك الصالحين"..
· والوقائع الدالة على صدق هذا الكلام كثيرة، تكفي شهادة الإمام الغزالي حجة الإسلام في "المنقذ من الضلال" لمن أخذه الشوق إلى لقاء الله وتعطش قلبه لحب الله واستيقظ في داخله الطلب: طلب وجه الله. لا إله إلا الله محمد رسول الله.
لذلك لا نفتأ نؤكد بأن الصحبة مفتاح، وعنها يتفرع الخير كله: نعمة في الدنيا ونعيم في الآخرة.
مفهوم الصحبة جوهري في الاسلام :
* وبعد أن تجتاز وحدك امتحان الفراق لا بد لك من لقاء. لا بد أن تتجه نحو صحبة أخرى تتخذ لك مكانا بينها. لا بد أن تتكيف مع وسط آخر يتبناك. لا بديل لك حينئذ عن صحبة روحية، لأن الصحبة مفهوم مركزي في الإسلام، ولأن الله عز وجل غالبا ما يهيئ لمن سلك سبيل التوبة أشخاصا ذوي قلوب صافية. والمسجد أمثل مكان للعثور على الصحبة المثلى [4]
من يريد الإحسان لا بد له أن يسلك على يد خبير :
(من) .. يريد البقاء في مرتبة الإسلام لن يحس أبدا بضرورة صحبة شيخ عارف بالله يدله على مقام الإحسان، ليصبح من المحسنين، إيقانا وإتقانا ومعاملة، وهذا لا يحكم عليه بالضلال، لكنه حرم خيرا كثيرا لأنه قنع بالقليل، والرضا بالقليل من صاحب الكثير حرمان.
وإنما ينفع الله عز وجل المؤمن الصادق الجاد في الإقبال على ربه أول ما ينفعه بصحبة رجل صالح، ولي مرشد، يقيضه له، ويقذف في قلبه حبه.
ومتى كان المصحوب وليا لله حقا والصاحب صادقا في طلبه وجه الله ظهرت ثمرة الصحبة.
- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل»[5]
والآيات والأحاديث المشيرة إلى الصحبة والحاثة عليها كثير، وكل تاريخ الإيمان يشهد بأن قلب الداعي إلى الله على بصيرة، نبيا كان أو وليا، هو النبع الروحي الذي اغترفت منه أجيال الصالحين بالصحبة، والملازمة، والمحبة، والتلمذة، والمخاللة.
وعلى قدر المصحوب إيمانا وإحسانا وولاية ينتفع الصاحب.[6]
- وعن ضرورة الشيخ المربي لمريد الوصول إلى الله ومعرفته والقرب من جنابه يقول: «اصحب أرباب القلوب حتى يصير لك قلب. لا بد لك من شيخ حكيم عامل بحكم الله عز وجل يهذبك ويعلمك وينصحك».[7]
- وكما نصح الإمام الغزالي في كتابه «المنقذ من الضلال» بالصحبة، وكما برهن عمليا عن صدقه في طلب وجه الله وإيقانه بضرورة صحبة شيخ كامل حين خرج -وهو حجة المسلمين تشد إليه الرحال- في طلب مصحوب، تاركا المال والجاه والدنيا، كذلك ينصح الجيلاني حين يقول: «خذ مني دواء لمرض دينك، واستعمله وقد جاءتك العافية. من تقدم كانوا يطوفون الشرق والغرب في طلب الأولياء والصالحين الذين هم أطباء القلوب والدين. فإذا حصل لهم واحد منهم طلبوا منه دواء لأديانهم».[8]
المصحوب المجرب والسالك :
وقال الغزالي رحمه الله : (مما يجب في حق سالكِ طريق الحق أن يكون له مرشدٌ ومربٌّ ليدله على الطريق، ويرفع عنه الأخلاق المذمومة، ويضع مكانها الأخلاق المحمودة، ومعنى التربية أن يكون المربي كالزارع الذي يربي الزرع، فكلما رأى حجراً أو نباتاً مضراً بالزرع قلعه وطرحه خارجاً، ويسقي الزرع مراراً إلى أن ينمو ويتربى، ليكون أحسن من غيره ؛ وإذا علمت أن الزرع محتاج للمربي، علمت أنه لا بد للسالك من مرشد البتة، لأن الله تعالى أرسل الرسل عليهم الصلاة والسلام للخلق ليكونوا دليلاً لهم، ويرشدوهم إلى الطريق المستقيم ؛ وقبل انتقال المصطفى عليه الصلاة والسلام إلى الدار الآخرة قد جعل الخلفاء الراشدين نواباً عنه ليدلوا الخلق إلى طريق الله ؛ وهكذا إلى يوم القيامة، فالسالك لا يستغني عن المرشد البتة) ["خلاصة التصانيف في التصوف" لحجة الإسلام الغزالي ص18. توفي سنة 505هـ في طوس].
- وفي الحلية عن سفيان الثوري يقول فيما أوصى به على بن الحسن السلمي ...لا تأخذن دينك إلا ممن هو مشفق على دينه، فإن مثل الذي هو غير مشفق على دينه، كمثل طبيب به داء لا يستطيع أن يعالج داء نفسه، وينصح بالقسمة، كيف يعالج داء الناس وينصح لهم. فهذا الذي لا يشفق على دينه كيف يشفق على دينك. ويا أخي إنما دينك لحمك ودمك، ابك على نفسك وارحمها فان أنت لم ترحمها لم ترحم، وليكن جليسك من يزهدك في الدنيا ويرغبك في الآخرة وإياك ومجالسة أهل الدنيا الذين يخوضون في حديث الدنيا، فإنهم يفسدون عليك دينك وقلبك.
ويقول الغزالي: (إن الله عز وجل إذا أراد بعبد خيراً بصَّره بعيوب نفسه، فمن كانت بصيرته نافذة لم تخْفَ عليه عيوبه، فإذا عرف العيوب أمكنه العلاج. ولكن أكثر الخلق جاهلون بعيوب أنفسهم يرى أحدهم القذى في عين أخيه ولا يرى الجذع في عين نفسه، فمن أراد أن يعرف عيوب نفسه فله أربعة طرق:
* الأول: أن يجلس بين يدي شيخ بصير بعيوب النفس، مطلعٍ على خفايا الآفات، ويحكّمه في نفسه، ويتبع إشاراته في مجاهداته، وهذا شأن المريد مع شيخه، والتلميذ مع أستاذه، فيعرّفه أستاذه وشيخه عيوب نفسه، ويعرّفه طريق علاجها... الخ) ["الإحياء" ج3/ص55].
وقال أيضاً: (ليس شيخك مَنْ سمعت منه، وإنما شيخك من أخذت عنه، وليس شيخك من واجهتك عبارته، وإنما شيخك الذي سَرَتْ فيك إشارته، وليس شيخك من دعاك إلى الباب، وإنما شيخك الذي رَفَع بينك وبينه الحجاب، وليس شيخك من واجهك مقاله، إنما شيخك الذي نهض بك حاله.
- وقال أيضاً: (لا تصحب من لا يُنهِضُكَ حاله، ولا يدلك على الله مقاله) ["إيقاظ الهمم
ندرتهم في كل زمان وخاصة في هذا الزمان :
واعلم أن العالم العامل بعلمه نادر فى هذا الزمن، فإنك إذا طلبت قارئًا وجدت ما لا يحصى، وإذا طلبت طبيبًا وجدت الكثير، وإذا طلبت فقيهًا وجدت مثل ذلك، ولكن إذا طلبت من يدلك على الله بقوله وعمله، ومن يعرفك بعيوب نفسك صادقًا مخلصًا، لم تجد إلا قليلاً، فإن ظفرت به فأمسكه بكلتا يديك، واحرص على مصاحبته، وأكثر من مجالسته، فهو أنفع شىء لك فى الحياة.
لان طريق السلوك وتهذيب النفس طريق قل من يعتني به :
- وعن وهب بن منبه، عن طاووس، عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه: " يا علي استكثر من المعارف من المؤمنين، فكم من معرفة في الدنيا بركة في الآخرة " فمضى علي رضي الله تعالى عنه فأقام حيناً لا يلقى أحداً إلا اتخذه للآخرة ثم جاء من بعد فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما فعلت فيما أمرتك؟ " فقال: فعلت يا رسول الله، فقال له عليه السلام: " قابل أخبارهم " فأتى على النبي صلى الله عليه وسلم وهو منكس رأسه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبتسم: " ما أحسب يا علي ثبت معك إلا أبناء الآخرة " . فقال له علي: لا والذي بعثك بالحق، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين " . " الزخرف 67 " .
فان وجدتهم فاصبر وعض عليهم بالنواجد فلن يصبر معك إلا هم
- قال الله تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) [الكهف:28].
· الأدب مع المربي :
والصحبة هي الباب وهي المفتاح.
- قال الإمام الرفاعي يوصي بالأدب مع الشيخ المربي: "ولا ترغب في الكرامات، فإن الأولياء يستترون من الكرامات كما تستتر النساء من الحيض. ولازم باب الله. ووجه قلبك لرسول الله. واجعل الاستمداد من بابه العالي بواسطة شيخك المرشد. وقم بخدمة شيخك بالإخلاص من غير طلب ولا أرَبٍ، واذهب معه بمسلك الأدب. واحفظ غَيْبَتَهُ، وتَقَيَّدْ بخدمته، وأكثر الخدمة في منزله، وأقلل الكلام في حضرته. وانظر إليه بنظر التعظيم والوقار، لا نظر التصغير والاحتقار".[9]
· شروط الصحبة القاسية أيام سلوك المجاهدة :
كان للصحبة شروط أيام سلوك المجاهدة في الخلوة، كان المشايخ يصرفون الوارد المريد ليتطهر قبل أن يجلس إليهم. في زماننا، والحمد لله وله المنة، تُباغت الرحمة الإلهية قلوب هذا الشباب فإذا هي تطير محلقة بأجنحة الصدق. إن وجدت صادقين.
- جاء رجل إلى عارف بالله في الزمان القديم يطلب الصحبة. فقال له العارف: "إن مثلي معك كرجل وقع في القاذورات، فذهب إلى العطار وقال: أين الطيب؟
فقال العطار: اذهب اشتر الأشنان (صابون ذلك الزمان)، واغسل نفسك ولباسك، ثم تعال فتطيبْ! قال العارف للمريد: "وكذلك أنت، لطخْت نفسك بأنجاس الذنوب، فخذ أشنان الحسرة، وطين الندامة، وماء التوبة والإنابة، وطهر ظواهرك في إجّانة (قصعة يغسلون فيها) الخوف والرجاء، من أنجاس الجرم والجفاء. ثم اذهب إلى حمام الزهد والتقى، واغسل نفسك بماء الصدق والصفاء. ثم ائتني حتى أطيبك بعطر معرفتي!". 1
لست أدري ما أجاب المريد. ويكون جواب مريد عصرنا عن مثل هذه الشروط: "يا سيدي! لو كنت أعلم ما هو صابون الحسرة على ما فات، وما هو طين الندامة، وما هو ماء التوبة، وما معنى الندامة، وما ظواهر الإسلام وبواطن الإيمان، وما محاسن الخوف والرجاء، ومساوىء القطيعة مع الله والجفاء، وأين حمام الزهد والتقى يغتسل فيه مثلي لما جئتك!".[10]
صحبة الصالحين ومجالستهم
الطيور على أشكالها تقع :
- وكان مالك بن دينار يقول: لا يتفق اثنان في عشرة إلا وفي أحدهما وصف من الآخر وإن أجناس الناس كأجناس الطير ولا يتفق نوعان من الطير في الطيران إلا وبينهما مناسبة قال فرأى يوماً غراباً مع حمامة فعجب من ذلك فقال: اتفقا وليسا من شكل واحد ثم طارا فإذا هما أعرجان فقال: من ههنا اتفقا.
ومن النصائح القيّمة والنفيسة التي ينصح بها المربّون: مجالسة الصالحين ومصاحبة الأخيار.
- وقد قالوا: أول الاستقامة صحبة العلماء بالله عز وجل.
ولعمري هي نصيحة غالية نفيسة لا يعلم نفاستها إلا من ذاق حلاوة صحبتهم ولذة مجالستهم وخدمتهم، فإنك مهما تعلمت من الكتب ومهما حفظت من المسائل؛ فإنّ هناك أشياء كثيرة ستبقى غائبة عنك لا يمكن لك أن تتعلمها إلا من خلال صحبة الرجال ومجالسة الأخيار.
- ولذا عقد البخاري -رحمه الله- لها في صحيحه باباً سماه: باب استحباب مجالسة الصالحين.
وأيضاً عقد مسلم في صحيحه باباً سماه: باب استحباب مجالسة الصالحين ومجانبة قرناء السوء، وروى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَولهَإِنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ(
- ويروى عن لقمان أنه قال لابنه: يا بنى جالس العلماء، وزاحمهم بركبتيك، فإن الله يحيى القلوب بنور الحكمة، كما يحيى الأرض الميتة بوابل السماء.
- قال جعفر بن سليمان: مهما فترت في العمل نظرت إلى محمد بن واسع وإقباله على الطاعة فيرجع إلي نشاطي في العبادة وفارقني الكسل وعملت عليه أسبوعاً
مذاكرة سيرهم وأحوالهم
فإن لم تسنح لك الفرصة لمجالستهم، ولم يسعفك الزمان بمصاحبتهم ومرافقتهم، فقد فاتك شيء كثير، وعندئذ لتكن مذاكرة سيرهم وأحوالهم بديلاً لك عن ذلك.
قال الراغب : قال بعض الحكماء : مجالسة العلماء ترغبك في الثواب , ومجالسة الحكماء تقربك من الحمد وتبعدك عن الذم , ومجالسة الكبراء تزهدك فيما عدا فضل الله الباري تعالى.
وفي حلية الأولياء أنّ ميموناً كان يقول: العلماء هم ضالتي في كل بلدة وهم بغيتي ووجدت صلاح قلبي في مجالسة العلماء.
وعن الشافعي -رحمه الله- : ثلاثة تزيد في العقل مجالسة العلماء، ومجالسة الصالحين، وترك الكلام فما لا يعني.
وفي تفسير ابن عجيبة: فالأولياء حجة الله على العلماء ، والعلماء حجة الله على العوام ، فمن لم يستقم ظاهره عُوتب على تفريطه في صحبة العلماء ، ومن لم يستقم باطنه عاتبه الله تعالى على ترك صُحبة الأولياء ، أعني العارفين.
محبتهم :
- وقال ابن السماك عند موته: اللهم إنك تعلم أني إذا كنت أعصيك كنت أحب من يطيعك فاجعل ذلك قربة لي إليك.
ما نوع من تصحب؟ :
وقال بعض العلماء: لا تصحب إلا أحد رجلين: رجل تتعلم منه شيئاً من أمر دينك فينفعك أو رجل تعلمه شيئاً في أمر دينه فيقبل منك والثالث فاهرب منه.
- وقال بعضهم: الناس أربعة: فواحد حلو كله فلا يشبع منه.
وآخر مر كله فلا يؤكل منه .
وآخر فيه حموضة فخذ من هذا قبل أن يأخذ منك .
وآخر فيه ملوحة فخذ منه وقت الحاجة فقط.
- وقال أبي عبد الله جعفر بن محمد...قال لي أبي: يا بني..انظر خمسة لا تحادثهم ولا تصاحبهم ولا ترى معهم في الطريق
قلت يا أبي: جعلت فداك، من هؤلاء الخمسة ؟
قال إياك ومصاحبة الفاسق فانه يبيعك بأكلة أو أقل منها...
قلت: يا أبي وما أقل منها؟
قال:الطمع فيها ثم لا ينالها...
قلت: يا أبي وما الثاني؟؟
قال:إياك ومصاحبة البخيل ، فانه يخذلك في ماله أحوج ما تكون إليه..
قلت:يا أبي وما الثالث؟؟
قال : إياك ومصاحبة الكذاب فانه يقرب منك البعيد ويباعد عنك القريب...
قلت:يا أبي وما الرابع؟
قال:إياك ومصاحبة الأحمق، فانه يريد أن ينفعك فيضرك..
قلت:يا أبي وما الخامس؟؟
قال: إياك ومصاحبه القاطع لرحمه فاني وجدته ملعونا في كتاب الله
"الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل"
- وقال المأمون: الإخوان ثلاثة: أحدهم مثله مثل الغذاء لا يستغنى عنه والآخر مثله مثل الدواء يحتاج إليه في وقت دون وقت والثلث مثله مثل الداء لا يحتاج إليه قط: ولكن العبد قد يبتلي به وهو الذي لا أنس فيه ولا نفع.
[1] الفتح الرباني ص 282.
[2] المنهاج النبوي 137
[3] الاحسان 2 -- 458
[4] الاسلام والحداثة 241
[5] في ما رواه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح وقال فيه الترمذي: حديث حسن:
[6] المنهاج النبوي 126 /128
[7]الفتح الرباني، ص 330.
[8] المنهاج 129
[9] البرهان المؤيد، ص 96
[10] الاحسان 1 / 123 – 124
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin