كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن من كلام الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي
سورة البقرة ( 2 ) : آية 32
قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ( 32 )
« قالُوا »أي قالت الملائكة :« سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا »فمن علمهم باللّه أنهم ما أضافوا التعليم إلا إليه تعالى« إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ »بما لا يعلم« الْحَكِيمُ »بترتيب الأشياء مراتبها ، فأعطيت هذا الخليفة ما لم تعطنا مما غاب عنا . والأسماء الإلهية منها ما كانت الملائكة تعلمه ، وما اختص آدم إلا بالكل ، وما عرض من المسميات إلا ما كانت الملائكة تجهله ، وما صحت الخلافة للعبد الإنسان الكامل إلا بقبوله لجميع الأسماء الإلهية التي بأيدينا ، وبها صحت الخلافة ، وفضل على الملائكة ، فالخليفة إن لم يظهر فيمن هو خليفة عليه بأحكام من استخلفه وصورته في التصرف فيه وإلا فما هو خليفة له ، واستخلاف الرب عبده خلافة مقيدة بحسب ما تعطيه ذاته ونشأته ، بعكس استخلاف العبد ربه لما اتخذه وكيلا ، فهي خلافة مطلقة ووكالة مفوضة .
سورة البقرة ( 2 ) : آية 33
قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ( 33 )
اعلم أن للأسماء أنوارا تظهر مسمياتها حقا وخلقا ، وهذه الأنوار كانت لآدم عليه السلام
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
أن المعروض هو المسميات ، بقوله تعالى« أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ" ( 33 ) " قالُوا " قالت الملائكة« سُبْحانَكَ »أي أنت المنزه أن تتصف بجهل شيء من المعلومات بمثل ما اتصفنا« لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ »بكل شيء« الْحَكِيمُ »أي المرتب للأشياء على ما ينبغي لها أن تكون ، ومنها جعلك هذا الإنسان خليفة في الأرض ، ولولا قرائن الأحوال لكان قولهم( أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها )استعلاما من الحق عن ذلك لا على جهة الإنكار والاعتراض ، ولهذا عدلنا به إلى غلبة الغيرة عليهم ، بما علموه من مخالفتهم لأوامر اللّه ، وقد أرى اللّه الملائكة سفك الدماء في ذات اللّه ، والفساد في مرضاة اللّه ، وأنزلهم يوم بدر مقاتلين فقاتلوا ، فوقع منهم ما ذكروه مما يقع من الإنسان من سفك الدماء ، وفساد الأعيان عن ترتيب ما كانت عليه بطريق مقرب إلى اللّه تعالى ، فصدّقهم اللّه في الواقع لأنهم أهل علم وكشف ، وغيّب عنهم كون ذلك يقع قربة إلى اللّه ( 34 )« قالَ
ص 113
حين علم جميع الأسماء بالوضع الإلهي لا بالاصطلاح ، وفي ذلك تكون الفضيلة والاختصاص ، فإن للّه أسماء أوجد بها الملائكة وجميع العالم ، وللّه أسماء أوجد بها جامع حقائق الحضرة الإلهية وهو الإنسان الكامل ، ظهر ذلك بالنص في آدم ، وخفي في غيره فقال تعالى للملائكة في فضل آدم وفي فضل هذا المقام وقد أحضر الملائكة المسميات أعني أعيانهم :« أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ »أي بالأسماء الإلهية التي صدروا عنها .
فلم يعلموا ذلك فقال اللّه :« يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ »أي بأسماء هؤلاء الذين عرضناهم عليهم ، وهي الأسماء الإلهية التي أوجدتهم واستندوا إليها في إيجاد أعيانهم ، لا أسماء الاصطلاح الوضعي الكوني فإنه لا فائدة فيه ، فأنبأ آدم الملائكة بأسماء تلك التجليات فكان هؤلاء المسمون المعروضة على الملائكة تجليات إلهية في صورة ما في آدم من الحقائق ، وجعل اللّه تعالى آدم أستاذا للملائكة فعلمهم الأسماء كلها ، فلما علمهم آدم عليه السلام وهو قوله تعالى :« فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ »« قالَ »أي قال لهم اللّه« أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ »وهو ما علا من علم الغيوب« وَالْأَرْضِ »وهو ما في الطبيعة من الأسرار« وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ »أي ما هو من الأمور ظاهر« وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ »أي ما تخفونه على أنه باطن مستور . واعلم أنه مع أنه ليس فوق مرتبة الإنسان مرتبة إلا مرتبة الملك في المخلوقات ، وقد تلمذت الملائكة له حين علمهم الأسماء ، فلا يدل هذا على أنه خير من الملك ، ولكنه يدل على أنه أكمل نشأة من الملك.
سورة البقرة ( 2 ) : آية 34
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ ( 34 )
ثم قال تعالى للملائكة بعد التعليم :« اسْجُدُوا لِآدَمَ »سجود المتعلمين للمعلم من أجل
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ » يقول أعلمهم « بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ »أعلمهم بأسمائهم« قالَ »اللّه للملائكة« أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ »لكلام قد تقدم له سبحانه مع ملائكته لم يذكره لنا ، ثم قال« وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ »يقول ما تظهرون« وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ »يقول ما هو
ص 114
ما علمهم ، فلآدم هنا لام العلة والسبب أي من أجل آدم ، فالسجود للّه من أجل آدم سجود شكر لما علمهم اللّه من العلم به ، وبما خلقه في آدم عليه السلام ، فعلموا ما لم يكونوا يعلمون فأمر اللّه سبحانه للملائكة بالسجود لمعلمهم سجود أمر - كسجود الناس إلى الكعبة - وتشريف ، لا سجود عبادة ، نعوذ باللّه فيكون في هذا العالم الإنساني ثمرة السجود ، لا نفس السجود ، وإنما هو التواضع والخضوع والإقرار بالسبق والفخر والشرف والتقدم له ، كتواضع التلميذ لمعلمه . فنال آدم عليه السلام التقدمة عليهم بكونه علمهم ، فهو أستاذهم في هذه المسألة ، وبعده فما ظهرت هذه الحقيقة في أحد من البشر إلا في محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، فقال عن نفسه : إنه أوتي جوامع الكلم ، وهو قوله تعالى في حق آدم عليه السلام« الْأَسْماءَ كُلَّها »وكلها بمنزلة الجوامع ، والكلم بمنزلة الأسماء ، فنال التقدمة بها وبالصورة التي خلقه اللّه عليها ، عند ذلك علمت الملائكة أن آدم عليه السلام خليفة اللّه في أرضه ، لا خليفة عن سلف ، ثم ما زال يتلقاها كامل عن كامل حتى انتهت إلى السيد الأكبر المشهود له بالكمال محمد صلّى اللّه عليه وسلم الذي عرف بنبوته وآدم بين الماء والطين ، وأوتي صلّى اللّه عليه وسلم جوامع الكلم ، كما أوتي آدم جميع الأسماء ، ثم علمه اللّه الأسماء التي علمها آدم ، فعلم علم الأولين والآخرين ، فكان محمد صلّى اللّه عليه وسلم أعظم خليفة وأكبر إمام .« فَسَجَدُوا »ولم يزل حكم السجود فيهم لآدم وللكامل من أبنائه أبدا دائما ، فإن الملأ الأعلى عنده ازدحام لرؤية الإنسان
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
مكتوم فيكم مما لا تعلمونه أنتم ، وما هو مكتوم عندكم بعضكم من بعض ، وهو قوله( يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى )فالسر ما بين العبد والحق ، والأخفى ما يعلمه سبحانه من العبد ولا يعلمه العبد من نفسه أنه يكون فيه ، ثم أعلم سبحانه نبيه فقال أيضا ( 35 )« وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ »الآية ، تقدم قبل هذا أن ضمير الجماعة في جانب الحق يعود على الأسماء من جهة ما تطلبه الحقائق في تلك القصة ، فقد أنعم على آدم بأشياء متعددة ، بإيجاد عينه ، وبما علّمه من العلم ، مع أنه لا يقوى في تصفية نشأته تصفية الملائكة ، فإنهم مخلوقون من نور ، وآدم مخلوق من حمأ مسنون ومن صلصال ، ثم نفخ فيه روحا ملكيا في مثل هذه النشأة الترابية ، وخلقها بيديه ، وهذه كلها أسباب أسماء مختلفة النسب ، فكل اسم له نسبة أثر في آدم ، له أن يقول أنا ، فإذا اجتمعت الأسماء صدق القائل أن يقول« قُلْنا »فقال« وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ »فأحدث لهم حرمة بالسجود للّه سبحانه من أجل خلق آدم ، وما أنعم به عليه ، حيث أبدى لهم في وجوده من العلم
ص 115
الخليفة ، وأمروا بالسجود فطأطئوا عن أمر اللّه ، ناظرين إلى مكان هذا الخليفة حتى يكون السجود له ، لأن اللّه أمرهم بالسجود له ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم : أطت السماء بعمارها وحق لها أن تئط ، ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك ساجد للّه ، واستصحاب سجود الملائكة للإمام دنيا وآخرة ونقول في الملائكة :قدّسهمو أن يجهلوا حق من * قد سخر اللّه له العالمين كيف لهم وعلمهم أنني * ابن الذي قد خروا له ساجدينواعترفوا بعد اعتراض علي * والدنا بكونهم جاهلين وأبلس الشخص الذي قد أبى * وكان للفضل من الجاحدينقدّسهمو قدّسهمو أنهم * قد عصموا من خطأ المخطئين.
كيف توجه الخطاب على إبليس وهو ليس من صنف الملائكة ؟
والسؤال هنا : كيف توجه الخطاب على إبليس وهو ليس من صنف الملائكة ؟ فقال تعالى :« إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ » .فنقول إن معنى الملائكة : الرسل وهو من المقلوب ، وأصله مألكة ، والألوكة الرسالة والمألكة الرسالة ، فما تختص بجنس دون جنس ، فالرسالة جنس حكم يعم الأرواح الكرام البررة السفرة ، والجن ، والإنس ، فمن كل صنف من أرسل ، ومنه من لم يرسل ، ولهذا دخل إبليس في الخطاب بالأمر بالسجود لما قال اللّه للملائكة :« اسْجُدُوا »لأنه ممن كان يستعمل في الرسالة ، فهو رسول ، فأمره اللّه فأبى واستكبر فكان ذلك سببا لبعده عن القرب الإلهي ، فصح الاستثناء وجعله منصوبا بالاستثناء المنقطع ، فقطعه عن الملائكة كما قطعه عنهم في خلقه من نار ، ولكنه تعالى شرّك بينهم في
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
بالأسماء ما لم يكونوا يعلمون ، والسجود للّه ، وجرت العادة في الملوك إذا أنعموا على شخص بحضور خاصته ، أن يخدموه بما جرت العادة أن يخدموه به ، ولا سيما إذا عاد عليهم من ذلك الشخص منفعة من جانب الملك لهم بسببه ، فتكون تلك الخدمة من أجل ذلك الشخص للملك« فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ »وأبى إبليس واستكبر حسدا وظلما وعلوا للجنسية ، فإنه رأى نفسه مخلوقا مثله من الطبائع الأربع ، ورأى أن العنصر الذي غلب عليه أشرف من العنصر الذي غلب على نشأة الإنسان ، فهذا استكباره ، وأما إبايته فقد نبهنا أن النارية تقتضي له ذلك ، ويكون الاستثناء متصلا بوجه ، ومنقطعا بوجه ، فمن راعى نشأته وجنسه ، قال : إنه استثناء منقطع ، ومن رأى أنه في الملائكة كالمستهلك فيهم لكثرتهم ، واتصاله بهم في جماعتهم في عباداتهم
ص 116
الرسالة ، فكأنه تعالى يقول :« إِلَّا إِبْلِيسَ »إلا من أبعده اللّه من المأمورين بالسجود« أَبى وَاسْتَكْبَرَ »وقال :« أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ » *ثم قال تعالى :« وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ »فطمع إبليس في الرحمة التي وسعت كل شيء ، وطمعه فيها من عين المنة لإطلاقها ، لأنه علم في نفسه أنه موحد ، وسماه اللّه كافرا فقال :« وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ »ولم يقل من المشركين لأنه يخاف اللّه رب العالمين ويعلم أن اللّه واحد ، وقد علم مآل الموحدين إلى أين يصير ، سواء كان توحيدا عن إيمان أو عن نظر من غير إيمان ، وعلم أن جهنم لا تقبل خلود أهل التوحيد وإنما سماه اللّه كافرا لأنه يستر عن العباد طرق سعادتهم التي جاء بها الشرع في حق كل إنسان .
سورة البقرة ( 2 ) : آية 35
وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ ( 35 )
سمي آدم بآدم لحكم ظاهره عليه فإنه ما عرف منه سوى ظاهره ، فلا يعرف مخلوق من الإنسان سوى ظاهره ، وأما باطنه فمجهول . ومن هذه الآيات نعلم أن أول أمر ظهر في العالم الطبيعي هو قول اللّه تعالى لإبليس : اسجد لآدم ، فظهر الأمر فيه ، وأول نهي قوله تعالى لآدم وحواء :« لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ »فظهر النهي فيهما ، وقوله تعالى :« هذِهِ الشَّجَرَةَ »
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
ومشاركته لهم فيها ، جعله استثناء متصلا ، ودل على أنه كان مأمورا بالسجود قوله تعالى« أَبى »ولا يقع الامتناع إلا بعد توجه تكليف ، وقد يجوز أن يكون السجود سجود تحية ، كسجود أبوي يوسف وإخوته له ، والأول أوجه ، يعضد ما قلناه الحديث الصحيح ، قال عليه السلام :
لو أذن لأحد أن يسجد لأحد ، لأذنت للمرأة أن تسجد لزوجها ، وأما سجود التحية فغير منكور فيمن تقدم ، وهو من فعل الأعاجم ، وهو هذا الانحناء الذي يكون منهم عند التقاء بعضهم بعضا ، وكون السجود مكروها لغير اللّه أو محرما هو أمر مشروع ليس لذاته بخلاف العبودية فإنه ممتنع بذاته أن يكون عبدا لغير اللّه حقيقة« وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ »هنا أي من الفاسقين الخارجين عن أمر اللّه بدليل قوله( كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ )فسماه كافرا ، ثم قال ( 36 )« وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ »الآية ، قال يا آدم اسكن« أَنْتَ وَزَوْجُكَ »يعني حواء ،« الْجَنَّةَ »أي اتخذها مسكنا
ص 117
بحرف الإشارة تعيين لشجرة معينة ، فتقدم الأمر لآدم عليه السلام بسكنى الجنة والأكل منها حيث شاء ، ثم نهاه عن قرب شجرة مشار إليها أن يقربها ، فوقع التحجير والنهي في قوله حيث شئتما لا في الأكل ، فما حجر عليه الأكل وإنما حجر عليه القرب منها الذي كان أطلقه في حيث شئتما ، فما أكلا منها حتى قربا ، فتناولا منها ، فأخذا بالقرب ، لا بالأكل ، فالتكليف مقسم بين : أمر ونهي ، وهما محمولان على الوجوب حتى تخرجهما عن مقام الوجوب قرينة حال - وإن كان مذهبنا فيهما التوقيف - فتعين امتثال الأمر والنهي فإن قلت : كيف اقتحم النهي على المعصية ؟ قلنا : لظهور هذه الحكمة ، وهي الخلافة في الأرض وتمييز القبضتين ، لذلك لم يكن النجم ، وكان الشجر ، لوجود الخلاف الذي ظهر ، فالشجر من التشاجر والخلاف .
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
ومنزلا ، وعطف زوجك على أنت ، وإنما تعريف الجنة بالألف واللام فيمكن أن يريد جميع الجنات ، ويمكن أن يكون جنة معينة ، وعلى أي وجه كانت فهو يتبوأ منها حيث يشاء ، أي يسكن منها حيث شاء ،« وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما »وحيث شئتما معمول لاسكن ، يقول : اسكن أنت وزوجك الجنة حيث شئتما منها ، وكلا رغدا أي اتسعا في عيشكما ، لأن الرغد هو الاتساع في العيش ، وهذا أوجه من أن يكون العامل في الظرف« كُلا »ومنها قد يكون متعلقا بكلا ، وقد يكون بقوله اسكن ، وأما في الأعراف فقد بيّن هنالك أن قوله فكلا هو العامل في قوله( مِنْ حَيْثُ شِئْتُما )والجمع بين الآيتين إن كانت القصة واحدة ، أن المعنى اسكن من الجنة حيث شئت ، وكلا من حيث شئتما من ثمرها ، وهو معنى قوله في الزمر( نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ )فرفع التحجير ، ثم قال« وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ »عيّنتها الإشارة ، والأظهر تعيين واحدة من الجنس ، ودون هذا تعيين الجنس ، وما ذكر اللّه تعالى أية شجرة هي ، ولا صحّ عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، ومثل هذا لا يدرك بالاجتهاد ، لكني أشير إلى اللفظ بهذا الاسم ، وذلك أن الشجرة مشتقة من التشاجر ، لتداخل أغصانها بعضها على بعض ، كالمتشاجرين يدخل كلام بعضهم في كلام بعضهم بالمخالفة والمنازعة ، وربما أنه ما في الجنة شجرة على هذه الصفة إلا هذه ، وسائر شجر الجنة لا تدخل أغصانها بعضها على بعض ، ولذلك ما ذكر اللّه تعالى في القرآن إلا ثمرات الجنة ، فإنه جعلها منزل موافقة ، فقد يكون أغصانها تخرج على الاعتدال والاستقامة ، وذكر ذلك في النار فقال( إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ )وقال( وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ )فإن جهنم دار نزاع وتشاجر ، قال تعالى( إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ )فوصفهم بالمخاصمة وهي المشاجرة ، ومنها ( قالت أولاهم
ص 118
سورة البقرة ( 2 ) : آية 36
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ ( 36 )
أضيف الزلل إلى الشيطان ، وقد علم أنه ليس له على ذلك سلطان ، لأن اللّه جعله في الشاهد صفة نقص ، ودليل خسران ، تنزه الجناب العالي أن يضاف إليه ، أو إلى من شهد له بالكمال كالأنبياء صلوات اللّه عليهم . شرك اللّه بين إبليس وآدم وحواء من ضمير واحد ، وهو كان أشد العقوبة على آدم ، فقيل لهم :« اهْبِطُوا »بضمير الجماعة فكانت العقوبة في حق آدم في جمعه مع إبليس من الضمير ، حيث خاطبهم الحق بالهبوط ، بالكلام الذي يليق بجلاله ، ولكن لا بد أن يكون في الكلام الصفة التي يقتضيها لفظ الضمير ، فإن صورة اللفظ يطلب المعنى الخاص ، ولم يكن الهبوط عقوبة لآدم وحواء ، وإنما كان عقوبة لإبليس ، فإن آدم أهبط لصدق الوعد ، بأن يجعل في الأرض خليفة ، بعد ما تاب عليه واجتباه ، وتلقي الكلمات من ربه تصديقا لما قاله تعالى للملائكة :« إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً » ،وأهبطت حواء للنسل ، وأهبط إبليس للإغواء ، ليحور عليه جميع ما يغوي به بني آدم .
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
لأخراهم ) ( وقالت أخراهم لأولاهم ) ( وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا ) ( وقال الذين استكبروا للذين استضعفوا ) ولم يقل شيء من هذا في أهل الجنة ، فكأنه سبحانه أشار لهما بالشجرة النهي عن مخالفته فيما نهاهما عنه وموافقته ، تنبيها لهما على ذلك ، وأخبرهما أنهما إن خالفا أمره سبحانه كانا من الظالمين ، فقال« فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ »لأنفسهما حيث عرضا بأنفسهما للعقوبة ، وهذا يدلك على أن لنفسك عليك حقا ، وكذا قالا( رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا )وكان غرضنا أن نجمع في هذه السورة ذكر قصص آدم كلها في سائر السور ، وهكذا كل قصة تكرر ، ثم أني رأيت من الأدب أن اللّه فرّقها في السور لحكمة علمها ، فينبغي لنا أن نذكر الترجمة عنها في المواضع التي ذكرها الحق من سور القرآن ، حتى لا أحدث شيئا ، والاتباع أولى بأهل السعادة من الابتداع ، فنقول قال تعالى ( 37 )« فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها »الآية ، لما كان متعلق النهي القرب لا الأكل ، لذلك عدل إبليس إلى الأكل ، ولم يقل لهما اقربا منها ، فيتذكران نهي اللّه عن القرب ، وعلم أنهما لا يقطعان منها ثمرة حتى يقربا ، وهذا من علمه بمواقع
ص 119
وصية - قال اللّه تعالى لإبراهيم الخليل عليه السلام ،
[ معصية الحبيب على الحبيب شديدة ]
يا إبراهيم ما هذا الوجل الشديد الذي أراه منك ؟ فقال له إبراهيم : يا رب كيف لا أوجل ولا أكون على علىوجل ، وآدم أبي كان محله من القرب منك ، خلقته بيديك ، ونفخت فيه من روحك ، وأمرت الملائكة بالسجود له ، فبمعصية واحدة أخرجته من جوارك ، فأوحى إليه : يا إبراهيم أما علمت أن معصية الحبيب على الحبيب شديدة ؟
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
الشرور ، وكانت الشجرة المنهي قربها كان ذلك سببا لوسوسة إبليس ، فضمير« عَنْها »يعود على الشجرة ، أي عنها صدرت الوسوسة من إبليس لعنه اللّه ، كما سيأتي ( أن حب الخير ) لسليمان عن ذكر ربه ، أي صدر ذلك الحب من سليمان عن ذكر ربه ، ولذلك مسح بسوقها وأعناقها فرحا بها ، وسيأتي ذلك في سورة ص ، فقوله تعالى« فَأَزَلَّهُمَا »أي ذهب بهما ، وأزالهما انتزعهما ، والمعنى متقارب« فَأَخْرَجَهُما »يعني حواء وآدم« مِمَّا كانا فِيهِ »من النعيم والكرامة لسعادتهما وشقاوته« وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ »الضمير يعود على آدم وحواء وإبليس ، وجمع بينهم في ضمير واحد لاشتراكهم في المخالفة ، فإن إبليس خالف الأمر ، وآدم وحواء خالفا النهي ، وقد انحصر التكليف الذي يوجب الوعد والوعيد فعله أو تركه بينهما ، واشتركوا في الهبوط ، غير أن آدم هبط إلى الأرض للخلافة كما تقدم لا عقوبة ، فإن المؤاخذة وقعت بظهور السوآت لهما ، وهبطت حواء لأنها محل الولادة للتناسل ، وأهبط إبليس عقوبة ، لأنه لا يعود إليها وأن مصيره إلى دار الشقاء ، وإن اشتركوا في الهبوط ولكن المقاصد مختلفة ، وقوله( جَمِيعاً )تأكيد ، لم يتأخر بعضهم عن بعض ، ولم نستوف تمام القصة هنا لأن اللّه تعالى ما استوفاها هنا ، ويقع الاستيفاء لها بالوقوف على تكرار ذكرها في كل سورة إن شاء اللّه تعالى ، وقوله« بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ »أي يعدو بعضكم على بعض ، فيعدو الشيطان على بني آدم بتزيين مخالفة أوامر اللّه ونواهيه ، ويعدو بنو آدم على الشيطان بأن يردوا وسوسته في نحره وكلامه في وجهه ويمتثلون أمر اللّه ( ويجتنبون ) نواهيه ، فيغيظه ذلك ، فهذه عداوة بني آدم لإبليس ، وأما الذين يسمعون منه فهم أولياؤه وأحباؤه ورفقاؤه في النار ، فالمؤمنون كلهم أعداؤه ، وما عدا المؤمنين كلهم أولياؤه ، فالمخالفات الصادرة من المؤمنين غير مؤثرة في إيمانهم ، لأنهم ليسوا على يقين من مؤاخذة اللّه بها ، فإن اللّه قال( لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً )ولو دخل المؤمن النار في الآخرة فكما يمرض في الدنيا ويتألم حسا ومعنى ، ومقره ومآله السعادة الأبدية في النعيم الدائم ، وليس مقصود إبليس هذه المخالفات الواقعة من المؤمنين ، وإنما مقصوده الإشراك باللّه ، وكل ما يؤديهم
ص120
سورة البقرة ( 2 ) : آية 37
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( 37 )
وهذه الكلمات هي قوله« رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ »« فَتابَ عَلَيْهِ »بكله وذريته فيه فأسعد اللّه الكل ، فله النعيم في أي دار كان منهم ما كان ، بعد عقوبة وآلام ، تقوم بهم دنيا وآخرة« إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ »إذا اتفق أن يؤاخذ التائب فما يأخذه إلا الحكيم لا غير من الأسماء ، فإذا لم يؤاخذ فإنما يكون الحكم فيه للرحيم ، فإن اللّه تواب رحيم بطائفة وتواب حكيم بطائفة ، فوصف الحق نفسه بأنه التواب الرحيم ، أي الذي يرجع على عباده في كل مخالفة بالرحمة له ، فيرزقه الندم عليها ، فيتوب العبد بتوبة اللّه عليه لقوله« ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ».
إشارة - تاب الحق على آدم بتلقيه الكلمات العلية ، لأنه تلقاها من حضرة الربوبية ، حضرة الإصلاح .
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
إلى الخلود معه في الشقاء في دار البوار ، فأهل النار الذين هم أهلها هم أولياء الشيطان ، ولهذا سماهم اللّه شياطين الإنس والجن ، وقال( مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ )وقوله تعالى« وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ »يقول إقامة وقرار« وَمَتاعٌ »يقول :
استمتاع ، وهو كل ما يستمتع به من أكل وشرب ولباس ونعيم« إِلى حِينٍ »يقول : إلى حلول آجالكم ، يقول : مدة أعماركم ، فإن القبر أول منزل من منازل الآخرة ، ثم قال ( 38 )« فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ »الآية ، قرئ برفع آدم ونصب كلمات وبالعكس ، أي من تلقاك فقد تلقيته ، فإن الملاقاة فعل فاعلين ، والأولى بمنصب آدم أن تكون الكلمات تستقبله لوجهين ، الوجه الواحد التعريف بعناية اللّه به حيث أعطاه ما أداه استعماله إلى إعادة السعادة إليه ، والوجه الثاني التعليم ، لأنه ليس له أن يدعوه بنية التقريب والقربة إلا بوحي منزل عليه ، فإذا رفعت آدم فمن حيث أنه استقبل الكلمات حين استقبلته من عند اللّه ، ويحتمل عدم ذكر واسطة الملك أنه سبحانه أوحى اللّه بها منه إليه بلا واسطة ، تشريفا له وتعريفا بالحال ، أن الوصلة بيني وبينك ما انقطعت بمخالفتك نهيي ، والأظهر في ماهية الكلمات أنها المذكورة في سورة الأعراف( رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا ، لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ )فلما قال آدم الكلمات التي تلقاها من ربه أخبره تعالى أنه تاب عليه« فَتابَ عَلَيْهِ »أي رجع عليه بالسعادة بأن مآله بعد موته إلى الجنة في جوار الرحمن« إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ »الرجّاع بالرحمة على عباده ، وهو الذي يكثر منه الرجوع في
ص 121
سورة البقرة ( 2 ) : آية 38
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 38 )
قال تعالى :« اهْبِطُوا »فجمع ولم يثن ولا أفرد ، فأهبط آدم وحواء وإبليس ، فنزل آدم من الجنة إلى أصله الذي خلق منه ، فإنه مخلوق من التراب ، فأهبطه اللّه للخلافة ، لقوله تعالى :« إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً »فما أهبط عقوبة لما وقع منه ، وإنما جاء الهبوط عقيب ما وقع منه ، لأنه لما كانت نشأة الإنسان ظهرت في الجنان أولا اتفق هبوطها إلى الأرض من أجل الخلافة لا عقوبة المعصية ، فإن العقوبة حصلت بظهور السوآت ، والاجتباء والتوبة قد حصلا بتلقي الكلمات الإلهية ، فلم يبق النزول إلا للخلافة ، فكان هبوط تشريف وتكريم ، ليرجع إلى الآخرة بالجم الغفير من أولاده السعداء ، من الرسل والأنبياء ، والأولياء والمؤمنين ، فكان هبوط آدم هبوط ولاية واستخلاف ، لا هبوط طرد ، فهو هبوط مكان ، لا هبوط رتبة ، وأهبط الحق تعالى حواء للتناسل ، وأهبط إبليس عقوبة لا رجوعا إلى أصله ، فإنها ليست داره ولا خلق منها ، فسأل اللّه الإغواء أن يدوم له في ذرية آدم ، لما عاقبه اللّه بما يكرهه من إنزاله إلى الأرض ، وكان سبب ذلك في الأصل وجود آدم ، لأنه بوجوده وقع الأمر بالسجود ، وظهر ما ظهر من إبليس ، وكان من الأمر ما كان .« فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ »من قامت قيامته في حياته الدنيا ، واستعجل حسابه ، يأتي يوم القيامة آمنا لا خوف عليه ولا يحزن ، لا في الحال
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
مقابلة كل مخالفة تقع من العبد ، لأن كل مخالفة خروج ، فإذا عاد بالاستغفار وطلب الرحمة من اللّه عند كل ذنب ، عاد الحق إليه بالرحمة والمغفرة ، فلذلك جاء ببنية المبالغة في التواب ، ( 39 ) قوله« قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً »الآية ، كرر ذكر الهبوط ، لأنه فصل بين الهبوط المذكور أولا وبين ما أهبط له من إتيان الهدى بالكلام الذي قد تقدم من العداوة والاستقرار والتمتع ، فطالت القصة وبعد الذي أهبط له منه ، فكرر الهبوط ، وليدل أيضا على الفصاحة والإعجاز حيث زاد الكلام تكراره جمالا وبلاغا ، تعرف ذلك فصحاء الأعراب لا نحن ، فقال تعالى« فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً »هذا شرط ، وجوابه الشرط الثاني وجوابه وهو قوله
ص 122
ولا في المستقبل ، ولهذا أتى سبحانه بفعل الحال في قوله :« وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ »فإن هذا الفعل يرفع الحزن في الحال والاستقبال ، بخلاف الفعل الماضي والمخلص للاستقبال بالسين أو سوف
سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 39 إلى 40
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ( 39 ) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ( 40 )
« فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ »فالفاء جواب الشرط الأول ، وقوله« فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ »فالفاء جواب الشرط الثاني الذي هو من ، فمعنى الكلام اهبطوا فإن جاءكم مني هدى واتبعتموه فلا خوف عليكم ، والفاء في إما جواب الأمر ، وجاء بلفظة الشك مع تحقق إتيان الهدى عند اللّه ، لكن في نفس الأمر هو من الممكنات ، فيستوي بالنظر إليه الطرفان ، وجود الإتيان وعدمه ، وتارة يرد الخطاب بما هو الكائن في علم اللّه ، وتارة يرد الخطاب بما هو الأمر عليه في نفسه ، فيؤذن بأن ذلك الإتيان ليس بواجب على اللّه ، إذ لا يجب عليه شيء ، كما يقوله مخالفو أهل الحق ، مع أنّا لا ننكر أن يوجب على نفسه ، فمن جملة الهدى الذي جاء من عند اللّه تلقي الكلمات ، ولذلك الهبوط الثاني هو الهبوط الأول عينه ، ثم قال« فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ »أي من اتبع ما شرعت له على حد ما شرعت له ، ارتفع عنه خوف العذاب ولم يحزن« وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ »ولم يذكر الجنة ولا الخلود كما ذكر فيمن كفر وكذب بآياته ، لأن أهل السعادة على قسمين ، قسم يعملون لما يقتضيه حق الربوبية وهم الأعلون ، وقسم يعملون لأجل الجنة وهم دونهم ، ولهؤلاء خوف الحجاب ، ولهؤلاء خوف فقد النعيم وحزنه فذكر ارتفاع الخوف والحزن لكونه يعم الطائفتين ولم يذكر الجنة ، لئلا ييأس الأعلون من الطائفتين ، فتهمم الحقق بهم إذ كانوا الطبقة العليا ، والهدى هنا ما بينه لهم في التعريف المنزل المشروع لهم ، ثم قال ( 40 )« وَالَّذِينَ كَفَرُوا »أي ستروا ، على ما تقدم في أول السورة في قوله( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا )وقوله« وَكَذَّبُوا »يريد المعاندين وغير المعاندين« بِآياتِنا »أي بالعلامات التي جعلناها ونصبناها أدلة على القربة إلينا ومعرفتنا ( وفي كل شيء له آية : تدل على أنه واحد ) غير أن الآيات على قسمين : معتادة وغير معتادة ، فأرباب الفكر والمستبصرون
ص 123
" وَأَوْفُوا بِعَهْدِي »أوفوا بما عاهدتكم عليه في الدنيا في موطن التكليف« أُوفِ بِعَهْدِكُمْ »في الدارين معا ، دنيا وآخرة وأدخلكم الجنة ، وهو حق عرضي لا ذاتي ، لأنه حق على اللّه أوجبه على نفسه لمن وفي بعهده ، ومن لم يف فليس له عند اللّه عهد ، إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة ، وأدخلنا تحت العهد إعلاما بأنا جحدنا عبوديتنا له ، إذ لو كنا عبيدا
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
الموفقون هي عندهم سواء ، يتخذونها أدلة ، وما عدا هؤلاء فلا ينظرون إلا في الآيات غير المعتادة ، فيحصل لهم استشعار الخوف ، فيردهم ذلك القدر إلى اللّه ، قال تعالى( وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ )ثم إن الذين يتخذون غير المعتادة آية ، منهم من يخلصها دليلا على اللّه ، ومنهم من يشرك( وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ )لمعرفتهم بالأسباب المولدة لتلك الآيات ، كالزلازل والكسوفات وما يحدث من الآثار العلوية ، واللّه ينور أبصارنا ويرزقنا التوفيق ، قال تعالى« أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ »باقون ، وقوله« أَصْحابُ النَّارِ »أي أهلها ، كما ورد في الصحيح ( أما أهل النار الذين هم أهلها ، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ) وقال في الذين يخرجون منها ( ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم ، أو قال بخطاياهم ، فأماتهم اللّه فيها إماتة ) ثم ذكر خروجهم من النار - الحديث بكماله - فعمّ سبحانه بقوله« الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا »جميع الأشقياء ، وأما قوله« اهْبِطُوا »فحظي إبليس من هذا الهبوط لما تكبر وعلا عند نفسه ، لأن أصله من لهب النار ، ولهب النار يطلب العلو ، فلهذا تكبر ، ولما كان لهبا كان إذا جاءه الهواء من أعلاه عكس رأس اللهب إلى أسفل قسرا وقهرا ، كذلك إبليس لما جاءه هواه من تكبره على آدم لنشأته ، عكسه إلى الأرض ، فأهبط ، ولم يقف الأمر هنا ، بل أهبط إلى أسفل سافلين في دار الخزي والهوان ، فهواه أهبطه ، ولما كانت الملائكة نورا عمت جميع الجهات فلا أثر للهواء في النور ، ألا ترى النور الذي في الشمس والسراج وفي كل جسم مستنير نسبته إلى العلو والسفل والجنبات نسبة واحدة ، والملائكة مخلوقون من النور ، فلا أثر للهوى فيهم ، فلا يعصون اللّه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، ولما غلب على آدم في نشأته التراب وله السكون ، بخلاف لهب النار ، ثبت على عبوديته وتواضعه ، فسعد ، وكان هبوطه رجوعا إلى أصله ، وسيأتي الكلام على نشأته في موضعها إن شاء اللّه ، وكونه من حمأ مسنون ، ولهذا يتغير كل ما يحل فيه من الأطعمة والأشربة ويستحيل إلى الروائح القبيحة ، ويندرج في هذا الكلام النشأة الأخراوية ، واستحالة ما يحل فيها من الطعام والشراب إلى الروائح الطيبة ، وتحقيق ذلك في موضعه إن شاء اللّه ، قوله ( 41 )« يا بَنِي إِسْرائِيلَ »الآية ، أضافهم إلى يعقوب ، فهو إسرائيل ، أي صفوة اللّه« اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ »وقد ذكر اللّه ما أنعم اللّه به على بني إسرائيل ، من
ص 124
لم يكتب علينا عهده ، فإنا بحكم السيد ، فلما أبقنا بخروجنا عن حقيقتنا وادعينا الملك والتصرف ، والأخذ والعطاء ، كتب بيننا وبينه عقودا ، وأخذ علينا العهد والميثاق ، وأدخل نفسه معنا في ذلك ، والعبد لا يكتب عليه شيء ولا يجب له حق ، فإنه ما يتصرف إلا عن إذن سيده ، فإذا وفي العبد حقيقة عبوديته ، لم يؤخذ عليه عهد ولا ميثاق ، فمن أصعب آية تمر على العارفين كل آية فيها« أَوْفُوا بِالْعُقُودِ »أو العهود فإنها آيات أخرجت العبيد من عبوديتهم للّه . فإن قلت : كيف كلف الحق نفسه وقيدها ، مع أنه مطلق ، والمطلق ، لا يقبل التقييد بوجه من الوجوه ؟ قلنا : إن للمطلق أن يقيد نفسه إن شاء ، وأن لا يقيدها إن شاء ، فإن ذلك من صفة كونه مطلقا إطلاق مشيئة ، ومن هنا أوجب الحق على نفسه ، ودخل تحت العهد لعبده فقال في الوجوب :« كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ »أي أوجب فهو الموجب على نفسه ، ما أوجب غيره عليه ذلك فيكون مقيدا بغيره ، فقيد نفسه لعبيده رحمة بهم ولطفا خفيا ، وقال في العهد :« أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ »فكلفهم ، وكلف نفسه ، لما قام الدليل عندهم بصدقه في قيله ، ذكر لهم ذلك تأنيسا لهم سبحانه وتعالى ، ولكن هذا كله أعني دخوله في التقييد لعباده من كونه إلها ، لا من كونه ذاتا ، فإن الذات غنية عن العالمين ، والملك ما هو غني عن الملك ، إذ لولا الملك ما صح اسم الملك ، فالمرتبة أعطت التقييد ، لا ذات الحق جل وتعالى - تنبيه - احذر أن تفي ليفي إليك ، أوف أنت بعهدك واتركه يفعل ما يريد ، فإنه من وفي بعهده ليفي له الحق بعهده ، لم يزده على ميزانه شيئا ، حيث ورد في الحديث « كان له عند اللّه عهدا أن يدخله الجنة » لم يقل غير ذلك ، وقد قال تعالى :« وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ »ولم يطلب الموازنة ولا ذكرها هنا أنه ليفي له بعهده ، وإنما قال :« فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً »وما عظمه الحق فلا أعظم منه ، فاعمل
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
المنّ والسلوى وتفجير الماء من الحجر ومشيهم على البحر وإنجائهم من عدوهم وتظليل الغمام وغير ذلك ، فإن اللّه يمن على عباده بما يمتن عليهم من المنن الجسام ، ولذا سميت مننا ، وليس للعباد أن يمتنوا ، لأن النعم ليست إلا لمن خلقها ، فلهذا كان المن من اللّه محمودا ، لأنه ينبه عباده بما أنعم عليهم ليرجعوا إليه ، وكان مذموما من العباد لأنه كذب محض ، قال تعالى( يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ، قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ ، بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ )ثم قال تعالى لهم« وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ »أي أوفوا بما أخذت عليكم من الميثاق ، فأخبرنا بذلك لنسمع
ص 128
على وفائك بعهدك من غير مزيد ، فإن من طلب من الحق الوفاء ، فقد ناط به الجفا ، وليس برب جاف بلا خلاف
إشارة -[ الرب رب ، والعبد عبد ]
الرب رب ، والعبد عبد ، وإن اشتركا في العهد .
فلا تنظر لما عندي * فإن الأمر من عندك
ولا تطلب وفى عهدي * إذا ما خنت في عهدك
فوعدي صادق مني * إذا صدقت في وعدك
وما أتيت إلا من * فساد كان في عقدك
سورة البقرة ( 2 ) : آية 32
قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ( 32 )
« قالُوا »أي قالت الملائكة :« سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا »فمن علمهم باللّه أنهم ما أضافوا التعليم إلا إليه تعالى« إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ »بما لا يعلم« الْحَكِيمُ »بترتيب الأشياء مراتبها ، فأعطيت هذا الخليفة ما لم تعطنا مما غاب عنا . والأسماء الإلهية منها ما كانت الملائكة تعلمه ، وما اختص آدم إلا بالكل ، وما عرض من المسميات إلا ما كانت الملائكة تجهله ، وما صحت الخلافة للعبد الإنسان الكامل إلا بقبوله لجميع الأسماء الإلهية التي بأيدينا ، وبها صحت الخلافة ، وفضل على الملائكة ، فالخليفة إن لم يظهر فيمن هو خليفة عليه بأحكام من استخلفه وصورته في التصرف فيه وإلا فما هو خليفة له ، واستخلاف الرب عبده خلافة مقيدة بحسب ما تعطيه ذاته ونشأته ، بعكس استخلاف العبد ربه لما اتخذه وكيلا ، فهي خلافة مطلقة ووكالة مفوضة .
سورة البقرة ( 2 ) : آية 33
قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ( 33 )
اعلم أن للأسماء أنوارا تظهر مسمياتها حقا وخلقا ، وهذه الأنوار كانت لآدم عليه السلام
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
أن المعروض هو المسميات ، بقوله تعالى« أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ" ( 33 ) " قالُوا " قالت الملائكة« سُبْحانَكَ »أي أنت المنزه أن تتصف بجهل شيء من المعلومات بمثل ما اتصفنا« لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ »بكل شيء« الْحَكِيمُ »أي المرتب للأشياء على ما ينبغي لها أن تكون ، ومنها جعلك هذا الإنسان خليفة في الأرض ، ولولا قرائن الأحوال لكان قولهم( أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها )استعلاما من الحق عن ذلك لا على جهة الإنكار والاعتراض ، ولهذا عدلنا به إلى غلبة الغيرة عليهم ، بما علموه من مخالفتهم لأوامر اللّه ، وقد أرى اللّه الملائكة سفك الدماء في ذات اللّه ، والفساد في مرضاة اللّه ، وأنزلهم يوم بدر مقاتلين فقاتلوا ، فوقع منهم ما ذكروه مما يقع من الإنسان من سفك الدماء ، وفساد الأعيان عن ترتيب ما كانت عليه بطريق مقرب إلى اللّه تعالى ، فصدّقهم اللّه في الواقع لأنهم أهل علم وكشف ، وغيّب عنهم كون ذلك يقع قربة إلى اللّه ( 34 )« قالَ
ص 113
حين علم جميع الأسماء بالوضع الإلهي لا بالاصطلاح ، وفي ذلك تكون الفضيلة والاختصاص ، فإن للّه أسماء أوجد بها الملائكة وجميع العالم ، وللّه أسماء أوجد بها جامع حقائق الحضرة الإلهية وهو الإنسان الكامل ، ظهر ذلك بالنص في آدم ، وخفي في غيره فقال تعالى للملائكة في فضل آدم وفي فضل هذا المقام وقد أحضر الملائكة المسميات أعني أعيانهم :« أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ »أي بالأسماء الإلهية التي صدروا عنها .
فلم يعلموا ذلك فقال اللّه :« يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ »أي بأسماء هؤلاء الذين عرضناهم عليهم ، وهي الأسماء الإلهية التي أوجدتهم واستندوا إليها في إيجاد أعيانهم ، لا أسماء الاصطلاح الوضعي الكوني فإنه لا فائدة فيه ، فأنبأ آدم الملائكة بأسماء تلك التجليات فكان هؤلاء المسمون المعروضة على الملائكة تجليات إلهية في صورة ما في آدم من الحقائق ، وجعل اللّه تعالى آدم أستاذا للملائكة فعلمهم الأسماء كلها ، فلما علمهم آدم عليه السلام وهو قوله تعالى :« فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ »« قالَ »أي قال لهم اللّه« أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ »وهو ما علا من علم الغيوب« وَالْأَرْضِ »وهو ما في الطبيعة من الأسرار« وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ »أي ما هو من الأمور ظاهر« وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ »أي ما تخفونه على أنه باطن مستور . واعلم أنه مع أنه ليس فوق مرتبة الإنسان مرتبة إلا مرتبة الملك في المخلوقات ، وقد تلمذت الملائكة له حين علمهم الأسماء ، فلا يدل هذا على أنه خير من الملك ، ولكنه يدل على أنه أكمل نشأة من الملك.
سورة البقرة ( 2 ) : آية 34
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ ( 34 )
ثم قال تعالى للملائكة بعد التعليم :« اسْجُدُوا لِآدَمَ »سجود المتعلمين للمعلم من أجل
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ » يقول أعلمهم « بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ »أعلمهم بأسمائهم« قالَ »اللّه للملائكة« أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ »لكلام قد تقدم له سبحانه مع ملائكته لم يذكره لنا ، ثم قال« وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ »يقول ما تظهرون« وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ »يقول ما هو
ص 114
ما علمهم ، فلآدم هنا لام العلة والسبب أي من أجل آدم ، فالسجود للّه من أجل آدم سجود شكر لما علمهم اللّه من العلم به ، وبما خلقه في آدم عليه السلام ، فعلموا ما لم يكونوا يعلمون فأمر اللّه سبحانه للملائكة بالسجود لمعلمهم سجود أمر - كسجود الناس إلى الكعبة - وتشريف ، لا سجود عبادة ، نعوذ باللّه فيكون في هذا العالم الإنساني ثمرة السجود ، لا نفس السجود ، وإنما هو التواضع والخضوع والإقرار بالسبق والفخر والشرف والتقدم له ، كتواضع التلميذ لمعلمه . فنال آدم عليه السلام التقدمة عليهم بكونه علمهم ، فهو أستاذهم في هذه المسألة ، وبعده فما ظهرت هذه الحقيقة في أحد من البشر إلا في محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، فقال عن نفسه : إنه أوتي جوامع الكلم ، وهو قوله تعالى في حق آدم عليه السلام« الْأَسْماءَ كُلَّها »وكلها بمنزلة الجوامع ، والكلم بمنزلة الأسماء ، فنال التقدمة بها وبالصورة التي خلقه اللّه عليها ، عند ذلك علمت الملائكة أن آدم عليه السلام خليفة اللّه في أرضه ، لا خليفة عن سلف ، ثم ما زال يتلقاها كامل عن كامل حتى انتهت إلى السيد الأكبر المشهود له بالكمال محمد صلّى اللّه عليه وسلم الذي عرف بنبوته وآدم بين الماء والطين ، وأوتي صلّى اللّه عليه وسلم جوامع الكلم ، كما أوتي آدم جميع الأسماء ، ثم علمه اللّه الأسماء التي علمها آدم ، فعلم علم الأولين والآخرين ، فكان محمد صلّى اللّه عليه وسلم أعظم خليفة وأكبر إمام .« فَسَجَدُوا »ولم يزل حكم السجود فيهم لآدم وللكامل من أبنائه أبدا دائما ، فإن الملأ الأعلى عنده ازدحام لرؤية الإنسان
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
مكتوم فيكم مما لا تعلمونه أنتم ، وما هو مكتوم عندكم بعضكم من بعض ، وهو قوله( يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى )فالسر ما بين العبد والحق ، والأخفى ما يعلمه سبحانه من العبد ولا يعلمه العبد من نفسه أنه يكون فيه ، ثم أعلم سبحانه نبيه فقال أيضا ( 35 )« وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ »الآية ، تقدم قبل هذا أن ضمير الجماعة في جانب الحق يعود على الأسماء من جهة ما تطلبه الحقائق في تلك القصة ، فقد أنعم على آدم بأشياء متعددة ، بإيجاد عينه ، وبما علّمه من العلم ، مع أنه لا يقوى في تصفية نشأته تصفية الملائكة ، فإنهم مخلوقون من نور ، وآدم مخلوق من حمأ مسنون ومن صلصال ، ثم نفخ فيه روحا ملكيا في مثل هذه النشأة الترابية ، وخلقها بيديه ، وهذه كلها أسباب أسماء مختلفة النسب ، فكل اسم له نسبة أثر في آدم ، له أن يقول أنا ، فإذا اجتمعت الأسماء صدق القائل أن يقول« قُلْنا »فقال« وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ »فأحدث لهم حرمة بالسجود للّه سبحانه من أجل خلق آدم ، وما أنعم به عليه ، حيث أبدى لهم في وجوده من العلم
ص 115
الخليفة ، وأمروا بالسجود فطأطئوا عن أمر اللّه ، ناظرين إلى مكان هذا الخليفة حتى يكون السجود له ، لأن اللّه أمرهم بالسجود له ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم : أطت السماء بعمارها وحق لها أن تئط ، ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك ساجد للّه ، واستصحاب سجود الملائكة للإمام دنيا وآخرة ونقول في الملائكة :قدّسهمو أن يجهلوا حق من * قد سخر اللّه له العالمين كيف لهم وعلمهم أنني * ابن الذي قد خروا له ساجدينواعترفوا بعد اعتراض علي * والدنا بكونهم جاهلين وأبلس الشخص الذي قد أبى * وكان للفضل من الجاحدينقدّسهمو قدّسهمو أنهم * قد عصموا من خطأ المخطئين.
كيف توجه الخطاب على إبليس وهو ليس من صنف الملائكة ؟
والسؤال هنا : كيف توجه الخطاب على إبليس وهو ليس من صنف الملائكة ؟ فقال تعالى :« إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ » .فنقول إن معنى الملائكة : الرسل وهو من المقلوب ، وأصله مألكة ، والألوكة الرسالة والمألكة الرسالة ، فما تختص بجنس دون جنس ، فالرسالة جنس حكم يعم الأرواح الكرام البررة السفرة ، والجن ، والإنس ، فمن كل صنف من أرسل ، ومنه من لم يرسل ، ولهذا دخل إبليس في الخطاب بالأمر بالسجود لما قال اللّه للملائكة :« اسْجُدُوا »لأنه ممن كان يستعمل في الرسالة ، فهو رسول ، فأمره اللّه فأبى واستكبر فكان ذلك سببا لبعده عن القرب الإلهي ، فصح الاستثناء وجعله منصوبا بالاستثناء المنقطع ، فقطعه عن الملائكة كما قطعه عنهم في خلقه من نار ، ولكنه تعالى شرّك بينهم في
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
بالأسماء ما لم يكونوا يعلمون ، والسجود للّه ، وجرت العادة في الملوك إذا أنعموا على شخص بحضور خاصته ، أن يخدموه بما جرت العادة أن يخدموه به ، ولا سيما إذا عاد عليهم من ذلك الشخص منفعة من جانب الملك لهم بسببه ، فتكون تلك الخدمة من أجل ذلك الشخص للملك« فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ »وأبى إبليس واستكبر حسدا وظلما وعلوا للجنسية ، فإنه رأى نفسه مخلوقا مثله من الطبائع الأربع ، ورأى أن العنصر الذي غلب عليه أشرف من العنصر الذي غلب على نشأة الإنسان ، فهذا استكباره ، وأما إبايته فقد نبهنا أن النارية تقتضي له ذلك ، ويكون الاستثناء متصلا بوجه ، ومنقطعا بوجه ، فمن راعى نشأته وجنسه ، قال : إنه استثناء منقطع ، ومن رأى أنه في الملائكة كالمستهلك فيهم لكثرتهم ، واتصاله بهم في جماعتهم في عباداتهم
ص 116
الرسالة ، فكأنه تعالى يقول :« إِلَّا إِبْلِيسَ »إلا من أبعده اللّه من المأمورين بالسجود« أَبى وَاسْتَكْبَرَ »وقال :« أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ » *ثم قال تعالى :« وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ »فطمع إبليس في الرحمة التي وسعت كل شيء ، وطمعه فيها من عين المنة لإطلاقها ، لأنه علم في نفسه أنه موحد ، وسماه اللّه كافرا فقال :« وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ »ولم يقل من المشركين لأنه يخاف اللّه رب العالمين ويعلم أن اللّه واحد ، وقد علم مآل الموحدين إلى أين يصير ، سواء كان توحيدا عن إيمان أو عن نظر من غير إيمان ، وعلم أن جهنم لا تقبل خلود أهل التوحيد وإنما سماه اللّه كافرا لأنه يستر عن العباد طرق سعادتهم التي جاء بها الشرع في حق كل إنسان .
سورة البقرة ( 2 ) : آية 35
وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ ( 35 )
سمي آدم بآدم لحكم ظاهره عليه فإنه ما عرف منه سوى ظاهره ، فلا يعرف مخلوق من الإنسان سوى ظاهره ، وأما باطنه فمجهول . ومن هذه الآيات نعلم أن أول أمر ظهر في العالم الطبيعي هو قول اللّه تعالى لإبليس : اسجد لآدم ، فظهر الأمر فيه ، وأول نهي قوله تعالى لآدم وحواء :« لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ »فظهر النهي فيهما ، وقوله تعالى :« هذِهِ الشَّجَرَةَ »
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
ومشاركته لهم فيها ، جعله استثناء متصلا ، ودل على أنه كان مأمورا بالسجود قوله تعالى« أَبى »ولا يقع الامتناع إلا بعد توجه تكليف ، وقد يجوز أن يكون السجود سجود تحية ، كسجود أبوي يوسف وإخوته له ، والأول أوجه ، يعضد ما قلناه الحديث الصحيح ، قال عليه السلام :
لو أذن لأحد أن يسجد لأحد ، لأذنت للمرأة أن تسجد لزوجها ، وأما سجود التحية فغير منكور فيمن تقدم ، وهو من فعل الأعاجم ، وهو هذا الانحناء الذي يكون منهم عند التقاء بعضهم بعضا ، وكون السجود مكروها لغير اللّه أو محرما هو أمر مشروع ليس لذاته بخلاف العبودية فإنه ممتنع بذاته أن يكون عبدا لغير اللّه حقيقة« وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ »هنا أي من الفاسقين الخارجين عن أمر اللّه بدليل قوله( كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ )فسماه كافرا ، ثم قال ( 36 )« وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ »الآية ، قال يا آدم اسكن« أَنْتَ وَزَوْجُكَ »يعني حواء ،« الْجَنَّةَ »أي اتخذها مسكنا
ص 117
بحرف الإشارة تعيين لشجرة معينة ، فتقدم الأمر لآدم عليه السلام بسكنى الجنة والأكل منها حيث شاء ، ثم نهاه عن قرب شجرة مشار إليها أن يقربها ، فوقع التحجير والنهي في قوله حيث شئتما لا في الأكل ، فما حجر عليه الأكل وإنما حجر عليه القرب منها الذي كان أطلقه في حيث شئتما ، فما أكلا منها حتى قربا ، فتناولا منها ، فأخذا بالقرب ، لا بالأكل ، فالتكليف مقسم بين : أمر ونهي ، وهما محمولان على الوجوب حتى تخرجهما عن مقام الوجوب قرينة حال - وإن كان مذهبنا فيهما التوقيف - فتعين امتثال الأمر والنهي فإن قلت : كيف اقتحم النهي على المعصية ؟ قلنا : لظهور هذه الحكمة ، وهي الخلافة في الأرض وتمييز القبضتين ، لذلك لم يكن النجم ، وكان الشجر ، لوجود الخلاف الذي ظهر ، فالشجر من التشاجر والخلاف .
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
ومنزلا ، وعطف زوجك على أنت ، وإنما تعريف الجنة بالألف واللام فيمكن أن يريد جميع الجنات ، ويمكن أن يكون جنة معينة ، وعلى أي وجه كانت فهو يتبوأ منها حيث يشاء ، أي يسكن منها حيث شاء ،« وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما »وحيث شئتما معمول لاسكن ، يقول : اسكن أنت وزوجك الجنة حيث شئتما منها ، وكلا رغدا أي اتسعا في عيشكما ، لأن الرغد هو الاتساع في العيش ، وهذا أوجه من أن يكون العامل في الظرف« كُلا »ومنها قد يكون متعلقا بكلا ، وقد يكون بقوله اسكن ، وأما في الأعراف فقد بيّن هنالك أن قوله فكلا هو العامل في قوله( مِنْ حَيْثُ شِئْتُما )والجمع بين الآيتين إن كانت القصة واحدة ، أن المعنى اسكن من الجنة حيث شئت ، وكلا من حيث شئتما من ثمرها ، وهو معنى قوله في الزمر( نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ )فرفع التحجير ، ثم قال« وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ »عيّنتها الإشارة ، والأظهر تعيين واحدة من الجنس ، ودون هذا تعيين الجنس ، وما ذكر اللّه تعالى أية شجرة هي ، ولا صحّ عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، ومثل هذا لا يدرك بالاجتهاد ، لكني أشير إلى اللفظ بهذا الاسم ، وذلك أن الشجرة مشتقة من التشاجر ، لتداخل أغصانها بعضها على بعض ، كالمتشاجرين يدخل كلام بعضهم في كلام بعضهم بالمخالفة والمنازعة ، وربما أنه ما في الجنة شجرة على هذه الصفة إلا هذه ، وسائر شجر الجنة لا تدخل أغصانها بعضها على بعض ، ولذلك ما ذكر اللّه تعالى في القرآن إلا ثمرات الجنة ، فإنه جعلها منزل موافقة ، فقد يكون أغصانها تخرج على الاعتدال والاستقامة ، وذكر ذلك في النار فقال( إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ )وقال( وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ )فإن جهنم دار نزاع وتشاجر ، قال تعالى( إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ )فوصفهم بالمخاصمة وهي المشاجرة ، ومنها ( قالت أولاهم
ص 118
سورة البقرة ( 2 ) : آية 36
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ ( 36 )
أضيف الزلل إلى الشيطان ، وقد علم أنه ليس له على ذلك سلطان ، لأن اللّه جعله في الشاهد صفة نقص ، ودليل خسران ، تنزه الجناب العالي أن يضاف إليه ، أو إلى من شهد له بالكمال كالأنبياء صلوات اللّه عليهم . شرك اللّه بين إبليس وآدم وحواء من ضمير واحد ، وهو كان أشد العقوبة على آدم ، فقيل لهم :« اهْبِطُوا »بضمير الجماعة فكانت العقوبة في حق آدم في جمعه مع إبليس من الضمير ، حيث خاطبهم الحق بالهبوط ، بالكلام الذي يليق بجلاله ، ولكن لا بد أن يكون في الكلام الصفة التي يقتضيها لفظ الضمير ، فإن صورة اللفظ يطلب المعنى الخاص ، ولم يكن الهبوط عقوبة لآدم وحواء ، وإنما كان عقوبة لإبليس ، فإن آدم أهبط لصدق الوعد ، بأن يجعل في الأرض خليفة ، بعد ما تاب عليه واجتباه ، وتلقي الكلمات من ربه تصديقا لما قاله تعالى للملائكة :« إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً » ،وأهبطت حواء للنسل ، وأهبط إبليس للإغواء ، ليحور عليه جميع ما يغوي به بني آدم .
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
لأخراهم ) ( وقالت أخراهم لأولاهم ) ( وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا ) ( وقال الذين استكبروا للذين استضعفوا ) ولم يقل شيء من هذا في أهل الجنة ، فكأنه سبحانه أشار لهما بالشجرة النهي عن مخالفته فيما نهاهما عنه وموافقته ، تنبيها لهما على ذلك ، وأخبرهما أنهما إن خالفا أمره سبحانه كانا من الظالمين ، فقال« فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ »لأنفسهما حيث عرضا بأنفسهما للعقوبة ، وهذا يدلك على أن لنفسك عليك حقا ، وكذا قالا( رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا )وكان غرضنا أن نجمع في هذه السورة ذكر قصص آدم كلها في سائر السور ، وهكذا كل قصة تكرر ، ثم أني رأيت من الأدب أن اللّه فرّقها في السور لحكمة علمها ، فينبغي لنا أن نذكر الترجمة عنها في المواضع التي ذكرها الحق من سور القرآن ، حتى لا أحدث شيئا ، والاتباع أولى بأهل السعادة من الابتداع ، فنقول قال تعالى ( 37 )« فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها »الآية ، لما كان متعلق النهي القرب لا الأكل ، لذلك عدل إبليس إلى الأكل ، ولم يقل لهما اقربا منها ، فيتذكران نهي اللّه عن القرب ، وعلم أنهما لا يقطعان منها ثمرة حتى يقربا ، وهذا من علمه بمواقع
ص 119
وصية - قال اللّه تعالى لإبراهيم الخليل عليه السلام ،
[ معصية الحبيب على الحبيب شديدة ]
يا إبراهيم ما هذا الوجل الشديد الذي أراه منك ؟ فقال له إبراهيم : يا رب كيف لا أوجل ولا أكون على علىوجل ، وآدم أبي كان محله من القرب منك ، خلقته بيديك ، ونفخت فيه من روحك ، وأمرت الملائكة بالسجود له ، فبمعصية واحدة أخرجته من جوارك ، فأوحى إليه : يا إبراهيم أما علمت أن معصية الحبيب على الحبيب شديدة ؟
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
الشرور ، وكانت الشجرة المنهي قربها كان ذلك سببا لوسوسة إبليس ، فضمير« عَنْها »يعود على الشجرة ، أي عنها صدرت الوسوسة من إبليس لعنه اللّه ، كما سيأتي ( أن حب الخير ) لسليمان عن ذكر ربه ، أي صدر ذلك الحب من سليمان عن ذكر ربه ، ولذلك مسح بسوقها وأعناقها فرحا بها ، وسيأتي ذلك في سورة ص ، فقوله تعالى« فَأَزَلَّهُمَا »أي ذهب بهما ، وأزالهما انتزعهما ، والمعنى متقارب« فَأَخْرَجَهُما »يعني حواء وآدم« مِمَّا كانا فِيهِ »من النعيم والكرامة لسعادتهما وشقاوته« وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ »الضمير يعود على آدم وحواء وإبليس ، وجمع بينهم في ضمير واحد لاشتراكهم في المخالفة ، فإن إبليس خالف الأمر ، وآدم وحواء خالفا النهي ، وقد انحصر التكليف الذي يوجب الوعد والوعيد فعله أو تركه بينهما ، واشتركوا في الهبوط ، غير أن آدم هبط إلى الأرض للخلافة كما تقدم لا عقوبة ، فإن المؤاخذة وقعت بظهور السوآت لهما ، وهبطت حواء لأنها محل الولادة للتناسل ، وأهبط إبليس عقوبة ، لأنه لا يعود إليها وأن مصيره إلى دار الشقاء ، وإن اشتركوا في الهبوط ولكن المقاصد مختلفة ، وقوله( جَمِيعاً )تأكيد ، لم يتأخر بعضهم عن بعض ، ولم نستوف تمام القصة هنا لأن اللّه تعالى ما استوفاها هنا ، ويقع الاستيفاء لها بالوقوف على تكرار ذكرها في كل سورة إن شاء اللّه تعالى ، وقوله« بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ »أي يعدو بعضكم على بعض ، فيعدو الشيطان على بني آدم بتزيين مخالفة أوامر اللّه ونواهيه ، ويعدو بنو آدم على الشيطان بأن يردوا وسوسته في نحره وكلامه في وجهه ويمتثلون أمر اللّه ( ويجتنبون ) نواهيه ، فيغيظه ذلك ، فهذه عداوة بني آدم لإبليس ، وأما الذين يسمعون منه فهم أولياؤه وأحباؤه ورفقاؤه في النار ، فالمؤمنون كلهم أعداؤه ، وما عدا المؤمنين كلهم أولياؤه ، فالمخالفات الصادرة من المؤمنين غير مؤثرة في إيمانهم ، لأنهم ليسوا على يقين من مؤاخذة اللّه بها ، فإن اللّه قال( لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً )ولو دخل المؤمن النار في الآخرة فكما يمرض في الدنيا ويتألم حسا ومعنى ، ومقره ومآله السعادة الأبدية في النعيم الدائم ، وليس مقصود إبليس هذه المخالفات الواقعة من المؤمنين ، وإنما مقصوده الإشراك باللّه ، وكل ما يؤديهم
ص120
سورة البقرة ( 2 ) : آية 37
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( 37 )
وهذه الكلمات هي قوله« رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ »« فَتابَ عَلَيْهِ »بكله وذريته فيه فأسعد اللّه الكل ، فله النعيم في أي دار كان منهم ما كان ، بعد عقوبة وآلام ، تقوم بهم دنيا وآخرة« إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ »إذا اتفق أن يؤاخذ التائب فما يأخذه إلا الحكيم لا غير من الأسماء ، فإذا لم يؤاخذ فإنما يكون الحكم فيه للرحيم ، فإن اللّه تواب رحيم بطائفة وتواب حكيم بطائفة ، فوصف الحق نفسه بأنه التواب الرحيم ، أي الذي يرجع على عباده في كل مخالفة بالرحمة له ، فيرزقه الندم عليها ، فيتوب العبد بتوبة اللّه عليه لقوله« ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ».
إشارة - تاب الحق على آدم بتلقيه الكلمات العلية ، لأنه تلقاها من حضرة الربوبية ، حضرة الإصلاح .
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
إلى الخلود معه في الشقاء في دار البوار ، فأهل النار الذين هم أهلها هم أولياء الشيطان ، ولهذا سماهم اللّه شياطين الإنس والجن ، وقال( مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ )وقوله تعالى« وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ »يقول إقامة وقرار« وَمَتاعٌ »يقول :
استمتاع ، وهو كل ما يستمتع به من أكل وشرب ولباس ونعيم« إِلى حِينٍ »يقول : إلى حلول آجالكم ، يقول : مدة أعماركم ، فإن القبر أول منزل من منازل الآخرة ، ثم قال ( 38 )« فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ »الآية ، قرئ برفع آدم ونصب كلمات وبالعكس ، أي من تلقاك فقد تلقيته ، فإن الملاقاة فعل فاعلين ، والأولى بمنصب آدم أن تكون الكلمات تستقبله لوجهين ، الوجه الواحد التعريف بعناية اللّه به حيث أعطاه ما أداه استعماله إلى إعادة السعادة إليه ، والوجه الثاني التعليم ، لأنه ليس له أن يدعوه بنية التقريب والقربة إلا بوحي منزل عليه ، فإذا رفعت آدم فمن حيث أنه استقبل الكلمات حين استقبلته من عند اللّه ، ويحتمل عدم ذكر واسطة الملك أنه سبحانه أوحى اللّه بها منه إليه بلا واسطة ، تشريفا له وتعريفا بالحال ، أن الوصلة بيني وبينك ما انقطعت بمخالفتك نهيي ، والأظهر في ماهية الكلمات أنها المذكورة في سورة الأعراف( رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا ، لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ )فلما قال آدم الكلمات التي تلقاها من ربه أخبره تعالى أنه تاب عليه« فَتابَ عَلَيْهِ »أي رجع عليه بالسعادة بأن مآله بعد موته إلى الجنة في جوار الرحمن« إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ »الرجّاع بالرحمة على عباده ، وهو الذي يكثر منه الرجوع في
ص 121
سورة البقرة ( 2 ) : آية 38
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 38 )
قال تعالى :« اهْبِطُوا »فجمع ولم يثن ولا أفرد ، فأهبط آدم وحواء وإبليس ، فنزل آدم من الجنة إلى أصله الذي خلق منه ، فإنه مخلوق من التراب ، فأهبطه اللّه للخلافة ، لقوله تعالى :« إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً »فما أهبط عقوبة لما وقع منه ، وإنما جاء الهبوط عقيب ما وقع منه ، لأنه لما كانت نشأة الإنسان ظهرت في الجنان أولا اتفق هبوطها إلى الأرض من أجل الخلافة لا عقوبة المعصية ، فإن العقوبة حصلت بظهور السوآت ، والاجتباء والتوبة قد حصلا بتلقي الكلمات الإلهية ، فلم يبق النزول إلا للخلافة ، فكان هبوط تشريف وتكريم ، ليرجع إلى الآخرة بالجم الغفير من أولاده السعداء ، من الرسل والأنبياء ، والأولياء والمؤمنين ، فكان هبوط آدم هبوط ولاية واستخلاف ، لا هبوط طرد ، فهو هبوط مكان ، لا هبوط رتبة ، وأهبط الحق تعالى حواء للتناسل ، وأهبط إبليس عقوبة لا رجوعا إلى أصله ، فإنها ليست داره ولا خلق منها ، فسأل اللّه الإغواء أن يدوم له في ذرية آدم ، لما عاقبه اللّه بما يكرهه من إنزاله إلى الأرض ، وكان سبب ذلك في الأصل وجود آدم ، لأنه بوجوده وقع الأمر بالسجود ، وظهر ما ظهر من إبليس ، وكان من الأمر ما كان .« فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ »من قامت قيامته في حياته الدنيا ، واستعجل حسابه ، يأتي يوم القيامة آمنا لا خوف عليه ولا يحزن ، لا في الحال
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
مقابلة كل مخالفة تقع من العبد ، لأن كل مخالفة خروج ، فإذا عاد بالاستغفار وطلب الرحمة من اللّه عند كل ذنب ، عاد الحق إليه بالرحمة والمغفرة ، فلذلك جاء ببنية المبالغة في التواب ، ( 39 ) قوله« قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً »الآية ، كرر ذكر الهبوط ، لأنه فصل بين الهبوط المذكور أولا وبين ما أهبط له من إتيان الهدى بالكلام الذي قد تقدم من العداوة والاستقرار والتمتع ، فطالت القصة وبعد الذي أهبط له منه ، فكرر الهبوط ، وليدل أيضا على الفصاحة والإعجاز حيث زاد الكلام تكراره جمالا وبلاغا ، تعرف ذلك فصحاء الأعراب لا نحن ، فقال تعالى« فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً »هذا شرط ، وجوابه الشرط الثاني وجوابه وهو قوله
ص 122
ولا في المستقبل ، ولهذا أتى سبحانه بفعل الحال في قوله :« وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ »فإن هذا الفعل يرفع الحزن في الحال والاستقبال ، بخلاف الفعل الماضي والمخلص للاستقبال بالسين أو سوف
سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 39 إلى 40
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ( 39 ) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ( 40 )
« فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ »فالفاء جواب الشرط الأول ، وقوله« فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ »فالفاء جواب الشرط الثاني الذي هو من ، فمعنى الكلام اهبطوا فإن جاءكم مني هدى واتبعتموه فلا خوف عليكم ، والفاء في إما جواب الأمر ، وجاء بلفظة الشك مع تحقق إتيان الهدى عند اللّه ، لكن في نفس الأمر هو من الممكنات ، فيستوي بالنظر إليه الطرفان ، وجود الإتيان وعدمه ، وتارة يرد الخطاب بما هو الكائن في علم اللّه ، وتارة يرد الخطاب بما هو الأمر عليه في نفسه ، فيؤذن بأن ذلك الإتيان ليس بواجب على اللّه ، إذ لا يجب عليه شيء ، كما يقوله مخالفو أهل الحق ، مع أنّا لا ننكر أن يوجب على نفسه ، فمن جملة الهدى الذي جاء من عند اللّه تلقي الكلمات ، ولذلك الهبوط الثاني هو الهبوط الأول عينه ، ثم قال« فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ »أي من اتبع ما شرعت له على حد ما شرعت له ، ارتفع عنه خوف العذاب ولم يحزن« وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ »ولم يذكر الجنة ولا الخلود كما ذكر فيمن كفر وكذب بآياته ، لأن أهل السعادة على قسمين ، قسم يعملون لما يقتضيه حق الربوبية وهم الأعلون ، وقسم يعملون لأجل الجنة وهم دونهم ، ولهؤلاء خوف الحجاب ، ولهؤلاء خوف فقد النعيم وحزنه فذكر ارتفاع الخوف والحزن لكونه يعم الطائفتين ولم يذكر الجنة ، لئلا ييأس الأعلون من الطائفتين ، فتهمم الحقق بهم إذ كانوا الطبقة العليا ، والهدى هنا ما بينه لهم في التعريف المنزل المشروع لهم ، ثم قال ( 40 )« وَالَّذِينَ كَفَرُوا »أي ستروا ، على ما تقدم في أول السورة في قوله( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا )وقوله« وَكَذَّبُوا »يريد المعاندين وغير المعاندين« بِآياتِنا »أي بالعلامات التي جعلناها ونصبناها أدلة على القربة إلينا ومعرفتنا ( وفي كل شيء له آية : تدل على أنه واحد ) غير أن الآيات على قسمين : معتادة وغير معتادة ، فأرباب الفكر والمستبصرون
ص 123
" وَأَوْفُوا بِعَهْدِي »أوفوا بما عاهدتكم عليه في الدنيا في موطن التكليف« أُوفِ بِعَهْدِكُمْ »في الدارين معا ، دنيا وآخرة وأدخلكم الجنة ، وهو حق عرضي لا ذاتي ، لأنه حق على اللّه أوجبه على نفسه لمن وفي بعهده ، ومن لم يف فليس له عند اللّه عهد ، إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة ، وأدخلنا تحت العهد إعلاما بأنا جحدنا عبوديتنا له ، إذ لو كنا عبيدا
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
الموفقون هي عندهم سواء ، يتخذونها أدلة ، وما عدا هؤلاء فلا ينظرون إلا في الآيات غير المعتادة ، فيحصل لهم استشعار الخوف ، فيردهم ذلك القدر إلى اللّه ، قال تعالى( وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ )ثم إن الذين يتخذون غير المعتادة آية ، منهم من يخلصها دليلا على اللّه ، ومنهم من يشرك( وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ )لمعرفتهم بالأسباب المولدة لتلك الآيات ، كالزلازل والكسوفات وما يحدث من الآثار العلوية ، واللّه ينور أبصارنا ويرزقنا التوفيق ، قال تعالى« أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ »باقون ، وقوله« أَصْحابُ النَّارِ »أي أهلها ، كما ورد في الصحيح ( أما أهل النار الذين هم أهلها ، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ) وقال في الذين يخرجون منها ( ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم ، أو قال بخطاياهم ، فأماتهم اللّه فيها إماتة ) ثم ذكر خروجهم من النار - الحديث بكماله - فعمّ سبحانه بقوله« الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا »جميع الأشقياء ، وأما قوله« اهْبِطُوا »فحظي إبليس من هذا الهبوط لما تكبر وعلا عند نفسه ، لأن أصله من لهب النار ، ولهب النار يطلب العلو ، فلهذا تكبر ، ولما كان لهبا كان إذا جاءه الهواء من أعلاه عكس رأس اللهب إلى أسفل قسرا وقهرا ، كذلك إبليس لما جاءه هواه من تكبره على آدم لنشأته ، عكسه إلى الأرض ، فأهبط ، ولم يقف الأمر هنا ، بل أهبط إلى أسفل سافلين في دار الخزي والهوان ، فهواه أهبطه ، ولما كانت الملائكة نورا عمت جميع الجهات فلا أثر للهواء في النور ، ألا ترى النور الذي في الشمس والسراج وفي كل جسم مستنير نسبته إلى العلو والسفل والجنبات نسبة واحدة ، والملائكة مخلوقون من النور ، فلا أثر للهوى فيهم ، فلا يعصون اللّه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، ولما غلب على آدم في نشأته التراب وله السكون ، بخلاف لهب النار ، ثبت على عبوديته وتواضعه ، فسعد ، وكان هبوطه رجوعا إلى أصله ، وسيأتي الكلام على نشأته في موضعها إن شاء اللّه ، وكونه من حمأ مسنون ، ولهذا يتغير كل ما يحل فيه من الأطعمة والأشربة ويستحيل إلى الروائح القبيحة ، ويندرج في هذا الكلام النشأة الأخراوية ، واستحالة ما يحل فيها من الطعام والشراب إلى الروائح الطيبة ، وتحقيق ذلك في موضعه إن شاء اللّه ، قوله ( 41 )« يا بَنِي إِسْرائِيلَ »الآية ، أضافهم إلى يعقوب ، فهو إسرائيل ، أي صفوة اللّه« اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ »وقد ذكر اللّه ما أنعم اللّه به على بني إسرائيل ، من
ص 124
لم يكتب علينا عهده ، فإنا بحكم السيد ، فلما أبقنا بخروجنا عن حقيقتنا وادعينا الملك والتصرف ، والأخذ والعطاء ، كتب بيننا وبينه عقودا ، وأخذ علينا العهد والميثاق ، وأدخل نفسه معنا في ذلك ، والعبد لا يكتب عليه شيء ولا يجب له حق ، فإنه ما يتصرف إلا عن إذن سيده ، فإذا وفي العبد حقيقة عبوديته ، لم يؤخذ عليه عهد ولا ميثاق ، فمن أصعب آية تمر على العارفين كل آية فيها« أَوْفُوا بِالْعُقُودِ »أو العهود فإنها آيات أخرجت العبيد من عبوديتهم للّه . فإن قلت : كيف كلف الحق نفسه وقيدها ، مع أنه مطلق ، والمطلق ، لا يقبل التقييد بوجه من الوجوه ؟ قلنا : إن للمطلق أن يقيد نفسه إن شاء ، وأن لا يقيدها إن شاء ، فإن ذلك من صفة كونه مطلقا إطلاق مشيئة ، ومن هنا أوجب الحق على نفسه ، ودخل تحت العهد لعبده فقال في الوجوب :« كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ »أي أوجب فهو الموجب على نفسه ، ما أوجب غيره عليه ذلك فيكون مقيدا بغيره ، فقيد نفسه لعبيده رحمة بهم ولطفا خفيا ، وقال في العهد :« أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ »فكلفهم ، وكلف نفسه ، لما قام الدليل عندهم بصدقه في قيله ، ذكر لهم ذلك تأنيسا لهم سبحانه وتعالى ، ولكن هذا كله أعني دخوله في التقييد لعباده من كونه إلها ، لا من كونه ذاتا ، فإن الذات غنية عن العالمين ، والملك ما هو غني عن الملك ، إذ لولا الملك ما صح اسم الملك ، فالمرتبة أعطت التقييد ، لا ذات الحق جل وتعالى - تنبيه - احذر أن تفي ليفي إليك ، أوف أنت بعهدك واتركه يفعل ما يريد ، فإنه من وفي بعهده ليفي له الحق بعهده ، لم يزده على ميزانه شيئا ، حيث ورد في الحديث « كان له عند اللّه عهدا أن يدخله الجنة » لم يقل غير ذلك ، وقد قال تعالى :« وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ »ولم يطلب الموازنة ولا ذكرها هنا أنه ليفي له بعهده ، وإنما قال :« فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً »وما عظمه الحق فلا أعظم منه ، فاعمل
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
المنّ والسلوى وتفجير الماء من الحجر ومشيهم على البحر وإنجائهم من عدوهم وتظليل الغمام وغير ذلك ، فإن اللّه يمن على عباده بما يمتن عليهم من المنن الجسام ، ولذا سميت مننا ، وليس للعباد أن يمتنوا ، لأن النعم ليست إلا لمن خلقها ، فلهذا كان المن من اللّه محمودا ، لأنه ينبه عباده بما أنعم عليهم ليرجعوا إليه ، وكان مذموما من العباد لأنه كذب محض ، قال تعالى( يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ، قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ ، بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ )ثم قال تعالى لهم« وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ »أي أوفوا بما أخذت عليكم من الميثاق ، فأخبرنا بذلك لنسمع
ص 128
على وفائك بعهدك من غير مزيد ، فإن من طلب من الحق الوفاء ، فقد ناط به الجفا ، وليس برب جاف بلا خلاف
إشارة -[ الرب رب ، والعبد عبد ]
الرب رب ، والعبد عبد ، وإن اشتركا في العهد .
فلا تنظر لما عندي * فإن الأمر من عندك
ولا تطلب وفى عهدي * إذا ما خنت في عهدك
فوعدي صادق مني * إذا صدقت في وعدك
وما أتيت إلا من * فساد كان في عقدك
25/11/2024, 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
25/11/2024, 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
25/11/2024, 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
25/11/2024, 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
25/11/2024, 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
25/11/2024, 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin