ومن السادة المالكية:
الإمام العارف بالله تعالى أبو الفتح ابن عطاء الله السكندري [ت709هـ]، حيث يقول في "مفتاح الفلاح ومصباح الأرواح": "وإيَّاك أن تترك لفظ السيادة؛ ففيها سِرٌّ يظهر لِمَن لازم هذه العبادة" (24 )اهـ.
وقال الإمام أبو عبد الله الأُبِّيُّ المالكي [ت827هـ] في "إكمال إكمال المُعلِم لفوائد كتاب مسلم": "وما يُستَعمَل من لفظ "السيد" و"المَولَى" حَسَنٌ وإن لم يَرِدْ، والمستَنَد فيه ما صح من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ». واتفق أن طالبًا يُدعَى بابن غمرين قال: لا يُزاد في الصلاة "على سيدنا"، قال: لأنه لم يَرِد، وإنما يُقال "على محمَّد"، فنقمها عليه الطلبة، وبلغ الأمر إلى القاضي ابن عبد السلام، فأرسل وراءه الأعوان، فتخفَّى مدةً ولم يخرج، حتى شفع فيه حاجب الخليفة حينئذ فخلَّى عنه، وكأنه رأى أن تغيُّبه تلك المدة هي عقوبته" ( 25) اهـ.
وكذا قال العلامة أبو عبد الله محمد بن يوسف السنوسي الحسيني المالكي [ت895هـ] أيضًا في شرحه على صحيح مسلم المسمَّى "مكمِّل إكمال الإكمال" (26 ).
وقال الإمام الوَنْشَرِيسي [ت914هـ] في "المعيار المُعْرِب":
"وسُئِل سيدي قاسم العقباني [ت854هـ] رحمه الله: هل يجوز أن يُقال: (اللهم صلِّ على سيدنا محمَّد) أم لا؟
فأجاب: الصلاة على نبينا سيدنا محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم من أفضل العبادات، ومن معنى الوارد في الذكر؛ لأن ذِكْرَه صلى الله عليه وآله وسلم يقارنه أبدًا في القلب وفي اللسان ذِكْرُ مولانا جل جلالُه، وأفضل الأذكار ما جيءَ به على الوجه الذي وَصَفَه صاحب الشريعة، ولكن ذِكْر نبيِّنا صلى الله عليه وآله وسلم بالسيادة وما أشبهها من الصفات التي تدل على التعزير والتوقير ليس بممنوع، بل هو زيادة عبادة وإيمان، لاسيما بعد ثبوت «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ»؛ إذ ذكرُه صلى الله عليه وآله وسلم بـ"سيدنا" بعد ورود هذا الخبر إيمان بهذا الخبر، وكلُّ تصديق بما جاء به المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم فهو إيمان وعبادة، والله الموفق بفضله. انتهى..
وأجاب سيدي عبد الله العبدوسي [ت849هـ] عن مثل هذه فقال: ينبغي أن لا يزاد فيها ولا يُنقص منها، فإن زاد فيها "سيدنا" و"مولانا" فجائز؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم أتَى بها تعليمًا لهم حين قالوا له: إن الله سبحانه أمرنا أن نصلِّي عليك، فكيف نصلِّي عليك؟ وأما الصلاة المرتجَلة التي لم تَرِد بلفظه فتزيد فيها "سيدنا ومولانا محمد"؛ إذ هو سيدنا ومولانا صلى الله عليه وآله وسلم، وقد نصَّ على هذه المسألة بعينها الإمام الباخلي في "شرح الحزب الصغير" للقطب سيدنا ومولانا أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه، وبالله التوفيق" (27 ) اهـ.
وقال الإمام الحطَّاب المالكي [ت954هـ] في أول شرحه "مواهب الجليل": بعد أن نقل ما سبق عن الأُبِّي: "وذكر البرزلي عن بعضهم أنه أنكر أن يقولها -يعني لفظ "السيد"- أحدٌ، ثم قال: وهذا إن صح عنه غاية الجهل، قال: واختار شيخ شيوخنا المجد اللغوي صاحب القاموس ترك ذلك في الصلاة؛ اتِّباعًا لِلَفظ الحديث، والإتيانَ به في غير الصلاة، وذكر الحافظ السخاوي في "القول البديع" كلامَه، وذكر عن ابن مفلح الحنبلي نحو ذلك، وذَكَرَ عن الشَّيخِ عِزِّ الدِّينِ ابنِ عبدِ السَّلامِ أَنَّ الإتيانَ بها في الصَّلاةِ يَنبَنِي على الخِلافِ: هل الأَولَى امتِثالُ الأَمرِ أو سُلُوكُ الأَدَبِ؟ قُلت: واَلذي يَظهَرُ لي وأَفعَلُه في الصَّلاةِ وغيرِها الإتيانُ بلَفظِ "السَّيِّدِ"، واَللهُ أَعلَمُ" (28 ) اهـ.
قال الإمام أبو عبد الله محمد العربي بن أحمد بردله [ت1134هـ] في "نوازله" تعقيبًا على كلام الإمام الحطّاب: "والذي اختاره الشيخ الحطَّاب هو ما عليه الناس" (29 ) اهـ.
وقال الإمام محمد المهدي الفاسي المالكي [ت1052هـ] في "مطالع المسرّات بشرح دلائل الخيرات": "الصحيح جواز الإتيان بلفظ "السيد" و"المولَى" ونحوهما مما يقتضي التشريف والتوقير والتعظيم في الصلاة على سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإيثار ذلك على تركه، ويُقال في الصلاة وغيرها إلا حيث تُعُبِّد بلفظ ما رُوِيَ فيُقتَصَر على ما تُعُبِّد به، أو في الروايـة -يعني في حكايتها- فيؤتَى بها على وجهها، وقال البرزلي: ولا خلاف أن كل ما يقتضي التشريف والتوقير والتعظيم في حقه عليه الصلاة والسلام أنه يقال بألفاظ مختلفة، حتى بلّغها ابن العربي مائة فأكثر" (30 ) اهـ.
وقال العلامة النفراوي [ت1126هـ] في "الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني": "وَعَبَّرَ بِـ"سَيِّدِنَا" إشَارَةً إلَى جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ فِيهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلاةِ وَغَيْرِهَا" ( 31) اهـ.
وقال الإمام أبو العباس أحمد بن قاسم البوني [ت1139هـ] في كتابه في آداب الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "ومنها: إذا مرَّ في صلاته عليه صلى الله عليه وآله وسلم على اسم "محمَّد" صلى الله عليه وآله وسلم في بعض الكيفيات مجرَّدًا عن السيادة فليزد لفظ السيادة بلسانه فقط؛ فذلك هو الأدب مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأما الكتابة فإنها تابعة للرواية من غير زيادة ولا نقصان، اتفق الصوفية على ذلك في القرن الثالث، ووافقهم العلماء عليه، وقالوا: نختص النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك دون سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم كما في الصحيحين: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ»، ومن أسمائه صلى الله عليه وآله وسلم: سيِّد... وسيادتُه صلى الله عليه وآله وسلم أجلى وأظهر وأوضح من أن يُستَدَلَّ عليها؛ فهو سيد العالم بأسره من غير تقييد ولا تخصيص وفي الدنيا وفي الآخرة، وإنما قال في الحديث: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» لظهور انفراده بالسؤدد والشفاعة فيه عن غيره حين يلجأ إليه الناس في ذلك فلا يجدون سواه، وجميع الخلائق مجتمعون أوَّلُهم وآخرُهم وإِنْسُهُم وجِنُّهُم وبينهم الأنبياء والمرسلون، وتلك الدارُ دارُ الدوام والبقاء، فهي المعتبَرة، وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم معلومًا بالسيادة نسبًا وطبعًا وخلقًا وأدبًا إلى غير ذلك من المكارم والمفاخر قبل ظهوره بالنبوة، يعرف ذلك مَن اعتنى بالسير وتعرف أحواله من الصغر إلى الكبر صلوات الله عليه وسلامه... ثم قال: وفي عمدة المريد للشيخ إبراهيم اللقاني على الجوهرة له قال أستاذنا: ولا خلاف في استعمال "السيد" فيه عليه الصلاة والسلام واستحبابه في غير الصلاة، وإنما الخلاف في استعماله في الصلاة: فكَرِهَه قومٌ، وأجازه آخرون، وقضية صنيع ابن عبد السلام استحبابه، وسُئِل عن ذلك المحقق المحلي، فأجاب بأن الأدب مع من ذُكِر مطلوبٌ - يعني أنه مستحَبٌّ - وأشار إلى أن ذلك يخَرَّج على قاعدتين فيما إذا تعارضتا فأيتهما تقدم: امتثال الأمر؛ عملاً بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» (32 )، والثانية سلوك الأدب؛ حيث تأخَّرَ عن المحراب أبو بكر الصديق رضي الله عنه مع قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم له "مَكَانَك" فتأخَّر، وهذه الطريقة هي الراجحة، وبها أخَذَ ابن عبد السلام وابن جماعة الشافعيان وابن عبد السلام المالكي، وحديث "لا تسودوني في الصلاة" لا أصل له كما قاله الجلال، قال بعضهم: ولو ورد أمكن تأويله" (33 ) اهـ.
وقال الشيخ أبو العباس أحمد بن صالح النفجروتي الدرعي المالكي [ت1147هـ] في كتابه "تنبيه الغافل عما ظنه عالم": "وانظر هل يجوز لأحد أن يزيد لفظ "السيادة" قبل "محمد" أو لا؟ فيقتصر على لفظ "محمَّد" خاصة كما ورد في الحديث... وكنت أزيدها حيث صليت عليه وأستحي أن أذكر اسم "محمد" خاصة دون لفظ السيادة وأستثقله كثيرًا، مع أني لم أَرَ مِن ذِكْرها كذلك من الأئمة المقتدَى بهم، ثم خفت بعد ذلك هل يُقبَل مني ذلك لكوني أزيد ما لم يذكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا ذَكَرَهُ أحدٌ من الأئمة، حتى وقفت على كلام الإمام البرزلي رحمه الله في المسائل التي أنكرها أبو عمر الرجراجي على أهل تونس، فذكر منها هذه المسألة، ونصه (في المسألة السابعة): ومما سُمِع أيضًا منه أنه قال -وأمر به-: لا يقُل أحدكم: "اللَّهُمَّ صلِّ علَى سيِّدنا محمَّد"؛ لأنه ما ورد في الحديث إلا "اللَّهُمَّ صلِّ علَى محمَّد"، وهذه غاية الجهل؛ لأنه خرج منه صلى الله عليه وآله وسلم مخرج التعليم للصلاة عليه لا لقصد لفظه، بل لَمَّا افتُقِر إلى معرفة منزلته قال: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلاَ فَخْرَ» (34 )، وقوله:«آدَمُ فَمَنْ سِوَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَحْتَ لِوَائِي، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأَرْضُ» (35 )، ولا خلاف أن كل ما يقتضي التشريف والتوقير والتعظيم في حقِّه عليه الصلاة والسلام أنه يقال بألفاظ مختلفة حتى بلغها ابن العربي مائة فأكثر، وقد وقعت في قضاء ابن عبد السلام، وهو أن رجلا ينتحل الطلب فقال: من قال "سيدنا محمَّد" في الصلاة بطلت صلاتُه، فرُفعَت قضيتُه للقاضي ابن عبد السلام فوقع الطلب عليه، واستخفى ستة أشهر حتى شفع فيه للقاضي فعفا عنه، وموجبه الجهل بحقائق الأشياء" اهـ كلام الإمام البرزلي.
ثم رأيتُ أيضًا لبعض الشُّرَّاح: "ويجوز أن يُقال: صلى الله على سيدنا؛ لأنه سيد الأولين والآخرين"اهـ، ثم وقفت أيضًا على كلام الإمام ابن عطاء الله رضي الله عنه في كتابه المسمَّى "مفتاح الفلاح" ونَصُّه لما تكلم ذكر الصلاة التامة قال: "وإيَّاك أن تترك لفظ "السيادة"؛ ففيها سِرٌّ يظهر لمن لازم هذه العبادة"اهـ، فزال عني -والحمد لله- ما كنت أخاف منه" (36 ) اهـ.
وقال السملالي [ت1152هـ] في "نوازله": "الأَوْلى والمؤكَّد ذكر السيادة مطلقًا، والله أعلم، نَصَّ على ذلك الشيخ ابن عطاء الله والإمام الحطَّاب، وأَلَّف القُسَنْطِيني على ذلك، وغيرهم ممن لا يُحصَى كثرةً، وهو المعَّول عليه" (37 ) اهـ.
وقال العارف بالله تعالى الإمام عبد الله الخياط الهاروشي [ت1175هـ] في كتابه "الفتح المبين والدر الثمين في الصلاة على سيد المرسلين": "والذي جرى عليه عمل الأئمة زيادة السيادة في غير الوارد وتركها فيما ورد؛ اتباعًا للفظ فرارًا من الزيادة فيه؛ لكونه خرج مخرج التعليم، ووقوفًا عند ما حُدَّ لهم، وعلى هذا درج صاحب "دلائل الخيرات" رضي الله عنه وغيره؛ فإنما أثبت اللفظ الوارد من غير زيادة السيادة وزادها في غير الوارد، لكن هذا بحسب الوضع في الخط، وأما من حيث الأداء فالأَوْلَى أن لا تَعرَى عنها في الوارد وغيره. سُئِل شيخنا العياشي حفظه الله عن زيادة السيادة في الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: السيادة عبادة، قلتُ: وهو بَيِّنٌ؛ لأن المصلي إنما يقصد بصلاتِه تعظيمَه صلى الله عليه وآله وسلم، فلا معنَى حينئذٍ لترك التسويد؛ إذ هو عين التعظيم، وفي "الحِكَم": "ما الشأن وجودُ الطلب، وإنما الشأن أن تُرزَق حسن الأدب {لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9]" (38 ) اهـ.
قال: "وإنما لم يتلفَّظ صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ السيادة حين تعليمهم كيفيةَ الصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم لكراهيته الفخر؛ ولهذا قال: "أنا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ ولا فَخرَ"، وأما نحـن فيجب علينا تعظيمه وتوقيره؛ ولهذا نهانا الله تعالى أن نناديه صلى الله عليه وآله وسلم باسمه فقال: {لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63]" (39 ) اهـ.
وقال العلمي في "نوازله": "وسئل بعضهم عن مسألة الذكر وهو الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم عشر مرات بعد الصلاة مثلا يختم العشرة بلا إله إلا الله سيدنا محمَّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحكم مَن قال لا يُقال سيدنا إلا قول محمَّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فأجاب: أن نبينا وحبيبنا وسيدنا محمَّدًا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجب توقيره وتعظيمه، ولا ينبغي للإنسان أن يذكر اسمه مجرَّدًا عن ذكر السيادة والرسالة أو غير ذلك مما يوجب تعظيمه وتوقيره، وقد نهى الله تعالى في كتابه عن ذكره ودعائه باسمه مجرَّدًا فقال جل من قائل: {لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63]، قال العلماء: يعني لا تنادوه وتدعوه "يا فلان" باسمه كما يُنادى أحدكم لبعضكم بعضًا، وحكم هذا القائل بإسقاط السيادة المقرونة باسمه صلى الله عليه وآله وسلم الأدب الشديد، وقد وقع مثل مقالة هذا الجاهل في زمن الشيخ ابن عبد السلام مِن بعض الطلبة فقال كما قال هذا أنه لا يزاد في الصلاة عليه ذكر سيدنا أو نحو ذلك، فأمر ابن عبد السلام بسجنه وأن يُؤَدَّب، ففر ذلك الطالب واختفى حتى شفع فيه أمير تونس، فرأى ابن عبد السلام أن فراره وغيبته والشفاعة فيه أدبٌ له، وكتب موسى الخطيب.
قال العلمي: وفي حواشي شيخ شيوخنا أبي زيد سيدي عبد الرحمن الفاسي [ت1096هـ] على "دلائل الخيرات" ما نصه:
قال الأُبِّي في "شرح مسلم": ما يُستعمَل في هذا المقام من لفظ "المَولَى" و"السيد" حسـن... إلخ ما سبق عنه، ثم قـال: وذكر السخاوي عن عز الدين بن عبد السلام أن الإتيان بها في الصلاة ينبني على الخلاف: هل الأَولَى امتثال الأمر أو سلوك الأدب؟ ويشهد لسلوك الأدب والله أعلم امتناع علي كرم الله وجهه من محو اسمه صلى الله عليه وآله وسلم مع أمره له بذلك في عقد صلح الحديبية، على أنه لم يَرِد صريح الأمر بتركه في الصلاة، وقد سُئِل السيوطي عن حديث "لا تسيدوني في الصلاة" فأجاب بأنه لم يَرِد ذلك، وقد نهى الله تعالى أن يُنادَى النبي صلى الله عليه وآله وسلم باسمه كما يُنادي بعضنا بعضًا" (40 ) اهـ.
وقال العارف أحمد بن محمَّد ابن عجيبة المالكي [ت1224هـ] في "حاشيته على الجامع الصغير": "والأحسن -من جهة الأدب- التسويد في التعبد بالصلاة عليه مطلقًا، والله أعلم" (41 ) اهـ.
وقال الشيخ محمد الطيب ابن كيران المالكي [ت1227هـ] في شرحه على ألفية العراقي في السيرة: "الثامن: استعمال لفظ "السيد" و"المولَى" في الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم حسنٌ وإن لم يَرِد؛ لورود «أَنَا سَيِّدُ الْعَالَمِينَ» (42 ) «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلاَ فَخْرَ» ( 43)، وطلب ابن عبد السلام تأديب مَن زعم بطلان صلاة مَن ذَكَرَ ذلك في الصلاة، فتغيَّب حتى شفع فيه، فكأنه رأى أن تغيبه تلك المدة عقوبة له، واختار المجد اللغوي صاحب القاموس ترك السيادة في الصلاة والإتيان بها في غيرها، وقال العز بن عبد السلام: ينبني ذلك على أن الأَوْلَى امتثال الأمر أو سلوك الأدب؟ قال الحطَّاب: والذي يظهر لي وأفعله الإتيان بالسيادة في الصلاة وغيرها"اهـ.
وذكر مثله في شرحه على "توحيد المرشد المعين"، فكتب عليه مُحَشِّيه الإمام الشريف محمد بن قاسم القادري [ت1331هـ]: "(قوله: حسن) أي وأما خبر "لا تسيدوني في صلاتكم" فهو موضوع كما قال السيوطي.
(قوله: واختار المجد... إلخ) ليس بصواب.
(قوله: أو سلوك الأدب) هو الصواب.
(قوله: الذي يظهر لي وأفعله الإتيان بالسيادة في الصلاة وغيرها) هذا هو الصواب عند أهل الظاهر والباطن" (44 ) اهـ.
وقال العلامة بدر الدين الحمومي [ت1266هـ] في "شرح المرشد المعين": "مسألة: استعمال لفظ "المَولَى" و"السيد" في الصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم حسنٌ وإن لم يَرِد في الصلاة عليه؛ لورود «أَنَا سَيِّدُ الْعَالَمِينَ» رواه الحاكم وصححه، و«أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلاَ فَخْرَ»..." (45 ) اهـ.
وقال الإمام الحافظ محمد بن جعفر الكتاني [ت1345هـ] في جواب له في هذه المسألة: "اعلم أن ذكر الاسم الشريف بالسيادة ونحوها مما يدل على التعظيم والتشريف أمر متفق على طلبه واستحبابه في الجملة امتثالا لقوله تعالى: {لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63]، وقوله: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9] وقُرئ "تعززوه" من العز بزايين، وتخلُّقًا بأخلاق القرآن في {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ}، واقتداءً بسيدنا أبي بكر رضي الله عنه في تأخره عن الإمامة أدبًا معه عليه الصلاة والسلام مع أمره له بإتمام الصلاة، وسيدنا عثمان رضي الله عنه حين أخر الطواف لَمَّا دخل مكة في قضية صلح الحديبية مع علمه بوجوبه على مَن دخلها أدبًا معه عليه الصلاة والسلام أن يطوف قبله وقال: "ما كنتُ لأفْعَلَ حتَّى يطوف رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم" (46 )، وسيدنا علي رضي الله عنه حيث امتنع من محو اسمه صلى الله عليه وآله وسلم مع أمره له بذلك عند صلح الحديبية أيضًا وقال: "والله لا أمحوك أبدًا" وفي رواية: "ما أنا بالذي أمحاه"، وعملا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَنَا سَيِّدُ الْعَالَمِينَ» «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ فَخْرَ» «مَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاَهُ» إلى غير ذلك، وقول ابن مسعود رضي الله عنه: "إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فَأَحْسِنُوا الصَّلاَةَ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْرُونَ لَعَلَّ ذَلِكَ يُعْرَضُ عَلَيْهِ، وقُولُوا: اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلاَتَكَ وَرَحْمَتَكَ وَبَرَكَاتِكَ عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وَإِمَامِ الْمُتَّقِينَ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ..." إلخ (47 )، إلى غير ذلك، ونصوا على أن القائل بإسقاط السيادة من اسمه الشريف يُؤَدَّب الأدبَ الشديد، وممَّن نَصَّ على ذلك: العلمي في "نوازله" من جوابٍ لبعضهم، ويؤيده قضية ابن عبد السلام مع الطالب الذي قال لا يزاد في الصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم ذِكْر "سيدنا"، حيث أمَرَ بسجنه وأن يؤدب، فاختفى حتى شُفِع فيه، فخلَّى سبيله لكونه رأى أن فراره وتغيبه والشفاعة فيه أدب له، وقد ذكر قضيتَه الأُبِّيُّ في "إكمال الإكمال" وصاحب "المعيار" وغيرُ واحد" (48 ) اهـ.
إلى غير ذلك من النقول المتكاثرة عن السادة المالكية في هذا المعنى والتي نقلها وغيرَها العلاّمة الحافظُ السيِّد أحمد بن الصِّدِّيق الغماري في مصنَّفه المفرد لهذه المسألة.
الإمام العارف بالله تعالى أبو الفتح ابن عطاء الله السكندري [ت709هـ]، حيث يقول في "مفتاح الفلاح ومصباح الأرواح": "وإيَّاك أن تترك لفظ السيادة؛ ففيها سِرٌّ يظهر لِمَن لازم هذه العبادة" (24 )اهـ.
وقال الإمام أبو عبد الله الأُبِّيُّ المالكي [ت827هـ] في "إكمال إكمال المُعلِم لفوائد كتاب مسلم": "وما يُستَعمَل من لفظ "السيد" و"المَولَى" حَسَنٌ وإن لم يَرِدْ، والمستَنَد فيه ما صح من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ». واتفق أن طالبًا يُدعَى بابن غمرين قال: لا يُزاد في الصلاة "على سيدنا"، قال: لأنه لم يَرِد، وإنما يُقال "على محمَّد"، فنقمها عليه الطلبة، وبلغ الأمر إلى القاضي ابن عبد السلام، فأرسل وراءه الأعوان، فتخفَّى مدةً ولم يخرج، حتى شفع فيه حاجب الخليفة حينئذ فخلَّى عنه، وكأنه رأى أن تغيُّبه تلك المدة هي عقوبته" ( 25) اهـ.
وكذا قال العلامة أبو عبد الله محمد بن يوسف السنوسي الحسيني المالكي [ت895هـ] أيضًا في شرحه على صحيح مسلم المسمَّى "مكمِّل إكمال الإكمال" (26 ).
وقال الإمام الوَنْشَرِيسي [ت914هـ] في "المعيار المُعْرِب":
"وسُئِل سيدي قاسم العقباني [ت854هـ] رحمه الله: هل يجوز أن يُقال: (اللهم صلِّ على سيدنا محمَّد) أم لا؟
فأجاب: الصلاة على نبينا سيدنا محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم من أفضل العبادات، ومن معنى الوارد في الذكر؛ لأن ذِكْرَه صلى الله عليه وآله وسلم يقارنه أبدًا في القلب وفي اللسان ذِكْرُ مولانا جل جلالُه، وأفضل الأذكار ما جيءَ به على الوجه الذي وَصَفَه صاحب الشريعة، ولكن ذِكْر نبيِّنا صلى الله عليه وآله وسلم بالسيادة وما أشبهها من الصفات التي تدل على التعزير والتوقير ليس بممنوع، بل هو زيادة عبادة وإيمان، لاسيما بعد ثبوت «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ»؛ إذ ذكرُه صلى الله عليه وآله وسلم بـ"سيدنا" بعد ورود هذا الخبر إيمان بهذا الخبر، وكلُّ تصديق بما جاء به المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم فهو إيمان وعبادة، والله الموفق بفضله. انتهى..
وأجاب سيدي عبد الله العبدوسي [ت849هـ] عن مثل هذه فقال: ينبغي أن لا يزاد فيها ولا يُنقص منها، فإن زاد فيها "سيدنا" و"مولانا" فجائز؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم أتَى بها تعليمًا لهم حين قالوا له: إن الله سبحانه أمرنا أن نصلِّي عليك، فكيف نصلِّي عليك؟ وأما الصلاة المرتجَلة التي لم تَرِد بلفظه فتزيد فيها "سيدنا ومولانا محمد"؛ إذ هو سيدنا ومولانا صلى الله عليه وآله وسلم، وقد نصَّ على هذه المسألة بعينها الإمام الباخلي في "شرح الحزب الصغير" للقطب سيدنا ومولانا أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه، وبالله التوفيق" (27 ) اهـ.
وقال الإمام الحطَّاب المالكي [ت954هـ] في أول شرحه "مواهب الجليل": بعد أن نقل ما سبق عن الأُبِّي: "وذكر البرزلي عن بعضهم أنه أنكر أن يقولها -يعني لفظ "السيد"- أحدٌ، ثم قال: وهذا إن صح عنه غاية الجهل، قال: واختار شيخ شيوخنا المجد اللغوي صاحب القاموس ترك ذلك في الصلاة؛ اتِّباعًا لِلَفظ الحديث، والإتيانَ به في غير الصلاة، وذكر الحافظ السخاوي في "القول البديع" كلامَه، وذكر عن ابن مفلح الحنبلي نحو ذلك، وذَكَرَ عن الشَّيخِ عِزِّ الدِّينِ ابنِ عبدِ السَّلامِ أَنَّ الإتيانَ بها في الصَّلاةِ يَنبَنِي على الخِلافِ: هل الأَولَى امتِثالُ الأَمرِ أو سُلُوكُ الأَدَبِ؟ قُلت: واَلذي يَظهَرُ لي وأَفعَلُه في الصَّلاةِ وغيرِها الإتيانُ بلَفظِ "السَّيِّدِ"، واَللهُ أَعلَمُ" (28 ) اهـ.
قال الإمام أبو عبد الله محمد العربي بن أحمد بردله [ت1134هـ] في "نوازله" تعقيبًا على كلام الإمام الحطّاب: "والذي اختاره الشيخ الحطَّاب هو ما عليه الناس" (29 ) اهـ.
وقال الإمام محمد المهدي الفاسي المالكي [ت1052هـ] في "مطالع المسرّات بشرح دلائل الخيرات": "الصحيح جواز الإتيان بلفظ "السيد" و"المولَى" ونحوهما مما يقتضي التشريف والتوقير والتعظيم في الصلاة على سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإيثار ذلك على تركه، ويُقال في الصلاة وغيرها إلا حيث تُعُبِّد بلفظ ما رُوِيَ فيُقتَصَر على ما تُعُبِّد به، أو في الروايـة -يعني في حكايتها- فيؤتَى بها على وجهها، وقال البرزلي: ولا خلاف أن كل ما يقتضي التشريف والتوقير والتعظيم في حقه عليه الصلاة والسلام أنه يقال بألفاظ مختلفة، حتى بلّغها ابن العربي مائة فأكثر" (30 ) اهـ.
وقال العلامة النفراوي [ت1126هـ] في "الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني": "وَعَبَّرَ بِـ"سَيِّدِنَا" إشَارَةً إلَى جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ فِيهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلاةِ وَغَيْرِهَا" ( 31) اهـ.
وقال الإمام أبو العباس أحمد بن قاسم البوني [ت1139هـ] في كتابه في آداب الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "ومنها: إذا مرَّ في صلاته عليه صلى الله عليه وآله وسلم على اسم "محمَّد" صلى الله عليه وآله وسلم في بعض الكيفيات مجرَّدًا عن السيادة فليزد لفظ السيادة بلسانه فقط؛ فذلك هو الأدب مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأما الكتابة فإنها تابعة للرواية من غير زيادة ولا نقصان، اتفق الصوفية على ذلك في القرن الثالث، ووافقهم العلماء عليه، وقالوا: نختص النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك دون سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم كما في الصحيحين: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ»، ومن أسمائه صلى الله عليه وآله وسلم: سيِّد... وسيادتُه صلى الله عليه وآله وسلم أجلى وأظهر وأوضح من أن يُستَدَلَّ عليها؛ فهو سيد العالم بأسره من غير تقييد ولا تخصيص وفي الدنيا وفي الآخرة، وإنما قال في الحديث: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» لظهور انفراده بالسؤدد والشفاعة فيه عن غيره حين يلجأ إليه الناس في ذلك فلا يجدون سواه، وجميع الخلائق مجتمعون أوَّلُهم وآخرُهم وإِنْسُهُم وجِنُّهُم وبينهم الأنبياء والمرسلون، وتلك الدارُ دارُ الدوام والبقاء، فهي المعتبَرة، وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم معلومًا بالسيادة نسبًا وطبعًا وخلقًا وأدبًا إلى غير ذلك من المكارم والمفاخر قبل ظهوره بالنبوة، يعرف ذلك مَن اعتنى بالسير وتعرف أحواله من الصغر إلى الكبر صلوات الله عليه وسلامه... ثم قال: وفي عمدة المريد للشيخ إبراهيم اللقاني على الجوهرة له قال أستاذنا: ولا خلاف في استعمال "السيد" فيه عليه الصلاة والسلام واستحبابه في غير الصلاة، وإنما الخلاف في استعماله في الصلاة: فكَرِهَه قومٌ، وأجازه آخرون، وقضية صنيع ابن عبد السلام استحبابه، وسُئِل عن ذلك المحقق المحلي، فأجاب بأن الأدب مع من ذُكِر مطلوبٌ - يعني أنه مستحَبٌّ - وأشار إلى أن ذلك يخَرَّج على قاعدتين فيما إذا تعارضتا فأيتهما تقدم: امتثال الأمر؛ عملاً بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» (32 )، والثانية سلوك الأدب؛ حيث تأخَّرَ عن المحراب أبو بكر الصديق رضي الله عنه مع قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم له "مَكَانَك" فتأخَّر، وهذه الطريقة هي الراجحة، وبها أخَذَ ابن عبد السلام وابن جماعة الشافعيان وابن عبد السلام المالكي، وحديث "لا تسودوني في الصلاة" لا أصل له كما قاله الجلال، قال بعضهم: ولو ورد أمكن تأويله" (33 ) اهـ.
وقال الشيخ أبو العباس أحمد بن صالح النفجروتي الدرعي المالكي [ت1147هـ] في كتابه "تنبيه الغافل عما ظنه عالم": "وانظر هل يجوز لأحد أن يزيد لفظ "السيادة" قبل "محمد" أو لا؟ فيقتصر على لفظ "محمَّد" خاصة كما ورد في الحديث... وكنت أزيدها حيث صليت عليه وأستحي أن أذكر اسم "محمد" خاصة دون لفظ السيادة وأستثقله كثيرًا، مع أني لم أَرَ مِن ذِكْرها كذلك من الأئمة المقتدَى بهم، ثم خفت بعد ذلك هل يُقبَل مني ذلك لكوني أزيد ما لم يذكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا ذَكَرَهُ أحدٌ من الأئمة، حتى وقفت على كلام الإمام البرزلي رحمه الله في المسائل التي أنكرها أبو عمر الرجراجي على أهل تونس، فذكر منها هذه المسألة، ونصه (في المسألة السابعة): ومما سُمِع أيضًا منه أنه قال -وأمر به-: لا يقُل أحدكم: "اللَّهُمَّ صلِّ علَى سيِّدنا محمَّد"؛ لأنه ما ورد في الحديث إلا "اللَّهُمَّ صلِّ علَى محمَّد"، وهذه غاية الجهل؛ لأنه خرج منه صلى الله عليه وآله وسلم مخرج التعليم للصلاة عليه لا لقصد لفظه، بل لَمَّا افتُقِر إلى معرفة منزلته قال: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلاَ فَخْرَ» (34 )، وقوله:«آدَمُ فَمَنْ سِوَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَحْتَ لِوَائِي، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأَرْضُ» (35 )، ولا خلاف أن كل ما يقتضي التشريف والتوقير والتعظيم في حقِّه عليه الصلاة والسلام أنه يقال بألفاظ مختلفة حتى بلغها ابن العربي مائة فأكثر، وقد وقعت في قضاء ابن عبد السلام، وهو أن رجلا ينتحل الطلب فقال: من قال "سيدنا محمَّد" في الصلاة بطلت صلاتُه، فرُفعَت قضيتُه للقاضي ابن عبد السلام فوقع الطلب عليه، واستخفى ستة أشهر حتى شفع فيه للقاضي فعفا عنه، وموجبه الجهل بحقائق الأشياء" اهـ كلام الإمام البرزلي.
ثم رأيتُ أيضًا لبعض الشُّرَّاح: "ويجوز أن يُقال: صلى الله على سيدنا؛ لأنه سيد الأولين والآخرين"اهـ، ثم وقفت أيضًا على كلام الإمام ابن عطاء الله رضي الله عنه في كتابه المسمَّى "مفتاح الفلاح" ونَصُّه لما تكلم ذكر الصلاة التامة قال: "وإيَّاك أن تترك لفظ "السيادة"؛ ففيها سِرٌّ يظهر لمن لازم هذه العبادة"اهـ، فزال عني -والحمد لله- ما كنت أخاف منه" (36 ) اهـ.
وقال السملالي [ت1152هـ] في "نوازله": "الأَوْلى والمؤكَّد ذكر السيادة مطلقًا، والله أعلم، نَصَّ على ذلك الشيخ ابن عطاء الله والإمام الحطَّاب، وأَلَّف القُسَنْطِيني على ذلك، وغيرهم ممن لا يُحصَى كثرةً، وهو المعَّول عليه" (37 ) اهـ.
وقال العارف بالله تعالى الإمام عبد الله الخياط الهاروشي [ت1175هـ] في كتابه "الفتح المبين والدر الثمين في الصلاة على سيد المرسلين": "والذي جرى عليه عمل الأئمة زيادة السيادة في غير الوارد وتركها فيما ورد؛ اتباعًا للفظ فرارًا من الزيادة فيه؛ لكونه خرج مخرج التعليم، ووقوفًا عند ما حُدَّ لهم، وعلى هذا درج صاحب "دلائل الخيرات" رضي الله عنه وغيره؛ فإنما أثبت اللفظ الوارد من غير زيادة السيادة وزادها في غير الوارد، لكن هذا بحسب الوضع في الخط، وأما من حيث الأداء فالأَوْلَى أن لا تَعرَى عنها في الوارد وغيره. سُئِل شيخنا العياشي حفظه الله عن زيادة السيادة في الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: السيادة عبادة، قلتُ: وهو بَيِّنٌ؛ لأن المصلي إنما يقصد بصلاتِه تعظيمَه صلى الله عليه وآله وسلم، فلا معنَى حينئذٍ لترك التسويد؛ إذ هو عين التعظيم، وفي "الحِكَم": "ما الشأن وجودُ الطلب، وإنما الشأن أن تُرزَق حسن الأدب {لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9]" (38 ) اهـ.
قال: "وإنما لم يتلفَّظ صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ السيادة حين تعليمهم كيفيةَ الصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم لكراهيته الفخر؛ ولهذا قال: "أنا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ ولا فَخرَ"، وأما نحـن فيجب علينا تعظيمه وتوقيره؛ ولهذا نهانا الله تعالى أن نناديه صلى الله عليه وآله وسلم باسمه فقال: {لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63]" (39 ) اهـ.
وقال العلمي في "نوازله": "وسئل بعضهم عن مسألة الذكر وهو الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم عشر مرات بعد الصلاة مثلا يختم العشرة بلا إله إلا الله سيدنا محمَّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحكم مَن قال لا يُقال سيدنا إلا قول محمَّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فأجاب: أن نبينا وحبيبنا وسيدنا محمَّدًا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجب توقيره وتعظيمه، ولا ينبغي للإنسان أن يذكر اسمه مجرَّدًا عن ذكر السيادة والرسالة أو غير ذلك مما يوجب تعظيمه وتوقيره، وقد نهى الله تعالى في كتابه عن ذكره ودعائه باسمه مجرَّدًا فقال جل من قائل: {لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63]، قال العلماء: يعني لا تنادوه وتدعوه "يا فلان" باسمه كما يُنادى أحدكم لبعضكم بعضًا، وحكم هذا القائل بإسقاط السيادة المقرونة باسمه صلى الله عليه وآله وسلم الأدب الشديد، وقد وقع مثل مقالة هذا الجاهل في زمن الشيخ ابن عبد السلام مِن بعض الطلبة فقال كما قال هذا أنه لا يزاد في الصلاة عليه ذكر سيدنا أو نحو ذلك، فأمر ابن عبد السلام بسجنه وأن يُؤَدَّب، ففر ذلك الطالب واختفى حتى شفع فيه أمير تونس، فرأى ابن عبد السلام أن فراره وغيبته والشفاعة فيه أدبٌ له، وكتب موسى الخطيب.
قال العلمي: وفي حواشي شيخ شيوخنا أبي زيد سيدي عبد الرحمن الفاسي [ت1096هـ] على "دلائل الخيرات" ما نصه:
قال الأُبِّي في "شرح مسلم": ما يُستعمَل في هذا المقام من لفظ "المَولَى" و"السيد" حسـن... إلخ ما سبق عنه، ثم قـال: وذكر السخاوي عن عز الدين بن عبد السلام أن الإتيان بها في الصلاة ينبني على الخلاف: هل الأَولَى امتثال الأمر أو سلوك الأدب؟ ويشهد لسلوك الأدب والله أعلم امتناع علي كرم الله وجهه من محو اسمه صلى الله عليه وآله وسلم مع أمره له بذلك في عقد صلح الحديبية، على أنه لم يَرِد صريح الأمر بتركه في الصلاة، وقد سُئِل السيوطي عن حديث "لا تسيدوني في الصلاة" فأجاب بأنه لم يَرِد ذلك، وقد نهى الله تعالى أن يُنادَى النبي صلى الله عليه وآله وسلم باسمه كما يُنادي بعضنا بعضًا" (40 ) اهـ.
وقال العارف أحمد بن محمَّد ابن عجيبة المالكي [ت1224هـ] في "حاشيته على الجامع الصغير": "والأحسن -من جهة الأدب- التسويد في التعبد بالصلاة عليه مطلقًا، والله أعلم" (41 ) اهـ.
وقال الشيخ محمد الطيب ابن كيران المالكي [ت1227هـ] في شرحه على ألفية العراقي في السيرة: "الثامن: استعمال لفظ "السيد" و"المولَى" في الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم حسنٌ وإن لم يَرِد؛ لورود «أَنَا سَيِّدُ الْعَالَمِينَ» (42 ) «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلاَ فَخْرَ» ( 43)، وطلب ابن عبد السلام تأديب مَن زعم بطلان صلاة مَن ذَكَرَ ذلك في الصلاة، فتغيَّب حتى شفع فيه، فكأنه رأى أن تغيبه تلك المدة عقوبة له، واختار المجد اللغوي صاحب القاموس ترك السيادة في الصلاة والإتيان بها في غيرها، وقال العز بن عبد السلام: ينبني ذلك على أن الأَوْلَى امتثال الأمر أو سلوك الأدب؟ قال الحطَّاب: والذي يظهر لي وأفعله الإتيان بالسيادة في الصلاة وغيرها"اهـ.
وذكر مثله في شرحه على "توحيد المرشد المعين"، فكتب عليه مُحَشِّيه الإمام الشريف محمد بن قاسم القادري [ت1331هـ]: "(قوله: حسن) أي وأما خبر "لا تسيدوني في صلاتكم" فهو موضوع كما قال السيوطي.
(قوله: واختار المجد... إلخ) ليس بصواب.
(قوله: أو سلوك الأدب) هو الصواب.
(قوله: الذي يظهر لي وأفعله الإتيان بالسيادة في الصلاة وغيرها) هذا هو الصواب عند أهل الظاهر والباطن" (44 ) اهـ.
وقال العلامة بدر الدين الحمومي [ت1266هـ] في "شرح المرشد المعين": "مسألة: استعمال لفظ "المَولَى" و"السيد" في الصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم حسنٌ وإن لم يَرِد في الصلاة عليه؛ لورود «أَنَا سَيِّدُ الْعَالَمِينَ» رواه الحاكم وصححه، و«أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلاَ فَخْرَ»..." (45 ) اهـ.
وقال الإمام الحافظ محمد بن جعفر الكتاني [ت1345هـ] في جواب له في هذه المسألة: "اعلم أن ذكر الاسم الشريف بالسيادة ونحوها مما يدل على التعظيم والتشريف أمر متفق على طلبه واستحبابه في الجملة امتثالا لقوله تعالى: {لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63]، وقوله: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9] وقُرئ "تعززوه" من العز بزايين، وتخلُّقًا بأخلاق القرآن في {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ}، واقتداءً بسيدنا أبي بكر رضي الله عنه في تأخره عن الإمامة أدبًا معه عليه الصلاة والسلام مع أمره له بإتمام الصلاة، وسيدنا عثمان رضي الله عنه حين أخر الطواف لَمَّا دخل مكة في قضية صلح الحديبية مع علمه بوجوبه على مَن دخلها أدبًا معه عليه الصلاة والسلام أن يطوف قبله وقال: "ما كنتُ لأفْعَلَ حتَّى يطوف رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم" (46 )، وسيدنا علي رضي الله عنه حيث امتنع من محو اسمه صلى الله عليه وآله وسلم مع أمره له بذلك عند صلح الحديبية أيضًا وقال: "والله لا أمحوك أبدًا" وفي رواية: "ما أنا بالذي أمحاه"، وعملا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَنَا سَيِّدُ الْعَالَمِينَ» «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ فَخْرَ» «مَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاَهُ» إلى غير ذلك، وقول ابن مسعود رضي الله عنه: "إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فَأَحْسِنُوا الصَّلاَةَ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْرُونَ لَعَلَّ ذَلِكَ يُعْرَضُ عَلَيْهِ، وقُولُوا: اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلاَتَكَ وَرَحْمَتَكَ وَبَرَكَاتِكَ عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وَإِمَامِ الْمُتَّقِينَ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ..." إلخ (47 )، إلى غير ذلك، ونصوا على أن القائل بإسقاط السيادة من اسمه الشريف يُؤَدَّب الأدبَ الشديد، وممَّن نَصَّ على ذلك: العلمي في "نوازله" من جوابٍ لبعضهم، ويؤيده قضية ابن عبد السلام مع الطالب الذي قال لا يزاد في الصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم ذِكْر "سيدنا"، حيث أمَرَ بسجنه وأن يؤدب، فاختفى حتى شُفِع فيه، فخلَّى سبيله لكونه رأى أن فراره وتغيبه والشفاعة فيه أدب له، وقد ذكر قضيتَه الأُبِّيُّ في "إكمال الإكمال" وصاحب "المعيار" وغيرُ واحد" (48 ) اهـ.
إلى غير ذلك من النقول المتكاثرة عن السادة المالكية في هذا المعنى والتي نقلها وغيرَها العلاّمة الحافظُ السيِّد أحمد بن الصِّدِّيق الغماري في مصنَّفه المفرد لهذه المسألة.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin