فنُّ التوحيد: التجريد
د. ثريَّا بن مسمية
مقدِّمة:
لمَّا كان التصوُّف يروم أن يكون تجربة في الوجود، فإنَّه لم يعدم التوسُّل للتعبير عن حقائقه بوسائل تعبيريَّة تفيض بالجماليَّة والروحانيَّة. ومن هذه الأساليب الأصوات الجميلة البادية في الأناشيد الدينيَّة والرسوم الأخَّاذة الظاهرة في النقاط والخطوط المُحاكِية لأشكال الأجرام السابحة في الأفلاك. والحروف السَّاحرة بزخرفتها الرَّامزة إلى توحِّد الأنفس مع المطلق الكونيّْ. وهو ضرب من التعالي الباعث على النشوة ما يجعله يلتقي رأساً بعوالم الفنِّ الحديث، حيث الطهارة والتزكية والصفاء.
تتعاطى الروح الصوفيَّة مع تقنيَّات الفنون التشكيليَّة المركَّزة على المحسوسات الّتي تفيض بالمضامين الغيبيَّة وهو عين التجريد. وعليه، عجَّ عالم التصوُّف بالبصريَّات التي تروم عالم الخيال، وتنشد رؤية نحتيَّة متعدِّدة الأبعاد: قداسة وجمالاً، حيث التفاعل الدائم بين عالمَيْ الشَّهادة والغيْب، إذ العيْن المجرَّدة وحدها لا تدرك أقصى الحقائق الفنيَّة وإنَّما ذاك هو عالم العقل الباطنيِّ أو الفؤاد. فلا غرو، حينئدٍ، أن يثير الفنُّ الصوفيُّ الحواسَّ أوَّلاً، ويعانق عوالم المُثُل ثانياً.
وعليه، فإنَّ فرضيَّة هذا البحث تتمثَّل في اعتبار أنَّ وجه الفنِّ الصوفيِّ هو التوحيد، ويتجلَّى في التجريد. ويبدو أنَّ ترشيح المنهج التحليليِّ المقارن هو الحلُّ الأوفق لخوض الحديث عن المغامرة الفنيَّة الصوفيَّة، بدءاً بتسليط الضوء على تاريخيَّة مفهوم التجريد.
1– التَّجريد في ضوء التاريخ:
تُعتبر “التجريديَّة” اصطلاحاً فنيَّاً حديثاً، ظهر بصفة جليَّة مع الاتجاهات الفنيَّة التي برزت في أواخر القرن الماضي، فلا وجود لهذا الاصطلاح في التأريخ الفنيِّ العربيِّ الإسلاميِّ، لذلك فالتجريد في فنِّ الرَّسم المعاصر له أصوله وأشكاله الإستيطيقيَّة في حين أنَّه في الفنِّ الإسلامي كان يُعتبر ضرورة روحانيَّة أكثر منها ضرورة إستيطيقيَّة. ونقصد بذلك أنَّ هذه الظاهرة في فنِّ الرَّسم الإسلاميِّ كانت تتمظهر من خلال الأشكال الزخرفيَّة التجريديَّة.
بصفة عامَّة، يُعتبر التجريد أنسب الأساليب للتعبير عن القيم الروحيَّة، فليس هناك أسلوب أنسب منه للتعبير عن أفكار تتعلَّق بالمطلق والروحانيِّ والصوفيِّ والباطنيِّ والعرفانيّْ. ولعلَّه لهذا السبب بالذَّات لجأ الفنَّان المسلم إلى صيغ هندسيَّة تجريديَّة لإظهار رؤيته للعالم والإنسان، فاستخدم الخطَّ والأشكال الزخرفيَّة داخل المساحة التشكيليَّة، مبتعداً بذلك عن مُحاكاة الواقع المرئيِّ ليبتدع بمخيَّلته فضاء إستيطيقيَّاً بأشكال هندسيَّة تعتمد الخطَّ والفراغ كأساليب إبداع فنيّْ. وتُعدُّ حركة الخطِّ داخل المساحة الزخرفيَّة أهمَّ عناصر هذا الإبداع التشكيليِّ بفضل تداخل الأشكال الهندسيَّة الخطّيَّة وتشابكها.
من هنا، فالتّجريد الخطّي هو بدايات التجريديَّة لكنَّه لم يكن حركة منظَّمة بقدر ما كان أحد الأساليب التعبيريَّة التي اعتمدها الفنَّان المسلم لتوضيح عقيدته، فلم تكن الزخارف التي حُلِّيت بها المساجد مجرَّد أشكال زخرفيَّة لا طائل من ورائها سوى ما تمنحه لمشاهدها من قيمة جماليَّة حسِّيَّة، بل كانت لها مضامينها الروحيَّة النابعة من التصوُّرات الأساسيَّة للإنسان المسلم في ما يختصُّ بالكون والله والإنسان.
في هذا المجال، يؤكِّد ميشال راغون في كتابه “مغامرة الفنِّ التجريديِّ”[1] أنَّ هذا الفنَّ بدأ مع الإنسان وتأكَّد مع الفنِّ الإسلاميِّ حيث يقول: “قد يكون نسبيَّاً من السَّهل أن نبيِّن أنَّ الفنَّ التجريديَّ كان موجوداً منذ القِدَم، وأن نبرز تطوُّره منذ ما قبل التاريخ إلى حدِّ يومنا هذا بالتأكيد على الفنون الإسلاميَّة الهندسيَّة”[2].
ونلفت هنا أنَّ الفنَّ التجريديَّ الإسلاميَّ سُمِّي “بالرَّقش” العربيِّ من خلال العناصر الخطِّيَّة المصوَّرة أو المحفورة في الجصِّ والحجر والخشب. وهو إذ يحاكي الطّبيعة يحاول دوماً اعتماد دلالات مجرَّدة، فلا يقدِّم إلاَّ الرمزيَّ من الوسائل التعبيريَّة ليحقِّق عالما فنيَّاً لا صوريَّاً، يفقد فيه الخطُّ قيمته الذاتيَّة ليتحوَّل إلى عنصر تأليف للزُّخرف، يزخر بمناخات روحانيَّة صوفيَّة. وتظهر الأعمال الزخرفيَّة الإسلاميَّة على أنَّها أشكال هندسيَّة ثابتة، لكنَّها تتحوَّل بفعل الإبداع في بنائها. فتلك الأشكال المتداخلة أو المتراكمة تدور وتُحاك كخيالات ضبابيَّة، وقد يضاعف من قوَّة هذه الإيهامات البصريَّة أثر النُّور والظلِّ الذي يكسب المساحة المزخرفة قيمة تشكيليَّة جديدة، ويحوِّلها إلى صفحة متحرِّكة.
لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ هذا الفنَّ ارتبط بمختلف أنواع الحرف، إلى جانب ارتباطه بفنِّ العمارة. فكانت علاقته بها علاقة عضويَّة، إذ تكاد الرُّسوم الزخرفيَّة تغطِّي كامل جدران البناء والسُّقوف. وبهذا يمكننا القول أنَّ بدايات التجريد كانت مع فنِّ الخطِّ والزخرف لأنَّ هذا الشَّكل الفنِّيِّ أراد التعبير عن المطلق فلم يجد أسلوباً يتَّفق وهذا البعد الروحيَّ سوى الأسلوب التجريديِّ لذا يؤكِّده ميشال راغون بقول: ” إذا كان الفنُّ التجريديُّ يتمظهر بما هو فنٌّ جديد فلأنَّ ازدهار هذه الحركة الإستيطيقيَّة قد تأخَّر”[3].
ولكن رغم أنَّ التجريديَّة في الفنِّ تعني الاستغناء عن نقل صور الأشياء المرئيّة في فضاء العمل الفنّي وتعويضها بأشكال وخطوط لا تحتفظ المخيّلة بمرجعيّات لها سوى أنّها أشكال حاملة لهويّتها الخاصّة ولا تدلّ إلاّ على نفسها، فإنَّ المجازفة في مساواة التجريديَّة في فنِّ الرَّسم الحديث بالتجريديِّ في الفنِّ العربيِّ يأخذ بظاهر الأشياء، أو لعلَّه ينمُّ عن توجُّه سطحيٍّ في فهم جماليَّات هذا الفنِّ وخصائص التجريد في الفنِّ الحديث، فكلُّ من الفنَّين مستقلٌّ بذاته ذو منطق وفلسفة يحكمانه ويحدِّدان خصائصه وأساليبه ومساره الإبداعيّْ. فحتى وإن كانت التجريديَّة كمثال فنيٍّ معاصر لها أشكال أو بدايات تخرج عن الطابع الأكاديميِّ المعاصر فيلزمنا البحث في الأصل الاصطلاحيِّ للفظ التجريد داخل منظومة خاصَّة باللُّغة العربيَّة الإسلاميَّة، لنجد اصطلاحاً يكون أكثر دقَّة وتناسُباً وتناسُقاً مع هذا الإطار اللُّغويُّ في اللّسان العربي. ولعلَّنا بهذا سنراجع بالضرورة قولة الغزالي في كتابه “إحياء علوم الدِّين” في معرض حديثه عن الجمال بقوله:”إنَّ الجمال ينقسم إلى جمال الصورة الظَّاهرة المدرَكة بعين الرَّأس، وإلى جمال الصورة الباطنة المدرَكة بعين القلب ونور البصيرة، والأوَّل يدركه الصبيان والبهائم، والثاني يختصُّ بإدراكه أرباب القلوب، ولا يشاركهم فيه من لا يعلم إلاَّ ظاهراً من الحياة الدُّنيا”[4].
ولمزيد من التوضيح، يُضيف: “فمن رأى حسن نقش النقَّاش وبناء البنَّاء، انكشف له من هذه الأفعال صفاتها الجميلة الباطنة التي يرجع حاملها عند البحث إلى العلم والقدرة”[5].
على هذا الأساس، يكون الجمال الفنِّيُّ الحقُّ هو الجمال الباطن أي الجمال المدرَك بالبصيرة المتجاوِز للموضوعات العرَضيَّة والمظاهر الطّبيعيَّة ليتمثَّل الشَّكل المطلق والمبدأ القارَّ، فتكون صوره معاني عبر أشكاله التجريديَّة ذات الموضوع “الأحاديّْ”. وبهذا نقول إنَّ هذا الشكل الفنيَّ جعل التجريد ينبني على قاعدة أساسيَّة وهي غياب الصورة لإبراز المعنى، وغياب الموضوع لإبراز الشكل، وهذا الأساس في الفنِّ اعتُمد منهجاً تجريديَّاً فنيَّاً هو أقرب في التسمية إلى “التوحيد” منه إلى “التجريد”، ذلك أنَّ الفنَّان العربيَّ المسلم هو بالضرورة “موحِّد”، وبالتَّالي فإنَّ إنتاجه الفنيَّ سيكون بالضرورة فنَّاً مُوحِّداً.
بناءً على هذه الصورة، قد نصف التجريد في الفنِّ العربيِّ الإسلاميِّ بـ”التوحيد” مقارنة بالتجريديَّة في الفنِّ الحديث، ذلك لأنَّه يجعل من الشيئيْن شيئاً واحداً، ومن الوجوديْن وجوداً واحداً، ولأنَّه عندما ينفي الغير ينفي نفسه أيضاً، وستحلُّ مكان هذا النفي الانطباعة وضروب الصِّراع. وعليه، فليس للفنَّان وجود مميَّز أو حضور خاصٌّ في العمل الفنيِّ لناحية الخصوصيَّة الفرديَّة، كما أنَّ العمل الفنيَّ يشهد على الذوق، والتقنيَّة، والمهارة، والعقل، والقدرة كصفات إنسانيَّة عامَّة، ولكن يُنظَر إليها كهبة من الخالق، ولا يشهد البتَّة على “الأنا” الفنَّان لناحية العواطف والمشاعر والمزاج والمعاناة بما هي صفات فرديَّة وشخصيَّة 2– الفنُّ في الفضاء الإسلاميّْ:
من المفيد القول أنَّ للفنِّ الإسلاميِّ فكره الخاصَّ والنَّابع من عقيدة التوحيد التي يعرِّفها ابن عربي بقوله:” التوحيد علم، ثمَّ حال، ثمَّ علم، فالعلم الأوَّل توحيد الدليل وهو توحيد العامَّة، وأعني بالعامَّة علماء الرَّسوم، وتوحيد الحال، أن يكون الحقُّ نعتك، فيكون هو لا أنت في أنت. والعلم الثّاني بعد الحال توحيد المشاهدة، فنرى الأشياء من حيث الوحدانيَّة فلا نرى إلاَّ الواحد وبتجلِّيه في المقامات يكون الوجدان والعالم كله وجدان”.[6]
والواقع أنَّ الأخذ بمنطق ابن عربي يفضي إلى استجلاء وهميَّة الظَّاهر وعرَضيَّته، وإلى حقيقة الباطن وجوهريَّته. فالتوحيد إثبات القِدَم وإسقاط الحدث. من هذه المنطلقات، لا يمكن الإنسان الفنّان أن يكون مركز الكون، لذا فانشغال الفنان العربيِّ الموحِّد سيختلف شديد الاختلاف عن الفنَّان التجريديِّ الحديث. ولعلَّ أبا سعيد العوني يحسم هذه المسألة بقوله:” التصوُّف ترك النَّافل ولا شيء بنافل أكثر من “أناك”، إنَّك ما اشتغلت بذاتك إلاَّ وبعُدت عن الله، وحينما توجد “أناك” فإنَّ كلَّ شيء جحيم، وحينما لا توجد “أناك” فكلُّ شيء “نعيم”.[7]
هذا المنطق التوحيديُّ سيفرض على الرَّسام رفع صفات ذاته وتغييبها، فطريقه طريق استجابة والتقاط لا طريق معاناة وصراع مع الذّات وكشف عن خباياها. وبتغييب ذات الفنَّان شهادة على كمال الخالق، فلا أبلغ في نعت هذا الأسلوب الفنِّيِّ بفنِّ “التوحيد” موازاة أو مقابلة بـ ‘التجريد”.
ولعلَّ مشروعيَّة اعتبارنا كلمة أو صفة “التوحيد” هي أقرب من صفة “التجريد” بالنسبة إلى هذا الشكل الفنيِّ العربيِّ الإسلاميِّ تنبع من أنَّ هذه الصفة تنخرط بالضرورة انخراطاً إيجابيَّاً ضمن كامل المنظومة العربيَّة الإسلاميَّة. فوصفنا للفنِّ العربيِّ الإسلاميِّ بالفنِّ “التوحيديِّ” هو من حيث المنطق أقوم تاريخيَّاً، ثمَّ معجميَّاً أكثر تناسباً لهذه المنظومة العربيَّة الإسلاميَّة. ويعتبر تعريف ابن عربي لهذه الكلمة في كتابه “التجلِّيات” تأكيداً يبيِّن صحَّة هذا المسار والاختيار، إذ يقول إنَّه: « نفي الإثنينيَّة في الوجود. “التّوحيد” فناؤك عنك، وعنه، وعن الكون، وعن الفنَّان، فالبحث به، فإنَّ كل ما سوى الحقِّ، مائل ولا يقيمه إلاَّ هو، ولا إقامة إلاَّ بالتوحيد، فمن أقام فهو صاحب التوحيد. و”التّوحيد” أن يكون هو النَّاظر وهو المنظور»[8].
على هذا الأساس، يمكن القول أنَّه تجاوز للظَّاهريِّ والعرَضيِّ، للأفعال والصفات للوصول إلى حقيقة الباطن والجوهر. وقياساً على ذلك، فإنَّ وظيفة الفنَّان المسلم في كلِّ الفنون منها الرَّقش، الزَّخرفة، النَّقش والخطُّ والحفر وغيرها من الفنون، هي تأكيد لهذا المبدأ من خلال أعماله الفنيَّة. فقد تكون نقطة واحدة الأصل في زخرفة تتشكَّل من خلال رؤى هندسيَّة متنوِّعة، ومركّبة، لتشكّل حسب نظام كليّ لوحة زخرفيّة رائعة التّناسق والتّناسب بين جملة من الأشكال الهندسيّة المتراوحة بين الخطّ والمربّع والمثلّث، وكذلك الحال في “المنمنمة” كشكل من أشكال الرَّسم من خلال الزَّخرفة كفنٍّ يجعل الكثرة تتوحَّد والوحدة تتكاثر.
لكنَّ هذا التجريد الهندسيَّ، أو التوحيد بالمعنى العربيِّ الإسلاميِّ، ليس على شاكلة التجريد الفنيِّ الحديث كما هو الحال مثلاً مع كاندنسكي، ذلك لأنَّ معنى التّجريد في هذه المنظومة العربيَّة الإسلاميَّة بقي مرتبطاً بفكرة “التوحيد” أو المرجع الدينيِّ، أي أنَّ الشَّكل الزُّخرفيَّ هو شكل ترميزيٌّ فيه نفي للمرموز عنه وللرَّامز أي للطّبيعة والفنَّان معاً.
في ضوء ذلك، نلاحظ أنَّ الفنَّ العربيَّ الإسلاميَّ يزهد في كلِّ ما هو حسِّيٌّ وعرَضيٌّ ليتّخذ من فنِّ الرَّسم من خلال الزُّخرف أسلوباً روحانيَّاً عبر تقديم هندسة روحانيَّة غايتها تجريد المحسوس إلى مجرَّد ذهنيٍّ يعبِّر عن اللاَّمرئيِّ الّذي هو أصل الجمال والبيان وهو الواحد المتوحِّد.
في المقابل، يجرِّد فنُّ الرَّسم التجريديِّ الواقع من دون تغييبه. إذ هو فنٌّ يبني علاقة واضحة بما هو واقعيٌّ ومرئيّْ. وإن كان أسلوب نقله فنيَّاً لهذا الواقع هو بحث بالأساس في روحه الداخليَّة وأسسه الفنيَّة الباطنيَّة، فإنَّ فنَّ الرَّسم التّجريديِّ الحديث بهذا الشَّكل لم يقم بنفي الواقع نفياً مطلقاً بقدر ما حاول نقل ما يعتبره أساساً في هذا الواقع، أي بحثاً في ما هو باطنيٌّ ليكون فنَّاً ملامساً لأصل الأشياء لا في حضورها الظَّاهر بل في وجودها الباطن.
لكنَّ «التجريد» بمعنى «التوحيد» في الفنِّ الإسلاميِّ هو تجسيد لغير المرئيِّ، فلا يعترف بالواقع ولا يعتبره مصدراً فنيَّاً ليمرَّ عبره من الظّاهر إلى الباطن. ولا بدَّ من القول أنَّه على خلاف التجريدية الغربيَّة الحديثة، يبحث في مواضع هي في ظاهرها غير مرئيَّة وغير واقعيَّة، أي أنَّها موضوعات ذهنيَّة تجريديَّة تبحث في القوانين المحرِّكة، للوجود والموجود. فحتَّى عندما نجد في بعض الزخارف بعض المظاهر الطّبيعيَّة كأوراق الأشجار، فليس هذا الرَّسم تسجيلاً للمرئيِّ بقدر ما هو استلهام وبحث في الحركة الطبيعيَّة المجرَّدة، أي أنَّ الموضوع هو القانون الطبيعيُّ لا المظاهر الطبيعيَّة.
ممَّا سبق تفصيله، يمكن تأكيد الاختلاف الواضح بين كلٍّ من التجريد الفنيِّ الحديث والتّجريد في الفنِّ الإسلاميِّ؛ فالأوَّل مصدره حسِّيٌّ واقعيٌّ، في حين أنَّ الثّاني مصدره لا مرئي ولا واقعي. ولعلَّ هذا المنهج التجريديَّ راجع بالأساس إلى “التحريم” في المنظومة الإسلاميَّة للرَّسم الواقعيّْ. إذ رغم عدم وضوح تحريم فنِّ الرَّسم في القرآن الكريم وضوحاً جليَّاً، وحتى في الأحاديث النبويَّة، إلاَّ أنَّ القناعة بتحريم الرَّسم أو “التصوير الواقعي” تبدو أمراً دينيَّاً، تأخذ بعداً تاريخيَّاً وفقهيَّاً لدى أكثر المؤرِّخين والنُّقَّاد العرب المسلمين، ويشكِّل لديهم قضيَّة فنيَّة أثارت ومازالت نقاشاً واسعاً، مع أنَّ الفنَّ الإسلاميَّ قد عرف هذا النوع من الفنِّ طوال قرون، وشاع الاصطلاح عليه بـ”الرَّقش العربيِّ” أو “الآربسك” Arabesque. وقد عرَّفه عفيف بهنسي بقوله:”هو إبداع لواقع جديد مختلف عن الواقع المألوف، وهو وسيلة التعبير عن البراعة لتحقيق متعة مفرحة”[9]. لذا، كان لزاماً علينا التأكيد على الاختلاف الواضح بين كلٍّ من التجريد في فنِّ الرَّسم الحديث و”التجريد” في الفنِّ الإسلاميِّ، إذ إنَّ المصدر مختلف، والأسلوب متباين، والأهداف مغايرة.
3- جماليَّة فنِّ التَّجريد في التَّوحيد:
تقوم رؤيا الرَّسام العربيِّ المسلم على أساس أنَّ كلَّ الأشياء موجودة بفعل قوَّة إلهيَّة، فهي لا ترى من زاوية محدَّدة، بل من خلال الكون كلِّه، لذا اختار منظوراً “كونيَّاً”، فكانت رسومه مسطَّحة، على عكس الرَّسام الغربيِّ الذي اعتمد المنظور النسبيَّ الصادر من عين المشاهد، فكانت لوحاته واضحة غير مركَّبة. وهو أمر ينطبق كذلك على الزَّخارف التي تزخر بمرتسمات لا حدَّ لها، تتراكم في اللَّوحة مكوِّنة لُحْمة نسيجيَّة من الرَّقش الهندسيِّ الذي ينتظم على شكل مساحات هندسيَّة أساسيَّة تؤلّف نجوماً وسطوحاً تحمل معانيَ كونيَّة.
هذه المحاولة في فنِّ الرَّقش أو فنِّ “التوحيد” في محايثة الكونيِّ والمطلق، جعلت الفنَّان الرَّسام يبحث عن القيم التي لا يمكن امتلاكها أو إدراكها بالعقل فحسب، بل أيضاً بالحدس أي بالعقل والحسِّ، فيرى في ما وراء الأشياء الإبداع عينه. ولعلَّ هذا المنطق هو ما يقرِّبه أو حتى يوازيه في بعض الأحيان بالفنِّ التجريديِّ الحديث الذي يعتبر الحدس أصل الإبداع والفنّْ. كما أنَّ فنَّ الرَّقش باعتباره الصيغة التصويريَّة التجريديَّة في الفنِّ العربيِّ، كان يعتبر تحوُّلاً رمزيَّاً من الكلمة إلى الصورة فهو مضمون وصورة: مضمون روحيٌّ وصورة هيروغليفيَّة تسعى للوجود الحقيقيِّ المطلق عبر المنهج “الصوفيّْ”. فقد كان الفنَّان العربيُّ يعتمد التَّكرار والتَّناسخ في لوحاته، كما كان المتصوِّف يكرِّر عبارة واحدة “الله” مئات المرَّات حتى يفقد وعيه ويتجرَّد من علاقته بالمادِّيْ. وعليه، فإنَّ الفنَّان العربيَّ المسلم لم يكن يرتبط في عمله التجريديِّ بالمفاهيم نفسها أو المنطلقات السائدة في الفنِّ الغربيِّ، إذ البحث لديه في موضوع المطلق كان مقابل الذاتيِّ، كما أنَّ الكونيَّ كان مقابل النفسيْ.
ورغم أنَّ ما أطلق عليه اسم “الخيط”، كأهمِّ أساليب الرَّقش العربيِّ هو عمل هندسيٌّ محض يقوم على أشكال كالمثلَّث والمربَّع، يتقارب والأشكال التجريديَّة الحديثة المعتمدة لدى كاندينسكي مثلاً، إلاَّ أنَّ الغاية في التجريد تختلف بعمق من هذا إلى ذاك. فالطابع التجريديُّ في شكل “الخيط” وإن كان هندسيَّاً ما هو إلاَّ مطابقة للشكل والمفهوم المطلق، وهو سعي وراء فكرة التوحيد، إذ إنَّ النقطة المركزيَّة هي الجوهر الذي تصدر عنه الأشياء كلِّها وإليه ترجع. وهو ما نجده تماماً في رسوم المتصوِّفة ولاسيَّما الحلاَّج وابن عربي في اعتبارهما أنَّ نقطة هي منبع الوجود ومنطلق الكون.
إنّ اختلاف المصدر واضح إذاً من خلال اعتماد الفنَّان العربيِّ المسلم على المصدر اللاَّهوتيِّ، في حين ينطلق الفنَّان التّجريدي المعاصر من الواقع لينحت المجرّد. أمّا المنهج فمختلف لأنّ الزّخرفة العربيّة الإسلاميّة تؤسّس إبداعها الفنّي على أساس “النظام الشكليِّ” للحرف والخطّْ. فالجماليَّة الزخرفيَّة هي في الأصل جماليَّة تنبني على التَّناسق والانسجام بين الأشكال في علاقاتها واتِّصالها، وبين الفراغات في ما بينها، إلى جانب عنصر “التلوين” الذي يُعتَبر تجسيداً لهذا الانسجام. فلا يمكن للَّون، كما هو الحال في فنِّ الرَّسم الحديث، أن يكون عنصراً مستقلَّاً أو فكرة خاصَّة داخل اللَّوحة، بل هو عنصر متوحِّد مع كلِّ الأشكال التي تشكِّل جماليَّة اللَّوحة الزخرفيَّة في الفنِّ الإسلاميّْ.
وينبغي القول أنَّ ينطبق على عنصر “اللّون” أو “التّلوين” ينسحب كذلك على عنصر “الفراغ” الفاصل بين الأشكال الهندسيَّة والخطوط الزخرفيَّة الذي لا يُعتَبر عنصراً مستقلَّاً عن بقيَّة عناصر اللَّوحة، بل هو جزء لا يتجزَّأ من نظامها الهندسيِّ، وهو أكثر من ذلك يرمز إلى “الحاضر- الغائب”، أو إلى “غياب المتجلِّي” القابل دائماً للامتلاء، إذ لا وجود لفكرة الفراغ في منظومة الفكر الإسلاميِّ، وخصوصاً الصوفيَّ منه.
لا وجود للفراغ، إذن، في المنطق الجماليِّ الإسلاميِّ، وقد يأخذ مفهوم “الخلاء” مكانة الفراغ باعتباره جزءاً من المساحة ورمزاً لثنائيَّة الغياب والحضور، ولعلَّ هذا كلَّه راجع للتَّصوُّر العقائديِّ بأنَّ الله موجود في كلِّ مكان، أي راجع إلى منطق “التوحيد”.
على هذا الأساس، لا يكون التجريد في الفنِّ الإسلاميِّ إلاَّ ثمرة لتأمُّل عقلانيٍّ، ولرؤية روحيَّة للعالم، ولحقيقة ما وراء الكون. وهذا لا يتأتَّى فهمه إلاَّ بإخراج الفنون التجريديَّة الإسلاميَّة من عالم المنظور والحسِّيِّ إلى عالم النَّظر والرَّمز والحدس. وبهذا يمكن تبيُّن الاختلافات العميقة التي تحول دون مماثلة التجريديَّة الغربيَّة بالتجريد العربيِّ الإسلاميّْ. ففي حين مثَّلت التجريديَّة الغربيَّة موقفاً رافضاً متمرِّداً كانت التجريديَّة العربيَّة مناشدة للمطلق باحثة وراء الحركة عن السكون الأبديّْ.
خلاصة القول أنَّ منطق “التوحيد” في “التجريد” في الفنِّ العربيِّ الإسلاميِّ يرجع بالضرورة إلى منطق أُحاديٍّ أي منطق الإله الواحد، والعالم الواحد، والفنَّان الموحَّد. وبصورة أوضح نقول بأنَّ الفكر العربيَّ الإسلاميَّ جعل الفنَّان ينفي ذاته وعمله الفنيَّ، وهذا النفي للأنا تبعه نفي للوجود، فلا وجود للأنا بل للمتعالي فحسب، كما أنَّه لا وجود للعالم المرئيِّ مقابل العالم الروحانيّْ. لذا توحَّد العالم الفنيُّ والفنَّان ليكونا شاهديْن على فكرة التوحيد، وهذا ما جعلنا نؤكِّد أنَّ العمل الفنيَّ التجريديَّ في ما يخصُّ “الرَّسم” داخل المنظومة العربيَّة الإسلاميَّة الصوفيَّة هو عمل يكون الاصطلاح عليه بـ”التوحيد” أقوَم وأكثر بلاغة، وهذا راجع لأسباب عدَّة هي في الأساس دينيَّة فقهيَّة تدور حول مسألة “التحريم”[10].
4- مغامرة الفنِّ الصّوفيّْ:
في ضوء ما تقدَّم، يتَّضح أنَّ العالم في نظر الفنَّان المسلم ليس هو نفسه في نظر غيره. وغيره هنا تشمل الفنَّانين الآخرين من غير ملَّته وعامَّة الناس من الّذين لا يشتغلون بصنعته. فالعالم في نظره كتاب خُطَّت حروفه من المعجزات الإلهيَّة اللاَّمحدودة. وهو على غير الكتاب الشهير الذي شبَّه به غاليلي الطّبيعة بالكتاب الّذي خُطُّت حروفه رياضيَّاً، والذي يدلُّ على حضور المعقول وتجلِّيه أمام الذات. ذلك أنَّ الطبيعة كتاب عنده كسجلٍّ من الرُّموز التي تدلُّ على حضور “اللاَّمعقول” أو المقدَّس أو الإلهيّْ. على الأقلِّ هذا ما صرًّح به الخطيبيُّ والسلجماسيُّ[11] بقولهما:” إنَّ العالم في نظر المسلم ماثل أمامه كتاباً مطلقاً يشهد على الحضور الإلهيِّ المحيط”.[12]
وممَّا يؤيِّد هذا المدخل للرُّؤية الفنيَّة للعالم في نظر الفنَّان المسلم الصوفيِّ أنَّ مبدأ “الخلق الإلهيِّ” هو من الرُّسوخ بحيث لا يماثله أيُّ يقين مشابه، لأنَّه يمثل جوهر عقيدته الدينيَّة التي سوف تتحوَّل في أعماله إلى عقيدة فنيَّة بالوضوح نفسه والصَّلابة نفسها. فالله هو مبدأ الوجود ومُحدِثه، وهو المتحكِّم به، وهو الذي يستمرُّ منه الوجود إلى يوم القيامة، وبضمانته هو. فالعالم متناهي الشَّكل والقدرة، وهو أقرب الأشياء إلى الدَّائرة المغلقة.
ومن المهمِّ الإشارة إلى أنَّ جميع المخلوقات في عالم الفنَّان المسلم تحتلُّ مراتب واضحة ومتسلسلة بحكم وظائفها وقرب نفسها من الذات الإلهيَّة. فالنفس الإنسانيَّة أرفع من النفس الحيوانيَّة، وهذه الأخيرة أرفع من مرتبة الجماد أو مرتبة النموّْ. ونظام الحركة في الكون محسوب بدقَّة، ولا وجود فيه للصدفة أو الفوضى. وإذا بدت لنا الأشياء فوضويَّة فاقدة للدلالة وللمعنى أحياناً، فذلك لعجز في فهمنا عن إدراك حكمة الخالق وعلمه المتعالي الذي لا يعلمه غيره. والإنسان جزء من النظام العامِّ. وهو مؤمن بالضرورة، ذلك أنَّ الفنَّان المسلم لا يرى نفسه إلاَّ في هذه الصورة. والإيمان يعني التعبير عن عمق العقيدة وليس مجادلتها أو تحريفها. والحياة ليست سوى نوم سوف تعقبه يقظة، وهي لحظة امتحان واختبار تنتهي بحساب، فإمَّا فوز وإمَّا هلاك.
إنَّ هذا النظام الغائيَّ للعالم بهذه الدقَّة البديعة في ترتيب الأمور وتصريفها، هي ما يشكِّل أهمَّ عناصر الرؤية العقائديَّة للفنَّان المسلم. فكيف عبَّر عنها من خلال العناصر التشكيليَّة التي نجح في السيطرة عليها وإخضاعها لحيله المتعدِّدة؟
في هذا السياق، يقول الخطيبيُّ والسلجماسيُّ” إنَّ الإنسان علامة، واسم مختوم بخاتم الله. إنَّه هذا الجسم المتخفِّي عن ذاته، وكأنَّه تخلَّص من حركته فانصهر في الرؤية الإلهيَّة. وما يتسرَّب إلى هذا الجسم بإملاء من الصوت الإلهيِّ صورة للنَّفس وهي تنزَّل من سماء الله. وفنُّ الخطِّ التقط بطريقته صورة النفس هذه، فعرض على البصر مسلك الوحي”.[13]
نتبيَّن من هذه الشهادة أنَّ المتصوِّف إذا كان مخطَّطا فإنَّ فنَّه لا يأتي عن اعتباطيَّة، وإنَّما يكون عن عقيدة عميقة ترى الأشياء من المنظار الذي عرضنا شرحه سابقاً. ولا ريب في أنَّ حركة نزول “الوجود” من الله، وهي تذكِّرنا إلى حدٍّ ما بفكرة “الفيض” التي تدفع الفنَّان المتصوِّف إلى استلهام مسارها المقدَّس، مسار الفعل الرهيب الذي يأتي بالحياة من العدم، وبالنفس: “روح الله نفخ بها في الإنسان” إلى الأجساد الطينيَّة العمياء، فوهبها ما به تكون بشراً. بل وصوَّرها فأبدع صورتها. وهذه الحركة العظيمة حركة الخلق هي نفسها في ما بعد حركة الوحي العظيم. فالوحي أي النُّور الذي يستهدي به البشر في حياتهم هو في الواقع الجزء المتمِّم لفعل الخلق، وهو نفسه يصدر عن ذات المصدر ويأخذ نفس التّعرّج النّازل، حتّى يبلغ مقصده. والخطّاط المتصوّف المعجب والمصدّق بعمق بكلّ ذلك، يحاول أن ينقل هذا المعنى وهذه “الحقيقة” إلى جوهر المتقبَّل، إلى شعوره ووعيه. وهنا تتطابق الحقيقة والجمال. فكأنَّنا نقارب الأفلاطونيَّة في سياق نظريَّة المُثل، والهيغليَّة في سياق الإستيطيقا وتطابق الحقِّ والجمال.
ولا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ أقرب الفنون أو على الأقلِّ الأكثر شهرة في التعبير عن مثل هذه الدلالات الرمزيَّة المقدَّسة هو فنُّ الخطِّ كما لاحظنا. ولم يكن ذلك من قبيل الصدفة، بل لأنَّ تحريم الصورة والتمثيل والمحاكاة قد دفع بالكثيرين من المبدعين المسلمين إلى البحث عن فنون لا تصويريَّة ووجدوها في الخطِّ، ثمَّ وبدرجة حاسمة ترقِّي الروحيِّ عبر المقامات والأحوال من خلال الرُّموز والأشكال، لأنَّ عقيدة الإسلام عقيدة كتابيَّة فقد حظي فيها الخطُّ منذ البداية بقبول وتشريف لم يحظ بهما فنٌّ آخر.
ويعتبر السلجماسيُّ والخطيبيُّ أنَّه لعبقريَّة فنِّ الخطِّ في التعبير عن هذه المحاميل المقدَّسة ينبغي اعتباره فنَّاً مركزيَّاً في الفنون الإسلاميَّة. فهو الفنُّ الذي “يجعل الوجود نابعاً من الكتابة”[14]. كما تنبع التجربة الروحيَّة من الذات الإنسانيَّة.
تكشف حركة الخطّ، التي هي حركة ذهن الفنَّان المسلم وأصابعه، عن أنَّ لا شيء يُنجز بالصدفة. بل كلُّ شيء تحكمه جماليَّة خاصَّة. جماليَّة هي مصدر متعة الفنَّان المسلم. ولذلك نراهما يتساءلان في سياق تحليلهما لهذه المسألة: من أين يستمدُّ الفنَّان المسلم متعته؟[15]
والأصل في هذه المتعة بالنِّسبة إلى الخطَّاط المسلم هي الكتابة. فالكتابة هي العنصر الجوهريُّ الذي تدور حوله الثقافة الإسلاميَّة[16]. والكتابة لم تحظ بكلِّ هذا الاهتمام إلاَّ بالعودة إلى “الكتاب” أو النصِّ المقدَّس الذي منه يتمُّ استلهام كلِّ شيء. فحينما يكتب المسلم هو في الواقع يعيد إنتاج العبارات “المقدَّسة” نفسها التي احتواها الكتاب. إنَّه يكتب بالحروف نفسها، وبالأبجديَّة نفسها، وأحياناً بالتركيب نفسه، وبالضمائر نفسها، وبالأسماء نفسها. إنَّه يكتب في كلِّ مرَّة “القرآن”. وكلَّما كتب الخطَّاط المسلم نصَّاً إلاَّ ووجد نفسه يستذكر آيات القرآن الكريم، وهو أشرف الكلام وأعظمه على الإطلاق. إنَّه كلام المولى عزَّ وجلَّ أعظم وأنفس جواهر العقيدة الدينيَّة للمسلم.
بناءً على ذلك، يجدر القول أنَّ فنَّ الخطِّ العربيِّ ليس مجرَّد تحبير حرٍّ على مساحات بيضاء للَّوحة، وإنَّما هو من منظور الجماليَّة الإسلاميَّة إعادة إنتاج للمقدَّس نفسه بطريقة إيهاميَّة واعية في عوالم روحانيَّة يُسمِّيها المتصوِّف بالعلوم الباطنيَّة. من هنا، فإنَّ حركة الخطِّ وتعرُّجاته، وخشونته ورفعته، وعموديَّته وأفقيَّته، وتضادِّه وانصهاره، وتقعُّره وانكماشه، وتفرُّقه واجتماعه، وذهابه وإيَّابه وتلوُّنه بالأحمر والأزرق والأصفر… كلُّها أفعال رمزيَّة مقصودة ومختارة بعناية كبيرة.
من هذا المدخل يدعونا الخطيبيُّ والسلجماسيُّ إلى أن نطلَّ من جديد على حركة الخطِّ العربيِّ ونفهمها على النحو المنطقيِّ الجدير بها. فهذه الحرك يغلب عليها فعل التدوير بشكل لافت. وهو ما دفع بالكثير من مؤرِّخي ونقَّاد الفنِّ الإسلاميِّ إلى مساءلة هذه الظاهرة عن معناها. وفي تأويلهما لا يدلُّ هذا التدوير المليء بالعناصر المنثورة أحياناً، أو بالفراغ أحياناً أخرى، على مجرَّد تصوُّر للعالم المتناهي المخلوق عند المسلم فحسب، إنَّما هو فضلاً عن ذلك تصوير تشبيهيٌّ لنزول النفس إلى المحتوى الذي تضمَّنها. والذي إذا ما حلَّت به حلَّ معها فعل الوجود نفسه. ولذلك، فإنَّ حلول فعل الحياة لا يمكن أن يكون في العدم، بل لابدَّ أن يكون في موضوع ما، وهذا الموضوع منطقيَّاً هو يسعى له، أي به بطن لقبوله. ولذلك تكون الحركة في الأغلب من الأعلى في اتِّجاه الأسفل، ومن النقطة في اتِّجاه بطن الدائرة. من هنا تأتي فكرة التقعير أو التدوير الأساسيَّة في رسم الخطِّ العربيّْ.
في هذا المعنى، يقول الخطيبيُّ والسلجماسيُّ:” وتفتح هذه الإشارة المجال لرسم خفيٍّ يرسم النفس في طريقها لاحتواء الفراغ والإقامة فيه بفضل خطوط كتابيَّة كالحروف المكتوبة بجمال مطلق والمختصرات الرمزيَّة للأسماء وهندسة الأمثال الإلهيَّة. ذلك هو المثال الحيّ للخطّ العربي”.[17]
وللخطّ حضور متميِّز لدى المتصوِّفة، ولاسيَّما إذا استدار. فالدائرة عند الحلاَّج على سبيل المثال سير في طريق مسدود. والنُّقطة وسط الدائرة هي الحقيقة. والحقيقة هي نقطة التجلِّي والالتقاء بين الظاهر والباطن، بين العرض والجوهر، حيث يتحقَّق الفهم ويغيب الوهم.
ولعلَّ اعتماد الخطِّ العربيِّ على ظاهرة التدوير هذه، قد جعلت منها ظاهرة كونيَّة تتبع الخطَّ العربيَّ أينما حلّْ. فالخطَّاط الصينيُّ المسلم اليوم حينما يرسم آيات من القرآن يعتمد تقريباً رؤية جماليَّة قريبة جدّاً من مثيله المسلم في الأقطار الأخرى. ويدلُّ كلُّ هذا على أنَّ الرُّؤية الجماليَّة الإسلاميَّة في الخطِّ هي عابرة للقارَّات، وللثقافات المحليَّة، وتقترن بالمعاني الدينيَّة التي يعتنقها المسلم بغضِّ النَّظر عن الجغرافيا التي ينتمي إليها.
في هذا المعنى يقول الخطيبيُّ والسجلماسيُّ:” لا يملك الفنُّ الإسلاميُّ مركزه في مكَّة أو في طومبكتو، بقدر ما يمثّل مشهداً متنوِّعاً ولا مركزي. ونسوق مثالاً على هذا الخطّ العربيِّ الذي يرسمه الصينيُّون المسلمون. إنَّ مثل هذا الخطِّ ليس عربيَّاً إلاَّ بالتجوُّز نظراً لكونه يتجاوز منبعه الأصليّْ. فالكتابة التخطيطيَّة تجوِّف الحرف العربيَّ وتجعله يدور حول نفسه ليحقِّق موازنة تشكيليَّة. فكلُّ ثقافة ترضي ذاتها بأن تنقل الثَّقافات الأخرى إلى مواطن اختلافها. فالرَّغبة تنفجر بواسطة المدِّ ذي الجذور المتباعدة.”[18]
نلفت هنا إلى أنَّ الفنَّ الصوفيَّ في عمومه، وفنَّ الخطِّ بالذَّات، لم ينبثق فجأة ومن عدم، وإنَّما ظهر نتيجة جملة من الشروط الموضوعيَّة، وأهمُّها ما أحدثه الغزو من “تثاقف” ولقاء حضاريٍّ بالتعبيرات الثقافيَّة للشّعوب الأخرى. ومن هنا فإنَّ الفنَّان المسلم حينما يرسم هو في الواقع يعبِّر في الآن نفسه عن عمق التشابك بين خصوصيَّته المحلِّيَّة التي ينتمي جغرافيا لها وبين عقيدته العامَّة التي اتَّخذت بعداً كونيَّاً إلى حدٍّ كبير. فحينما يكتب الصينيُّ المسلم عبارة ” لا إله إلاَّ الله” أو “الله أكبر” أو ” الله خالق السماوات والأرض ومعيدهما”، فإنَّه وإن التزم بتقنية التدوير والتقعير، أو بقاعدة أخرى عامَّة في الخطِّ العربيِّ، لا يعدم أن يدخل عليها بعض السِّمات الشخصيَّة الخاصَّة بالثَّقافة الصينيَّة، أو حتى الخاصَّة بثقافة مقاطعته داخل الصين نفسها. هذا العنصر هو ما يمكن تسميته بالجماليَّة المحليَّة في داخل الجماليَّة الفنِّيَّة الإسلاميَّة بصورة عامَّة. وهو أمر يجعلنا في داخل الفنِّ الإسلاميِّ نفسه نستطيع تمييز الفوارق الأفريقيَّة عن الفارسيَّة، عن الهنديَّة، عن الصينيَّة، عن التركيَّة، عن الأوروبيّة. وعادة ما يجد هذا التنوُّع لدى مؤرِّخي الفنِّ الإسلاميِّ ترحيباً كبيراً، إذ في الغالب يُنظَر إليه باعتباره دليلاً على السّمة الكونيَّة الحقيقيَّة للفنون الإسلاميَّة.
يشكِّل فضاء اللوحة مساحة للإبداع وللتخيُّل الحرِّ وللتعبير الغزير بالنسبة إلى الفنَّان المسلم. غير أنَّ شكل الحرف بحدِّ ذاته وقيمته الرمزيَّة المتداخلة بعمق مع الدينيِّ تجعل الفنَّان المسلم لا يشعر أنَّه أمام ” لعب طفولي حرٍّ”، وهو يباشر رسم ما يريد. إنَّها مفارقة عميقة قد لا يدركها إلاّ من تمثَّل جميع عناصر هذه ” الأحجية”. فالفنَّان المسلم من حيث الموضوع هو حرٌّ في أن يأتي من الرسوم ما شاء طالما أنَّه لن يشابه، وطالما أنَّ نيَّة المحاكاة لا تدخل في دائرة الممكن في تفكيره حتّى. وهو كذلك حرٌّ من جهة اختيار أيِّ فكرة يريد إيصالها إلى المتقبِّل، طالما أنَّها لا تتناقض ومفاهيم الخلق الإلهيِّ والقدريَّة والنظام الغائيِّ للكون والحياة.
غير أنَّ وسائل التعبير التي ينبغي عليه إبداعها هي التي تفرض نفسها كأفضل وأقرب التقنيَّات لتحقيق الغرض الجماليِّ الأسمى. وأقرب الأمثلة على ذلك فنُّ الخطِّ. فحركة وسكون وصعود ونزول وخشونة ورفعة الخطِّ هي بحسب الفكرة التي يعبَّر عنها. ولذلك، فمن الصعوبة بمكان القول بأنَّ العلاقة بين الشكل والمضمون في العمل الفنيِّ الإسلاميِّ الصوفيِّ اعتباطيَّة، أو حتى شبيهة بمثيلاتها في التجريديَّة المعاصرة. وفي هذا السياق يقول الخطيبيُّ والسلجماسيُّ “ولمَّا كان الخطُّ تزوِّقه المقدَّسات فإنَّه يشعُّ في كلِّ مكان، والكتابة تتأقلم مع كلِّ مادَّة ومع كلِّ شكل، إنَّها تنطوي على بعد جوهريٍّ في الوجود.”[19]
د. ثريَّا بن مسمية
مقدِّمة:
لمَّا كان التصوُّف يروم أن يكون تجربة في الوجود، فإنَّه لم يعدم التوسُّل للتعبير عن حقائقه بوسائل تعبيريَّة تفيض بالجماليَّة والروحانيَّة. ومن هذه الأساليب الأصوات الجميلة البادية في الأناشيد الدينيَّة والرسوم الأخَّاذة الظاهرة في النقاط والخطوط المُحاكِية لأشكال الأجرام السابحة في الأفلاك. والحروف السَّاحرة بزخرفتها الرَّامزة إلى توحِّد الأنفس مع المطلق الكونيّْ. وهو ضرب من التعالي الباعث على النشوة ما يجعله يلتقي رأساً بعوالم الفنِّ الحديث، حيث الطهارة والتزكية والصفاء.
تتعاطى الروح الصوفيَّة مع تقنيَّات الفنون التشكيليَّة المركَّزة على المحسوسات الّتي تفيض بالمضامين الغيبيَّة وهو عين التجريد. وعليه، عجَّ عالم التصوُّف بالبصريَّات التي تروم عالم الخيال، وتنشد رؤية نحتيَّة متعدِّدة الأبعاد: قداسة وجمالاً، حيث التفاعل الدائم بين عالمَيْ الشَّهادة والغيْب، إذ العيْن المجرَّدة وحدها لا تدرك أقصى الحقائق الفنيَّة وإنَّما ذاك هو عالم العقل الباطنيِّ أو الفؤاد. فلا غرو، حينئدٍ، أن يثير الفنُّ الصوفيُّ الحواسَّ أوَّلاً، ويعانق عوالم المُثُل ثانياً.
وعليه، فإنَّ فرضيَّة هذا البحث تتمثَّل في اعتبار أنَّ وجه الفنِّ الصوفيِّ هو التوحيد، ويتجلَّى في التجريد. ويبدو أنَّ ترشيح المنهج التحليليِّ المقارن هو الحلُّ الأوفق لخوض الحديث عن المغامرة الفنيَّة الصوفيَّة، بدءاً بتسليط الضوء على تاريخيَّة مفهوم التجريد.
1– التَّجريد في ضوء التاريخ:
تُعتبر “التجريديَّة” اصطلاحاً فنيَّاً حديثاً، ظهر بصفة جليَّة مع الاتجاهات الفنيَّة التي برزت في أواخر القرن الماضي، فلا وجود لهذا الاصطلاح في التأريخ الفنيِّ العربيِّ الإسلاميِّ، لذلك فالتجريد في فنِّ الرَّسم المعاصر له أصوله وأشكاله الإستيطيقيَّة في حين أنَّه في الفنِّ الإسلامي كان يُعتبر ضرورة روحانيَّة أكثر منها ضرورة إستيطيقيَّة. ونقصد بذلك أنَّ هذه الظاهرة في فنِّ الرَّسم الإسلاميِّ كانت تتمظهر من خلال الأشكال الزخرفيَّة التجريديَّة.
بصفة عامَّة، يُعتبر التجريد أنسب الأساليب للتعبير عن القيم الروحيَّة، فليس هناك أسلوب أنسب منه للتعبير عن أفكار تتعلَّق بالمطلق والروحانيِّ والصوفيِّ والباطنيِّ والعرفانيّْ. ولعلَّه لهذا السبب بالذَّات لجأ الفنَّان المسلم إلى صيغ هندسيَّة تجريديَّة لإظهار رؤيته للعالم والإنسان، فاستخدم الخطَّ والأشكال الزخرفيَّة داخل المساحة التشكيليَّة، مبتعداً بذلك عن مُحاكاة الواقع المرئيِّ ليبتدع بمخيَّلته فضاء إستيطيقيَّاً بأشكال هندسيَّة تعتمد الخطَّ والفراغ كأساليب إبداع فنيّْ. وتُعدُّ حركة الخطِّ داخل المساحة الزخرفيَّة أهمَّ عناصر هذا الإبداع التشكيليِّ بفضل تداخل الأشكال الهندسيَّة الخطّيَّة وتشابكها.
من هنا، فالتّجريد الخطّي هو بدايات التجريديَّة لكنَّه لم يكن حركة منظَّمة بقدر ما كان أحد الأساليب التعبيريَّة التي اعتمدها الفنَّان المسلم لتوضيح عقيدته، فلم تكن الزخارف التي حُلِّيت بها المساجد مجرَّد أشكال زخرفيَّة لا طائل من ورائها سوى ما تمنحه لمشاهدها من قيمة جماليَّة حسِّيَّة، بل كانت لها مضامينها الروحيَّة النابعة من التصوُّرات الأساسيَّة للإنسان المسلم في ما يختصُّ بالكون والله والإنسان.
في هذا المجال، يؤكِّد ميشال راغون في كتابه “مغامرة الفنِّ التجريديِّ”[1] أنَّ هذا الفنَّ بدأ مع الإنسان وتأكَّد مع الفنِّ الإسلاميِّ حيث يقول: “قد يكون نسبيَّاً من السَّهل أن نبيِّن أنَّ الفنَّ التجريديَّ كان موجوداً منذ القِدَم، وأن نبرز تطوُّره منذ ما قبل التاريخ إلى حدِّ يومنا هذا بالتأكيد على الفنون الإسلاميَّة الهندسيَّة”[2].
ونلفت هنا أنَّ الفنَّ التجريديَّ الإسلاميَّ سُمِّي “بالرَّقش” العربيِّ من خلال العناصر الخطِّيَّة المصوَّرة أو المحفورة في الجصِّ والحجر والخشب. وهو إذ يحاكي الطّبيعة يحاول دوماً اعتماد دلالات مجرَّدة، فلا يقدِّم إلاَّ الرمزيَّ من الوسائل التعبيريَّة ليحقِّق عالما فنيَّاً لا صوريَّاً، يفقد فيه الخطُّ قيمته الذاتيَّة ليتحوَّل إلى عنصر تأليف للزُّخرف، يزخر بمناخات روحانيَّة صوفيَّة. وتظهر الأعمال الزخرفيَّة الإسلاميَّة على أنَّها أشكال هندسيَّة ثابتة، لكنَّها تتحوَّل بفعل الإبداع في بنائها. فتلك الأشكال المتداخلة أو المتراكمة تدور وتُحاك كخيالات ضبابيَّة، وقد يضاعف من قوَّة هذه الإيهامات البصريَّة أثر النُّور والظلِّ الذي يكسب المساحة المزخرفة قيمة تشكيليَّة جديدة، ويحوِّلها إلى صفحة متحرِّكة.
لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ هذا الفنَّ ارتبط بمختلف أنواع الحرف، إلى جانب ارتباطه بفنِّ العمارة. فكانت علاقته بها علاقة عضويَّة، إذ تكاد الرُّسوم الزخرفيَّة تغطِّي كامل جدران البناء والسُّقوف. وبهذا يمكننا القول أنَّ بدايات التجريد كانت مع فنِّ الخطِّ والزخرف لأنَّ هذا الشَّكل الفنِّيِّ أراد التعبير عن المطلق فلم يجد أسلوباً يتَّفق وهذا البعد الروحيَّ سوى الأسلوب التجريديِّ لذا يؤكِّده ميشال راغون بقول: ” إذا كان الفنُّ التجريديُّ يتمظهر بما هو فنٌّ جديد فلأنَّ ازدهار هذه الحركة الإستيطيقيَّة قد تأخَّر”[3].
ولكن رغم أنَّ التجريديَّة في الفنِّ تعني الاستغناء عن نقل صور الأشياء المرئيّة في فضاء العمل الفنّي وتعويضها بأشكال وخطوط لا تحتفظ المخيّلة بمرجعيّات لها سوى أنّها أشكال حاملة لهويّتها الخاصّة ولا تدلّ إلاّ على نفسها، فإنَّ المجازفة في مساواة التجريديَّة في فنِّ الرَّسم الحديث بالتجريديِّ في الفنِّ العربيِّ يأخذ بظاهر الأشياء، أو لعلَّه ينمُّ عن توجُّه سطحيٍّ في فهم جماليَّات هذا الفنِّ وخصائص التجريد في الفنِّ الحديث، فكلُّ من الفنَّين مستقلٌّ بذاته ذو منطق وفلسفة يحكمانه ويحدِّدان خصائصه وأساليبه ومساره الإبداعيّْ. فحتى وإن كانت التجريديَّة كمثال فنيٍّ معاصر لها أشكال أو بدايات تخرج عن الطابع الأكاديميِّ المعاصر فيلزمنا البحث في الأصل الاصطلاحيِّ للفظ التجريد داخل منظومة خاصَّة باللُّغة العربيَّة الإسلاميَّة، لنجد اصطلاحاً يكون أكثر دقَّة وتناسُباً وتناسُقاً مع هذا الإطار اللُّغويُّ في اللّسان العربي. ولعلَّنا بهذا سنراجع بالضرورة قولة الغزالي في كتابه “إحياء علوم الدِّين” في معرض حديثه عن الجمال بقوله:”إنَّ الجمال ينقسم إلى جمال الصورة الظَّاهرة المدرَكة بعين الرَّأس، وإلى جمال الصورة الباطنة المدرَكة بعين القلب ونور البصيرة، والأوَّل يدركه الصبيان والبهائم، والثاني يختصُّ بإدراكه أرباب القلوب، ولا يشاركهم فيه من لا يعلم إلاَّ ظاهراً من الحياة الدُّنيا”[4].
ولمزيد من التوضيح، يُضيف: “فمن رأى حسن نقش النقَّاش وبناء البنَّاء، انكشف له من هذه الأفعال صفاتها الجميلة الباطنة التي يرجع حاملها عند البحث إلى العلم والقدرة”[5].
على هذا الأساس، يكون الجمال الفنِّيُّ الحقُّ هو الجمال الباطن أي الجمال المدرَك بالبصيرة المتجاوِز للموضوعات العرَضيَّة والمظاهر الطّبيعيَّة ليتمثَّل الشَّكل المطلق والمبدأ القارَّ، فتكون صوره معاني عبر أشكاله التجريديَّة ذات الموضوع “الأحاديّْ”. وبهذا نقول إنَّ هذا الشكل الفنيَّ جعل التجريد ينبني على قاعدة أساسيَّة وهي غياب الصورة لإبراز المعنى، وغياب الموضوع لإبراز الشكل، وهذا الأساس في الفنِّ اعتُمد منهجاً تجريديَّاً فنيَّاً هو أقرب في التسمية إلى “التوحيد” منه إلى “التجريد”، ذلك أنَّ الفنَّان العربيَّ المسلم هو بالضرورة “موحِّد”، وبالتَّالي فإنَّ إنتاجه الفنيَّ سيكون بالضرورة فنَّاً مُوحِّداً.
بناءً على هذه الصورة، قد نصف التجريد في الفنِّ العربيِّ الإسلاميِّ بـ”التوحيد” مقارنة بالتجريديَّة في الفنِّ الحديث، ذلك لأنَّه يجعل من الشيئيْن شيئاً واحداً، ومن الوجوديْن وجوداً واحداً، ولأنَّه عندما ينفي الغير ينفي نفسه أيضاً، وستحلُّ مكان هذا النفي الانطباعة وضروب الصِّراع. وعليه، فليس للفنَّان وجود مميَّز أو حضور خاصٌّ في العمل الفنيِّ لناحية الخصوصيَّة الفرديَّة، كما أنَّ العمل الفنيَّ يشهد على الذوق، والتقنيَّة، والمهارة، والعقل، والقدرة كصفات إنسانيَّة عامَّة، ولكن يُنظَر إليها كهبة من الخالق، ولا يشهد البتَّة على “الأنا” الفنَّان لناحية العواطف والمشاعر والمزاج والمعاناة بما هي صفات فرديَّة وشخصيَّة 2– الفنُّ في الفضاء الإسلاميّْ:
من المفيد القول أنَّ للفنِّ الإسلاميِّ فكره الخاصَّ والنَّابع من عقيدة التوحيد التي يعرِّفها ابن عربي بقوله:” التوحيد علم، ثمَّ حال، ثمَّ علم، فالعلم الأوَّل توحيد الدليل وهو توحيد العامَّة، وأعني بالعامَّة علماء الرَّسوم، وتوحيد الحال، أن يكون الحقُّ نعتك، فيكون هو لا أنت في أنت. والعلم الثّاني بعد الحال توحيد المشاهدة، فنرى الأشياء من حيث الوحدانيَّة فلا نرى إلاَّ الواحد وبتجلِّيه في المقامات يكون الوجدان والعالم كله وجدان”.[6]
والواقع أنَّ الأخذ بمنطق ابن عربي يفضي إلى استجلاء وهميَّة الظَّاهر وعرَضيَّته، وإلى حقيقة الباطن وجوهريَّته. فالتوحيد إثبات القِدَم وإسقاط الحدث. من هذه المنطلقات، لا يمكن الإنسان الفنّان أن يكون مركز الكون، لذا فانشغال الفنان العربيِّ الموحِّد سيختلف شديد الاختلاف عن الفنَّان التجريديِّ الحديث. ولعلَّ أبا سعيد العوني يحسم هذه المسألة بقوله:” التصوُّف ترك النَّافل ولا شيء بنافل أكثر من “أناك”، إنَّك ما اشتغلت بذاتك إلاَّ وبعُدت عن الله، وحينما توجد “أناك” فإنَّ كلَّ شيء جحيم، وحينما لا توجد “أناك” فكلُّ شيء “نعيم”.[7]
هذا المنطق التوحيديُّ سيفرض على الرَّسام رفع صفات ذاته وتغييبها، فطريقه طريق استجابة والتقاط لا طريق معاناة وصراع مع الذّات وكشف عن خباياها. وبتغييب ذات الفنَّان شهادة على كمال الخالق، فلا أبلغ في نعت هذا الأسلوب الفنِّيِّ بفنِّ “التوحيد” موازاة أو مقابلة بـ ‘التجريد”.
ولعلَّ مشروعيَّة اعتبارنا كلمة أو صفة “التوحيد” هي أقرب من صفة “التجريد” بالنسبة إلى هذا الشكل الفنيِّ العربيِّ الإسلاميِّ تنبع من أنَّ هذه الصفة تنخرط بالضرورة انخراطاً إيجابيَّاً ضمن كامل المنظومة العربيَّة الإسلاميَّة. فوصفنا للفنِّ العربيِّ الإسلاميِّ بالفنِّ “التوحيديِّ” هو من حيث المنطق أقوم تاريخيَّاً، ثمَّ معجميَّاً أكثر تناسباً لهذه المنظومة العربيَّة الإسلاميَّة. ويعتبر تعريف ابن عربي لهذه الكلمة في كتابه “التجلِّيات” تأكيداً يبيِّن صحَّة هذا المسار والاختيار، إذ يقول إنَّه: « نفي الإثنينيَّة في الوجود. “التّوحيد” فناؤك عنك، وعنه، وعن الكون، وعن الفنَّان، فالبحث به، فإنَّ كل ما سوى الحقِّ، مائل ولا يقيمه إلاَّ هو، ولا إقامة إلاَّ بالتوحيد، فمن أقام فهو صاحب التوحيد. و”التّوحيد” أن يكون هو النَّاظر وهو المنظور»[8].
على هذا الأساس، يمكن القول أنَّه تجاوز للظَّاهريِّ والعرَضيِّ، للأفعال والصفات للوصول إلى حقيقة الباطن والجوهر. وقياساً على ذلك، فإنَّ وظيفة الفنَّان المسلم في كلِّ الفنون منها الرَّقش، الزَّخرفة، النَّقش والخطُّ والحفر وغيرها من الفنون، هي تأكيد لهذا المبدأ من خلال أعماله الفنيَّة. فقد تكون نقطة واحدة الأصل في زخرفة تتشكَّل من خلال رؤى هندسيَّة متنوِّعة، ومركّبة، لتشكّل حسب نظام كليّ لوحة زخرفيّة رائعة التّناسق والتّناسب بين جملة من الأشكال الهندسيّة المتراوحة بين الخطّ والمربّع والمثلّث، وكذلك الحال في “المنمنمة” كشكل من أشكال الرَّسم من خلال الزَّخرفة كفنٍّ يجعل الكثرة تتوحَّد والوحدة تتكاثر.
لكنَّ هذا التجريد الهندسيَّ، أو التوحيد بالمعنى العربيِّ الإسلاميِّ، ليس على شاكلة التجريد الفنيِّ الحديث كما هو الحال مثلاً مع كاندنسكي، ذلك لأنَّ معنى التّجريد في هذه المنظومة العربيَّة الإسلاميَّة بقي مرتبطاً بفكرة “التوحيد” أو المرجع الدينيِّ، أي أنَّ الشَّكل الزُّخرفيَّ هو شكل ترميزيٌّ فيه نفي للمرموز عنه وللرَّامز أي للطّبيعة والفنَّان معاً.
في ضوء ذلك، نلاحظ أنَّ الفنَّ العربيَّ الإسلاميَّ يزهد في كلِّ ما هو حسِّيٌّ وعرَضيٌّ ليتّخذ من فنِّ الرَّسم من خلال الزُّخرف أسلوباً روحانيَّاً عبر تقديم هندسة روحانيَّة غايتها تجريد المحسوس إلى مجرَّد ذهنيٍّ يعبِّر عن اللاَّمرئيِّ الّذي هو أصل الجمال والبيان وهو الواحد المتوحِّد.
في المقابل، يجرِّد فنُّ الرَّسم التجريديِّ الواقع من دون تغييبه. إذ هو فنٌّ يبني علاقة واضحة بما هو واقعيٌّ ومرئيّْ. وإن كان أسلوب نقله فنيَّاً لهذا الواقع هو بحث بالأساس في روحه الداخليَّة وأسسه الفنيَّة الباطنيَّة، فإنَّ فنَّ الرَّسم التّجريديِّ الحديث بهذا الشَّكل لم يقم بنفي الواقع نفياً مطلقاً بقدر ما حاول نقل ما يعتبره أساساً في هذا الواقع، أي بحثاً في ما هو باطنيٌّ ليكون فنَّاً ملامساً لأصل الأشياء لا في حضورها الظَّاهر بل في وجودها الباطن.
لكنَّ «التجريد» بمعنى «التوحيد» في الفنِّ الإسلاميِّ هو تجسيد لغير المرئيِّ، فلا يعترف بالواقع ولا يعتبره مصدراً فنيَّاً ليمرَّ عبره من الظّاهر إلى الباطن. ولا بدَّ من القول أنَّه على خلاف التجريدية الغربيَّة الحديثة، يبحث في مواضع هي في ظاهرها غير مرئيَّة وغير واقعيَّة، أي أنَّها موضوعات ذهنيَّة تجريديَّة تبحث في القوانين المحرِّكة، للوجود والموجود. فحتَّى عندما نجد في بعض الزخارف بعض المظاهر الطّبيعيَّة كأوراق الأشجار، فليس هذا الرَّسم تسجيلاً للمرئيِّ بقدر ما هو استلهام وبحث في الحركة الطبيعيَّة المجرَّدة، أي أنَّ الموضوع هو القانون الطبيعيُّ لا المظاهر الطبيعيَّة.
ممَّا سبق تفصيله، يمكن تأكيد الاختلاف الواضح بين كلٍّ من التجريد الفنيِّ الحديث والتّجريد في الفنِّ الإسلاميِّ؛ فالأوَّل مصدره حسِّيٌّ واقعيٌّ، في حين أنَّ الثّاني مصدره لا مرئي ولا واقعي. ولعلَّ هذا المنهج التجريديَّ راجع بالأساس إلى “التحريم” في المنظومة الإسلاميَّة للرَّسم الواقعيّْ. إذ رغم عدم وضوح تحريم فنِّ الرَّسم في القرآن الكريم وضوحاً جليَّاً، وحتى في الأحاديث النبويَّة، إلاَّ أنَّ القناعة بتحريم الرَّسم أو “التصوير الواقعي” تبدو أمراً دينيَّاً، تأخذ بعداً تاريخيَّاً وفقهيَّاً لدى أكثر المؤرِّخين والنُّقَّاد العرب المسلمين، ويشكِّل لديهم قضيَّة فنيَّة أثارت ومازالت نقاشاً واسعاً، مع أنَّ الفنَّ الإسلاميَّ قد عرف هذا النوع من الفنِّ طوال قرون، وشاع الاصطلاح عليه بـ”الرَّقش العربيِّ” أو “الآربسك” Arabesque. وقد عرَّفه عفيف بهنسي بقوله:”هو إبداع لواقع جديد مختلف عن الواقع المألوف، وهو وسيلة التعبير عن البراعة لتحقيق متعة مفرحة”[9]. لذا، كان لزاماً علينا التأكيد على الاختلاف الواضح بين كلٍّ من التجريد في فنِّ الرَّسم الحديث و”التجريد” في الفنِّ الإسلاميِّ، إذ إنَّ المصدر مختلف، والأسلوب متباين، والأهداف مغايرة.
3- جماليَّة فنِّ التَّجريد في التَّوحيد:
تقوم رؤيا الرَّسام العربيِّ المسلم على أساس أنَّ كلَّ الأشياء موجودة بفعل قوَّة إلهيَّة، فهي لا ترى من زاوية محدَّدة، بل من خلال الكون كلِّه، لذا اختار منظوراً “كونيَّاً”، فكانت رسومه مسطَّحة، على عكس الرَّسام الغربيِّ الذي اعتمد المنظور النسبيَّ الصادر من عين المشاهد، فكانت لوحاته واضحة غير مركَّبة. وهو أمر ينطبق كذلك على الزَّخارف التي تزخر بمرتسمات لا حدَّ لها، تتراكم في اللَّوحة مكوِّنة لُحْمة نسيجيَّة من الرَّقش الهندسيِّ الذي ينتظم على شكل مساحات هندسيَّة أساسيَّة تؤلّف نجوماً وسطوحاً تحمل معانيَ كونيَّة.
هذه المحاولة في فنِّ الرَّقش أو فنِّ “التوحيد” في محايثة الكونيِّ والمطلق، جعلت الفنَّان الرَّسام يبحث عن القيم التي لا يمكن امتلاكها أو إدراكها بالعقل فحسب، بل أيضاً بالحدس أي بالعقل والحسِّ، فيرى في ما وراء الأشياء الإبداع عينه. ولعلَّ هذا المنطق هو ما يقرِّبه أو حتى يوازيه في بعض الأحيان بالفنِّ التجريديِّ الحديث الذي يعتبر الحدس أصل الإبداع والفنّْ. كما أنَّ فنَّ الرَّقش باعتباره الصيغة التصويريَّة التجريديَّة في الفنِّ العربيِّ، كان يعتبر تحوُّلاً رمزيَّاً من الكلمة إلى الصورة فهو مضمون وصورة: مضمون روحيٌّ وصورة هيروغليفيَّة تسعى للوجود الحقيقيِّ المطلق عبر المنهج “الصوفيّْ”. فقد كان الفنَّان العربيُّ يعتمد التَّكرار والتَّناسخ في لوحاته، كما كان المتصوِّف يكرِّر عبارة واحدة “الله” مئات المرَّات حتى يفقد وعيه ويتجرَّد من علاقته بالمادِّيْ. وعليه، فإنَّ الفنَّان العربيَّ المسلم لم يكن يرتبط في عمله التجريديِّ بالمفاهيم نفسها أو المنطلقات السائدة في الفنِّ الغربيِّ، إذ البحث لديه في موضوع المطلق كان مقابل الذاتيِّ، كما أنَّ الكونيَّ كان مقابل النفسيْ.
ورغم أنَّ ما أطلق عليه اسم “الخيط”، كأهمِّ أساليب الرَّقش العربيِّ هو عمل هندسيٌّ محض يقوم على أشكال كالمثلَّث والمربَّع، يتقارب والأشكال التجريديَّة الحديثة المعتمدة لدى كاندينسكي مثلاً، إلاَّ أنَّ الغاية في التجريد تختلف بعمق من هذا إلى ذاك. فالطابع التجريديُّ في شكل “الخيط” وإن كان هندسيَّاً ما هو إلاَّ مطابقة للشكل والمفهوم المطلق، وهو سعي وراء فكرة التوحيد، إذ إنَّ النقطة المركزيَّة هي الجوهر الذي تصدر عنه الأشياء كلِّها وإليه ترجع. وهو ما نجده تماماً في رسوم المتصوِّفة ولاسيَّما الحلاَّج وابن عربي في اعتبارهما أنَّ نقطة هي منبع الوجود ومنطلق الكون.
إنّ اختلاف المصدر واضح إذاً من خلال اعتماد الفنَّان العربيِّ المسلم على المصدر اللاَّهوتيِّ، في حين ينطلق الفنَّان التّجريدي المعاصر من الواقع لينحت المجرّد. أمّا المنهج فمختلف لأنّ الزّخرفة العربيّة الإسلاميّة تؤسّس إبداعها الفنّي على أساس “النظام الشكليِّ” للحرف والخطّْ. فالجماليَّة الزخرفيَّة هي في الأصل جماليَّة تنبني على التَّناسق والانسجام بين الأشكال في علاقاتها واتِّصالها، وبين الفراغات في ما بينها، إلى جانب عنصر “التلوين” الذي يُعتَبر تجسيداً لهذا الانسجام. فلا يمكن للَّون، كما هو الحال في فنِّ الرَّسم الحديث، أن يكون عنصراً مستقلَّاً أو فكرة خاصَّة داخل اللَّوحة، بل هو عنصر متوحِّد مع كلِّ الأشكال التي تشكِّل جماليَّة اللَّوحة الزخرفيَّة في الفنِّ الإسلاميّْ.
وينبغي القول أنَّ ينطبق على عنصر “اللّون” أو “التّلوين” ينسحب كذلك على عنصر “الفراغ” الفاصل بين الأشكال الهندسيَّة والخطوط الزخرفيَّة الذي لا يُعتَبر عنصراً مستقلَّاً عن بقيَّة عناصر اللَّوحة، بل هو جزء لا يتجزَّأ من نظامها الهندسيِّ، وهو أكثر من ذلك يرمز إلى “الحاضر- الغائب”، أو إلى “غياب المتجلِّي” القابل دائماً للامتلاء، إذ لا وجود لفكرة الفراغ في منظومة الفكر الإسلاميِّ، وخصوصاً الصوفيَّ منه.
لا وجود للفراغ، إذن، في المنطق الجماليِّ الإسلاميِّ، وقد يأخذ مفهوم “الخلاء” مكانة الفراغ باعتباره جزءاً من المساحة ورمزاً لثنائيَّة الغياب والحضور، ولعلَّ هذا كلَّه راجع للتَّصوُّر العقائديِّ بأنَّ الله موجود في كلِّ مكان، أي راجع إلى منطق “التوحيد”.
على هذا الأساس، لا يكون التجريد في الفنِّ الإسلاميِّ إلاَّ ثمرة لتأمُّل عقلانيٍّ، ولرؤية روحيَّة للعالم، ولحقيقة ما وراء الكون. وهذا لا يتأتَّى فهمه إلاَّ بإخراج الفنون التجريديَّة الإسلاميَّة من عالم المنظور والحسِّيِّ إلى عالم النَّظر والرَّمز والحدس. وبهذا يمكن تبيُّن الاختلافات العميقة التي تحول دون مماثلة التجريديَّة الغربيَّة بالتجريد العربيِّ الإسلاميّْ. ففي حين مثَّلت التجريديَّة الغربيَّة موقفاً رافضاً متمرِّداً كانت التجريديَّة العربيَّة مناشدة للمطلق باحثة وراء الحركة عن السكون الأبديّْ.
خلاصة القول أنَّ منطق “التوحيد” في “التجريد” في الفنِّ العربيِّ الإسلاميِّ يرجع بالضرورة إلى منطق أُحاديٍّ أي منطق الإله الواحد، والعالم الواحد، والفنَّان الموحَّد. وبصورة أوضح نقول بأنَّ الفكر العربيَّ الإسلاميَّ جعل الفنَّان ينفي ذاته وعمله الفنيَّ، وهذا النفي للأنا تبعه نفي للوجود، فلا وجود للأنا بل للمتعالي فحسب، كما أنَّه لا وجود للعالم المرئيِّ مقابل العالم الروحانيّْ. لذا توحَّد العالم الفنيُّ والفنَّان ليكونا شاهديْن على فكرة التوحيد، وهذا ما جعلنا نؤكِّد أنَّ العمل الفنيَّ التجريديَّ في ما يخصُّ “الرَّسم” داخل المنظومة العربيَّة الإسلاميَّة الصوفيَّة هو عمل يكون الاصطلاح عليه بـ”التوحيد” أقوَم وأكثر بلاغة، وهذا راجع لأسباب عدَّة هي في الأساس دينيَّة فقهيَّة تدور حول مسألة “التحريم”[10].
4- مغامرة الفنِّ الصّوفيّْ:
في ضوء ما تقدَّم، يتَّضح أنَّ العالم في نظر الفنَّان المسلم ليس هو نفسه في نظر غيره. وغيره هنا تشمل الفنَّانين الآخرين من غير ملَّته وعامَّة الناس من الّذين لا يشتغلون بصنعته. فالعالم في نظره كتاب خُطَّت حروفه من المعجزات الإلهيَّة اللاَّمحدودة. وهو على غير الكتاب الشهير الذي شبَّه به غاليلي الطّبيعة بالكتاب الّذي خُطُّت حروفه رياضيَّاً، والذي يدلُّ على حضور المعقول وتجلِّيه أمام الذات. ذلك أنَّ الطبيعة كتاب عنده كسجلٍّ من الرُّموز التي تدلُّ على حضور “اللاَّمعقول” أو المقدَّس أو الإلهيّْ. على الأقلِّ هذا ما صرًّح به الخطيبيُّ والسلجماسيُّ[11] بقولهما:” إنَّ العالم في نظر المسلم ماثل أمامه كتاباً مطلقاً يشهد على الحضور الإلهيِّ المحيط”.[12]
وممَّا يؤيِّد هذا المدخل للرُّؤية الفنيَّة للعالم في نظر الفنَّان المسلم الصوفيِّ أنَّ مبدأ “الخلق الإلهيِّ” هو من الرُّسوخ بحيث لا يماثله أيُّ يقين مشابه، لأنَّه يمثل جوهر عقيدته الدينيَّة التي سوف تتحوَّل في أعماله إلى عقيدة فنيَّة بالوضوح نفسه والصَّلابة نفسها. فالله هو مبدأ الوجود ومُحدِثه، وهو المتحكِّم به، وهو الذي يستمرُّ منه الوجود إلى يوم القيامة، وبضمانته هو. فالعالم متناهي الشَّكل والقدرة، وهو أقرب الأشياء إلى الدَّائرة المغلقة.
ومن المهمِّ الإشارة إلى أنَّ جميع المخلوقات في عالم الفنَّان المسلم تحتلُّ مراتب واضحة ومتسلسلة بحكم وظائفها وقرب نفسها من الذات الإلهيَّة. فالنفس الإنسانيَّة أرفع من النفس الحيوانيَّة، وهذه الأخيرة أرفع من مرتبة الجماد أو مرتبة النموّْ. ونظام الحركة في الكون محسوب بدقَّة، ولا وجود فيه للصدفة أو الفوضى. وإذا بدت لنا الأشياء فوضويَّة فاقدة للدلالة وللمعنى أحياناً، فذلك لعجز في فهمنا عن إدراك حكمة الخالق وعلمه المتعالي الذي لا يعلمه غيره. والإنسان جزء من النظام العامِّ. وهو مؤمن بالضرورة، ذلك أنَّ الفنَّان المسلم لا يرى نفسه إلاَّ في هذه الصورة. والإيمان يعني التعبير عن عمق العقيدة وليس مجادلتها أو تحريفها. والحياة ليست سوى نوم سوف تعقبه يقظة، وهي لحظة امتحان واختبار تنتهي بحساب، فإمَّا فوز وإمَّا هلاك.
إنَّ هذا النظام الغائيَّ للعالم بهذه الدقَّة البديعة في ترتيب الأمور وتصريفها، هي ما يشكِّل أهمَّ عناصر الرؤية العقائديَّة للفنَّان المسلم. فكيف عبَّر عنها من خلال العناصر التشكيليَّة التي نجح في السيطرة عليها وإخضاعها لحيله المتعدِّدة؟
في هذا السياق، يقول الخطيبيُّ والسلجماسيُّ” إنَّ الإنسان علامة، واسم مختوم بخاتم الله. إنَّه هذا الجسم المتخفِّي عن ذاته، وكأنَّه تخلَّص من حركته فانصهر في الرؤية الإلهيَّة. وما يتسرَّب إلى هذا الجسم بإملاء من الصوت الإلهيِّ صورة للنَّفس وهي تنزَّل من سماء الله. وفنُّ الخطِّ التقط بطريقته صورة النفس هذه، فعرض على البصر مسلك الوحي”.[13]
نتبيَّن من هذه الشهادة أنَّ المتصوِّف إذا كان مخطَّطا فإنَّ فنَّه لا يأتي عن اعتباطيَّة، وإنَّما يكون عن عقيدة عميقة ترى الأشياء من المنظار الذي عرضنا شرحه سابقاً. ولا ريب في أنَّ حركة نزول “الوجود” من الله، وهي تذكِّرنا إلى حدٍّ ما بفكرة “الفيض” التي تدفع الفنَّان المتصوِّف إلى استلهام مسارها المقدَّس، مسار الفعل الرهيب الذي يأتي بالحياة من العدم، وبالنفس: “روح الله نفخ بها في الإنسان” إلى الأجساد الطينيَّة العمياء، فوهبها ما به تكون بشراً. بل وصوَّرها فأبدع صورتها. وهذه الحركة العظيمة حركة الخلق هي نفسها في ما بعد حركة الوحي العظيم. فالوحي أي النُّور الذي يستهدي به البشر في حياتهم هو في الواقع الجزء المتمِّم لفعل الخلق، وهو نفسه يصدر عن ذات المصدر ويأخذ نفس التّعرّج النّازل، حتّى يبلغ مقصده. والخطّاط المتصوّف المعجب والمصدّق بعمق بكلّ ذلك، يحاول أن ينقل هذا المعنى وهذه “الحقيقة” إلى جوهر المتقبَّل، إلى شعوره ووعيه. وهنا تتطابق الحقيقة والجمال. فكأنَّنا نقارب الأفلاطونيَّة في سياق نظريَّة المُثل، والهيغليَّة في سياق الإستيطيقا وتطابق الحقِّ والجمال.
ولا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ أقرب الفنون أو على الأقلِّ الأكثر شهرة في التعبير عن مثل هذه الدلالات الرمزيَّة المقدَّسة هو فنُّ الخطِّ كما لاحظنا. ولم يكن ذلك من قبيل الصدفة، بل لأنَّ تحريم الصورة والتمثيل والمحاكاة قد دفع بالكثيرين من المبدعين المسلمين إلى البحث عن فنون لا تصويريَّة ووجدوها في الخطِّ، ثمَّ وبدرجة حاسمة ترقِّي الروحيِّ عبر المقامات والأحوال من خلال الرُّموز والأشكال، لأنَّ عقيدة الإسلام عقيدة كتابيَّة فقد حظي فيها الخطُّ منذ البداية بقبول وتشريف لم يحظ بهما فنٌّ آخر.
ويعتبر السلجماسيُّ والخطيبيُّ أنَّه لعبقريَّة فنِّ الخطِّ في التعبير عن هذه المحاميل المقدَّسة ينبغي اعتباره فنَّاً مركزيَّاً في الفنون الإسلاميَّة. فهو الفنُّ الذي “يجعل الوجود نابعاً من الكتابة”[14]. كما تنبع التجربة الروحيَّة من الذات الإنسانيَّة.
تكشف حركة الخطّ، التي هي حركة ذهن الفنَّان المسلم وأصابعه، عن أنَّ لا شيء يُنجز بالصدفة. بل كلُّ شيء تحكمه جماليَّة خاصَّة. جماليَّة هي مصدر متعة الفنَّان المسلم. ولذلك نراهما يتساءلان في سياق تحليلهما لهذه المسألة: من أين يستمدُّ الفنَّان المسلم متعته؟[15]
والأصل في هذه المتعة بالنِّسبة إلى الخطَّاط المسلم هي الكتابة. فالكتابة هي العنصر الجوهريُّ الذي تدور حوله الثقافة الإسلاميَّة[16]. والكتابة لم تحظ بكلِّ هذا الاهتمام إلاَّ بالعودة إلى “الكتاب” أو النصِّ المقدَّس الذي منه يتمُّ استلهام كلِّ شيء. فحينما يكتب المسلم هو في الواقع يعيد إنتاج العبارات “المقدَّسة” نفسها التي احتواها الكتاب. إنَّه يكتب بالحروف نفسها، وبالأبجديَّة نفسها، وأحياناً بالتركيب نفسه، وبالضمائر نفسها، وبالأسماء نفسها. إنَّه يكتب في كلِّ مرَّة “القرآن”. وكلَّما كتب الخطَّاط المسلم نصَّاً إلاَّ ووجد نفسه يستذكر آيات القرآن الكريم، وهو أشرف الكلام وأعظمه على الإطلاق. إنَّه كلام المولى عزَّ وجلَّ أعظم وأنفس جواهر العقيدة الدينيَّة للمسلم.
بناءً على ذلك، يجدر القول أنَّ فنَّ الخطِّ العربيِّ ليس مجرَّد تحبير حرٍّ على مساحات بيضاء للَّوحة، وإنَّما هو من منظور الجماليَّة الإسلاميَّة إعادة إنتاج للمقدَّس نفسه بطريقة إيهاميَّة واعية في عوالم روحانيَّة يُسمِّيها المتصوِّف بالعلوم الباطنيَّة. من هنا، فإنَّ حركة الخطِّ وتعرُّجاته، وخشونته ورفعته، وعموديَّته وأفقيَّته، وتضادِّه وانصهاره، وتقعُّره وانكماشه، وتفرُّقه واجتماعه، وذهابه وإيَّابه وتلوُّنه بالأحمر والأزرق والأصفر… كلُّها أفعال رمزيَّة مقصودة ومختارة بعناية كبيرة.
من هذا المدخل يدعونا الخطيبيُّ والسلجماسيُّ إلى أن نطلَّ من جديد على حركة الخطِّ العربيِّ ونفهمها على النحو المنطقيِّ الجدير بها. فهذه الحرك يغلب عليها فعل التدوير بشكل لافت. وهو ما دفع بالكثير من مؤرِّخي ونقَّاد الفنِّ الإسلاميِّ إلى مساءلة هذه الظاهرة عن معناها. وفي تأويلهما لا يدلُّ هذا التدوير المليء بالعناصر المنثورة أحياناً، أو بالفراغ أحياناً أخرى، على مجرَّد تصوُّر للعالم المتناهي المخلوق عند المسلم فحسب، إنَّما هو فضلاً عن ذلك تصوير تشبيهيٌّ لنزول النفس إلى المحتوى الذي تضمَّنها. والذي إذا ما حلَّت به حلَّ معها فعل الوجود نفسه. ولذلك، فإنَّ حلول فعل الحياة لا يمكن أن يكون في العدم، بل لابدَّ أن يكون في موضوع ما، وهذا الموضوع منطقيَّاً هو يسعى له، أي به بطن لقبوله. ولذلك تكون الحركة في الأغلب من الأعلى في اتِّجاه الأسفل، ومن النقطة في اتِّجاه بطن الدائرة. من هنا تأتي فكرة التقعير أو التدوير الأساسيَّة في رسم الخطِّ العربيّْ.
في هذا المعنى، يقول الخطيبيُّ والسلجماسيُّ:” وتفتح هذه الإشارة المجال لرسم خفيٍّ يرسم النفس في طريقها لاحتواء الفراغ والإقامة فيه بفضل خطوط كتابيَّة كالحروف المكتوبة بجمال مطلق والمختصرات الرمزيَّة للأسماء وهندسة الأمثال الإلهيَّة. ذلك هو المثال الحيّ للخطّ العربي”.[17]
وللخطّ حضور متميِّز لدى المتصوِّفة، ولاسيَّما إذا استدار. فالدائرة عند الحلاَّج على سبيل المثال سير في طريق مسدود. والنُّقطة وسط الدائرة هي الحقيقة. والحقيقة هي نقطة التجلِّي والالتقاء بين الظاهر والباطن، بين العرض والجوهر، حيث يتحقَّق الفهم ويغيب الوهم.
ولعلَّ اعتماد الخطِّ العربيِّ على ظاهرة التدوير هذه، قد جعلت منها ظاهرة كونيَّة تتبع الخطَّ العربيَّ أينما حلّْ. فالخطَّاط الصينيُّ المسلم اليوم حينما يرسم آيات من القرآن يعتمد تقريباً رؤية جماليَّة قريبة جدّاً من مثيله المسلم في الأقطار الأخرى. ويدلُّ كلُّ هذا على أنَّ الرُّؤية الجماليَّة الإسلاميَّة في الخطِّ هي عابرة للقارَّات، وللثقافات المحليَّة، وتقترن بالمعاني الدينيَّة التي يعتنقها المسلم بغضِّ النَّظر عن الجغرافيا التي ينتمي إليها.
في هذا المعنى يقول الخطيبيُّ والسجلماسيُّ:” لا يملك الفنُّ الإسلاميُّ مركزه في مكَّة أو في طومبكتو، بقدر ما يمثّل مشهداً متنوِّعاً ولا مركزي. ونسوق مثالاً على هذا الخطّ العربيِّ الذي يرسمه الصينيُّون المسلمون. إنَّ مثل هذا الخطِّ ليس عربيَّاً إلاَّ بالتجوُّز نظراً لكونه يتجاوز منبعه الأصليّْ. فالكتابة التخطيطيَّة تجوِّف الحرف العربيَّ وتجعله يدور حول نفسه ليحقِّق موازنة تشكيليَّة. فكلُّ ثقافة ترضي ذاتها بأن تنقل الثَّقافات الأخرى إلى مواطن اختلافها. فالرَّغبة تنفجر بواسطة المدِّ ذي الجذور المتباعدة.”[18]
نلفت هنا إلى أنَّ الفنَّ الصوفيَّ في عمومه، وفنَّ الخطِّ بالذَّات، لم ينبثق فجأة ومن عدم، وإنَّما ظهر نتيجة جملة من الشروط الموضوعيَّة، وأهمُّها ما أحدثه الغزو من “تثاقف” ولقاء حضاريٍّ بالتعبيرات الثقافيَّة للشّعوب الأخرى. ومن هنا فإنَّ الفنَّان المسلم حينما يرسم هو في الواقع يعبِّر في الآن نفسه عن عمق التشابك بين خصوصيَّته المحلِّيَّة التي ينتمي جغرافيا لها وبين عقيدته العامَّة التي اتَّخذت بعداً كونيَّاً إلى حدٍّ كبير. فحينما يكتب الصينيُّ المسلم عبارة ” لا إله إلاَّ الله” أو “الله أكبر” أو ” الله خالق السماوات والأرض ومعيدهما”، فإنَّه وإن التزم بتقنية التدوير والتقعير، أو بقاعدة أخرى عامَّة في الخطِّ العربيِّ، لا يعدم أن يدخل عليها بعض السِّمات الشخصيَّة الخاصَّة بالثَّقافة الصينيَّة، أو حتى الخاصَّة بثقافة مقاطعته داخل الصين نفسها. هذا العنصر هو ما يمكن تسميته بالجماليَّة المحليَّة في داخل الجماليَّة الفنِّيَّة الإسلاميَّة بصورة عامَّة. وهو أمر يجعلنا في داخل الفنِّ الإسلاميِّ نفسه نستطيع تمييز الفوارق الأفريقيَّة عن الفارسيَّة، عن الهنديَّة، عن الصينيَّة، عن التركيَّة، عن الأوروبيّة. وعادة ما يجد هذا التنوُّع لدى مؤرِّخي الفنِّ الإسلاميِّ ترحيباً كبيراً، إذ في الغالب يُنظَر إليه باعتباره دليلاً على السّمة الكونيَّة الحقيقيَّة للفنون الإسلاميَّة.
يشكِّل فضاء اللوحة مساحة للإبداع وللتخيُّل الحرِّ وللتعبير الغزير بالنسبة إلى الفنَّان المسلم. غير أنَّ شكل الحرف بحدِّ ذاته وقيمته الرمزيَّة المتداخلة بعمق مع الدينيِّ تجعل الفنَّان المسلم لا يشعر أنَّه أمام ” لعب طفولي حرٍّ”، وهو يباشر رسم ما يريد. إنَّها مفارقة عميقة قد لا يدركها إلاّ من تمثَّل جميع عناصر هذه ” الأحجية”. فالفنَّان المسلم من حيث الموضوع هو حرٌّ في أن يأتي من الرسوم ما شاء طالما أنَّه لن يشابه، وطالما أنَّ نيَّة المحاكاة لا تدخل في دائرة الممكن في تفكيره حتّى. وهو كذلك حرٌّ من جهة اختيار أيِّ فكرة يريد إيصالها إلى المتقبِّل، طالما أنَّها لا تتناقض ومفاهيم الخلق الإلهيِّ والقدريَّة والنظام الغائيِّ للكون والحياة.
غير أنَّ وسائل التعبير التي ينبغي عليه إبداعها هي التي تفرض نفسها كأفضل وأقرب التقنيَّات لتحقيق الغرض الجماليِّ الأسمى. وأقرب الأمثلة على ذلك فنُّ الخطِّ. فحركة وسكون وصعود ونزول وخشونة ورفعة الخطِّ هي بحسب الفكرة التي يعبَّر عنها. ولذلك، فمن الصعوبة بمكان القول بأنَّ العلاقة بين الشكل والمضمون في العمل الفنيِّ الإسلاميِّ الصوفيِّ اعتباطيَّة، أو حتى شبيهة بمثيلاتها في التجريديَّة المعاصرة. وفي هذا السياق يقول الخطيبيُّ والسلجماسيُّ “ولمَّا كان الخطُّ تزوِّقه المقدَّسات فإنَّه يشعُّ في كلِّ مكان، والكتابة تتأقلم مع كلِّ مادَّة ومع كلِّ شكل، إنَّها تنطوي على بعد جوهريٍّ في الوجود.”[19]
25/11/2024, 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
25/11/2024, 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
25/11/2024, 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
25/11/2024, 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
25/11/2024, 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
25/11/2024, 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin