كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن من كلام الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي
سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 90 إلى 91
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ ( 90 ) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( 91 )
اليهود لم يؤمنوا بكل ما أتى به موسى ، ولو آمنوا بكل ما أتى به موسى لآمنوا بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم وبكتابه« قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ »اعلم أن اللّه مع الأنبياء بتأييد الدعوى ، لا بالحفظ والعصمة إلا إن أخبر بذلك في حق نبي معين ، فإن اللّه قد عرفنا أن الأنبياء قتلتهم أممهم وما عصموا ولا حفظوا .
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
فكفروا جواب « لما جاءهم ما عرفوا » وجواب لمّا في« لَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ »محذوف ، تقديره كذّبوا به ، أي بالكتاب ، فجمعوا بين كفرين ، وخص الاستفتاح دون الافتتاح لأنه بالسين أبلغ« فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ »الألف واللام للجنس ، وهو أولى من العهد ، ثم قال ( 91 )« بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ »لما جاء الشرع ببيع النفوس في قوله( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ )وسبب ذلك هذه الإضافة ، وهي دعوى الملك فيها ، والعالم باللّه لا نفس له بل كله ملك للّه ، فإذا أضافها العالم باللّه إليه في مثل قوله( تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي )وقوله( رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا )فبتمليك اللّه لا تمليك استحقاق ، فوقع البيع على هذا القدر الذي لحق المؤمن غير العالم من الملك ، فصح بيع النفس لكل ذي نفس من المؤمنين من اللّه تعالى ، فالمؤمن لا نفس له ، وأما غير المؤمن وغير العالم باللّه فنفسه باقية في ملكه في دعواه ، فلهذا صح لهؤلاء وثبت أن يبيعوا أنفسهم بعرض من الدنيا ب« أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ »من الكتب« بَغْياً »أي حسدا« أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ »من أجل أن أنزله اللّه على موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام تفضلا منه دونهم ، فنازعوا اللّه تعالى وكفروا ، وكذبوا بما جاءت به الأنبياء« فَباؤُ بِغَضَبٍ »من الكفر والتكذيب« عَلى غَضَبٍ »من المنازعة ، فهذا دليل على أنهم صدقوا بالإنزال أنه من عند اللّه ، وقد يستروح
ص 161
سورة البقرة ( 2 ) : آية 92
وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ ( 92 )
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
من قوله« عَلى مَنْ يَشاءُ »أن اليهود حسدت العرب حيث كان محمد الذي يجدونه مكتوبا عندهم من العرب ولم يكن من بني إسرائيل ، فأداهم ذلك إلى الكفر بالقرآن ، ثم قال« وَلِلْكافِرِينَ »الجنس أيضا« عَذابٌ مُهِينٌ »في مقابلة إهانتهم للقرآن ومن جاء به ، من قوله( لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ )وغير ذلك ، فهو خصوص عذاب لصفة مخصوصة في كل من ظهرت منه وعوقب بها ، ثم قال ( 92 )« وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ »الضمير يعود على اليهود ، وما هنا فيما أنزل اللّه يريد القرآن والإنجيل« قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ »يؤيد ذلك قوله« وَهُوَ الْحَقُّ »الضمير يعود على المنزل ،« مُصَدِّقاً »أي جاء مصدقا لما معهم ، يريد التوراة التي أنزلت عليهم ، فقالت اليهود : نؤمن بما أنزل علينا ، يعني التوراة ، ونكفر بما وراءه ، تقول :
وراء كتابنا ، أي بما جاء بعده من الكتب ، فقال اللّه لمحمد« قُلْ »لهم« فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ »وكتابكم لا يتضمن قتل من قتلتموه من الأنبياء ، فقولكم« نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا »ليس بصحيح ، ولهذا قال لهم« إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ »في إيمانكم بما أنزل عليكم ، فقرينة الحال تدل على أنهم قتلوا الأنبياء تكذيبا لهم مع إتيانهم بالبينات والقربان ، لأنهم لو لم يقتلوهم تكذيبا ما كان قول محمد صلّى اللّه عليه وسلم لهم« فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ »حجة عليهم ، لأن المؤمن لا يلزم أن يكون معصوما من وقوع الذنب منه ، والقتل فعل ظاهر ، وقد يكون من المصدّق والمكذب ، وقد يكون قوله« إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ »أي مصدقين في أن اللّه عهد إليكم في كتابكم ( ألا تؤمنوا لرسول حتى يأتيكم بقربان تأكله النار ) فقد جاءوا ، فلم قتلتموهم ؟ ( 93 )« وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ »حين مشى إلى ميقات ربه« وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ »أنفسكم في ذلك ، وظالمون بعضكم لبعض حيث لم تتناهوا عن منكر فعلتموه ، ثم قال ( 94 )« وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ ، خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا ، قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ، قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ »لما ذكر أخذ الميثاق ورفع الطور ظلة عليهم لما امتنعوا من أخذ الكتاب ، ذكر في القصة الأولى بعض الأسباب وهو ترجي التقوى ، فقال( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )
ص 162
سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 93 إلى 96
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( 93 ) قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ( 94 ) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ( 95 ) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ ( 96 )
الحرص يتعلق به الذم من جهة متعلقه إذا كان مذموما شرعا وعقلا ، وقوله تعالى :« وَلَتَجِدَنَّهُمْ »الضمير يعود على قوم مذمومين ، وقرينة الحال تدل على أن مساقه الحرص فيها على الذم تكذيبا لهم فيما ادعوه من أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس .
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
إذ ذكرتم ما فيه عند أخذكم إياه بجد وعزم ، وزاد في هذا التعريف الثاني لنا أنه قال لهم« وَاسْمَعُوا »وهذا أقوى من الأول وأشد في التكليف ، أراد« وَاسْمَعُوا »لتعملوا بما سمعتم ،« قالُوا سَمِعْنا »ما قال ربك لنا في التوراة« وَعَصَيْنا »لأنه شدد علينا ووضع علينا من التكاليف ما يشق علينا فعلها ، ونحن نطلب الرفق ، ولهذا أحببنا عبادة العجل لأنه لم يكلفنا ووسع علينا ، فأخبر تعالى أنهم« أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ »أي خالط لحمهم ودمهم حبه ، قال اللّه لمحمد صلّى اللّه عليه وسلم« قُلْ »لهم« بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ »في زعمكم إن صح كونكم مؤمنين ، فهو قوله« إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ »وقوله« بِكُفْرِهِمْ »بالتكاليف الشاقة عليهم . لما ثبت عندنا وعند اليهود أن الجنة خالصة للمؤمنين باللّه بلا شك ، وأنها دار راحة لا تعب فيها ولا نصب ، وأن الدنيا دار تعب ونصب ، والنفس مجبولة على طلب الراحة ، والجنة لا تحصل إلا بعد الموت ، فالموت مطلوب للمؤمن لتخليصه من المشقة وحصوله على الراحة ، وأنتم تزعمون أنكم مؤمنون ، وأن لكم الدار الآخرة ، يريد الجنة خالصة من دون الناس ، يريد الناس كلهم أو المسلمين خاصة ، فتمنوا الموت إن كنتم صادقين في القطع بسعادتكم ، فقال اللّه لمحمد صلّى اللّه عليه وسلم ( 95 )« قُلْ »لهم« إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ »ثم أخبر نبيه عن حال اليهود فقال ( 96 )« وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ »وهذا من آياته صلّى اللّه عليه وسلم نطقه بالغيب ، فأخبر بما يكون منهم من عدم تمني الموت قبل وقوع ذلك منهم ، فكان كما قال ، قال عليه السلام
ص 163
سورة البقرة ( 2 ) : آية 97
قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ ( 97 )
راجع نزول القرآن على القلب آية 121 .
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
لو تمنوا الموت ما قام أحد من مجلسه حتى يموت غصصا بريقه
فأخبر عليه السلام بالأمر قبل كونه ، وقال« وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ »وعيد وتهديد لليهود لأنهم يعلمون أنهم ظالمون ، فإنهم على يقين من صدق ما كفروا به ، ويعلمون أن اللّه يعلم ذلك ، وعملهم يقتضي بالحال أنهم يعتقدون أن اللّه لا يعلم ذلك ، كما يذهب إليه بعض النظار من الفلاسفة أن اللّه لا يعلم الجزئيات ، فهذا فائدة قوله لهم« وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ » ،ثم قال لمحمد صلّى اللّه عليه وسلم ( 97 )« وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ »هما معمولان لهذا الفعل ، أي أشد الناس حرصا ، والألف واللام للجنس ، فأنهم أحرص على الحياة من كل أحد وخصوصا « و » أحرص« مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا »فإنه لا أحد أحرص على الحياة ممن لا يقول بالبعث ، فيستغنم الحياة الدنيا ، فهو شديد الحرص على طلبها ، وهؤلاء اليهود المنكرون ما تيقنوا أنه صدق ، وقد تيقنوا العقوبة على ذلك من كتابهم ، فهم قاطعون بالوعيد ، فحرصهم على الحياة أشد من حرص من لا يؤمن بالبعث لما يؤلون إليه في الدار الآخرة من العذاب ، وهو الأوجه في الترجمة عن هذه الآية ، وقوله« عَلى حَياةٍ »منكّرة أي حياة بهذه الصفة من الطول« يَوَدُّ أَحَدُهُمْ »أي يتمنى« لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ »والمعنى أبدا ، لعلمه بما يصير إليه بعد الموت ، قال تعالى« وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ »فهنا وجهان - الواحد :
أن الدنيا لا بد من تناهيها ، فلا بد من الموت واللحوق بما ذكرناه من الوعيد لهم ، ففيه أنهم لا يتوبون ولا يتوب اللّه عليهم ، فهذا يأس من اللّه لهم وهو سديد ، والوجه الآخر : أنه وإن كانت الإقامة في الدنيا لهم سرمدا ولا تكون آخرة فليس هذا مما ينجيهم من عذابنا ، فإن العمر الطويل وغير الطويل لا ينجي من العذاب« وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ »أي يبصر ويرى ما يكون من أعمالهم ، تنبيه على الخوف والحياء منه سبحانه ، وفيه هنا تهديد ( 98 )« قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ »زعمت اليهود أن اللّه أمر جبريل أن يجعل النبوة في بني إسرائيل فجعلها في العرب ، فاتخذوه عدوا ، كما فعلت الرافضة حيث قالوا : إن اللّه أمر جبريل أن يجعل النبوة في علي ، فجعلها في محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، وهذا من جملة ما ذكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أنه يكون في أمته ، فقال في الحديث الصحيح [ إنكم لتتبعون سنن من
ص 164
سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 98 إلى 102
مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ ( 98 ) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ ( 99 ) أَ وَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ( 100 ) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ ( 101 ) وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ( 102 )
[ قصه هاروت وماروت ]
تكلم بعض المفسرين بما لا ينبغي في حق الملكين ، وبما لا يليق بهما ، ولا يعطيه ظاهر
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع ] الحديث ، وفيه [ قالوا يا رسول اللّه أاليهود والنصارى ؟ قال :
فمن ] فهذا من ذلك ، اتباع الروافض اليهود في نسبة الخيانة لجبريل ، فقال تعالى« قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ »لأجل هذا ، فإن جبريل ما فعل شيئا ولا تعدى أمر اللّه ، فإن اللّه أنزله على قلب محمد بإذن اللّه ، أي بأمره قال تعالى( وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ )« مصدقا » يعني الكتاب الذي هو القرآن« لِما بَيْنَ يَدَيْهِ »من الكتب المنزلة« وَهُدىً »وبيانا لما فيها« وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ »لمن آمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله ولم يفرق في الرسالة بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا ، ( 99 ) ثم زعمت اليهود أن من أراد أمرا وأراد الآخر خلافه ، فإن كل واحد منهما عدو للآخر ،
ص 165
الآية ، وقد شهد اللّه للملائكة بأنهم لا يعصون اللّه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، فقد كذب هؤلاء المفسرون ربهم في قوله في حق الملائكة ، قال تعالى :« وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ »من علم السحر الذي مزجوه بما أنزل على الملكين هاروت وماروت من علم الحق« وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا »له« إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ »فإن مقلوب الحمد كفر وهو الذم« فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما »أي من العلمين« ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ »وهو القدر من السحر الذي يعطي التفرقة ، واللّه قد كره ذلك وقد ذمه ، وندب إلى الألفة
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
وجبريل صاحب العذاب والشدائد ، وميكائيل صاحب الخصب والخير فيما يزعمون ، فكل واحد منهما عدو للآخر ، فأخبر تعالى أنهم إن صدقوا ، فإنهم عدو للاثنين معا ، ومن كان عدوا لهما فهو عدو للّه وملائكته ، فيكون اللّه عدوا له وللكافرين ، وتنزيل صورة العداوة منهم لجبريل وميكائيل ، أنهم يريدون بالمؤمنين إنزال العذاب عليهم بالجوع ونقص من الثمرات ، فيرون الخصب فيهم والخير لهم ، وذلك بيد ميكائيل فيكونون عدوا له لأنه أنعم على أعدائهم ، ويرون ما نزل بهم من رفع الطور والصاعقة وغير ذلك وهو من جبريل ، فهم أيضا عدو له ، فلذلك قال تعالى « من كان عدوا للّه وملائكته وجبريل وميكال » فخصهما بالذكر مع دخولهم في عموم ملائكته« فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ »الفاء جواب من ، ثم قال ( 100 )« وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ »يعني في القرآن ، تظهر صدقك في أنك نبي« وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ »الخارجون عن أمر اللّه من أهل الكتب ، حيث أمرهم اللّه في كتبهم أن يؤمنوا بك وبما أنزل إليك فعصوه ، وخرجوا عن أمره ، وهو الفسوق ، والفسوق الآخر في حق الذين خرجوا عما تعطيهم دلالات المعجزات من التصديق بمن جاء بها فلم يؤمنوا ، والفسوق الثالث من المقلدين حيث مكّنهم اللّه من النظر والبحث بما أعطاهم من العقل والفكر فلم يفعلوا وقلدوا ، فهؤلاء أيضا فسقوا أي خرجوا عما تقتضيه عقولهم من أن يكونوا علماء بما هم فيه مقلدون ، فعمّ الفسوق جميع الفرق ، وهذا من جوامع الكلم ، ثم قال ( 101 )« أَ وَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ »هو قوله( ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ )فأخبر تعالى أنه أخذ عليهم مواثيق مرارا ونكثوا عهد اللّه مرارا ، فقد يكون المعنى( وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ )أي إلا الذين فسقوا ونقضوا عهد اللّه ، وأو بمعنى الواو العاطفة المعنى ، وكلما عاهدوا عهدا مع اللّه ورسوله نبذه أي رمى به فريق منهم« بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ »يريد المقلدين لعلمائهم ، فإن العلماء قليلون والمقلدين كثيرون ، فالمقلد ليس بموقن حقا ، وعالمهم ليس كذلك فإنه يعرف الحق ولا يقول به ويكتمه عن المقلد له ، فيتضاعف العذاب على العالم ، فإن عليهم إثم البرسيين وهم الأتباع ، ثم قال ( 102 )« وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ »يريد
ص 166
وانتظام الشمل . ولما علم سبحانه أن الافتراق لا بد منه لكل مجموع مؤلف لحقيقة خفيت عن أكثر الناس شرع الطلاق رحمة بعباده ليكونوا مأجورين في أفعالهم غير مذمومين إرغاما للشياطين ، ومع هذا فقد ورد في الخبر النبوي أنه صلّى اللّه عليه وسلم قال : ما خلق اللّه حلالا أبغض إليه من الطلاق ،« وَما هُمْ »أي السحرة« بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ »فإنه لا تتحرك ذرة إلا بإذنه سبحانه .
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
محمدا صلّى اللّه عليه وسلم« مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ »أي لما بأيديهم من التوراة« نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ »يعني اليهود« كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ »قد يريد بالكتاب المنبوذ هنا التوراة والقرآن ، وقد يريد أحدهما ، وهو كناية عن ترك العمل به حيث ألقوه خلف ظهورهم« كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ »شبههم بالمقلدة في فعلهم ، وقد يحتمل أن يكون المعنى ، كأنهم لا يعلمون ، تقريرا لعلمهم بذلك ولكنهم نقضوا عهد اللّه وفسقوا ، يقول نبذوا كتاب اللّه وراء ظهورهم فلم يعملوا به ( 103 )« وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ »من السحر والشعوذة« عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ »على عهد سليمان ، أي في زمن ملكه« وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ »أي لم يكن علمه سحرا ولا شعوذة ، بل علمه حق من عند اللّه« وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا »بما دونوه من علم السحر وخلطوه بما أنزل على الملكين هاروت وماروت من الحق ، والشياطين« يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ »الأمرين معا ممزوجا« بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ »فإذا أتى السائل إلى الملكين ليعلماه ، يقولان له« إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ »أي إنما نزلنا للتعليم اختبارا ، فإن الشياطين يعلمون الناس السحر ممزوجا بما أنزل علينا« فَلا تَكْفُرْ »أي لا تأخذ من الشياطين فإنك لا تفرق بين الحق من ذلك والباطل ، ثم قال« فَيَتَعَلَّمُونَ »يعني الناس« مِنْهُما »أي من العلمين ، علم السحر والعلم الذي أنزل على الملكين« ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ »الرجل« وَزَوْجِهِ »أي امرأته ، وإنما قبله منهم المتعلم لأمرين : الواحد لامتزاجه بالحق الذي أنزل على الملكين ، فإن الشياطين تتصور في صور علمائهم وتقول لهم : هذا هو الذي أنزل على الملكين ، فيصدقونهم ، فيلقون إليهم ما يضرهم ولا ينفعهم من علم السحر ، وأما من اقتصر على الملكين ولم يتعداهما فما علّم إلا حقا منزلا من عند اللّه ، وما نزل من عند اللّه لا يكون كفرا وضلالا ، وهو قوله« وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ »وكل لفظة كفر في هذه القصة قد يكون ضد الإيمان ، وقد يكون بمعنى ستر الحق ، فإن الكفر الستر في اللغة ، وكلا الوجهين في الترجمة عن ذلك صالح ، ثم قال« وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ »يناقض قوله« لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ »
ص 167
سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 103 إلى 104
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ( 103 ) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ ( 104 )
تختلف الأحكام باختلاف الألفاظ التي وقع عليها التواطؤ بين المخاطبين ، وإن كان المعنى واحدا فالمصرف ليس بواحد .
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
بعد هذا فيما يظهر ، فقوله« وَلَقَدْ عَلِمُوا »يعود الضمير على من سأل الملكين فقالا له لا تكفر« ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ »فإن من كفر لا خلاق له في الآخرة ، فكأنهم قالوا نحن نتعلم منهم ذلك ولا نعمل به ، فإن العلم بالشيء يورث التوقي مما فيه من الضرر لمن جهله ، فلما علموه قامت لهم الأغراض وطلب الرئاسة وتحصيل ما يشتهون بهذا العلم فعملوا به ، فكفروا ، فهو قوله« وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ »أي باعوا به« أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ »أن ذلك يقودهم إلى العمل لما في طيه مما في عمله من تقدمهم على أبناء جنسهم ، والافتقار إليهم في آثار ذلك ونيل أغراضهم ، فهذا هو الذي جهلوه ، والذي علموا هنالك لم يكن هذا الذي جهلوه ، وقد بان المقصود من الآية على غاية الاختصار ونزهنا الملائكة فإن اللّه قد أثنى عليهم ، وما بلغنا قط عن اللّه تعالى أنه جرح أحدا من الملائكة ، ثم قال ( 104 )« وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا »قد يعود الضمير في آمنوا على الذين سألوا الملكين وما سمعوا منهم ، ولا اتقوا اللّه حين قالوا لمن سألهم لا تكفر باتباع الشياطين لأنهم خلطوا الحق بالباطل ، فقال اللّه فيهم« وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا »أي صدقوا الملكين« وَاتَّقَوْا »واتخذوا ما قالاه لهم وقاية« لَمَثُوبَةٌ »لحصلت لهم من ذلك مثوبة من اللّه وخير« مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ »وقد يحتمل أن يعود الضمير على اليهود في الإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم ، ثم قال ( 105 )« يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا »هذا خطاب للمؤمنين ، فإن اليهود كانت تقول هذه الكلمة بلسانها على طريق السب ، فلما سمع اليهود يخاطب بها المؤمنون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فرحوا بذلك ، ليقولوها كما يقولها المؤمنون على المعنى الذي تريده اليهود من السب ، وسيأتي شرحها في سورة النساء إن شاء اللّه ، فنهى المؤمنين عن أن يخاطبوا بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، ومعناها اسمع منا يا رسول اللّه غرضا لحفظهم ما خاطبهم به ، فقال لهم« وَقُولُوا انْظُرْنا »أي انتظرنا حتى نحفظ ما خاطبتنا به من كلام اللّه ، يقول اللّه للمؤمنين« قُولُوا انْظُرْنا »« وَاسْمَعُوا »ما تؤمرون به« وَلِلْكافِرِينَ »يعني الذين يقولون راعنا على غير المعنى الذي قاله المؤمنون« عَذابٌ أَلِيمٌ »موجع من الألم ، وهو الوجع ، ويقال بالسريانية والعبرانية ( راعينا ) بالياء والنون ، وأما من قرأ
ص 168
سورة البقرة ( 2 ) : آية 105
ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ( 105 )«
وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ »جاء تعالى بلفظة من وهي نكرة فدخل تحتها كل شيء ، لأن كل شيء حي ناطق فيدخل تحت قوله من ، لأن بعض النحاة يعتقدون أن لفظة من لا تقع إلا على من يعقل ، وكل شيء يسبح بحمد اللّه ولا يسبح إلا من يعقل من يسبحه ، ويثني عليه بما يستحقه ، فمن تقع على كل شيء إذ كل شيء يعقل عن اللّه سبحانه ، واللّه تعالى ما عرفنا أنه اختص بنقمته من يشاء كما أخبرنا أنه يختص برحمته من يشاء وبفضله ، فإن أهل النار معذبون بأعمالهم لا غير ، وأهل الجنة ينعمون بأعمالهم وبغير أعمالهم في جنات الاختصاص ، فلأهل السعادة ثلاث جنات : جنة أعمال وجنة اختصاص وجنة ميراث ، فينزل أهل الجنة في الجنة على قدر أعمالهم ، ولهم جنات الميراث وهي التي كانت لأهل النار لو دخلوا الجنة ، ولهم جنات الاختصاص فالحكم للّه العلي الكبير ، فإن الاختصاص الإلهي لا يقبل التحجير ولا الموازنة ولا العمل ، وإن ذلك من فضل اللّه ، يختص برحمته من يشاء واللّه ذو الفضل العظيم .
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
"راعنا " بالتنوين في الشاذ ، فهو من الرعن ، وهو الهوج ، أي لا تقولوا قولا راعنا ، ومنه الرعونة ، وقد روى أن سعد بن عبادة من الأنصار لما قالت اليهود لمحمد صلّى اللّه عليه وسلم راعنا حين سمعوا المؤمنين يخاطبون محمدا صلّى اللّه عليه وسلم بذلك ، قال : لئن قالها رجل منكم للنبي لأضربن عنقه ، فإنه كان عارفا بما تواطئوا عليه في كلامهم ، إذ كانوا حلفاء لهم ، وقيل بل كان سعد بن معاذ ، ثم قال ( 106 )« ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ »دخل في ذلك المنافق والذي لم ينافق« وَلَا الْمُشْرِكِينَ »عطف على أهل الكتاب ، وحذف من لدلالة الأول عليه« أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ »حسدا من عندهم حيث لم يكن لهم ذلك الخير« وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ »في هذا تنبيه على رد من يقول إن النبوة مكتسبة ، فأخبر اللّه أنها اختصاص ، وكنّى عنها بالرحمة لكونه رحم بها نبيه عليه السلام ، ورحم بها من بعث إليه من الأمة ، حتى سلكوا به طريق هداهم ، ثم قال« وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ »أي مزيد الخير الذي يعظم وروده وقدره في قلوب العلماء باللّه ،
ص 169
سورة البقرة ( 2 ) : آية 106
ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(106).
"ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ "
[ في النسخ والانساء ]
أي علامة على صدق ما ادعاه ، فالآيات منسوخة في الأولياء لأنهم مأمورون بسترها ، محكمة في الأنبياء والرسل« أَوْ نُنْسِها »أي نتركها آية للأولياء كما كانت آية للأنبياء« نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها »من باب المفاضلة أي بأزيد منها في الدلالة ، وهي آيات الإعجاز فلا تكون إلا لأصحابها ، أو لمن قام فيها بالنيابة على صدق أصحابها ، فلا يكون لولي قط هذه العلامة من حيث صحة مرتبته ، وأما قوله« أَوْ مِثْلِها »الضمير يرجع إلى الآية المنسوخة ، فلم يكن لها صفة الإعجاز ، بل هي مثل الأولى ، ولا يصح حمل هذه الآية على أنها آي القرآن التي نزلت في الأحكام ، فنسخ بآية ما كان ثبت حكمه في آية قبلها ، فإن اللّه ما قال في آخر هذه الآية « ا لم تعلمإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ » *ولا حكيم ، ومثل هذه الأسماء هي التي تليق بنظم القرآن الوارد بآيات الأحكام ، وإنما قال اللّه تعالى :« أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ »
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
ثم قال ( 107 )« ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ »« * » سبب نزول هذه الآية فيما قيل ، أن اليهود قالت : ألا تنظرون إلى محمد يأمر بأمر ثم ينهى عنه ويأمر بخلافه ؟ فنزلت هذه الآية ، وهذا السبب كأنه لا يصح عندي ، فإن مساق الآية لا يعطيه ، فإنه قال في الآية« أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ »على جهة المدح ، وإبدال حكم بحكم من طريق التكليف ما فيه ذلك المدح من جهة القدرة ، إذ كان هذا تحت قدرة كل من له أمر مطاع في عشيرته ، بل الإنسان في بيته ، بل في نفسه ، وإنما الذي يقوي أنه سبحانه أراد بالآية هنا آيات الأنبياء صلوات اللّه عليهم التي نصبها دلالات بحكم الإعجاز على صدقهم ، وقد تقدم تكرارها كثيرا فقال تعالى« ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ »أي من دلالة على صدق نبي ، ونسخها ذهابها ورفعها ، إذا كانت فعلا ، فإنه ينقضي ، ولهذا أتى بها نكرة« أَوْ نُنْسِها »يقول : أو نتركها ، مثل القرآن الذي هو آية مستمرة إلى يوم القيامة فلا يعارض ، وكذلك من قرأ « أو ننساها » أو نؤخرها ، وهو ما بقي من الدلالات والآيات ولم يذهب مثل القرآن وغيره ، والذي رفع كعصا موسى وإحياء الموتى ، وقوله« نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها »يقول : أقوى منها في الدلالة ، لأن الآيات قد تظهر للعام والخاص ، فتكون أقوى من الآيات التي لا يظهر كونها آية إلا للعلماء ، وقوله« أَوْ مِثْلِها »
( * ) تفسير هذه الآية بهذا المعنى الوارد هنا ، نسب إلى الشيخ محمد عبده كما جاء في تفسير المنار ، والثابت كما هو واضح أن الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي هو السابق لهذا المعنى الذي لم يرد في تفسير آخر من كتب المفسرين .
ص 170
فأراد الآيات التي ظهرت على أيدي الأنبياء عليهم السلام لصدق دعواهم في أنهم رسل اللّه ، فمنها ما تركها آية إلى يوم القيامة كالقرآن ، ومنها ما رفعها ولم تظهر إلى يوم القيامة ، واعلم أن آيات الأنبياء تختلف باختلاف الأعصار لاختلاف الزمان واختلاف الأحوال ، فيعطي هذا الحال والزمان ما لا يعطيه الزمان والحال الذي كان قبله ، والذي يكون بعده ، فآية كل خليفة ورسول من نسب الغالب على ذلك الزمان وأحوال علمائه ، أي شيء كان ، من طب أو سحر أو فصاحة وما شاكل هذا ، والرسل أوجب اللّه عليهم إظهار الآيات لكونهم مأمورين بالدعاء إلى اللّه ابتداء ، وهو ينشئ التشريع وينسخ بعض شرع مقرر على يد غيره من الرسل ، فلا بد من إظهار آية وعلامة تكون دليلا على صدقه أنه يخبر عن اللّه إزالة ما قرره اللّه حكما على لسان رسول آخر ، إعلاما بانتهاء مدة الحكم في تلك المسألة .
سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 90 إلى 91
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ ( 90 ) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( 91 )
اليهود لم يؤمنوا بكل ما أتى به موسى ، ولو آمنوا بكل ما أتى به موسى لآمنوا بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم وبكتابه« قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ »اعلم أن اللّه مع الأنبياء بتأييد الدعوى ، لا بالحفظ والعصمة إلا إن أخبر بذلك في حق نبي معين ، فإن اللّه قد عرفنا أن الأنبياء قتلتهم أممهم وما عصموا ولا حفظوا .
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
فكفروا جواب « لما جاءهم ما عرفوا » وجواب لمّا في« لَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ »محذوف ، تقديره كذّبوا به ، أي بالكتاب ، فجمعوا بين كفرين ، وخص الاستفتاح دون الافتتاح لأنه بالسين أبلغ« فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ »الألف واللام للجنس ، وهو أولى من العهد ، ثم قال ( 91 )« بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ »لما جاء الشرع ببيع النفوس في قوله( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ )وسبب ذلك هذه الإضافة ، وهي دعوى الملك فيها ، والعالم باللّه لا نفس له بل كله ملك للّه ، فإذا أضافها العالم باللّه إليه في مثل قوله( تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي )وقوله( رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا )فبتمليك اللّه لا تمليك استحقاق ، فوقع البيع على هذا القدر الذي لحق المؤمن غير العالم من الملك ، فصح بيع النفس لكل ذي نفس من المؤمنين من اللّه تعالى ، فالمؤمن لا نفس له ، وأما غير المؤمن وغير العالم باللّه فنفسه باقية في ملكه في دعواه ، فلهذا صح لهؤلاء وثبت أن يبيعوا أنفسهم بعرض من الدنيا ب« أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ »من الكتب« بَغْياً »أي حسدا« أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ »من أجل أن أنزله اللّه على موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام تفضلا منه دونهم ، فنازعوا اللّه تعالى وكفروا ، وكذبوا بما جاءت به الأنبياء« فَباؤُ بِغَضَبٍ »من الكفر والتكذيب« عَلى غَضَبٍ »من المنازعة ، فهذا دليل على أنهم صدقوا بالإنزال أنه من عند اللّه ، وقد يستروح
ص 161
سورة البقرة ( 2 ) : آية 92
وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ ( 92 )
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
من قوله« عَلى مَنْ يَشاءُ »أن اليهود حسدت العرب حيث كان محمد الذي يجدونه مكتوبا عندهم من العرب ولم يكن من بني إسرائيل ، فأداهم ذلك إلى الكفر بالقرآن ، ثم قال« وَلِلْكافِرِينَ »الجنس أيضا« عَذابٌ مُهِينٌ »في مقابلة إهانتهم للقرآن ومن جاء به ، من قوله( لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ )وغير ذلك ، فهو خصوص عذاب لصفة مخصوصة في كل من ظهرت منه وعوقب بها ، ثم قال ( 92 )« وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ »الضمير يعود على اليهود ، وما هنا فيما أنزل اللّه يريد القرآن والإنجيل« قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ »يؤيد ذلك قوله« وَهُوَ الْحَقُّ »الضمير يعود على المنزل ،« مُصَدِّقاً »أي جاء مصدقا لما معهم ، يريد التوراة التي أنزلت عليهم ، فقالت اليهود : نؤمن بما أنزل علينا ، يعني التوراة ، ونكفر بما وراءه ، تقول :
وراء كتابنا ، أي بما جاء بعده من الكتب ، فقال اللّه لمحمد« قُلْ »لهم« فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ »وكتابكم لا يتضمن قتل من قتلتموه من الأنبياء ، فقولكم« نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا »ليس بصحيح ، ولهذا قال لهم« إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ »في إيمانكم بما أنزل عليكم ، فقرينة الحال تدل على أنهم قتلوا الأنبياء تكذيبا لهم مع إتيانهم بالبينات والقربان ، لأنهم لو لم يقتلوهم تكذيبا ما كان قول محمد صلّى اللّه عليه وسلم لهم« فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ »حجة عليهم ، لأن المؤمن لا يلزم أن يكون معصوما من وقوع الذنب منه ، والقتل فعل ظاهر ، وقد يكون من المصدّق والمكذب ، وقد يكون قوله« إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ »أي مصدقين في أن اللّه عهد إليكم في كتابكم ( ألا تؤمنوا لرسول حتى يأتيكم بقربان تأكله النار ) فقد جاءوا ، فلم قتلتموهم ؟ ( 93 )« وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ »حين مشى إلى ميقات ربه« وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ »أنفسكم في ذلك ، وظالمون بعضكم لبعض حيث لم تتناهوا عن منكر فعلتموه ، ثم قال ( 94 )« وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ ، خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا ، قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ، قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ »لما ذكر أخذ الميثاق ورفع الطور ظلة عليهم لما امتنعوا من أخذ الكتاب ، ذكر في القصة الأولى بعض الأسباب وهو ترجي التقوى ، فقال( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )
ص 162
سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 93 إلى 96
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( 93 ) قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ( 94 ) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ( 95 ) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ ( 96 )
الحرص يتعلق به الذم من جهة متعلقه إذا كان مذموما شرعا وعقلا ، وقوله تعالى :« وَلَتَجِدَنَّهُمْ »الضمير يعود على قوم مذمومين ، وقرينة الحال تدل على أن مساقه الحرص فيها على الذم تكذيبا لهم فيما ادعوه من أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس .
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
إذ ذكرتم ما فيه عند أخذكم إياه بجد وعزم ، وزاد في هذا التعريف الثاني لنا أنه قال لهم« وَاسْمَعُوا »وهذا أقوى من الأول وأشد في التكليف ، أراد« وَاسْمَعُوا »لتعملوا بما سمعتم ،« قالُوا سَمِعْنا »ما قال ربك لنا في التوراة« وَعَصَيْنا »لأنه شدد علينا ووضع علينا من التكاليف ما يشق علينا فعلها ، ونحن نطلب الرفق ، ولهذا أحببنا عبادة العجل لأنه لم يكلفنا ووسع علينا ، فأخبر تعالى أنهم« أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ »أي خالط لحمهم ودمهم حبه ، قال اللّه لمحمد صلّى اللّه عليه وسلم« قُلْ »لهم« بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ »في زعمكم إن صح كونكم مؤمنين ، فهو قوله« إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ »وقوله« بِكُفْرِهِمْ »بالتكاليف الشاقة عليهم . لما ثبت عندنا وعند اليهود أن الجنة خالصة للمؤمنين باللّه بلا شك ، وأنها دار راحة لا تعب فيها ولا نصب ، وأن الدنيا دار تعب ونصب ، والنفس مجبولة على طلب الراحة ، والجنة لا تحصل إلا بعد الموت ، فالموت مطلوب للمؤمن لتخليصه من المشقة وحصوله على الراحة ، وأنتم تزعمون أنكم مؤمنون ، وأن لكم الدار الآخرة ، يريد الجنة خالصة من دون الناس ، يريد الناس كلهم أو المسلمين خاصة ، فتمنوا الموت إن كنتم صادقين في القطع بسعادتكم ، فقال اللّه لمحمد صلّى اللّه عليه وسلم ( 95 )« قُلْ »لهم« إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ »ثم أخبر نبيه عن حال اليهود فقال ( 96 )« وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ »وهذا من آياته صلّى اللّه عليه وسلم نطقه بالغيب ، فأخبر بما يكون منهم من عدم تمني الموت قبل وقوع ذلك منهم ، فكان كما قال ، قال عليه السلام
ص 163
سورة البقرة ( 2 ) : آية 97
قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ ( 97 )
راجع نزول القرآن على القلب آية 121 .
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
لو تمنوا الموت ما قام أحد من مجلسه حتى يموت غصصا بريقه
فأخبر عليه السلام بالأمر قبل كونه ، وقال« وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ »وعيد وتهديد لليهود لأنهم يعلمون أنهم ظالمون ، فإنهم على يقين من صدق ما كفروا به ، ويعلمون أن اللّه يعلم ذلك ، وعملهم يقتضي بالحال أنهم يعتقدون أن اللّه لا يعلم ذلك ، كما يذهب إليه بعض النظار من الفلاسفة أن اللّه لا يعلم الجزئيات ، فهذا فائدة قوله لهم« وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ » ،ثم قال لمحمد صلّى اللّه عليه وسلم ( 97 )« وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ »هما معمولان لهذا الفعل ، أي أشد الناس حرصا ، والألف واللام للجنس ، فأنهم أحرص على الحياة من كل أحد وخصوصا « و » أحرص« مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا »فإنه لا أحد أحرص على الحياة ممن لا يقول بالبعث ، فيستغنم الحياة الدنيا ، فهو شديد الحرص على طلبها ، وهؤلاء اليهود المنكرون ما تيقنوا أنه صدق ، وقد تيقنوا العقوبة على ذلك من كتابهم ، فهم قاطعون بالوعيد ، فحرصهم على الحياة أشد من حرص من لا يؤمن بالبعث لما يؤلون إليه في الدار الآخرة من العذاب ، وهو الأوجه في الترجمة عن هذه الآية ، وقوله« عَلى حَياةٍ »منكّرة أي حياة بهذه الصفة من الطول« يَوَدُّ أَحَدُهُمْ »أي يتمنى« لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ »والمعنى أبدا ، لعلمه بما يصير إليه بعد الموت ، قال تعالى« وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ »فهنا وجهان - الواحد :
أن الدنيا لا بد من تناهيها ، فلا بد من الموت واللحوق بما ذكرناه من الوعيد لهم ، ففيه أنهم لا يتوبون ولا يتوب اللّه عليهم ، فهذا يأس من اللّه لهم وهو سديد ، والوجه الآخر : أنه وإن كانت الإقامة في الدنيا لهم سرمدا ولا تكون آخرة فليس هذا مما ينجيهم من عذابنا ، فإن العمر الطويل وغير الطويل لا ينجي من العذاب« وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ »أي يبصر ويرى ما يكون من أعمالهم ، تنبيه على الخوف والحياء منه سبحانه ، وفيه هنا تهديد ( 98 )« قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ »زعمت اليهود أن اللّه أمر جبريل أن يجعل النبوة في بني إسرائيل فجعلها في العرب ، فاتخذوه عدوا ، كما فعلت الرافضة حيث قالوا : إن اللّه أمر جبريل أن يجعل النبوة في علي ، فجعلها في محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، وهذا من جملة ما ذكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أنه يكون في أمته ، فقال في الحديث الصحيح [ إنكم لتتبعون سنن من
ص 164
سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 98 إلى 102
مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ ( 98 ) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ ( 99 ) أَ وَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ( 100 ) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ ( 101 ) وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ( 102 )
[ قصه هاروت وماروت ]
تكلم بعض المفسرين بما لا ينبغي في حق الملكين ، وبما لا يليق بهما ، ولا يعطيه ظاهر
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع ] الحديث ، وفيه [ قالوا يا رسول اللّه أاليهود والنصارى ؟ قال :
فمن ] فهذا من ذلك ، اتباع الروافض اليهود في نسبة الخيانة لجبريل ، فقال تعالى« قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ »لأجل هذا ، فإن جبريل ما فعل شيئا ولا تعدى أمر اللّه ، فإن اللّه أنزله على قلب محمد بإذن اللّه ، أي بأمره قال تعالى( وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ )« مصدقا » يعني الكتاب الذي هو القرآن« لِما بَيْنَ يَدَيْهِ »من الكتب المنزلة« وَهُدىً »وبيانا لما فيها« وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ »لمن آمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله ولم يفرق في الرسالة بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا ، ( 99 ) ثم زعمت اليهود أن من أراد أمرا وأراد الآخر خلافه ، فإن كل واحد منهما عدو للآخر ،
ص 165
الآية ، وقد شهد اللّه للملائكة بأنهم لا يعصون اللّه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، فقد كذب هؤلاء المفسرون ربهم في قوله في حق الملائكة ، قال تعالى :« وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ »من علم السحر الذي مزجوه بما أنزل على الملكين هاروت وماروت من علم الحق« وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا »له« إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ »فإن مقلوب الحمد كفر وهو الذم« فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما »أي من العلمين« ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ »وهو القدر من السحر الذي يعطي التفرقة ، واللّه قد كره ذلك وقد ذمه ، وندب إلى الألفة
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
وجبريل صاحب العذاب والشدائد ، وميكائيل صاحب الخصب والخير فيما يزعمون ، فكل واحد منهما عدو للآخر ، فأخبر تعالى أنهم إن صدقوا ، فإنهم عدو للاثنين معا ، ومن كان عدوا لهما فهو عدو للّه وملائكته ، فيكون اللّه عدوا له وللكافرين ، وتنزيل صورة العداوة منهم لجبريل وميكائيل ، أنهم يريدون بالمؤمنين إنزال العذاب عليهم بالجوع ونقص من الثمرات ، فيرون الخصب فيهم والخير لهم ، وذلك بيد ميكائيل فيكونون عدوا له لأنه أنعم على أعدائهم ، ويرون ما نزل بهم من رفع الطور والصاعقة وغير ذلك وهو من جبريل ، فهم أيضا عدو له ، فلذلك قال تعالى « من كان عدوا للّه وملائكته وجبريل وميكال » فخصهما بالذكر مع دخولهم في عموم ملائكته« فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ »الفاء جواب من ، ثم قال ( 100 )« وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ »يعني في القرآن ، تظهر صدقك في أنك نبي« وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ »الخارجون عن أمر اللّه من أهل الكتب ، حيث أمرهم اللّه في كتبهم أن يؤمنوا بك وبما أنزل إليك فعصوه ، وخرجوا عن أمره ، وهو الفسوق ، والفسوق الآخر في حق الذين خرجوا عما تعطيهم دلالات المعجزات من التصديق بمن جاء بها فلم يؤمنوا ، والفسوق الثالث من المقلدين حيث مكّنهم اللّه من النظر والبحث بما أعطاهم من العقل والفكر فلم يفعلوا وقلدوا ، فهؤلاء أيضا فسقوا أي خرجوا عما تقتضيه عقولهم من أن يكونوا علماء بما هم فيه مقلدون ، فعمّ الفسوق جميع الفرق ، وهذا من جوامع الكلم ، ثم قال ( 101 )« أَ وَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ »هو قوله( ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ )فأخبر تعالى أنه أخذ عليهم مواثيق مرارا ونكثوا عهد اللّه مرارا ، فقد يكون المعنى( وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ )أي إلا الذين فسقوا ونقضوا عهد اللّه ، وأو بمعنى الواو العاطفة المعنى ، وكلما عاهدوا عهدا مع اللّه ورسوله نبذه أي رمى به فريق منهم« بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ »يريد المقلدين لعلمائهم ، فإن العلماء قليلون والمقلدين كثيرون ، فالمقلد ليس بموقن حقا ، وعالمهم ليس كذلك فإنه يعرف الحق ولا يقول به ويكتمه عن المقلد له ، فيتضاعف العذاب على العالم ، فإن عليهم إثم البرسيين وهم الأتباع ، ثم قال ( 102 )« وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ »يريد
ص 166
وانتظام الشمل . ولما علم سبحانه أن الافتراق لا بد منه لكل مجموع مؤلف لحقيقة خفيت عن أكثر الناس شرع الطلاق رحمة بعباده ليكونوا مأجورين في أفعالهم غير مذمومين إرغاما للشياطين ، ومع هذا فقد ورد في الخبر النبوي أنه صلّى اللّه عليه وسلم قال : ما خلق اللّه حلالا أبغض إليه من الطلاق ،« وَما هُمْ »أي السحرة« بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ »فإنه لا تتحرك ذرة إلا بإذنه سبحانه .
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
محمدا صلّى اللّه عليه وسلم« مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ »أي لما بأيديهم من التوراة« نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ »يعني اليهود« كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ »قد يريد بالكتاب المنبوذ هنا التوراة والقرآن ، وقد يريد أحدهما ، وهو كناية عن ترك العمل به حيث ألقوه خلف ظهورهم« كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ »شبههم بالمقلدة في فعلهم ، وقد يحتمل أن يكون المعنى ، كأنهم لا يعلمون ، تقريرا لعلمهم بذلك ولكنهم نقضوا عهد اللّه وفسقوا ، يقول نبذوا كتاب اللّه وراء ظهورهم فلم يعملوا به ( 103 )« وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ »من السحر والشعوذة« عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ »على عهد سليمان ، أي في زمن ملكه« وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ »أي لم يكن علمه سحرا ولا شعوذة ، بل علمه حق من عند اللّه« وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا »بما دونوه من علم السحر وخلطوه بما أنزل على الملكين هاروت وماروت من الحق ، والشياطين« يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ »الأمرين معا ممزوجا« بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ »فإذا أتى السائل إلى الملكين ليعلماه ، يقولان له« إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ »أي إنما نزلنا للتعليم اختبارا ، فإن الشياطين يعلمون الناس السحر ممزوجا بما أنزل علينا« فَلا تَكْفُرْ »أي لا تأخذ من الشياطين فإنك لا تفرق بين الحق من ذلك والباطل ، ثم قال« فَيَتَعَلَّمُونَ »يعني الناس« مِنْهُما »أي من العلمين ، علم السحر والعلم الذي أنزل على الملكين« ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ »الرجل« وَزَوْجِهِ »أي امرأته ، وإنما قبله منهم المتعلم لأمرين : الواحد لامتزاجه بالحق الذي أنزل على الملكين ، فإن الشياطين تتصور في صور علمائهم وتقول لهم : هذا هو الذي أنزل على الملكين ، فيصدقونهم ، فيلقون إليهم ما يضرهم ولا ينفعهم من علم السحر ، وأما من اقتصر على الملكين ولم يتعداهما فما علّم إلا حقا منزلا من عند اللّه ، وما نزل من عند اللّه لا يكون كفرا وضلالا ، وهو قوله« وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ »وكل لفظة كفر في هذه القصة قد يكون ضد الإيمان ، وقد يكون بمعنى ستر الحق ، فإن الكفر الستر في اللغة ، وكلا الوجهين في الترجمة عن ذلك صالح ، ثم قال« وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ »يناقض قوله« لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ »
ص 167
سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 103 إلى 104
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ( 103 ) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ ( 104 )
تختلف الأحكام باختلاف الألفاظ التي وقع عليها التواطؤ بين المخاطبين ، وإن كان المعنى واحدا فالمصرف ليس بواحد .
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
بعد هذا فيما يظهر ، فقوله« وَلَقَدْ عَلِمُوا »يعود الضمير على من سأل الملكين فقالا له لا تكفر« ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ »فإن من كفر لا خلاق له في الآخرة ، فكأنهم قالوا نحن نتعلم منهم ذلك ولا نعمل به ، فإن العلم بالشيء يورث التوقي مما فيه من الضرر لمن جهله ، فلما علموه قامت لهم الأغراض وطلب الرئاسة وتحصيل ما يشتهون بهذا العلم فعملوا به ، فكفروا ، فهو قوله« وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ »أي باعوا به« أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ »أن ذلك يقودهم إلى العمل لما في طيه مما في عمله من تقدمهم على أبناء جنسهم ، والافتقار إليهم في آثار ذلك ونيل أغراضهم ، فهذا هو الذي جهلوه ، والذي علموا هنالك لم يكن هذا الذي جهلوه ، وقد بان المقصود من الآية على غاية الاختصار ونزهنا الملائكة فإن اللّه قد أثنى عليهم ، وما بلغنا قط عن اللّه تعالى أنه جرح أحدا من الملائكة ، ثم قال ( 104 )« وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا »قد يعود الضمير في آمنوا على الذين سألوا الملكين وما سمعوا منهم ، ولا اتقوا اللّه حين قالوا لمن سألهم لا تكفر باتباع الشياطين لأنهم خلطوا الحق بالباطل ، فقال اللّه فيهم« وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا »أي صدقوا الملكين« وَاتَّقَوْا »واتخذوا ما قالاه لهم وقاية« لَمَثُوبَةٌ »لحصلت لهم من ذلك مثوبة من اللّه وخير« مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ »وقد يحتمل أن يعود الضمير على اليهود في الإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم ، ثم قال ( 105 )« يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا »هذا خطاب للمؤمنين ، فإن اليهود كانت تقول هذه الكلمة بلسانها على طريق السب ، فلما سمع اليهود يخاطب بها المؤمنون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فرحوا بذلك ، ليقولوها كما يقولها المؤمنون على المعنى الذي تريده اليهود من السب ، وسيأتي شرحها في سورة النساء إن شاء اللّه ، فنهى المؤمنين عن أن يخاطبوا بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، ومعناها اسمع منا يا رسول اللّه غرضا لحفظهم ما خاطبهم به ، فقال لهم« وَقُولُوا انْظُرْنا »أي انتظرنا حتى نحفظ ما خاطبتنا به من كلام اللّه ، يقول اللّه للمؤمنين« قُولُوا انْظُرْنا »« وَاسْمَعُوا »ما تؤمرون به« وَلِلْكافِرِينَ »يعني الذين يقولون راعنا على غير المعنى الذي قاله المؤمنون« عَذابٌ أَلِيمٌ »موجع من الألم ، وهو الوجع ، ويقال بالسريانية والعبرانية ( راعينا ) بالياء والنون ، وأما من قرأ
ص 168
سورة البقرة ( 2 ) : آية 105
ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ( 105 )«
وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ »جاء تعالى بلفظة من وهي نكرة فدخل تحتها كل شيء ، لأن كل شيء حي ناطق فيدخل تحت قوله من ، لأن بعض النحاة يعتقدون أن لفظة من لا تقع إلا على من يعقل ، وكل شيء يسبح بحمد اللّه ولا يسبح إلا من يعقل من يسبحه ، ويثني عليه بما يستحقه ، فمن تقع على كل شيء إذ كل شيء يعقل عن اللّه سبحانه ، واللّه تعالى ما عرفنا أنه اختص بنقمته من يشاء كما أخبرنا أنه يختص برحمته من يشاء وبفضله ، فإن أهل النار معذبون بأعمالهم لا غير ، وأهل الجنة ينعمون بأعمالهم وبغير أعمالهم في جنات الاختصاص ، فلأهل السعادة ثلاث جنات : جنة أعمال وجنة اختصاص وجنة ميراث ، فينزل أهل الجنة في الجنة على قدر أعمالهم ، ولهم جنات الميراث وهي التي كانت لأهل النار لو دخلوا الجنة ، ولهم جنات الاختصاص فالحكم للّه العلي الكبير ، فإن الاختصاص الإلهي لا يقبل التحجير ولا الموازنة ولا العمل ، وإن ذلك من فضل اللّه ، يختص برحمته من يشاء واللّه ذو الفضل العظيم .
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
"راعنا " بالتنوين في الشاذ ، فهو من الرعن ، وهو الهوج ، أي لا تقولوا قولا راعنا ، ومنه الرعونة ، وقد روى أن سعد بن عبادة من الأنصار لما قالت اليهود لمحمد صلّى اللّه عليه وسلم راعنا حين سمعوا المؤمنين يخاطبون محمدا صلّى اللّه عليه وسلم بذلك ، قال : لئن قالها رجل منكم للنبي لأضربن عنقه ، فإنه كان عارفا بما تواطئوا عليه في كلامهم ، إذ كانوا حلفاء لهم ، وقيل بل كان سعد بن معاذ ، ثم قال ( 106 )« ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ »دخل في ذلك المنافق والذي لم ينافق« وَلَا الْمُشْرِكِينَ »عطف على أهل الكتاب ، وحذف من لدلالة الأول عليه« أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ »حسدا من عندهم حيث لم يكن لهم ذلك الخير« وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ »في هذا تنبيه على رد من يقول إن النبوة مكتسبة ، فأخبر اللّه أنها اختصاص ، وكنّى عنها بالرحمة لكونه رحم بها نبيه عليه السلام ، ورحم بها من بعث إليه من الأمة ، حتى سلكوا به طريق هداهم ، ثم قال« وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ »أي مزيد الخير الذي يعظم وروده وقدره في قلوب العلماء باللّه ،
ص 169
سورة البقرة ( 2 ) : آية 106
ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(106).
"ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ "
[ في النسخ والانساء ]
أي علامة على صدق ما ادعاه ، فالآيات منسوخة في الأولياء لأنهم مأمورون بسترها ، محكمة في الأنبياء والرسل« أَوْ نُنْسِها »أي نتركها آية للأولياء كما كانت آية للأنبياء« نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها »من باب المفاضلة أي بأزيد منها في الدلالة ، وهي آيات الإعجاز فلا تكون إلا لأصحابها ، أو لمن قام فيها بالنيابة على صدق أصحابها ، فلا يكون لولي قط هذه العلامة من حيث صحة مرتبته ، وأما قوله« أَوْ مِثْلِها »الضمير يرجع إلى الآية المنسوخة ، فلم يكن لها صفة الإعجاز ، بل هي مثل الأولى ، ولا يصح حمل هذه الآية على أنها آي القرآن التي نزلت في الأحكام ، فنسخ بآية ما كان ثبت حكمه في آية قبلها ، فإن اللّه ما قال في آخر هذه الآية « ا لم تعلمإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ » *ولا حكيم ، ومثل هذه الأسماء هي التي تليق بنظم القرآن الوارد بآيات الأحكام ، وإنما قال اللّه تعالى :« أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ »
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
ثم قال ( 107 )« ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ »« * » سبب نزول هذه الآية فيما قيل ، أن اليهود قالت : ألا تنظرون إلى محمد يأمر بأمر ثم ينهى عنه ويأمر بخلافه ؟ فنزلت هذه الآية ، وهذا السبب كأنه لا يصح عندي ، فإن مساق الآية لا يعطيه ، فإنه قال في الآية« أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ »على جهة المدح ، وإبدال حكم بحكم من طريق التكليف ما فيه ذلك المدح من جهة القدرة ، إذ كان هذا تحت قدرة كل من له أمر مطاع في عشيرته ، بل الإنسان في بيته ، بل في نفسه ، وإنما الذي يقوي أنه سبحانه أراد بالآية هنا آيات الأنبياء صلوات اللّه عليهم التي نصبها دلالات بحكم الإعجاز على صدقهم ، وقد تقدم تكرارها كثيرا فقال تعالى« ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ »أي من دلالة على صدق نبي ، ونسخها ذهابها ورفعها ، إذا كانت فعلا ، فإنه ينقضي ، ولهذا أتى بها نكرة« أَوْ نُنْسِها »يقول : أو نتركها ، مثل القرآن الذي هو آية مستمرة إلى يوم القيامة فلا يعارض ، وكذلك من قرأ « أو ننساها » أو نؤخرها ، وهو ما بقي من الدلالات والآيات ولم يذهب مثل القرآن وغيره ، والذي رفع كعصا موسى وإحياء الموتى ، وقوله« نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها »يقول : أقوى منها في الدلالة ، لأن الآيات قد تظهر للعام والخاص ، فتكون أقوى من الآيات التي لا يظهر كونها آية إلا للعلماء ، وقوله« أَوْ مِثْلِها »
( * ) تفسير هذه الآية بهذا المعنى الوارد هنا ، نسب إلى الشيخ محمد عبده كما جاء في تفسير المنار ، والثابت كما هو واضح أن الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي هو السابق لهذا المعنى الذي لم يرد في تفسير آخر من كتب المفسرين .
ص 170
فأراد الآيات التي ظهرت على أيدي الأنبياء عليهم السلام لصدق دعواهم في أنهم رسل اللّه ، فمنها ما تركها آية إلى يوم القيامة كالقرآن ، ومنها ما رفعها ولم تظهر إلى يوم القيامة ، واعلم أن آيات الأنبياء تختلف باختلاف الأعصار لاختلاف الزمان واختلاف الأحوال ، فيعطي هذا الحال والزمان ما لا يعطيه الزمان والحال الذي كان قبله ، والذي يكون بعده ، فآية كل خليفة ورسول من نسب الغالب على ذلك الزمان وأحوال علمائه ، أي شيء كان ، من طب أو سحر أو فصاحة وما شاكل هذا ، والرسل أوجب اللّه عليهم إظهار الآيات لكونهم مأمورين بالدعاء إلى اللّه ابتداء ، وهو ينشئ التشريع وينسخ بعض شرع مقرر على يد غيره من الرسل ، فلا بد من إظهار آية وعلامة تكون دليلا على صدقه أنه يخبر عن اللّه إزالة ما قرره اللّه حكما على لسان رسول آخر ، إعلاما بانتهاء مدة الحكم في تلك المسألة .
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin