كتاب: النفحات الإلهيه في سلوك كيفيه الطريقه المحمديه اسم المؤلف: السمان محمد بن عبد الكريم
الحمد لله الذي طهّر قلوب أحبابه بمدد المشاهدات تطهيرا، وحَباهُم لمَّا اجتباهم إلى حضراته العلية فيضا وإنعاما كثيرا، وأدخلهم حِمَا عِزَّته وجعل كلا منهم على بعض معلوماته أميرا، وأطلعهم على تأثيرات الأسماء والصفات وكان ربك قديرا، أمدَّ بالعناية من شاء وكشف لهم براقع الجمال، وحقق من أراد بأسرار الهداية وخصَّهُم بطلب الكمال، ورفع عن بصائرهم حجاب الغين وأتحفهم بواردات الوصال، وصفاهم من الأدناس بالخلوات، وكانَ الحق لهم هادياً ونصيراً؛ فطارت أطيار هممهم إلى أوكار بروج المعالي، وحارت أفكار لواحيهم فيما أوتوه من العوالي، ونارت أسرار محبيهم وعاد كل منهم للغير قالي، وأشهدَهُم الحسن المطلق في مواطن المجالي، وكانَ البديع بعباده خبيراً بصيراً، جعلهم دعائم البيت المقدَّس وضناين المنزل الأنفس، وهُداة لكل طالب يروم من نارهم قبس، ورقي بهم إلى أعلى المقامات وحررهم من رِقِّ الأكوان تحريرا، سرَتْ أسرارهم في عالم الملكوت وصُرِّفوا في إنفاد أحكام الجبروت، واطَّلعوا على لَمَحٍ من لوامح اللاهوت، فهانت عليهم الصعاب لكمال ما عندهم من الاستعدادات، وأعطاهم ملكاً كبيراً.
أحمده وهو الحامد والحمد والمحمود والباطن في كل شيء والظاهر بالشهود، حَمْدَ فانٍ عن غيره باقٍ به، من وله بذكره في بُعده وقربه؛ ما طلع في السماء نجم منيرا، وعاد برقع الجمال حسيرا.
وأشكره وهو الشاكر والشكر والمشكور،الأوَّل في البطون والآخر في الظهور، شكر مَنْ علم أنه هو، وأن لا موجود إلاّ هو، دائماً أبدا ما حدَّثَ سميرا سميرا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عزيزا كبيرا، القائل : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرً}، وأشهد أن سيدنا محمد عبده ومولاه القائل : (مَنْ توكَّلَ على الله كَفَاه، ومَنْ توَجَّهَ إليه آواه، ومَنْ تاب وإليه أناب تولّأه وأدناه، وأَغناه عن سِواه، وَوَقاه سعيرا).
والصلاة والسلام على عبد الذات ورسول الأسماء والصفات، الأب الأول، ومن عليه المعول، عين الأعيان، ونفس الرحمن، ومن جعله الله نوراً يُهتدى به بشيراً ونذيراً، وعلى آله وأصحابه، الشاربين من صافي شرابه، والمتأدبين بكمال آدابه، والمجاهدين في الله حق جهاده، وسلم تسليما كثيرا.
وَبَعْدُ : فإنَّ طريق القوم صعبة المرام، إلّا على مَن وفَّقه الله منزلة الإقدام، إلاّ على مَن قرَّبه مولاه وتولاّه، وذلك لعدم صدق المُريدين السالكين، وخفاء المُرادين المسلِّكين، إلا القليل من القليل، توجهوا إلى المولى الجليل، بعزم صادق وتوفيق، وهمَّة عالية لقطع الطريق، فلما علمتُ صدقهم وأنَّهم لِمَا طلبوه أهلا، والمقصود سيكون عليهم سهلاً، شرعتُ لهم في جمع نبذة حاوية لأحوال الطريق، معينة لمن عمل بها بجدٍّ وتصديق ، ورتَّبتُها على مقدمة يحتاج إليها المريد السَّالك، وطريق سلوكه للمالك، وثمانية فصول، لأطفال الطريق والفحول. الفصل الأول : في التوبة، الفصل الثاني في أخد العهد، الفصل الثالث في الذكر وكيفياته وشروطه، الفصل الرابع في الخلوة وكيفية أكله وشربه فيها، الفصل الخامس في الخواطر التي ترد على القلب والدواء النافع في طردها، الفصل السّادس في الصحبة، الفصل السابع في الآداب مع الأستاذ، الفصل الثامن في الولاية لأولياء الله، وخاتمة في النصيحة للإخوان نفع الله بها من استمعها وأعان، وسميتُها ب (النفحات الإلهية في كيفية سلوك الطريقة المحمدية) والله أسأل أن ينفع بهالإخوان، ويجعلها موصلة من تأمَّلها لحضرة الرحمان، إنه على كل شيء قدير وإليه المصير.
اعلم أيها المريد، الموفق السعيد، أن القوم أجمعوا على أن المجاهدة لا بد منها في سلوك طريق الأخيار، الذين حسناتهم سيئات عند الأبرار، مستدلين لذلك بالكتاب والسنة، ونادبين لفعلها بعبارات أفيضت عليهم من غيث المنة، أما الكتاب قوله تعالى :{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}وقوله تعالى : {وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ}وقوله تعالى : {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ}وقوله تعالى : {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً}وأمَّا السنة فقوله صلى الله عليه وسلم : (اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ) وقوله عليه الصلاة والسلام : (رَجَعْنَا مِنَ الجِهَادِ الأَصْغَر إلى الجهاد الأكبر، قيل : يا رسول الله وما الجهاد الأكبر ؟ قال : الجهاد في النفس) فالمجاهدة هي حصول المشقة والتعب في حال السلوك، فمن وجد مشقة ونصباً قيل له مجاهدة، ومن لم يجد ذلك كان عاملاً لا مُكابِداً، فإن المجاهدة مكابدة، قال الله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم} الآية، ثم أمرهم بالجهاد فكان جهادهم في نفوس عارية عندهم، فمن تحقق بهذا المعنى لم يجد مشقة للمجاهدة إلاّ من حيث ظاهره، وأمَّا من حيث باطنه فهو مستريح من العنا، فإن قال قائل : أن جميع أفعال العباد مخلوقة للرب، فكيف يتصنع العبد بأن يجاهد ويكابد مع أنه لا فعل له ؟ قلنا : إنَّ الله تعالى لما أمر عباده بإقامة نواميس حدوده وكلفهم بها، جعل لهم جزءاً اختياريًّا به يتصرَّفون، ولولا ذلك ما ثبت لهم ثواب ولا حق عليهم عقاب، فإذا علم العبد أنه مكلف بالطاعة وجب عليه المبادرة لها من غير أن يقول : إن كان الله قد قدَّر علي بطاعة فإني سأفعلها رغماً عني، أو بمعصية فكذلك، فإن هذا من الوساوس الشيطانيَّة، فإن الحق تعالى لما أمر عباده بالعمل لم يبق لهم حجة بل لله الحجة البالغة إذا لم يؤدُّوا ما كُلِّفوا به. وقد جعل سبحانه وتعالى لقبضة السعادة أهلا ولقبضة الشقاوة أهلا، فإذا تحرك صاحب قبضة السعادة جاءته العناية الأزلية وسارت به على فلك التقريب إلى ما فيه سعادته الأخروية، وإذا تحرك صاحب قبضة الشقاوة جاءته الوساوس الشيطانية وقطعته عن إدراك الرتبة العلية، كل ذلك بمحض التقدير والإرادة الكائنة في اللوح المحفوظ من النقص والزيادة.
فالطاعة به والعصيان لكن لا يرضى بالمعصية من الإنسان، ولا ينبغي للعبد في حال عصيانه أن يفرَّ إلى القضاء والقدر، فإنه سوء أدب بل يسرع بالتوبة والاستغفار، ويلوم نفسه على ما صدر منه ويتجنب الإصرار.
والحاصل أن المجاهدة تتم بها المشاهدة، قال بعض الأشياخ : "كل من ليس له بداية محرقة ليس له نهاية مشرقة"، فالبداية يُطالَب فيها المريد بالتصفية والتخلية ليحظَ بالتحلية.
فالتصفية : مِن "صَفت الماء" إذا استخلصته مما فيه من الكدر حتى رجع لأصله صافيا ليس فيه ما يغيره، فكذلك ينبغي للمريد أن يصفي بمجاهدته ما كدر صافي سريرته من التعلق بالأغيار والوقوف مع الأوهام والأفكار، فإذا صفا القلب من ذلك وعاد نورا بعد أن كان ظلاما حالك، ولم يبق له التفات إلى الغير، في حال السلوك والسير، يكون قد صفا لكنه لا يتم له هذا المقام إلا بعد مجاهدة تامة إذا قعد أو قام.
والتخلية : هي التخلي عن السوى وترك السَّالك ما به من هوى، ولها سببان : الذكر والفكر، فبالذكر تُشرِقُ الأنوار، فيتَّضح السُّبل وتفرِّق الأكدار، وبالكثير منه والقليل، يبرء المسموم ويُشفى العليل، وبالفكر يعرف العبد ما يناسب حاله فيلوي إليه إماله،وما لا ينفعه تَرَكه وَوَضعه.
والتصفية والتخلية لا يكونان في العقل والفكر والقلب والروح والسر والحواس الظاهرة، وهما كناية عن التطهير والتقديس، فطهارة العقل : عدم وقوفه عند كون من الأكوان. وطهارة الفكر : أن لا يمر فيه ما يشغله عن الرحمن، وإذا كنت في الوقوف مع المأمور مقهور أعطيت بمجاهدتك كمالا أو أجورا. وطهارة القلب : فراغه وتصفيته عن الأغيار، ودوام توجهه للعزيز الغفار. وطهارة الروح : عدم الوقوف مع الفيض والفتوح، والتحقق بحقائق العبودية، والخروج عن الوجود بالكلية، وطهارة السر : عدم شهود السوى والغيبة به فيه عن كل ما يرى. وطهارة الحواس الظاهرة بمياه الفيوضات الباهرة، وطهارة السمع : عدم السماع إلا منه، وعدم التلقي إلا به عنه. وطهارة العين : عدم شهود غير العين في كل أين وبين وحسن وشين. وطهارة الشم : في استنشاق الحي وقد تم. وطهارة ذوقك أيها الطالب في كمال شوقك إن كنت راغب، وطهارة لمسك في غيبتك عن حسك، في يومك وأمسك، وعن الإيضاح بأزيد من هذا فلنمسك.
واعلم أيها الطالب لطريق السادة، نلت السعادة، بأن العارفين من أهل الحق واليقين، والطريق المبين، رضي الله عنهم أجمعين قالوا إن طريقنا غيب غير محسوس ولا مشهود، سلوكه بالقلوب، لأنه من الغيوب، فيجب على المريد التصديق بآثاره، والإذعان لسطعات أنواره، مع الجد والاجتهاد، والتوجه الكلِّي والاستعداد، وسلوكه يصعب على النفوس، لكونه علم ذوق لا يُصطَّرُ في الطروس.
اللهم بجاههم عليك، وتقريبهم إليك، يا فرد، يا صمد، يا واحد، يا أحد، أن توفقني لِما يرضيك عنِّي لأُدعَى بالعبد المعبد، الذي بطاعة سيِّده تسوَّد.
اللهم بكلماتك التي ينفد البحر ولا تنفد، أن تجعلني ممن على فضلك دون علمه وعمله اعتمد، وممن صلى في محراب الاقتراب المُصمد، وقرأ من الآيات ما به وجد، وركع مسبِّحاً وسجد، وتشهد وسلِّم على أهل الغيبِ والشهادة في المهاد الأمهد، غائباً في جامع المشهد، آيباً في لامع نورٍ يتوقد، مرفوع الدعوات مسموع التوجهات، التي عن التصوّرات لم تتولَّد، لأنها عن التنزلات توجد.
اللهم صل وسلم على سيدنا ومولانا محمد وعلى آل سيدنا محمد أبد الأبد، وأمد الأمد، صلاة مالها حد يحدَّد، ولا تدخل تحت قيد عدد، وعلى التابعين وتابع التابعين إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.
الفصل الأول في التوبة
قال تعالى :{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}وقال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا}ووعد بقبول التوبة في آيتين وقال تعالى : {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ}وقال تعالى : {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} ووعد بالمغفرة للتائب في آيتين فقال تعالى : {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ} وقال عز وجل : {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ، وآنس عباده في آيتين : {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} وقال تعالى : {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ}الآية.
والآيات في ذكر التوبة كثيرة، وفي صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ) وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا ، تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ)، وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : (للّهُ أَشَدّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ أَحَدِكُمْ، مِنْ أَحَدِكُمْ بِضَالّتِهِ، إِذَا لَقِيَهَا بِأَرْضٍ فَلاة بعدَ هَرَبِهَا)، وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن العبد إذا اعترف بذنبِهِ ثمَّ تَابَ تَابَ اللهُ عَليْهِ) وفي الصحيح عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، وإذا أحبَّ الله عبداً لم يضره ذنب، ثم تلى : {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} قيل يا رسول الله وما علامة التوبة ؟ قال الندامة).
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (مَا مِنْ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ شَابٍّ تَائِبٍ) ويقال إن الله يقول في بعض كتبه : (ابن آدم عليك الجهد وعلي الوفاء، عليك الصبر وعليَّ الجزاء، عليك السؤال وعلي العطاء، عليك الأملاء وعلي الكتابة، عليك الدعاء وعليَّ الإجابة، عليك الشكر وعليَّ الزيادة، عليك التوبة وعليَّ القبول.
وفي الحديث أن الله يقول : (إذا تابَ عبدي إليَّ أنسيتُ جوارحه عمله وأنسيتُ البقاع عمله، وأنسيتُ حافظيه حتى لا يشهدا عليه يوم القيامة).
واعلم أن مقدمات التوبة ثلاث :
أحدها : ذكر غاية قبح الذنب.
والثانية : ذكر شدة عقوبة الله سبحانه وأليم سخطه وغضبه الذي لا طاقة لك به.
الثالثة : ذكر ضعفك وقلة حيلتك في ذلك، فإن من لا يحتمل حر شمس ولطمة شُرَطي وقرص نملة، كيف يحتمل حرّ نار جهنَّم وضرب مقامع الزبانية ولسع حيَّات كأعناق البُخت، وعقارب كالبغال خلقت من النار في دار الغضب والبوار، نعوذ بالله ثم نعوذ بالله من سخطه وعذابه، فإذا واظبتَ على هذه الأذكار وعاودتها آناء الليل وأطراف النهار فإنها ستحملك على التوبة النصوح من الذنوب والله الموفق.
فإن قيل : أليس قد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (الندم توبة) ولم يذكر مما ذكر ثم وشددتم شيئاً ؟ يقال له : اعلم أولاً أنَّ الندم غير مقدور للعبد، ألا ترى أنه تقع الندامة عن أمور في قلبه وهو يريد ألا يكون ذلك، والعلم أن المراد بالندم الندم لتعظيم الله وهيبة جلاله، لا للخوف على ذهاب جاهه عند الناس وماله في النفقة عليها، فإنَّ ذلك ليس بتوبة قطعاً. فعلمتَ بذلك أن في الخبر معنى لم تفهمه من ظاهره وهو الندم لتعظيم من عصيته عز وجل، وذلك مما يبعث على التوبة النصوح وهو من صفات التائبين وحالهم.
فإذا فكر المريد في الأذكار الثلاثة التي هي مقدمات التوبة يندم ويحمله الندم على ترك اختيار الذنب، وتبقى ندامته في قلبه في المستقبل فتحمله على الابتهال والتضرع، فلمَّا كان ذلك من أسباب التوبة وصفات التائب سمَّاه باسم الندم فافهم ذلك موفقاً إن شاء الله تعالى.
فإن قلتَ : كيف يمكن الإنسان أنه يصير بحيث لا يقع منه ذنب البتة من صغير أو كبير كيف وأنبياء الله صلوات الله عليهم أجمعين الذين هم أشرف خلق الله قد اختلف أهل العلم فيهم هل نالوا هذه الدرجة أم لا ؟
فاعلم أن هذا أمر ممكن غير مستحيل والله يختص برحمته من يشاء.
ثم من شروط التوبة أن لا يتعمَّد ذنباً، فإن وقع منه بسهوٍ أو خطإ فهو معفو عنه بفضل الله تعالى وهذا هيِّن على من وفَّقه الله.
فإن قلتَ : إنما يمنعني من التوبة أني أعلم من نفسي أني أعوذ إلى الذنب ولا أثبت على التوبة فلا فائدة في ذلك.
فاعلم أن هذا من غرور الشيطان ومن أين لك هذا العلم، وعسى أن تموت تائباً قبل أن تعود إلى الذنب، وأما الخوف من العود فعليك العزم والصدق في ذلك وعليه الإتمام، فإن أتمَّ فذاك وإن لم يتم فقد غفرت الذنوب السالفة وتخلَّصتَ منها وتطهَّرتَ وليس عليك إلا هذا الذنب الذي أحدثته الآن، وهذا هو الربح العظيم والفائدة العظيمة الكبيرة، فلا يمنعك خوف العود عن التوبة فإنك من التوبة أبداً بين إحدى الحسنيين والله ولي التوفيق والهداية.
الحمد لله الذي طهّر قلوب أحبابه بمدد المشاهدات تطهيرا، وحَباهُم لمَّا اجتباهم إلى حضراته العلية فيضا وإنعاما كثيرا، وأدخلهم حِمَا عِزَّته وجعل كلا منهم على بعض معلوماته أميرا، وأطلعهم على تأثيرات الأسماء والصفات وكان ربك قديرا، أمدَّ بالعناية من شاء وكشف لهم براقع الجمال، وحقق من أراد بأسرار الهداية وخصَّهُم بطلب الكمال، ورفع عن بصائرهم حجاب الغين وأتحفهم بواردات الوصال، وصفاهم من الأدناس بالخلوات، وكانَ الحق لهم هادياً ونصيراً؛ فطارت أطيار هممهم إلى أوكار بروج المعالي، وحارت أفكار لواحيهم فيما أوتوه من العوالي، ونارت أسرار محبيهم وعاد كل منهم للغير قالي، وأشهدَهُم الحسن المطلق في مواطن المجالي، وكانَ البديع بعباده خبيراً بصيراً، جعلهم دعائم البيت المقدَّس وضناين المنزل الأنفس، وهُداة لكل طالب يروم من نارهم قبس، ورقي بهم إلى أعلى المقامات وحررهم من رِقِّ الأكوان تحريرا، سرَتْ أسرارهم في عالم الملكوت وصُرِّفوا في إنفاد أحكام الجبروت، واطَّلعوا على لَمَحٍ من لوامح اللاهوت، فهانت عليهم الصعاب لكمال ما عندهم من الاستعدادات، وأعطاهم ملكاً كبيراً.
أحمده وهو الحامد والحمد والمحمود والباطن في كل شيء والظاهر بالشهود، حَمْدَ فانٍ عن غيره باقٍ به، من وله بذكره في بُعده وقربه؛ ما طلع في السماء نجم منيرا، وعاد برقع الجمال حسيرا.
وأشكره وهو الشاكر والشكر والمشكور،الأوَّل في البطون والآخر في الظهور، شكر مَنْ علم أنه هو، وأن لا موجود إلاّ هو، دائماً أبدا ما حدَّثَ سميرا سميرا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عزيزا كبيرا، القائل : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرً}، وأشهد أن سيدنا محمد عبده ومولاه القائل : (مَنْ توكَّلَ على الله كَفَاه، ومَنْ توَجَّهَ إليه آواه، ومَنْ تاب وإليه أناب تولّأه وأدناه، وأَغناه عن سِواه، وَوَقاه سعيرا).
والصلاة والسلام على عبد الذات ورسول الأسماء والصفات، الأب الأول، ومن عليه المعول، عين الأعيان، ونفس الرحمن، ومن جعله الله نوراً يُهتدى به بشيراً ونذيراً، وعلى آله وأصحابه، الشاربين من صافي شرابه، والمتأدبين بكمال آدابه، والمجاهدين في الله حق جهاده، وسلم تسليما كثيرا.
وَبَعْدُ : فإنَّ طريق القوم صعبة المرام، إلّا على مَن وفَّقه الله منزلة الإقدام، إلاّ على مَن قرَّبه مولاه وتولاّه، وذلك لعدم صدق المُريدين السالكين، وخفاء المُرادين المسلِّكين، إلا القليل من القليل، توجهوا إلى المولى الجليل، بعزم صادق وتوفيق، وهمَّة عالية لقطع الطريق، فلما علمتُ صدقهم وأنَّهم لِمَا طلبوه أهلا، والمقصود سيكون عليهم سهلاً، شرعتُ لهم في جمع نبذة حاوية لأحوال الطريق، معينة لمن عمل بها بجدٍّ وتصديق ، ورتَّبتُها على مقدمة يحتاج إليها المريد السَّالك، وطريق سلوكه للمالك، وثمانية فصول، لأطفال الطريق والفحول. الفصل الأول : في التوبة، الفصل الثاني في أخد العهد، الفصل الثالث في الذكر وكيفياته وشروطه، الفصل الرابع في الخلوة وكيفية أكله وشربه فيها، الفصل الخامس في الخواطر التي ترد على القلب والدواء النافع في طردها، الفصل السّادس في الصحبة، الفصل السابع في الآداب مع الأستاذ، الفصل الثامن في الولاية لأولياء الله، وخاتمة في النصيحة للإخوان نفع الله بها من استمعها وأعان، وسميتُها ب (النفحات الإلهية في كيفية سلوك الطريقة المحمدية) والله أسأل أن ينفع بهالإخوان، ويجعلها موصلة من تأمَّلها لحضرة الرحمان، إنه على كل شيء قدير وإليه المصير.
اعلم أيها المريد، الموفق السعيد، أن القوم أجمعوا على أن المجاهدة لا بد منها في سلوك طريق الأخيار، الذين حسناتهم سيئات عند الأبرار، مستدلين لذلك بالكتاب والسنة، ونادبين لفعلها بعبارات أفيضت عليهم من غيث المنة، أما الكتاب قوله تعالى :{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}وقوله تعالى : {وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ}وقوله تعالى : {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ}وقوله تعالى : {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً}وأمَّا السنة فقوله صلى الله عليه وسلم : (اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ) وقوله عليه الصلاة والسلام : (رَجَعْنَا مِنَ الجِهَادِ الأَصْغَر إلى الجهاد الأكبر، قيل : يا رسول الله وما الجهاد الأكبر ؟ قال : الجهاد في النفس) فالمجاهدة هي حصول المشقة والتعب في حال السلوك، فمن وجد مشقة ونصباً قيل له مجاهدة، ومن لم يجد ذلك كان عاملاً لا مُكابِداً، فإن المجاهدة مكابدة، قال الله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم} الآية، ثم أمرهم بالجهاد فكان جهادهم في نفوس عارية عندهم، فمن تحقق بهذا المعنى لم يجد مشقة للمجاهدة إلاّ من حيث ظاهره، وأمَّا من حيث باطنه فهو مستريح من العنا، فإن قال قائل : أن جميع أفعال العباد مخلوقة للرب، فكيف يتصنع العبد بأن يجاهد ويكابد مع أنه لا فعل له ؟ قلنا : إنَّ الله تعالى لما أمر عباده بإقامة نواميس حدوده وكلفهم بها، جعل لهم جزءاً اختياريًّا به يتصرَّفون، ولولا ذلك ما ثبت لهم ثواب ولا حق عليهم عقاب، فإذا علم العبد أنه مكلف بالطاعة وجب عليه المبادرة لها من غير أن يقول : إن كان الله قد قدَّر علي بطاعة فإني سأفعلها رغماً عني، أو بمعصية فكذلك، فإن هذا من الوساوس الشيطانيَّة، فإن الحق تعالى لما أمر عباده بالعمل لم يبق لهم حجة بل لله الحجة البالغة إذا لم يؤدُّوا ما كُلِّفوا به. وقد جعل سبحانه وتعالى لقبضة السعادة أهلا ولقبضة الشقاوة أهلا، فإذا تحرك صاحب قبضة السعادة جاءته العناية الأزلية وسارت به على فلك التقريب إلى ما فيه سعادته الأخروية، وإذا تحرك صاحب قبضة الشقاوة جاءته الوساوس الشيطانية وقطعته عن إدراك الرتبة العلية، كل ذلك بمحض التقدير والإرادة الكائنة في اللوح المحفوظ من النقص والزيادة.
فالطاعة به والعصيان لكن لا يرضى بالمعصية من الإنسان، ولا ينبغي للعبد في حال عصيانه أن يفرَّ إلى القضاء والقدر، فإنه سوء أدب بل يسرع بالتوبة والاستغفار، ويلوم نفسه على ما صدر منه ويتجنب الإصرار.
والحاصل أن المجاهدة تتم بها المشاهدة، قال بعض الأشياخ : "كل من ليس له بداية محرقة ليس له نهاية مشرقة"، فالبداية يُطالَب فيها المريد بالتصفية والتخلية ليحظَ بالتحلية.
فالتصفية : مِن "صَفت الماء" إذا استخلصته مما فيه من الكدر حتى رجع لأصله صافيا ليس فيه ما يغيره، فكذلك ينبغي للمريد أن يصفي بمجاهدته ما كدر صافي سريرته من التعلق بالأغيار والوقوف مع الأوهام والأفكار، فإذا صفا القلب من ذلك وعاد نورا بعد أن كان ظلاما حالك، ولم يبق له التفات إلى الغير، في حال السلوك والسير، يكون قد صفا لكنه لا يتم له هذا المقام إلا بعد مجاهدة تامة إذا قعد أو قام.
والتخلية : هي التخلي عن السوى وترك السَّالك ما به من هوى، ولها سببان : الذكر والفكر، فبالذكر تُشرِقُ الأنوار، فيتَّضح السُّبل وتفرِّق الأكدار، وبالكثير منه والقليل، يبرء المسموم ويُشفى العليل، وبالفكر يعرف العبد ما يناسب حاله فيلوي إليه إماله،وما لا ينفعه تَرَكه وَوَضعه.
والتصفية والتخلية لا يكونان في العقل والفكر والقلب والروح والسر والحواس الظاهرة، وهما كناية عن التطهير والتقديس، فطهارة العقل : عدم وقوفه عند كون من الأكوان. وطهارة الفكر : أن لا يمر فيه ما يشغله عن الرحمن، وإذا كنت في الوقوف مع المأمور مقهور أعطيت بمجاهدتك كمالا أو أجورا. وطهارة القلب : فراغه وتصفيته عن الأغيار، ودوام توجهه للعزيز الغفار. وطهارة الروح : عدم الوقوف مع الفيض والفتوح، والتحقق بحقائق العبودية، والخروج عن الوجود بالكلية، وطهارة السر : عدم شهود السوى والغيبة به فيه عن كل ما يرى. وطهارة الحواس الظاهرة بمياه الفيوضات الباهرة، وطهارة السمع : عدم السماع إلا منه، وعدم التلقي إلا به عنه. وطهارة العين : عدم شهود غير العين في كل أين وبين وحسن وشين. وطهارة الشم : في استنشاق الحي وقد تم. وطهارة ذوقك أيها الطالب في كمال شوقك إن كنت راغب، وطهارة لمسك في غيبتك عن حسك، في يومك وأمسك، وعن الإيضاح بأزيد من هذا فلنمسك.
واعلم أيها الطالب لطريق السادة، نلت السعادة، بأن العارفين من أهل الحق واليقين، والطريق المبين، رضي الله عنهم أجمعين قالوا إن طريقنا غيب غير محسوس ولا مشهود، سلوكه بالقلوب، لأنه من الغيوب، فيجب على المريد التصديق بآثاره، والإذعان لسطعات أنواره، مع الجد والاجتهاد، والتوجه الكلِّي والاستعداد، وسلوكه يصعب على النفوس، لكونه علم ذوق لا يُصطَّرُ في الطروس.
اللهم بجاههم عليك، وتقريبهم إليك، يا فرد، يا صمد، يا واحد، يا أحد، أن توفقني لِما يرضيك عنِّي لأُدعَى بالعبد المعبد، الذي بطاعة سيِّده تسوَّد.
اللهم بكلماتك التي ينفد البحر ولا تنفد، أن تجعلني ممن على فضلك دون علمه وعمله اعتمد، وممن صلى في محراب الاقتراب المُصمد، وقرأ من الآيات ما به وجد، وركع مسبِّحاً وسجد، وتشهد وسلِّم على أهل الغيبِ والشهادة في المهاد الأمهد، غائباً في جامع المشهد، آيباً في لامع نورٍ يتوقد، مرفوع الدعوات مسموع التوجهات، التي عن التصوّرات لم تتولَّد، لأنها عن التنزلات توجد.
اللهم صل وسلم على سيدنا ومولانا محمد وعلى آل سيدنا محمد أبد الأبد، وأمد الأمد، صلاة مالها حد يحدَّد، ولا تدخل تحت قيد عدد، وعلى التابعين وتابع التابعين إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.
الفصل الأول في التوبة
قال تعالى :{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}وقال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا}ووعد بقبول التوبة في آيتين وقال تعالى : {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ}وقال تعالى : {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} ووعد بالمغفرة للتائب في آيتين فقال تعالى : {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ} وقال عز وجل : {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ، وآنس عباده في آيتين : {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} وقال تعالى : {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ}الآية.
والآيات في ذكر التوبة كثيرة، وفي صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ) وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا ، تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ)، وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : (للّهُ أَشَدّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ أَحَدِكُمْ، مِنْ أَحَدِكُمْ بِضَالّتِهِ، إِذَا لَقِيَهَا بِأَرْضٍ فَلاة بعدَ هَرَبِهَا)، وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن العبد إذا اعترف بذنبِهِ ثمَّ تَابَ تَابَ اللهُ عَليْهِ) وفي الصحيح عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، وإذا أحبَّ الله عبداً لم يضره ذنب، ثم تلى : {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} قيل يا رسول الله وما علامة التوبة ؟ قال الندامة).
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (مَا مِنْ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ شَابٍّ تَائِبٍ) ويقال إن الله يقول في بعض كتبه : (ابن آدم عليك الجهد وعلي الوفاء، عليك الصبر وعليَّ الجزاء، عليك السؤال وعلي العطاء، عليك الأملاء وعلي الكتابة، عليك الدعاء وعليَّ الإجابة، عليك الشكر وعليَّ الزيادة، عليك التوبة وعليَّ القبول.
وفي الحديث أن الله يقول : (إذا تابَ عبدي إليَّ أنسيتُ جوارحه عمله وأنسيتُ البقاع عمله، وأنسيتُ حافظيه حتى لا يشهدا عليه يوم القيامة).
واعلم أن مقدمات التوبة ثلاث :
أحدها : ذكر غاية قبح الذنب.
والثانية : ذكر شدة عقوبة الله سبحانه وأليم سخطه وغضبه الذي لا طاقة لك به.
الثالثة : ذكر ضعفك وقلة حيلتك في ذلك، فإن من لا يحتمل حر شمس ولطمة شُرَطي وقرص نملة، كيف يحتمل حرّ نار جهنَّم وضرب مقامع الزبانية ولسع حيَّات كأعناق البُخت، وعقارب كالبغال خلقت من النار في دار الغضب والبوار، نعوذ بالله ثم نعوذ بالله من سخطه وعذابه، فإذا واظبتَ على هذه الأذكار وعاودتها آناء الليل وأطراف النهار فإنها ستحملك على التوبة النصوح من الذنوب والله الموفق.
فإن قيل : أليس قد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (الندم توبة) ولم يذكر مما ذكر ثم وشددتم شيئاً ؟ يقال له : اعلم أولاً أنَّ الندم غير مقدور للعبد، ألا ترى أنه تقع الندامة عن أمور في قلبه وهو يريد ألا يكون ذلك، والعلم أن المراد بالندم الندم لتعظيم الله وهيبة جلاله، لا للخوف على ذهاب جاهه عند الناس وماله في النفقة عليها، فإنَّ ذلك ليس بتوبة قطعاً. فعلمتَ بذلك أن في الخبر معنى لم تفهمه من ظاهره وهو الندم لتعظيم من عصيته عز وجل، وذلك مما يبعث على التوبة النصوح وهو من صفات التائبين وحالهم.
فإذا فكر المريد في الأذكار الثلاثة التي هي مقدمات التوبة يندم ويحمله الندم على ترك اختيار الذنب، وتبقى ندامته في قلبه في المستقبل فتحمله على الابتهال والتضرع، فلمَّا كان ذلك من أسباب التوبة وصفات التائب سمَّاه باسم الندم فافهم ذلك موفقاً إن شاء الله تعالى.
فإن قلتَ : كيف يمكن الإنسان أنه يصير بحيث لا يقع منه ذنب البتة من صغير أو كبير كيف وأنبياء الله صلوات الله عليهم أجمعين الذين هم أشرف خلق الله قد اختلف أهل العلم فيهم هل نالوا هذه الدرجة أم لا ؟
فاعلم أن هذا أمر ممكن غير مستحيل والله يختص برحمته من يشاء.
ثم من شروط التوبة أن لا يتعمَّد ذنباً، فإن وقع منه بسهوٍ أو خطإ فهو معفو عنه بفضل الله تعالى وهذا هيِّن على من وفَّقه الله.
فإن قلتَ : إنما يمنعني من التوبة أني أعلم من نفسي أني أعوذ إلى الذنب ولا أثبت على التوبة فلا فائدة في ذلك.
فاعلم أن هذا من غرور الشيطان ومن أين لك هذا العلم، وعسى أن تموت تائباً قبل أن تعود إلى الذنب، وأما الخوف من العود فعليك العزم والصدق في ذلك وعليه الإتمام، فإن أتمَّ فذاك وإن لم يتم فقد غفرت الذنوب السالفة وتخلَّصتَ منها وتطهَّرتَ وليس عليك إلا هذا الذنب الذي أحدثته الآن، وهذا هو الربح العظيم والفائدة العظيمة الكبيرة، فلا يمنعك خوف العود عن التوبة فإنك من التوبة أبداً بين إحدى الحسنيين والله ولي التوفيق والهداية.
أمس في 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
أمس في 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
أمس في 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
أمس في 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
أمس في 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
أمس في 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin