الشيـــخ مـحــمـد فــؤاد مـــحـــمد
" طلاقة القدرة الإلهية في العطاء والمنع "
"مقدمة وبيان "
إن المتصفح لسير سلفنا الصالح يجد بأنهم لم يقيسوا العطاء والمنع بمفاهيم أهل الدنيا الزائلة الذين يظنون أن العطاء والمنع في المال والجاه والسلطان والمناصب وزخرف الدنيا وغرورها !!
وإنما العطاء والمنع عند الصالحين يكون في الإيمان والرضا وقول الحق ولوكان مرا والثبات علي الدين وعطاء الشجاعة بالصدع بالحق في وجوه الجبابرة والطغاة والظالمين حتي
لو كلف صاحبه روحه وحياته وحريته !!
وإليكم نماذج مضيئة في سماء طلاقة قدرة الله في العطاء والمنع
أولا:
" الحسن البصري وطلاقة قدرة الله في العطاء بكلمة الحق :
لما كان الحسن رضي الله عنه قد طلّق الدنيا برمتها ، وقد رخصت في عينه، فقد هان عنده كل شيء، فلم يكن يعبأ بحاكم ظالم، ولا أمير غاشم، و لا ذي سلطة متكبر، بل ما كان يخشى في الله لومة لائم، لسان حاله قوله تعالي :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)
قصة الحسن البصري مع الحجاج بن يوسف :
لما ولى الحجاج بن يوسف الثقفي العراق وزاد طغيانه وتجبره،
وقف الحسن البصرى وكذلك الكثير من علماء عصره في وجهه،
وتصدوا لقبيح أفعاله .. نرى ذلك عندما بنى الحجاج لنفسه بيتاً وقصراًمشيداً في واسط بينه بين البصرة والكوفة. فلما انتهى من بنائه أرادللناس أن يخرجوا إليه ليشاهدوا بهرجته وروعته، فلما علم الحسن
بذلك وجدها فرصة سانحة ليخرج إلى هذا الجمع الغفير من الناس فيعظهم ويذكرهم ويصرفهم عن تلك الزخارف المزيفة إلى روعة ماعند الله وكماله وبقائه، ويعظهم ألا يغتروا ببهجة الحياة الدنيا فلماخرج إليهم ورآهم يطوفون بذلك القصر المشيد مندهشين بروعة بنائه
وقف فيهم خطيباً وقال: (لقد نظرنا فيما أبتنى أخبث الأخبثين، فوجدنا
إن فرعون شيد أعظم مما شيد، وبنى أعلى مما بنى، ثم أهلك الله فرعون، وآتى على ما بنى وشيد .. ليت الحجاج يعلم أن أهل السماء قد مقتوه، وأن أهل الأرض قد غرّوه),
مضى على هذه الطريقة يفضح الحجاج، حتى أشفق عليه الحاضرون فقال قائلهم: حسبك يا أباسعيد، حسبك .. فقال له الحسن: لقد أخذ الله الميثاق على أهل العلم ليبيننه للناس ولا يكتمونه .. وفي اليوم التالي آتى الحجاج مجلسه وهو يشتاط غيظاً من الحسن وقال لجلسائه: (تبا لكم وسحقاً، يقوم عبدٌ من عبيد أهل البصرة ويقول فينا ما شاء أن يقول، ثم لا يجد فيكم من يرده أو ينكر عليه!! والله لأسقينكم من دمه يامعشر الجبناء), ثم أمر بالسيف والنطع فأحضرا، ودعا بالجلاد فمثل واقفا بين يديه، ثم أمر الشرط أن يأتوا به، فجاءوا بالحسن فارتجفت له القلوب خوفاً عليه, فلما رأى الحسن السيف والنطع والجلاد تحركت شفتاه، ثم توجه إلى الحجاج في عزة المؤمن الواثق بربه والذي يخشاه ولا يخشى أحداً إلا الله، وما أن رآه الحجاج حتى هابه ووقره وقال: ها هنا يا أبا سعيد، ها هنا, ثم مازال يوسع له ويقول: ها هنا والناس يندهشون للموقف، حتى أجلسه على فراشه وأخذ يسأله عن بعض أمور الدين، ويجيبه الحسن بعلمه الفياض ومنطقه العذب وهو ثابت صلب فقال له الحجاج: أنت سيد العلماء يا أبا سعيد, ثم طيب له لحيته بأغلى أنواع الطيب وودعه ولما خرج تبعه حاجب الحجاج وقال له: يا أبا سعيد، لقد دعاك الحجاج لغير ما فعل بك، وأنى رأيتك عندما أقبلت، ورأيت السيف والنطع،
حركت شفتيك فماذا قلت؟
قال : قلت
يا ولى نعمتي، وملاذي عند كربتي،
اجعل نقمته برداً وسلاماً علىَّ كما جعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم ..
وعندما بلغه خبر مقتل سعيد بن جبير فدعا على الحجاج [اللهم يا قاصم الجبابرة اقسم الحجاج] فمات الحجاج بعد ثلاثة أيام .
ثانيا :
بين الحسن البصري والشعبي وطلاقة قدرة الله في العطاء والمنع بكلمة الحق " فلقد أعطي الحسن البصري ومنع الشعبي
موقفه مع عمر بن هبيرة وعطاء الحسن في الصدع بكلمة الحق ومنع الشعبي :
ولما ولي عمر بن هبيرة الفزاري العراق وأضيفت إليه خراسان وذلك في أيام يزيد بن عبد الملك؛ استدعى الحسن البصري الشعبي وذلك في سنة ثلاث ومائة فقال لهم: إن يزيد خليفة الله استخلفه على عباده، وأخذ عليهم الميثاق بطاعته، وأخذ عهدنا بالسمع والطاعة، وقد ولاني ما ترون فيكتب إلي بالأمر من أمره فأقلده ما تقلده من ذلك الأمر فما ترون؟
فقال الشعبي قولاً لينا فيه ملاطفة.
فقال ابن هبيرة: ما تقول يا حسن؟ فقال: يا ابن هبيرة، خف الله في يزيد، ولا تخف يزيد في الله، إن الله يمنعك من يزيد وإن يزيد لا يمنعك من الله، وأوشك أن يبعث إليك ملكًا فيزيلك عن سريرك ويخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك ثم لا ينجيك إلا عملك، يا ابن هبيرة، إن تعص الله فإنما جعل الله هذا السلطان ناصرًا لدين الله وعباده؛ فلا تركبن دين الله وعباده بسلطان الله فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فبكى ابن هبيرة حتى بللت دموعه لحيته
وبالغ ابن هبيرة في إكرام الحسن وإعظامه ، ومال عن الشعبي .
فلما خرجا من عنده, توجَّها إلى المسجد، فاجتمع الناسُ عليهما، وجعلوا يسألونهما عن خبرَيْهِما مع أمير العراقين, فالتفت الشعبي إليهم, وقال:
أيها الناسُ من استطاع منكم أن يؤثر اللهَ عز وجل على خلقه في كل مقام فليفعل، فو الذي نفسي بيده, ما قال الحسنُ لعمر بن هبيرة: قولا أجهله, ولكنني أردتُ فيما قلت: وجهَ ابن هبيرة، وأراد فيما قاله: وجهَ الله، فأقصاني اللهُ من ابن هبيرة, وأدناه منه, وحبَّبه إليه، فمَن أرضى الناسَ بسخط الله, سخِط عنه اللهُ، وأسخطَ عنه الناسَ، ومَن أرضى اللهَ بسخط الناس, رضيَ عنه اللهُ، وأرضى عنه الناسَ) .
ثالثا :
" يحي بن يعمر أحد الذين ينسب لهم وضع النقاط فوق الحروف في القرآن وطلاقة قدرة الله في المنافحة عن آل بيت النبي صلي الله عليه وسلم بالعلم الساطع والدليل القاطع "
من هو يحي بن يعمر ؟
هو أبو سليمان، وقيل أبو سعيد، يحيى بن يعمر العدواني الوشقي النحوي البصري؛ كان تابعياً، لقي عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس، رضي الله عنهم، ولقي غيرهما، وروى عنه قتادة بن دعامة السدوسي وإسحاق بن سويد العدوي. وهو أحد قراء البصرة، وعنه أخذ عبد الله بن أبي إسحاق القراءة، وانتقل إلى خراسان، وتولى القضاء بمرو، وكان عالماً بالقرآن الكريم والنحو ولغات العرب وأخذ النحو عن أبي الأسود الدؤلي -
قال الشعبي: كنت بواسط ، وكان يوم أضحى، فحضرت صلاة العيد مع الحجاج ، فخطب خطبةً بليغة، فلما انصرف جائني رسوله فأتيته، فوجدته جالساً مستوفزاً، قال: يا شعبي هذا يوم أضحى، وقد أردت أن أضحي برجل من أهل العراق، وأحببت أن تسمع قوله، فتعلم أني قد أصبت الرأي فيما أفعل به.
فقلت: أيها الاَمير، لو ترى أن تستن بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله ، وتضحي بما أمر أن يضحي به، وتفعل فعله، وتدع ما أردت أن تفعله به في هذا اليوم العظيم إلى غيره.
فقال: يا شعبي، إنك إذا سمعت ما يقول صوبت رأيي فيه، لكذبه على الله وعلى رسوله، وإدخاله الشبهة في الاسلام .
قلت: أفيرى الاَمير أن يعفيني من ذلك ؟
قال : لا بدّ منه .
ثم أمر بنطع فبسط، وبالسيَّاف فأُحضر، وقال: أحضروا الشيخ، فأتوه به، فإذا هو يحيى بن يعمر ، فأغممت غماً شديداً، فقلت في نفسي: وأي شيء يقوله يحيى مما يوجب قتله؟
فقال له الحجاج: أنت تزعم أنك زعيم أهل العراق ؟
قال يحيى: أنا فقيه من فقهاء أهل العراق.
قال: فمن أي فقهك زعمت أن الحسـن والحسـين عليهما السلام من ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله .
قال: ما أنا زاعم ذلك، بل قائل بحق.
قال: وبأي حق قلت؟
قال: بكتاب الله عز وجل.
فنظر إليَّ الحجاج، وقال: اسمع ما يقول، فإن هذا مما لم أكن سمعته عنه، أتعرف أنت في كتاب الله عز وجل أن الحسن والحسين من ذرية محمد رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ فجعلت أفكر في ذلك، فلم أجد في القرآن شيئاً يدل على ذلك.
وفكر الحجاج ملياً ثم قال ليحيى: لعلك تريد قول الله عز وجل: ( فَمَنْ حَاجَّكَ فيهِ مِنْ بَعْدِمَا جَاءَكَ مِنَ العِلمِ فَقُلْ تَعَالَوا نَدْعُ أَبناءَنا وَأَبْنَاءَكم وَنِساءَنا ونِساءَكُم وأنفُسَنا وأنفُسَكُم ثُمَّ نَبتَهل فَنَجعَل لَعنةَ اللهِ على الكاذبينَ )
وأن رسول الله صلى الله عليه وآله خرج للمباهلة ومهه علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام .
قال الشعبي: فكأنما أهدى لقلبي سروراً، وقلت في نفسي: قد خلص يحيى، وكان الحجاج حافظاً للقرآن .
فقال له يحيى: والله، إنها لحجة في ذلك بليغة، ولكن ليس منها أحتج لما قلت.
فاصفرَّ وجه الحجاج، وأطرق ملياً ثم رفع رأسه إلى يحيى وقال: إن جئت من كتاب الله بغيرها في ذلك، فلك عشرة آلاف درهم، وإن لم تأت بها فأنا في حلٍ من دمك .
قال: نعم .
قال الشعبي: فغمني قوله فقلت: أما كان في الذي نزع به الحجاج ما يحتج به يحيى ويرضيه بأنه قد عرفه وسبقه إليه، ويتخلص منه حتى رد عليه وأفحمه، فإن جاءه بعد هذا بشيء لم آمن أن يدخل عليه فيه من القول ما يبطل حجته لئلا يدعي أنه قد علم ما جهله هو .
فقال يحيى للحجاج: قول الله عزّ وجلّ ( وَمِن ذُرِّيتهِ دَاوُدَ وَسليمانَ ) من عنى بذلك ؟
قال الحجاج: إبراهيم عليه السلام .
قال: فداود وسليمان من ذريته ؟
قال: نعم .
قال يحيى: ومن نص الله عليه بعد هذا أنه من ذريته ؟
فقرأ يحيى: ( وَأيّوب وَيوسفَ وَموسى وَهارونَ وَكذلِكَ نَجزي المُحسنينَ ) (7) .
قال يحيى: ومن ؟
قال: ( وَزكريا وَيَحيى وَعِيسى ) (:sunglasses: .
قال يحيى: ومن أين كان عيسى من ذرية إبراهيم عليه السلام ، ولا أب له ؟
قال: مِن قِبَل أُمّه مريم عليها السلام .
قال يحيى : فمن أقرب : مريم من إبراهيم عليه السلام أم فاطمة عليها السلام من محمد صلى الله عليه وآله؟ وعيسى من إبراهيم، أم الحسن والحسين عليهما السلام من رسول الله صلى الله عليه وآله؟
قال الشعبي: فكأنّما ألقمه حجراً .
سيف الحجاج
وأمام هذا الكلام الواضح المستند الى آيات من القرآن الكريم، شعر الحجاج بالحرج، وقال للرجل الجليل: أجلس يا يحيى فقد فاتني هذا الاستنباط. وسأل الحجاج يحيى، وربما كان يريد مداعبته، أتجدني ألحن في قولي يا بن يعمر؟ قال له الفقيه العظيم بلا خوف ولا خشية من جبروت الحجاج: نعم أيها الأمير، الحن في أي شيء؟ في كتاب الله، كيف؟ لقد قرأت بالمسجد الجامع: (قل ان كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وازواجكم وعشيرتكم، وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها، ومساكن ترضونها أحب اليكم) فضممت الياء وهي مفتوحة واغتاظ الحجاج وقال له: لا تساكن ببلد أنا فيه، فاذهب منفيا الى خراسان.
فقال: أطلقوه قبّحه الله ، وادفعوا إليه عشرة الآف درهم لا بارك الله له فيها .
ثمّ أقبل عليَّ فقال: قد كان رأيك صواباً ولكنّا أبيناه، ودعا بجزور فنحره وقام فدعا بالطعام فأكل وأكلنا معه، وما تكلّم بكلمة حتى افترقنا ولم يزل ممّا احتجّ به يحيى بن يعمر واجماً.
ذهب يحيى الى خراسان.. الى منفاه.. وهناك سأله بعض الخراسانيين: ألم تخش سيف الحجاج؟ قال يحيى: لقد ملأني خشية الله.. وخشية الله لا تدع مكانا لخشية إنسان.
آل البيت
يقول الشيخ أحمد حسن الباقوري تعليقا على هذه القصة:
هذا.. وان من الحق علينا لهذا الوطن أن ندون هنا ما كان يقول لنا شيوخنا من أن المسلم أمين على نسبه مهما ادعى انه ابن ملك مكرم، أو أمير معظم، أو نبي مرسل اذا كان النسب مهما شرف لا قيمة له في موازين التفاضل.. لا عند الله ولا عند الناس، وكانت قيمته النادرة بحسن الاعتبار، انه ينتهي عن الدنيا، فليزعم من شاء ما شاء من أرفع الأنساب وأشرفها
رابعا :
الشيخ أحمد الدردير وطلاقة قدرة الله في العطاء بالجهر بالحق :
الشيخ أحمد الدردير فقيه أصولي لغوي صوفي من أشهر علماء الإسلام وكتبه أكثر من عشرين وفي الفقه المالكي هي مراجع أساسية خصوصا أقرب المسالك لمذهب الإمام مالك "
" المورد البارق في الصلاة علي خير الخلائق "
" منظومة الأسماء الحسني"..
شرح مختصر خليل. الذي هو عمدة الفقه المالكي، أورد فيه خلاصة ما ذكره الأجهوري والزرقاني، واقتصر فيه على الراجح من الأقوال.
أقرب المسالك لمذهب الإمام مالك. متن في فقه المالكية فرغ من تأليفه سنة 1193هـ، وطبع بالقاهرة عام 1321هـ ثم تعددت طبعاته بعد ذلك.
ومن أشهر مواقفه المشهودة التي تواتر الخبر بها موقفه مع أحد الولاة العثمانيين والذي أراد فور تعيينه أن يكون الأزهر هو أول مكان يزوره حتى يستميل المشايخ لعلمه بقدرتهم على تحريك ثورة الجماهير في أي وقت شاءوا وعند حدوث أول مظلمة، فلمَّا دخل ورأى الإمام الدردير جالسًا مادًّا قدميه في الجامع الأزهر وهو يقرأ وردَهُ من القرآن غضب؛ لأنه لم يقم لاستقباله والترحيب به، وقام أحد حاشيته بتهدئة خاطره بأن قال له: إنه مسكين ضعيف العقل ولا يفهم إلا في كتبه يا مولانا الوالي. فأرسل إليه الوالي صرة نقود مع أحد الأرقاء فرفض الشيخ الدردير قبولها وقال للعبد «قل لسيدك من مدَّ رجليه فلا يمكن له أن يَمُدَّ يديه» فكان الشيخ قدوة في الحال والمقال.
خامسا :
كرامة ولي وطلاقة قدرة الله في العطاء
الكرامة ثابتة بالكتاب والسنة وهي أمر خارق للعادة يجريه الله علي يد ولي من أوليائه مصداقا لقوله تعالي :
" أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ "
وللحديث القدسي الذي أخرجه البخاري :
من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ،
- من كرامات الشيخ أحمد الدردير -رضي الله عنه-:
دبّر الوالي العثماني -قيل خسرو باشا- مكيدةً ليقتل الشيخ الدردير أو يحبسه على أقل تقدير، فأقام مأدبة في القلعة ودعا إليها العلماء والمماليك والوجهاء والفقراء، ونادى في الناس أن من تخلف عن دعوة الوالي فسوف يُعزّر ويجلد أمام العامة في ميدان الأزهر، وادَّعى أن رفض الدعوة أو قبولها مع عدم الأكل عصيانٌ لولي الأمر، كل ذلك وهو يَتَحَسَّب لرفض الشيخ الدردير الأكل، لعلمه أنه لا يأكل من طعام فيه شبهة، فقد كان معروفًا عنه أنه يتحرى الحلال في كل شىء،
فذهب الشيخ الدردير مع الناس، وجلس على المأدبة التي فيها الوالي، وجَعل مكانه أول مكان عن يمينه، فقعد -رحمه الله- والغضب بادٍ على وجهه وهو يدعو ويتمتم بكلام لا يسمعه أحد ..
فنظر إليه الوالي وعنّفه أمام الناس وقال: أتعصي ولي الأمر يا شيخ أحمد؟ أهكذا يأمركم القرآن والسنة؟ .. أهكذا تعلمتم من السادة العلماء وتعلّمون طلاب العلم عندكم؟
فأجابه سيدي أحمد رضي الله عنه: "والله لولا علمي بأني إن تخلفتُ فسيتخلف خَلْقٌ من الناس والطلاب وأتسبب في جلدهم، ما كنتُ لَبَّيْتُ دعوتكم ولا جلست على موائدكم، وأنتم تعرفون أني لا أحب القرب من السلاطين ولا العمل في الدواوين، ولا أحب أن آكل شيئا لا أعرف من أين اكتُسب ولا ممن أُخذ وغُصِب .."
فقال الوالي وقد أدرك أنه بلغ غايته من الشيخ، وأنه سوف يرتكب خطأ يسجن بسببه: أتزعم أن مالنا حرام يا شيخ أحمد , وليس لديك بيّـنة ولا دليل؟ .. هذا قذف للناس واتهام لضمائرهم، وأنتم معشر الفقهاء أعرف الناس بحكم القذف والتشهير ..
فأجابه الشيخ الدردير وقال على رؤوس الأشهاد: "إن كنت تريد دليلا فهاك الدليل .."
وأمسك رحمه الله تعالى في قبضته بحفنة من الأرز، أخذها من الطبق وعصرها، وقال: اللهم أظهر الدليل والحجة على عيون الناس .. فنزل منها دم كأنه دم إنسان.
هكذا يكون العلماء الربانيون الذين فهموا معني العطاء والمنع بأنه عطاء الآخرة من إيمان وعلم وصدع بالحق وليس بزخرف الدنيا الفاني الذي لايساوي جناح بعوضة !!
لسان حالهم :
( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا )
سادسا :
مالك بن دينار وفقه العطاء والمنع
مر مالك بن دينار يوماً فى السوق فرأى بائع تين
... ... فإشتاقت نفسه للتين ولم يكن يملك ثمنه فطلب إلى البائع أن يؤخره ( يدفع فى وقت آخر )
فرفض البائع فعرض مالك على البائع أن يرهن عنده حذائه مقابل هذا التين فرفض ثانية فإنصرف مالك وأقبل الناس على البائع بعدها وأخبروه ...
عن هوية المشترى فلما علم البائع أنه مالك بن دينار أرسل البائع بغلامه بعربة التين كلها لمالك بن دينار
وقال البائع لغلامه : إن قبلها منك فأنت حر لوجه الله وذهب الغلام إلى مالك ووضع الغلام فى باله أن يبذل قصارى جهده من أجل إقناع مالك أن يأخذ عربة التين كلها حتى ينال حريته
فإذا بمالك يقول له : اذهب إلى سيدك وقل له : إن مالك بن دينار لا يأكل التين بالدين وإن مالك بن دينار حرم على نفسه أكل التين إلى يوم الدين
قال الغلام : يا سيدى خذها فإن فيها عتقى
قال مالك : إن كان فيها عتقك فإن فيها رقى ( عبوديتى )
رأى مالك أن شهوته أذلته وأن بطنه أهانته فأدب نفسه وحرم عليها أكل التين
تهذيباً لها
الدرس المستفاد :- كيف لا نعزم هذه العزمة ونحن إستزلنا الشيطان وأخضعتنا الشهوات وسقطنا فى بئر الخطيئة !؟
كيف هان علينا أن نرى أنفسنا ذليلة مهينة دون أن نمد لها يد المساعدة وننتشلها من مستنقع الهوان !...
سابعا :
" ابن عطاء الله السكندري ومفهوم العطاء والمنع "
العَطاءُ مِنَ الخَلْقِ حِرْمانٌ. والمَنْعُ مِنَ اللهِ إِحسانٌ.
ألعطاء من الخلق حرمان للقلب من الاقبال على الخالق . مما يعزز في النفس الركون اليهم وبهذا يكون الاسترقاق . وكل ذلك نقص ونزول وتردي وهو عين الحرمان . حيث يحرم العبد من حياة قلبه بعدم الاقبال بكليته على ربه و الاسترقاق لغيره .
وقد أوصى أحد الصالحين تلنيذه فقال : إهرب من خير الناس أكثر مما تهرب من شرهم . فان خيرهم يصيبك في قلبك وشرهم يصيبك في بدنك ، ولَأن تُصاب َفي بدنك خير من أن تُصاب بقلبك، ولعدو تصل به الى ربك خير من حبيب يقطعك عن ربك .
ولقد قالوا : عز النزاهة أكمل من سرور الفائدة ، فان أنت تنزهت عما في أيدي الخلائق فانت عزيز غالب بقلبك وروحك ونفسك وذلك خير لك مما ستسر به نفسك من الاعطيات والهبات والتى ستؤول الى استرقاق للاخرين .. سلمنا الله واياكم..
أما المنع من الله تعالى ،فحقيقته عطاء ،ولكنه قد غيب عنك سره وحكمته .
وعلى العبد أن ينظر للمنع بعين الصبر كما أنه عليه أن ينظر للعطاء بعين الشكر ففي الحالين لا يرى فعالا الا الله قال صلى الله عليه وسلم : (عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير ، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن ؛ إن أصابته سرّاء شكر ؛ فكان خيراً له ، وإن أصابته ضرّاء صبر ؛ فكان خيراً له .)
وعلى العبد أن يرى العطاء من الخلق انما هو من الله تعالى وبان تَرُدَّ الاحسان باحسان حتى لا يرى احد الفضل عليك وحتى لا تستصغر نفسك بجنبه . وأن تدعوا له قال صلى الله عليه وسلم :(ومن آتى إليكم معروفا فكافئوه ، فإن لم تجدوا فادعوا الله له حتى تعلموا أن قد كافأتموه ..)
" طلاقة القدرة الإلهية في العطاء والمنع "
"مقدمة وبيان "
إن المتصفح لسير سلفنا الصالح يجد بأنهم لم يقيسوا العطاء والمنع بمفاهيم أهل الدنيا الزائلة الذين يظنون أن العطاء والمنع في المال والجاه والسلطان والمناصب وزخرف الدنيا وغرورها !!
وإنما العطاء والمنع عند الصالحين يكون في الإيمان والرضا وقول الحق ولوكان مرا والثبات علي الدين وعطاء الشجاعة بالصدع بالحق في وجوه الجبابرة والطغاة والظالمين حتي
لو كلف صاحبه روحه وحياته وحريته !!
وإليكم نماذج مضيئة في سماء طلاقة قدرة الله في العطاء والمنع
أولا:
" الحسن البصري وطلاقة قدرة الله في العطاء بكلمة الحق :
لما كان الحسن رضي الله عنه قد طلّق الدنيا برمتها ، وقد رخصت في عينه، فقد هان عنده كل شيء، فلم يكن يعبأ بحاكم ظالم، ولا أمير غاشم، و لا ذي سلطة متكبر، بل ما كان يخشى في الله لومة لائم، لسان حاله قوله تعالي :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)
قصة الحسن البصري مع الحجاج بن يوسف :
لما ولى الحجاج بن يوسف الثقفي العراق وزاد طغيانه وتجبره،
وقف الحسن البصرى وكذلك الكثير من علماء عصره في وجهه،
وتصدوا لقبيح أفعاله .. نرى ذلك عندما بنى الحجاج لنفسه بيتاً وقصراًمشيداً في واسط بينه بين البصرة والكوفة. فلما انتهى من بنائه أرادللناس أن يخرجوا إليه ليشاهدوا بهرجته وروعته، فلما علم الحسن
بذلك وجدها فرصة سانحة ليخرج إلى هذا الجمع الغفير من الناس فيعظهم ويذكرهم ويصرفهم عن تلك الزخارف المزيفة إلى روعة ماعند الله وكماله وبقائه، ويعظهم ألا يغتروا ببهجة الحياة الدنيا فلماخرج إليهم ورآهم يطوفون بذلك القصر المشيد مندهشين بروعة بنائه
وقف فيهم خطيباً وقال: (لقد نظرنا فيما أبتنى أخبث الأخبثين، فوجدنا
إن فرعون شيد أعظم مما شيد، وبنى أعلى مما بنى، ثم أهلك الله فرعون، وآتى على ما بنى وشيد .. ليت الحجاج يعلم أن أهل السماء قد مقتوه، وأن أهل الأرض قد غرّوه),
مضى على هذه الطريقة يفضح الحجاج، حتى أشفق عليه الحاضرون فقال قائلهم: حسبك يا أباسعيد، حسبك .. فقال له الحسن: لقد أخذ الله الميثاق على أهل العلم ليبيننه للناس ولا يكتمونه .. وفي اليوم التالي آتى الحجاج مجلسه وهو يشتاط غيظاً من الحسن وقال لجلسائه: (تبا لكم وسحقاً، يقوم عبدٌ من عبيد أهل البصرة ويقول فينا ما شاء أن يقول، ثم لا يجد فيكم من يرده أو ينكر عليه!! والله لأسقينكم من دمه يامعشر الجبناء), ثم أمر بالسيف والنطع فأحضرا، ودعا بالجلاد فمثل واقفا بين يديه، ثم أمر الشرط أن يأتوا به، فجاءوا بالحسن فارتجفت له القلوب خوفاً عليه, فلما رأى الحسن السيف والنطع والجلاد تحركت شفتاه، ثم توجه إلى الحجاج في عزة المؤمن الواثق بربه والذي يخشاه ولا يخشى أحداً إلا الله، وما أن رآه الحجاج حتى هابه ووقره وقال: ها هنا يا أبا سعيد، ها هنا, ثم مازال يوسع له ويقول: ها هنا والناس يندهشون للموقف، حتى أجلسه على فراشه وأخذ يسأله عن بعض أمور الدين، ويجيبه الحسن بعلمه الفياض ومنطقه العذب وهو ثابت صلب فقال له الحجاج: أنت سيد العلماء يا أبا سعيد, ثم طيب له لحيته بأغلى أنواع الطيب وودعه ولما خرج تبعه حاجب الحجاج وقال له: يا أبا سعيد، لقد دعاك الحجاج لغير ما فعل بك، وأنى رأيتك عندما أقبلت، ورأيت السيف والنطع،
حركت شفتيك فماذا قلت؟
قال : قلت
يا ولى نعمتي، وملاذي عند كربتي،
اجعل نقمته برداً وسلاماً علىَّ كما جعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم ..
وعندما بلغه خبر مقتل سعيد بن جبير فدعا على الحجاج [اللهم يا قاصم الجبابرة اقسم الحجاج] فمات الحجاج بعد ثلاثة أيام .
ثانيا :
بين الحسن البصري والشعبي وطلاقة قدرة الله في العطاء والمنع بكلمة الحق " فلقد أعطي الحسن البصري ومنع الشعبي
موقفه مع عمر بن هبيرة وعطاء الحسن في الصدع بكلمة الحق ومنع الشعبي :
ولما ولي عمر بن هبيرة الفزاري العراق وأضيفت إليه خراسان وذلك في أيام يزيد بن عبد الملك؛ استدعى الحسن البصري الشعبي وذلك في سنة ثلاث ومائة فقال لهم: إن يزيد خليفة الله استخلفه على عباده، وأخذ عليهم الميثاق بطاعته، وأخذ عهدنا بالسمع والطاعة، وقد ولاني ما ترون فيكتب إلي بالأمر من أمره فأقلده ما تقلده من ذلك الأمر فما ترون؟
فقال الشعبي قولاً لينا فيه ملاطفة.
فقال ابن هبيرة: ما تقول يا حسن؟ فقال: يا ابن هبيرة، خف الله في يزيد، ولا تخف يزيد في الله، إن الله يمنعك من يزيد وإن يزيد لا يمنعك من الله، وأوشك أن يبعث إليك ملكًا فيزيلك عن سريرك ويخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك ثم لا ينجيك إلا عملك، يا ابن هبيرة، إن تعص الله فإنما جعل الله هذا السلطان ناصرًا لدين الله وعباده؛ فلا تركبن دين الله وعباده بسلطان الله فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فبكى ابن هبيرة حتى بللت دموعه لحيته
وبالغ ابن هبيرة في إكرام الحسن وإعظامه ، ومال عن الشعبي .
فلما خرجا من عنده, توجَّها إلى المسجد، فاجتمع الناسُ عليهما، وجعلوا يسألونهما عن خبرَيْهِما مع أمير العراقين, فالتفت الشعبي إليهم, وقال:
أيها الناسُ من استطاع منكم أن يؤثر اللهَ عز وجل على خلقه في كل مقام فليفعل، فو الذي نفسي بيده, ما قال الحسنُ لعمر بن هبيرة: قولا أجهله, ولكنني أردتُ فيما قلت: وجهَ ابن هبيرة، وأراد فيما قاله: وجهَ الله، فأقصاني اللهُ من ابن هبيرة, وأدناه منه, وحبَّبه إليه، فمَن أرضى الناسَ بسخط الله, سخِط عنه اللهُ، وأسخطَ عنه الناسَ، ومَن أرضى اللهَ بسخط الناس, رضيَ عنه اللهُ، وأرضى عنه الناسَ) .
ثالثا :
" يحي بن يعمر أحد الذين ينسب لهم وضع النقاط فوق الحروف في القرآن وطلاقة قدرة الله في المنافحة عن آل بيت النبي صلي الله عليه وسلم بالعلم الساطع والدليل القاطع "
من هو يحي بن يعمر ؟
هو أبو سليمان، وقيل أبو سعيد، يحيى بن يعمر العدواني الوشقي النحوي البصري؛ كان تابعياً، لقي عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس، رضي الله عنهم، ولقي غيرهما، وروى عنه قتادة بن دعامة السدوسي وإسحاق بن سويد العدوي. وهو أحد قراء البصرة، وعنه أخذ عبد الله بن أبي إسحاق القراءة، وانتقل إلى خراسان، وتولى القضاء بمرو، وكان عالماً بالقرآن الكريم والنحو ولغات العرب وأخذ النحو عن أبي الأسود الدؤلي -
قال الشعبي: كنت بواسط ، وكان يوم أضحى، فحضرت صلاة العيد مع الحجاج ، فخطب خطبةً بليغة، فلما انصرف جائني رسوله فأتيته، فوجدته جالساً مستوفزاً، قال: يا شعبي هذا يوم أضحى، وقد أردت أن أضحي برجل من أهل العراق، وأحببت أن تسمع قوله، فتعلم أني قد أصبت الرأي فيما أفعل به.
فقلت: أيها الاَمير، لو ترى أن تستن بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله ، وتضحي بما أمر أن يضحي به، وتفعل فعله، وتدع ما أردت أن تفعله به في هذا اليوم العظيم إلى غيره.
فقال: يا شعبي، إنك إذا سمعت ما يقول صوبت رأيي فيه، لكذبه على الله وعلى رسوله، وإدخاله الشبهة في الاسلام .
قلت: أفيرى الاَمير أن يعفيني من ذلك ؟
قال : لا بدّ منه .
ثم أمر بنطع فبسط، وبالسيَّاف فأُحضر، وقال: أحضروا الشيخ، فأتوه به، فإذا هو يحيى بن يعمر ، فأغممت غماً شديداً، فقلت في نفسي: وأي شيء يقوله يحيى مما يوجب قتله؟
فقال له الحجاج: أنت تزعم أنك زعيم أهل العراق ؟
قال يحيى: أنا فقيه من فقهاء أهل العراق.
قال: فمن أي فقهك زعمت أن الحسـن والحسـين عليهما السلام من ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله .
قال: ما أنا زاعم ذلك، بل قائل بحق.
قال: وبأي حق قلت؟
قال: بكتاب الله عز وجل.
فنظر إليَّ الحجاج، وقال: اسمع ما يقول، فإن هذا مما لم أكن سمعته عنه، أتعرف أنت في كتاب الله عز وجل أن الحسن والحسين من ذرية محمد رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ فجعلت أفكر في ذلك، فلم أجد في القرآن شيئاً يدل على ذلك.
وفكر الحجاج ملياً ثم قال ليحيى: لعلك تريد قول الله عز وجل: ( فَمَنْ حَاجَّكَ فيهِ مِنْ بَعْدِمَا جَاءَكَ مِنَ العِلمِ فَقُلْ تَعَالَوا نَدْعُ أَبناءَنا وَأَبْنَاءَكم وَنِساءَنا ونِساءَكُم وأنفُسَنا وأنفُسَكُم ثُمَّ نَبتَهل فَنَجعَل لَعنةَ اللهِ على الكاذبينَ )
وأن رسول الله صلى الله عليه وآله خرج للمباهلة ومهه علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام .
قال الشعبي: فكأنما أهدى لقلبي سروراً، وقلت في نفسي: قد خلص يحيى، وكان الحجاج حافظاً للقرآن .
فقال له يحيى: والله، إنها لحجة في ذلك بليغة، ولكن ليس منها أحتج لما قلت.
فاصفرَّ وجه الحجاج، وأطرق ملياً ثم رفع رأسه إلى يحيى وقال: إن جئت من كتاب الله بغيرها في ذلك، فلك عشرة آلاف درهم، وإن لم تأت بها فأنا في حلٍ من دمك .
قال: نعم .
قال الشعبي: فغمني قوله فقلت: أما كان في الذي نزع به الحجاج ما يحتج به يحيى ويرضيه بأنه قد عرفه وسبقه إليه، ويتخلص منه حتى رد عليه وأفحمه، فإن جاءه بعد هذا بشيء لم آمن أن يدخل عليه فيه من القول ما يبطل حجته لئلا يدعي أنه قد علم ما جهله هو .
فقال يحيى للحجاج: قول الله عزّ وجلّ ( وَمِن ذُرِّيتهِ دَاوُدَ وَسليمانَ ) من عنى بذلك ؟
قال الحجاج: إبراهيم عليه السلام .
قال: فداود وسليمان من ذريته ؟
قال: نعم .
قال يحيى: ومن نص الله عليه بعد هذا أنه من ذريته ؟
فقرأ يحيى: ( وَأيّوب وَيوسفَ وَموسى وَهارونَ وَكذلِكَ نَجزي المُحسنينَ ) (7) .
قال يحيى: ومن ؟
قال: ( وَزكريا وَيَحيى وَعِيسى ) (:sunglasses: .
قال يحيى: ومن أين كان عيسى من ذرية إبراهيم عليه السلام ، ولا أب له ؟
قال: مِن قِبَل أُمّه مريم عليها السلام .
قال يحيى : فمن أقرب : مريم من إبراهيم عليه السلام أم فاطمة عليها السلام من محمد صلى الله عليه وآله؟ وعيسى من إبراهيم، أم الحسن والحسين عليهما السلام من رسول الله صلى الله عليه وآله؟
قال الشعبي: فكأنّما ألقمه حجراً .
سيف الحجاج
وأمام هذا الكلام الواضح المستند الى آيات من القرآن الكريم، شعر الحجاج بالحرج، وقال للرجل الجليل: أجلس يا يحيى فقد فاتني هذا الاستنباط. وسأل الحجاج يحيى، وربما كان يريد مداعبته، أتجدني ألحن في قولي يا بن يعمر؟ قال له الفقيه العظيم بلا خوف ولا خشية من جبروت الحجاج: نعم أيها الأمير، الحن في أي شيء؟ في كتاب الله، كيف؟ لقد قرأت بالمسجد الجامع: (قل ان كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وازواجكم وعشيرتكم، وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها، ومساكن ترضونها أحب اليكم) فضممت الياء وهي مفتوحة واغتاظ الحجاج وقال له: لا تساكن ببلد أنا فيه، فاذهب منفيا الى خراسان.
فقال: أطلقوه قبّحه الله ، وادفعوا إليه عشرة الآف درهم لا بارك الله له فيها .
ثمّ أقبل عليَّ فقال: قد كان رأيك صواباً ولكنّا أبيناه، ودعا بجزور فنحره وقام فدعا بالطعام فأكل وأكلنا معه، وما تكلّم بكلمة حتى افترقنا ولم يزل ممّا احتجّ به يحيى بن يعمر واجماً.
ذهب يحيى الى خراسان.. الى منفاه.. وهناك سأله بعض الخراسانيين: ألم تخش سيف الحجاج؟ قال يحيى: لقد ملأني خشية الله.. وخشية الله لا تدع مكانا لخشية إنسان.
آل البيت
يقول الشيخ أحمد حسن الباقوري تعليقا على هذه القصة:
هذا.. وان من الحق علينا لهذا الوطن أن ندون هنا ما كان يقول لنا شيوخنا من أن المسلم أمين على نسبه مهما ادعى انه ابن ملك مكرم، أو أمير معظم، أو نبي مرسل اذا كان النسب مهما شرف لا قيمة له في موازين التفاضل.. لا عند الله ولا عند الناس، وكانت قيمته النادرة بحسن الاعتبار، انه ينتهي عن الدنيا، فليزعم من شاء ما شاء من أرفع الأنساب وأشرفها
رابعا :
الشيخ أحمد الدردير وطلاقة قدرة الله في العطاء بالجهر بالحق :
الشيخ أحمد الدردير فقيه أصولي لغوي صوفي من أشهر علماء الإسلام وكتبه أكثر من عشرين وفي الفقه المالكي هي مراجع أساسية خصوصا أقرب المسالك لمذهب الإمام مالك "
" المورد البارق في الصلاة علي خير الخلائق "
" منظومة الأسماء الحسني"..
شرح مختصر خليل. الذي هو عمدة الفقه المالكي، أورد فيه خلاصة ما ذكره الأجهوري والزرقاني، واقتصر فيه على الراجح من الأقوال.
أقرب المسالك لمذهب الإمام مالك. متن في فقه المالكية فرغ من تأليفه سنة 1193هـ، وطبع بالقاهرة عام 1321هـ ثم تعددت طبعاته بعد ذلك.
ومن أشهر مواقفه المشهودة التي تواتر الخبر بها موقفه مع أحد الولاة العثمانيين والذي أراد فور تعيينه أن يكون الأزهر هو أول مكان يزوره حتى يستميل المشايخ لعلمه بقدرتهم على تحريك ثورة الجماهير في أي وقت شاءوا وعند حدوث أول مظلمة، فلمَّا دخل ورأى الإمام الدردير جالسًا مادًّا قدميه في الجامع الأزهر وهو يقرأ وردَهُ من القرآن غضب؛ لأنه لم يقم لاستقباله والترحيب به، وقام أحد حاشيته بتهدئة خاطره بأن قال له: إنه مسكين ضعيف العقل ولا يفهم إلا في كتبه يا مولانا الوالي. فأرسل إليه الوالي صرة نقود مع أحد الأرقاء فرفض الشيخ الدردير قبولها وقال للعبد «قل لسيدك من مدَّ رجليه فلا يمكن له أن يَمُدَّ يديه» فكان الشيخ قدوة في الحال والمقال.
خامسا :
كرامة ولي وطلاقة قدرة الله في العطاء
الكرامة ثابتة بالكتاب والسنة وهي أمر خارق للعادة يجريه الله علي يد ولي من أوليائه مصداقا لقوله تعالي :
" أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ "
وللحديث القدسي الذي أخرجه البخاري :
من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ،
- من كرامات الشيخ أحمد الدردير -رضي الله عنه-:
دبّر الوالي العثماني -قيل خسرو باشا- مكيدةً ليقتل الشيخ الدردير أو يحبسه على أقل تقدير، فأقام مأدبة في القلعة ودعا إليها العلماء والمماليك والوجهاء والفقراء، ونادى في الناس أن من تخلف عن دعوة الوالي فسوف يُعزّر ويجلد أمام العامة في ميدان الأزهر، وادَّعى أن رفض الدعوة أو قبولها مع عدم الأكل عصيانٌ لولي الأمر، كل ذلك وهو يَتَحَسَّب لرفض الشيخ الدردير الأكل، لعلمه أنه لا يأكل من طعام فيه شبهة، فقد كان معروفًا عنه أنه يتحرى الحلال في كل شىء،
فذهب الشيخ الدردير مع الناس، وجلس على المأدبة التي فيها الوالي، وجَعل مكانه أول مكان عن يمينه، فقعد -رحمه الله- والغضب بادٍ على وجهه وهو يدعو ويتمتم بكلام لا يسمعه أحد ..
فنظر إليه الوالي وعنّفه أمام الناس وقال: أتعصي ولي الأمر يا شيخ أحمد؟ أهكذا يأمركم القرآن والسنة؟ .. أهكذا تعلمتم من السادة العلماء وتعلّمون طلاب العلم عندكم؟
فأجابه سيدي أحمد رضي الله عنه: "والله لولا علمي بأني إن تخلفتُ فسيتخلف خَلْقٌ من الناس والطلاب وأتسبب في جلدهم، ما كنتُ لَبَّيْتُ دعوتكم ولا جلست على موائدكم، وأنتم تعرفون أني لا أحب القرب من السلاطين ولا العمل في الدواوين، ولا أحب أن آكل شيئا لا أعرف من أين اكتُسب ولا ممن أُخذ وغُصِب .."
فقال الوالي وقد أدرك أنه بلغ غايته من الشيخ، وأنه سوف يرتكب خطأ يسجن بسببه: أتزعم أن مالنا حرام يا شيخ أحمد , وليس لديك بيّـنة ولا دليل؟ .. هذا قذف للناس واتهام لضمائرهم، وأنتم معشر الفقهاء أعرف الناس بحكم القذف والتشهير ..
فأجابه الشيخ الدردير وقال على رؤوس الأشهاد: "إن كنت تريد دليلا فهاك الدليل .."
وأمسك رحمه الله تعالى في قبضته بحفنة من الأرز، أخذها من الطبق وعصرها، وقال: اللهم أظهر الدليل والحجة على عيون الناس .. فنزل منها دم كأنه دم إنسان.
هكذا يكون العلماء الربانيون الذين فهموا معني العطاء والمنع بأنه عطاء الآخرة من إيمان وعلم وصدع بالحق وليس بزخرف الدنيا الفاني الذي لايساوي جناح بعوضة !!
لسان حالهم :
( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا )
سادسا :
مالك بن دينار وفقه العطاء والمنع
مر مالك بن دينار يوماً فى السوق فرأى بائع تين
... ... فإشتاقت نفسه للتين ولم يكن يملك ثمنه فطلب إلى البائع أن يؤخره ( يدفع فى وقت آخر )
فرفض البائع فعرض مالك على البائع أن يرهن عنده حذائه مقابل هذا التين فرفض ثانية فإنصرف مالك وأقبل الناس على البائع بعدها وأخبروه ...
عن هوية المشترى فلما علم البائع أنه مالك بن دينار أرسل البائع بغلامه بعربة التين كلها لمالك بن دينار
وقال البائع لغلامه : إن قبلها منك فأنت حر لوجه الله وذهب الغلام إلى مالك ووضع الغلام فى باله أن يبذل قصارى جهده من أجل إقناع مالك أن يأخذ عربة التين كلها حتى ينال حريته
فإذا بمالك يقول له : اذهب إلى سيدك وقل له : إن مالك بن دينار لا يأكل التين بالدين وإن مالك بن دينار حرم على نفسه أكل التين إلى يوم الدين
قال الغلام : يا سيدى خذها فإن فيها عتقى
قال مالك : إن كان فيها عتقك فإن فيها رقى ( عبوديتى )
رأى مالك أن شهوته أذلته وأن بطنه أهانته فأدب نفسه وحرم عليها أكل التين
تهذيباً لها
الدرس المستفاد :- كيف لا نعزم هذه العزمة ونحن إستزلنا الشيطان وأخضعتنا الشهوات وسقطنا فى بئر الخطيئة !؟
كيف هان علينا أن نرى أنفسنا ذليلة مهينة دون أن نمد لها يد المساعدة وننتشلها من مستنقع الهوان !...
سابعا :
" ابن عطاء الله السكندري ومفهوم العطاء والمنع "
العَطاءُ مِنَ الخَلْقِ حِرْمانٌ. والمَنْعُ مِنَ اللهِ إِحسانٌ.
ألعطاء من الخلق حرمان للقلب من الاقبال على الخالق . مما يعزز في النفس الركون اليهم وبهذا يكون الاسترقاق . وكل ذلك نقص ونزول وتردي وهو عين الحرمان . حيث يحرم العبد من حياة قلبه بعدم الاقبال بكليته على ربه و الاسترقاق لغيره .
وقد أوصى أحد الصالحين تلنيذه فقال : إهرب من خير الناس أكثر مما تهرب من شرهم . فان خيرهم يصيبك في قلبك وشرهم يصيبك في بدنك ، ولَأن تُصاب َفي بدنك خير من أن تُصاب بقلبك، ولعدو تصل به الى ربك خير من حبيب يقطعك عن ربك .
ولقد قالوا : عز النزاهة أكمل من سرور الفائدة ، فان أنت تنزهت عما في أيدي الخلائق فانت عزيز غالب بقلبك وروحك ونفسك وذلك خير لك مما ستسر به نفسك من الاعطيات والهبات والتى ستؤول الى استرقاق للاخرين .. سلمنا الله واياكم..
أما المنع من الله تعالى ،فحقيقته عطاء ،ولكنه قد غيب عنك سره وحكمته .
وعلى العبد أن ينظر للمنع بعين الصبر كما أنه عليه أن ينظر للعطاء بعين الشكر ففي الحالين لا يرى فعالا الا الله قال صلى الله عليه وسلم : (عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير ، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن ؛ إن أصابته سرّاء شكر ؛ فكان خيراً له ، وإن أصابته ضرّاء صبر ؛ فكان خيراً له .)
وعلى العبد أن يرى العطاء من الخلق انما هو من الله تعالى وبان تَرُدَّ الاحسان باحسان حتى لا يرى احد الفضل عليك وحتى لا تستصغر نفسك بجنبه . وأن تدعوا له قال صلى الله عليه وسلم :(ومن آتى إليكم معروفا فكافئوه ، فإن لم تجدوا فادعوا الله له حتى تعلموا أن قد كافأتموه ..)
25/11/2024, 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
25/11/2024, 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
25/11/2024, 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
25/11/2024, 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
25/11/2024, 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
25/11/2024, 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin