كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن من كلام الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي
سورة البقرة ( 2 ) : آية 30
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ ( 30 )
خلق الخليفة من العناصر
[ خلق الخليفة من العناصر ]
لما خلق اللّه الأفلاك والسماوات ، وأوحى في كل سماء أمرها ، ورتب فيها أنوارها وسرجها ، وعمرها بملائكته وحركها فتحركت ، وخلق الجان من النار ، والطير والدواب البرية والبحرية والحشرات ، وقدر في الأرض أقواتها من أجل المولدات ، فجعلها خزانة لأقواتهم ، واستوت المملكة وتهيأت ، ما عرف أحد من هؤلاء المخلوقات كلها من أي جنس يكون هذا الخليفة ؟ الذي مهد اللّه هذه المملكة لوجوده ، بترتيب اللّه الخلق بالإيجاد ، إلى أن انتهت النوبة والترتيب الإلهي إلى ظهور هذه النشأة الإنسانية الآدمية ، فلما وصل الوقت المعين في علمه لإيجاد هذا الخليفة ، أمر بعض ملائكته بأن يأتيه بقبضة من كل أجناس تربة الأرض ، فأتاه بها - في خبر طويل معلوم عند الناس - فأخذها سبحانه وخمرها بيديه في قوله « لما خلقت بيدي » فلما خمر الحق تعالى بيديه طينة آدم حتى تغير ريحها وهو المسنون ، وذلك الجزء الهوائي الذي في النشأة ، وكان الجزء الناري الذي أنشأه اللّه منه في قوله تعالى :« مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ »والجزء المائي هو الذي عجن به التراب فصار طينا ، فلما سوى نشأته جعل ظهره محلا للأشقياء والسعداء من ذريته ، فأودع فيه ما كان في قبضتيه ، فإنه سبحانه أخبر أن في قبضة يمينه السعداء ، وفي قبضة اليد الأخرى الأشقياء ، وكلتا يدي ربي يمين مباركة ، فقال : هؤلاء للجنة ،
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
اللّه من ذلك ، فمن وجوهه عندنا الابتلاء الذي نبهنا عليه ، ثم أردف هذه الآية بنعمة الاستخلاف وتعليم الأسماء والسجود لهذه النشأة الإنسانية ، فقال تعالى ( 31 )« وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ ».
ص 93
وبعمل أهل الجنة يعملون ، وهؤلاء إلى النار ، وبعمل أهل النار يعملون ، وأنشأ الحق هذه النشأة الإنسانية في أحسن تقويم ، ثم نفخ فيها من روحه المضاف إليه ، فحدث عند هذا النفخ فيه بسريانه في أجزائه الحياة وما يتبعها من كونه حيوانا ، وبذلك جمع اللّه في الإنسان الكامل بين الصورتين الطبيعيتين في نشأته ، فخلقه بجسم مظلم كثيف ، وبجسم لطيف محمول في هذا الجسم الكثيف سماه روحا له ، به كان حيوانا وهو البخار الخارج من تجويف القلب المنتشر في أجزاء البدن المعطي فيه النمو والإحساس ، ثم خصه بما يتميز به عن الحيوان بالقوة المصورة والعاقلة ، ثم أنشأه خلقا آخر وهو الإنسانية فجعله درّاكا بهذه القوى ، حيا عالما قادرا مريدا متكلما سميعا بصيرا على حد معلوم معتاد في اكتسابه ، وخصه دون العالم كله بالقوة المفكرة التي بها يدبر الأمور ويفصلها ، وليس لغيره من العالم ذلك فإنه على الصورة الإلهية ، ومن صورتها يدبر الأمر يفصل الآيات فتبارك اللّه أحسن الخالقين
- البحث الثاني :
[ ما هو الإنسان ؟ ]
ما هو الإنسان ؟
اعلم أن الناس اختلفوا في مسمى الإنسان ما هو ؟
فقالت طائفة : هو اللطيفة
وطائفة قالت : هو الجسم ، وطائفة قالت : هو المجموع وهو الأولى .
وقد وردت لفظة الإنسان على ما ذهبت إليه كل طائفة ، ثم اختلفنا في شرفه هل هو ذاتي ؟
أو هو بمرتبته نالها بعد ظهوره في عينه وتسويته كاملا في إنسانيته إما بالعلم وإما بالخلافة والإمامة ؟
فمن قال : إنه شريف لذاته ، نظر إلى خلق اللّه إياه بيديه ، ولم يجمع ذلك لغيره من المخلوقين ، وقال : إنه خلقه على صورته ، فهذه حجة من قال شرفه شرف ذاتي ، ومن خالف هذا القول قال : لو أنه شريف لذاته لكنا إذا رأينا ذاته علمنا شرفه ،
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
لما اقتضى عند اللّه خلقنا صلاحا في نفس الأمر ، قرن التعريف لمحمد صلّى اللّه عليه وسلم بالاسم الرب الذي هو المصلح ، وأضافه إلى محمد صلّى اللّه عليه وسلم اعتناء به أنه المقصود من هذه النشأة ، إذ كان سيد الناس يوم القيامة ، وأخفى في الدنيا ما يجب من تعظيمه لعلو منزلته ، كما أخفى ما يستحقه جل جلاله من تعظيم عباده إياه ، وأطلق الألسنة عليه بأن له صاحبة وولدا ، وما وقع به التعريف مما لا يليق به ، كذلك قيل فيه صلّى اللّه عليه وسلم إنه ساحر مجنون كذاب ، وغير ذلك ، فإذا كان يوم القيامة وظهر الحق سبحانه في عزته وكبريائه ، فذلّ كل موجود تحت عزته على الكشف ، وذهبت الدعاوى وتبرأ الذين اتّبعوا من الذين اتّبعوا ، ظهر أيضا في ذلك اليوم مقام محمد صلّى اللّه عليه وسلم وسيادته على الناس ، وافتقار
ص 94
والأمر ليس كذلك ، ولم يكن يتميز الإنسان الكبير الشريف بما يكون عليه من العلم والخلق على غيره من الأناسي ويجمعهما الحد الذاتي ، فدل أن شرف الإنسان بأمر عارض يسمى المنزلة أو المرتبة ، فالمنزلة هي الشريفة ، والشخص الموصوف بها نال الشرف بحكم التبعية ، كمرتبة الرسالة والنبوة والخلافة والسلطنة ، فما علم شرف الإنسان إلا بما أعطاه اللّه من العلم والخلافة ، فليس لمخلوق شرف من ذاته على غيره إلا بتشريف اللّه إياه . وأرفع المنازل عند اللّه أن يحفظ اللّه على عبده مشاهدة عبوديته دائما ، سواء خلع عليه من الخلع الربانية شيئا أو لم يخلع ، فهذه أشرف منزلة تعطى لعبد .
وهو قوله تعالى : ( وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي )وقوله سبحانه : ( سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ )فقرن معه تنزيهه ، فليس لصنعة شرف أعلى من إضافتها إلى صانعها ، ولهذا لم يكن لمخلوق شرف إلا بالوجه الخاص الذي له من الحق ، لا من جهة سببه المخلوق مثله ، وفي هذا الشرف يستوي أول موجود - وهو القلم أو العقل أو ما سميته - وأدنى الموجودات مرتبة ، فإن النسبة واحدة في الإيجاد ، والحقيقة واحدة في الجميع من الإمكان ، فآخر صورة ظهر فيها الإنسان الصورة الآدمية ، وليس وراءها صورة أنزل منها ، وبها يكون في النار من شقي لأنها نشأة تركيب تقبل الآلام والعلل ، وأما أهل السعادة فينشئون نشأة وتركيبا لا يقبل ألما ولا مرضا ولا خبثا ، ولهذا لا يهرم أهل الجنة ولا يتمخطون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يسقمون ولا يجوعون ولا يعطشون ، وأهل النار على النقيض منهم ، وهي نشأة الدنيا وتركيبها فهي أدنى صورة قبلها الإنسان وقد أتت عليه أزمنة ودهور قبل أن يظهر في هذه الصورة الآدمية ، وهو في الصورة التي له في كل مقام وحضرة من فلك وسماء وغير ذلك مما تمر عليه الأزمان والدهور ، ولم يكن قط في صورة من تلك الصور مذكورا بهذه الصورة الآدمية العنصرية ، ولهذا ما
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
الخلق إليه من سائر الأمم في فتح باب الشفاعة ، وبان فضله على سائر الأنبياء والرسل ، فعلم هنالك عظم منزلته عند ربه ، كما تظهر عزة كل مقرب عند سلطان عند ظهور سلطانه ودولته ، فأخبر سبحانه نبيه محمدا صلّى اللّه عليه وسلم بما كان بينه جل علاه وبين ملائكته في حق آدم صلّى اللّه عليه وسلم ، فمن جعل لفظة الملائكة بمعنى الرسل كان صفة ، فدخل فيهم إبليس ، ومن جعله اسما لهم من حيث نشأتهم وإن كانوا سموا به لاستتارهم ، لم يدخل إبليس في هذا الخطاب ، وقد يكون الخطاب عاما لهم ولغيرهم من المخلوقين في ذلك الوقت ، وخصوا الملائكة بالذكر اعتناء بهم وتهمما وتشريفا ، فيدخل إبليس
ص 95
ابتلاه قط في صورة من صوره في جميع العالم إلا في هذه الصورة الآدمية ، ولا عصى الإنسان قط خالقه إلا فيها ، ولا ادعى رتبة خالقه إلا فيها ولا مات إلا فيها ، ولهذا يقبل الموت أهل الكبائر في النار ، ثم يخرجون فيغمسون في نهر الحياة فيتركبون تركيبا لا يقبل الآلام ولا الأسقام ، فيدخلون بتلك الصورة الجنة
- البحث الثالث -
[ خلق الانسان الكامل ]
خلق آدم عليه السلام الإنسان الكامل الأول ، والخليفة الأول ، باليدين وعلى الصورة الإلهية : لما أراد اللّه بالإنسان الخلافة والإمامة بدأ بإيجاد العالم ، وهيأه وسواه وعدله ورتبه مملكة قائمة ، فلما استعد لقبول أن يكون مأموما أنشأ اللّه جسم الإنسان الطبيعي ونفخ فيه من الروح الإلهي ، فخلقه على صورته لأجل الاستخلاف ، فظهر بجسمه فكان المسمى آدم فجعله في الأرض خليفة ، وكان من أمره وحاله مع الملائكة ما ذكر اللّه في كتابه لنا ، وجعل الإمامة في بنيه إلى يوم القيامة ، فالإنسان الكامل هو المقصود الذي به عمرت الدنيا وقامت ، وإذا رحل عنها زالت الدنيا ، ومارت السماء ، وانتثرت النجوم ، وكورت الشمس ، وسيرت الجبال ، وعطلت العشار ، وسجرت البحار ، وذهبت الدار الدنيا بآخرها ، وانتقلت العمارة إلى الدار الآخرة ، بانتقال الإنسان ، فعمرت الجنة والنار ، وما بعد الدنيا من دار : إلا الجنة والنار .
واعلم أن اللّه جمع لنشأة جسد آدم بين يديه فقال « لما خلقت بيدي » فإنه لما أراد اللّه كمال هذه النشأة الإنسانية جمع لها بين يديه ، وأعطاها جميع حقائق العالم ، وتجلى لها في الأسماء كلها ، فحازت الصورة الإلهية ، والصورة الكونية ، وجعلها روحا للعالم وجعل أصناف العالم له كالأعضاء من الجسم للروح المدبرة له ، فلو فارق العالم هذا الإنسان مات العالم ، فالدار الدنيا جارحة من جوارح جسد العالم الذي الإنسان روحه ، فلما قابل الإنسان الحضرتين بذاته ( الحضرة الإلهية والحضرة الكونية ) صحت له الخلافة ، وتدبير العالم
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
في التعريف وإن لم يجر له ذكر ، وأما قوله تعالى« إِنِّي جاعِلٌ »أي خالق وناصب« فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً »فإن أراد في ذلك من يخلف من مضى في الأرض من الأمم قبلنا أو الملائكة ، وهو الأظهر ، فيدخل تحت هذه اللفظة آدم وذريته الكافر والمؤمن ، وإن أراد بالخلافة النيابة عنه في خلقه ، فتختص بذلك الرسل صلوات اللّه عليهم ، والوجهان صالحان لذلك« قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ »فلهذا تقوى عندنا وظهر أنا خلف من الملائكة في الأرض ، لأنهم لو فهموا من الحق في خطابه أن المراد غيرهم لما أجابوا بهذا الجواب ، هذا جواب
ص 96
وتفصيله ، فإذا لم يحز الإنسان رتبة الكمال فهو حيوان تشبه صورته صورة الإنسان .
فالإنسان الكامل من تممت له الصورة الإلهية ، ولا يكمل إلا بالمرتبة ، ومن نزل عنها فعنده من الصورة بقدر ما عنده ، ألا ترى الحيوان يسمع ويبصر ويدرك الروائح والطعوم والحار والبارد ولا يقال فيه إنسان ! بل هو حمار وفرس وطائر وغير ذلك ، فلو كملت فيه الصورة قيل فيه إنسان ، كذلك الإنسان لا يكمل فيزول عنه الاسم العام إلى الاسم الخاص فلا يسمى خليفة إلا بكمال الصورة الإلهية فيه ، إذ العالم لا ينظرون إلا إليها ، وهو الآخر بخلقه الطبيعي فإنه آخر المولدات فإن اللّه ما خلق أولا من هذا النوع إلا الكامل ، وهو آدم عليه السلام ، وهو لم يكن مبعوثا لأنه لم يكن مرسلا إلى أحد ، وإنما كان في الأرض لوجود عالم التركيب ، فهو مفتتح وجودنا ، فالإنسان الكامل ظاهره خلق ، وباطنه حق ، وما عدا هذا فهو الإنسان الحيواني ، ورتبة الإنسان الحيواني من الإنسان الكامل رتبة خلق النسناس من الإنسان الحيواني ، ثم أبان الحق عن مرتبة الكمال لهذا النوع ، فمن حازها منه فهو الإنسان الذي أريده ، ومن نزل عن تلك الرتبة فعنده من الإنسانية بحسب ما تبقى له ، وليس في الموجودات من وسع الحق سواه ، وما وسعه إلا بقبول الصورة ، فهو مجلى الحق فيرى الحق صورته في الإنسان الكامل ، ومعنى رؤية الحق صورته فيه هو : إطلاق جميع الأسماء الإلهية عليه . كما جاء في الخبر « فبهم تنصرون » واللّه الناصر « وبهم ترزقون » واللّه الرازق « وبهم ترحمون » واللّه الراحم ، فإنه سبحانه ما سمى نفسه باسم من الأسماء إلا وجعل للإنسان في التخلق بذلك الاسم حظا منه يظهر به في العالم على قدر ما يليق به ، وأنزله خليفة عنه في أرضه ، والخليفة معلوم أنه لا يظهر إلا بصفة من استخلفه ، فلا مخلوق أعظم رحمة من الإنسان الكامل الذي هو مجلى حقائق العالم ، فهو آخر نوع ظهر ، فأوليته حق وآخريته خلق ، فهو
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
على أنهم أجابوا من حيث ما فهموا ، وقد يكون الأمر في نفسه على ما فهموا وقد لا يكون ، وذلك أن كل كلام يحكيه الحق أو يخبر به أنه قول لأحد من خلقه ، لا يلزم منه أن يكون صحيحا مدلول ذلك القول ، ولا فاسدا ولا إصابة ولا خطأ ، وإنما تتبين صحته وفساده من دليل آخر سمعي أو عقلي ، والأظهر ما ذهبنا إليه في مفهومهم ، ولما أبصرت الملائكة نشأة الإنسان مركبة من طبائع متنافرة ، دلهم ذلك على أنه في جبلة هذا المخلوق المنازعة في جنسه ومع غير جنسه ،
ص 97
الأول من حيث الصورة الإلهية ، والآخر من حيث الصورة الكونية ، والظاهر بالصورتين والباطن عن الصورة الكونية بما عنده من الصورة الإلهية ، وقد ظهر حكم هذا في عدم علم الملائكة بمنزلته مع كون اللّه قد قال لهم : إنه خليفة ، فكيف بهم لو لم يقل لهم ذلك ؟ فلم يكن ذلك إلا لبطونه عن الملائكة ، وهم من العالم الأعلى العالم بما في الآخرة وبعض الأولى ، فإنهم لو علموا ما يكون في الأولى ما جهلوا رتبة آدم عليه السلام مع التعريف الإلهي لهم بقوله :« إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً »وما عرفه من العالم إلا اللوح والقلم وهم العالون ، ولا يتمكن لهم إنكاره والقلم قد سطره واللوح قد حواه ، فإن القلم لما سطره سطر رتبته وما يكون منه ، واللوح قد علم علم ذوق ما خطه القلم فيه . أما الملائكة فلم تر من آدم إلا صورته الطبيعية الجسمية المظلمة العنصرية الكثيفة ، لذلك قالت ما قالت ، وكان آدم عند العالم من الملائكة فمن دونهم مجهول الباطن ، فحكموا عليه بالفساد ، أي بالإفساد من ظاهر نشأته لمّا رأوها قامت من طبائع مختلفة متضادة متنافرة ، فعلموا أنه لا بد أن يظهر أثر هذه الأصول على من هو على هذه النشأة ، فلو علموا باطنه وهو حقيقة ما خلقه اللّه عليه من الصورة حيث قال صلّى اللّه عليه وسلم : « إن اللّه خلق آدم على صورته » لعلمت الملائكة ما جهلته من آدم ، فلما أعلمهم اللّه بكمال الصورة فيه وأمرهم بالسجود له سارعوا بالسجود ، ولا سيما وقد ظهر لهم بالفعل في تعليمه الأسماء إياهم ، ولو لم يعلمهم وقال لهم اللّه إني أعطيته الصورة والسورة لأخذوها إيمانا وعاملوه بما عاملوه به لأمر اللّه ، فلولا أن اللّه تعالى جمع لآدم في خلقه بين يديه فحاز الصورتين وإلا كان من جملة الحيوان الذي يمشي على رجليه ، وإنا وإن حزنا بخلقنا الصورة الربانية فنحن بحكم الأصل عبيد عبودية لا حرية فيها ، فما نحن سادة ولا أرباب ، قال صلّى اللّه عليه وسلم : كمل من الرجال كثيرون ولم يكمل من النساء إلا آسية
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
ويدخل في هذا الجان والإنس ، وإنما لم يذكروا ذلك وإن كانوا من طبائع متنافرة غير أنهم غلب عليهم عنصر النار كما غلب علينا عنصر التراب ، فهم أشد منازعة منا للحركة السريعة التي في لهب النار والسكون الذي في التراب ، فكل منازعة تقع منا فمن غلبة طبيعة النار في ذلك الوقت ، وهو الغضب والحمية ، وهو المرة الصفراء ، لكن الجان لما لم يقل لهم الحق إنهم يخلفونكم في الأرض لم يقولوا شيئا ، وإنما القول في الجان بالمنازعة أولى لما ذكرناه ف« قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها
ص 98
امرأة فرعون ، ومريم ابنة عمران . فلكون الإنسان الكامل على الصورة الكاملة صحت له الخلافة والنيابة عن اللّه تعالى في العالم ، فبالإنسانية والخلافة صحت له الصورة على الكمال ، وما كل إنسان خليفة ، فإن الإنسان الحيوان ليس بخليفة عندنا ، وليس المخصوص بها أيضا الذكورية فقط ، فكلامنا في صورة الكامل من الرجال والنساء ، فإن الإنسانية تجمع الذكر والأنثى ، والذكورية والأنوثة إنما هما عارضان ليستا من حقائق الإنسانية لمشاركة الحيوانات كلها في ذلك ، وقد شهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بالكمال للنساء كما شهد به للرجال فقال في الصحيح : كمل من الرجال كثيرون ، وكملت من النساء مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون . فالكمل هم الخلائف ، فإن اللّه قد اعتنى بالإنسان دون العالم غاية العناية ما لم يعتن بمخلوق بكونه جعله خليفة ، وأعطاه الكمال بعلم الأسماء ، وخلقه على الصورة الإلهية ، وأكمل من الصورة الإلهية ما يمكن أن يكون في الوجود . فالإنسان الكامل مثل ، ضد ، خلاف ، فهو مثل من حيث الصورة الإلهية ، ضد من حيث أنه لا يصح أن يكون في حال كونه عبدا ربا لمن هو له عبد ، خلاف من حيث أن الحق سمعه وبصره وقواه فأثبته وأثبت نفسه ، والإنسان الكامل الظاهر بالصورة الإلهية لم يعطه اللّه هذا الكمال إلا ليكون بدلا من الحق ، ولهذا سماه خليفة ، وما بعده من أمثاله خلفاء له ، فالأول وحده هو خليفة الحق ، وما ظهر عنه من أمثاله في عالم الأجسام فهم خلفاء هذا الخليفة وبدل منه في كل أمر يصح أن يكون له . واعلم أن المراتب كلها إلهية بالأصالة ، وظهرت أحكامها في الكون ، وأعلى رتبة إلهية ظهرت في الإنسان الكامل ، فأعلى الرتب رتبة الغنى عن كل شيء ، وتلك الرتبة لا تنبغي إلا للّه من حيث ذاته ، وأعلى الرتب في العالم الغنى بكل شيء وإن
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
وَيَسْفِكُ الدِّماءَ »فإن أرادوا بالفساد إزالة ترتيب بعض ما نظم اللّه عليه بعض العالم مما لهم تسلط عليه وقوة ، ويسفك الدماء فيهم وفيما يذبحونه من الحيوانات ويقتلونها ، فغيرة منهم على جناب الحق ، لأن له في كل ترتيب تسبيح مخصوص ، فإذا فسد ذلك النظام ذهب عين تلك الصورة فزال ذلك التسبيح والتقديس بزوال المسبح والمقدس ، فقالوا حقا وغيرة وإيثارا لجناب الحق ، وهو الظن بهم ، وإن أرادوا بالفساد وسفك الدماء غير ما تشرع لهم ، فينتهكون حرمة الحق المشروع ، ويتعدون حدوده ، ويخالفون أمره ، فيريدون المخالفين من بني آدم ، وسبب وجود الذرية وجود الأب الأول الذي هو الأصل ، وإنما لم يتعرضوا له ولكن يتضمنه الكلام ،
ص 99
شئت قلت : الفقر إلى كل شيء ، وتلك رتبة الإنسان الكامل ، فإن كل شيء خلق له ومن أجله وسخر له ، لما علم اللّه من حاجته إليه ، فليس له غنى عنه ، ولذلك استخدم اللّه له العالم كله ، فما من حقيقة صورية في العالم الأعلى والأسفل إلا وهي ناظرة إليه نظر كمال ، أمينة على سر أودعها اللّه إياه لتوصله إليه . -
[ حكم الصورة الإلهية ]
حكم الصورة الإلهية التي خلق عليها الإنسان : إن العالم وإن كان على صورة الحق فما كان العالم على الكمال في صورة الحق حتى وجد الإنسان فيه ، فبه كمل العالم ، فالإنسان الأول بالمرتبة الآخر بالوجود ، والإنسان من حيث رتبته أقدم من حيث جسميته ، فالعالم بالإنسان على صورة الحق ، والإنسان دون العالم على صورة الحق ، والعالم دون الإنسان ليس على الكمال في صورة الحق ، ولذلك لما خلق اللّه الإنسان الكامل وخلفاءه من الأناسي على أكمل صورة ، وما ثم كمال إلا صورته تعالى ، أخبر أن آدم خلقه على صورته ليشهد فيعرف من طريق الشهود ، فأبطن في صورته الظاهرة أسماءه سبحانه التي خلع عليه حقائقها ، ووصفه بجميع ما وصف به نفسه ، ونفى عنه المثلية فلا يماثل وهو قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ )من العالم ، أي ليس مثل مثله شيء من العالم ، ولم يكن مثلا إلا بالصورة ، لهذا كان الخليفة على صورة من استخلفه ، فالنسبة الجامعة بين الحق والخلق ، هي الصورة التي خلق عليها الإنسان ، ولما كان للصورة حكم ، ومن ظهر في صورة كان له حكمها ، من هنا تعرف مرتبة الإنسان الكامل الذي خلقه على صورته ، ولتلك الصور حكم فتتبع الحكم الصورة ، فلم يدّع الألوهية لنفسه أحد من خلق اللّه إلا الإنسان الذي ظهر بأحكام الأسماء والنيابة ، ومن سواه ادعيت فيه وما ادعاها ، قال فرعون: ( أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى )وما في الخلق من يملك سوى الإنسان ، وما سوى الإنسان من ملك وغيره لا يملك شيئا ، يقول اللّه تعالى في إثبات الملك للإنسان( أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ )وما ثم موجود ما يقرّ له بالعبودية إلا الإنسان فيقال هذا عبد فلان ، ولهذا شرع اللّه له العتق ورغّبه فيه وجعل له ولاء المعتق إذا مات من غير وارث ، كما أن الورث للّه من عباده قال تعالى : ( إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها )وما ثم موجود
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
وإن كان القصد بإنزال المطر في طلب العباد له سقي زراعاتهم ، فيتخرب بيت العجوز الضعيفة بذلك المطر ، قالت عائشة ( يا رسول اللّه أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال نعم إذا كثر الخبث بالمدينة ، فيعم الهلاك الصالح والطالح ويمتازون في القيامة )( وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ )ثم قالوا عن
ص 100
يقبل التسمية بجميع الأسماء الإلهية إلا الإنسان ، وقد ندب إلى التخلق بها ولهذا أعطي الخلافة والنيابة وعلم الأسماء كلها ، وكان آخر نشأة في العالم جامعة لحقائق العالم ، مما اختص اللّه بها ملكه كله وصورته ، ولما كان للإنسان الكامل هذا المنصب العالي ، كان العين المقصودة من العالم وحده ، وظهر هذا الكمال في آدم عليه السلام في قوله تعالى : ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها )
[ الخليفة واحد ]
الخليفة واحد :جمع الأنام على إمام واحد * عين الدليل على الإله الواحدقال اللّه عزّ وجل : ( وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ )وقال تعالى : ( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا )وقال سبحانه : ( إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً )وقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما وقال صلّى اللّه عليه وسلم :
[ الخلفاء من قريش ]
والتقريش التقبض والاجتماع ، كذلك الإمام إن لم يكن متصفا بأخلاق من استخلفه جامعا لها مما يحتاج من استخلف عليهم وإلا فلا تصح خلافته ، فهو الواحد المجموع
[ تتابع الخلفاء في الأرض ]
تتابع الخلفاء في الأرض : اعلم أن اللّه تعالى لما شاء أن يجعل في أرضه خلفاء على من يعمرها من الإنس والجان وجميع الحيوانات ، وقدمهم ورشحهم للإمامة دون غيرهم من جنسهم جعل بينه وبينهم سفيرا وهو الروح الأمين ، وسخر لهم ما في السماوات من ملك وكوكب سابح في فلك ، وما في الأرض وما بينهما من الخلق جميعا منه ، وأباح لهم جميع ما في الأرض أن يتصرفوا فيه ، وأيد هؤلاء الخلفاء بالآيات البينات ليعلم المرسلون إليهم أن هؤلاء خلفاء اللّه عليهم ، ومكنهم من الحكم في رعيتهم بالأسماء الإلهية على وجه يسمى التعلق ، وشرع لهم في نفوسهم شرائع ، وحد لهم حدودا ، ورسم لهم مراسم ، يقفون عندها يختصون بها ، لا يجوز لأحد من رعاياهم أن يتخذوها لأنفسهم شرائع ، ولا يقتدون بهم فيها ، ثم نصب لهم شرائع يعملون بها هم ورعيتهم وكتب لهم كتبا بذلك نزلت بها السفراء عليهم ، ليسمعوها رعيتهم فيعلموا حدود ما أنزل اللّه الذي استخلف عليهم فيقفوا عندها ، ويعملوا بها سرا وجهرا ، فمنها ما كتبه
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
نفوسهم تحدثا وثناء على اللّه بما أنعم عليهم ، فقالوا« وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ »أي من أجلك« قالَ »اللّه تعالى« إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ »من قولكم فيكم وفيمن يخلفكم ، وذلك أن قولهم« نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ »فأضاف وأخر التعريف ، ولم يقولوا بالحمد الذي لك ، فالمفهوم منه تعميم
ص 101
بيده تعالى وهو التوراة ، ومنها ما نزل به الروح الأمين عليهم من الكتاب المكنون الذي نزل من اللّه من عرشه المنقول من الدفتر الأعظم ، وهو الإمام المبين فهو معه على عرشه ، ونقل منه في اللوح المحفوظ قدر ما يقع به التصريف في الدنيا إلى يوم القيامة ، ويتضمن ما في العالم من حركة وسكون ، واجتماع وافتراق ، ورزق وأجل وعمل ، ثم أنزل ذلك كله في كتاب مكنون إلى السماء الدنيا ، وجعله بأيدي سفرة ، كرام بررة ، مطهرين أرواح قدس ، صحفا مكرمة ، مرفوعة مطهرة فيها توقيعات إلهية بما وعد اللّه المؤمنين باللّه وملائكته وكتبه ورسله وما جاءت به رسله من اليوم الآخر والبعث الآخر وما يكون في ذلك اليوم من حكم اللّه في خلقه ، وتولى اللّه ذلك كله بنفسه على صورة الحق الذي بعث به رسله ، ليصدقهم عند عبيده ، فعلا بحكمه ذلك فيهم ، كما صدقهم في حال احتجابه بما أيدهم به من الآيات ، فآمن من آمن ، وكفر من كفر ، ثم إنه أنزل في الكتب والصحف على ألسنة الخلفاء صلوات اللّه عليهم وسلامة من الوعيد والتهديد ، وأخذ من كفر باللّه ونافق أو آمن ببعض وكفر ببعض مما أنزله اللّه ، وجحد وأشرك ، وكذب وظلم ، واعتدى وأساء ، وخالف وعصى ، وأعرض وفسق ، وتولى وأدبر ، وأخبر في التوقيع أنه من كان بهذه المثابة وقامت به هذه الصفات في الحياة الدنيا أو بعضها ثم تاب إلى اللّه منها ، ومات على توبة من ذلك كله ، فإنه يلقى ربه وهو راض عنه ، فإن فسح له وأنسأ اللّه في أجله بعد توبته فعمل عملا صالحا بدّل اللّه سيئاته حسنات ، وغفر له جميع ما كان وقع منه قبل ذلك ، ولم يؤاخذه بشيء منه ، وما زالت التوقيعات الإلهية تنزل من اللّه على خلفائه بما يعدهم اللّه به من آمن باللّه ورسله من الخير ، وما توعد به لمن كفر به من الشر ، مدة إقامة ذلك الخليفة المنزل عليه وهو الرسول إلى حين موته ، فمن زمان خلافته إلى انتهاء مدة عمره لا تزال التوقيعات الإلهية تنزل عليه ، فإذا مات واستخلف من شاء بوحي من اللّه له في ذلك ، أو ترك الأمر شورى بين أصحابه ، فيولون من يجمعون عليه ، إلى أن يبعث اللّه من عنده رسولا ، فيقيم فيهم خليفة آخر ، إلا إذا كان خاتم الخلفاء فإن اللّه يقيم نوابا عنه ، فيكونون خلفاء الخليفة من عند اللّه ، لا أنهم
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
الحمد الذي يليق باللّه ، فإن التنكير أعم ، أي أبين في العموم من الألف واللام ، وإن كان يقتضي استغراق أجناس الثناء ، فيقتضي أيضا التعريف والعهد ، فلا يختص بأحد الوجهين إلا بدليل ، ومن جملة ما يثنى عليه سبحانه به معرفة أسماء الثناء ، فإن الثناء لا يقع إلا بعد معرفة الأسماء
ص 102
في منزلة الرسل خلفاء من عند اللّه ، وهم الأقطاب وأمراء المؤمنين إلى يوم القيامة ، فمن هؤلاء النواب من يكشف اللّه عنه الغطاء فيكون من أهل العين والشهود ، فيدعو إلى اللّه على بصيرة ، كما دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، ولولا أن الزمان اقتضى أن لا يكون مشرع بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لكان هؤلاء مشرعين ، وإن لم يأتوا إلا بشرع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، فإنهم كانوا يكونون فيه كما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في شرع من قبله إذا حكم به في أمته ، فهو بمنزلة الأول الذي كان قبله ، لا خليفة عنه في ذلك وإن قرره ، فلما منع اللّه ذلك في هذه الأمة ، علمنا أنهم خلفاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وإن دعوا إلى اللّه على بصيرة ، كما دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، كما ورد في القرآن العزيز عنه في قوله :« أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي »فالعبد إذا أقيم في خروجه من حضرة الحق إلى الخلق بطريق التحكم فيهم من حيث لا يشعرون ، وقد يشعرون في حق بعض الأشخاص من هذا النوع كالرسل عليهم السلام ، الذين جعلهم اللّه خلائف في الأرض ، يبلغون إليهم حكم اللّه فيهم ، وأخفى ذلك في الورثة فهم خلفاء من حيث لا يشعر بهم ، ولا يتمكن لهذا الخليفة المشعور به وغير المشعور به أن يقوم في الخلافة إلا بعد أن يحصل معاني حروف أوائل السور سور القرآن المعجمة .
مثل « ألف لام ميم » وغيرها الواردة في أوائل بعض سور القرآن ، فإذا أوقفه اللّه على حقائقها ومعانيها تعينت له الخلافة ، وكان أهلا للنيابة ، هذا في علمه بظاهر هذه الحروف ، وأما علمه بباطنها فعلى تلك المدرجة يرجع إلى الحق فيها ، فيقف على أسرارها ومعانيها من الاسم الباطن إلى أن يصل إلى غايتها ، فيحجب الحق ظهوره بطريق الخدمة في نفس الأمر ، فيرى مع هذا القرب الإلهي خلقا بلاحق ، كما يرى العامة بعضهم بعضا ، ولا يكون في الزمان إلا واحدا يسمى الغوث والقطب ، وهو الذي ينفرد الحق ويخلو به دون خلقه ، فإذا فارق هيكله المنور انفرد بشخص آخر لا ينفرد بشخصين في زمان واحد ، وذلك العبد عين اللّه في كل زمان ، لا ينظر الحق في زمانه إلا إليه.
[ لم كان الخليفة في الأرض ؟ ]
لم كان الخليفة في الأرض ؟
: لما كان الاختصاص الإلهي الكامل في الجمع بين السعادة والصورة ، كان الكمال للمؤمن بالخلافة في المكان الذي من شأنه أن يظهر فيه كمال الصورة ، من نفوذ الاقتدار عند الإغضاب ، وليست الجنة بمحل لهذه الصفة
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
فإنها تدل على المسميات ، سواء كانوا حاضرين أو غير حاضرين ، فإن كانوا حاضرين فيغني الثناء بالإشارة ، وإن كانوا غير حاضرين ولا علم لهم بأسماء من غاب ويريدون الثناء على اللّه بهم ،
ص 103
فليست بدار خلافة بل هي دار ولاية ، ونشأة الدنيا على مزاج يقبل الغضب ولهذا قال :« إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً »ولم يقل في العالم - الوجه الثاني في قوله تعالى« إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً »ورد في الخبر أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال :
[ أنا سيد ولد آدم ولا فخر ] وفي صحيح مسلم
[ أنا سيد الناس يوم القيامة ] فثبتت له السيادة والشرف على أبناء جنسه من البشر ،
وقال عليه السلام : « كنت نبيا وآدم بين الماء والطين » يريد على علم بذلك ، فأخبره اللّه تعالى بمرتبته وهو روح قبل إيجاده الأجسام الإنسانية ، كما أخذ الميثاق على بني آدم قبل إيجاد أجسامهم ، فكانت الأنبياء في العالم نوابه صلّى اللّه عليه وسلم ، من آدم إلى آخر الرسل عليهم السلام .
وقد أبان صلّى اللّه عليه وسلم عن هذا المقام بأمور : منها قوله صلّى اللّه عليه وسلم « واللّه لو كان موسى حيا ما وسعه إلا أن يتبعني » .
وقوله في نزول عيسى ابن مريم في آخر الزمان إنه يؤمنا بسنة نبينا عليه السلام ، ولو كان محمد صلّى اللّه عليه وسلم قد بعث في زمان آدم لكانت الأنبياء وجميع الناس تحت شريعته إلى يوم القيامة حسا ، ولهذا لم يبعث عامة إلا هو خاصة ، فهو الملك والسيد وكل رسول سواه بعث إلى قوم مخصوصين ، فمن زمان آدم عليه السلام إلى زمان بعث محمد صلّى اللّه عليه وسلم إلى يوم القيامة ملكه ، وتقدمه في الآخرة على جميع الرسل وسيادته فمنصوص على ذلك في الصحيح عنه ، فروحانيته صلّى اللّه عليه وسلم موجودة وروحانية كل نبي ورسول ، فكان الإمداد يأتي إليهم من تلك الروح الطاهرة بما يظهرون به من الشرائع والعلوم في زمان وجودهم رسلا ، فنسب كل شرع إلى من بعث به ، وهو في الحقيقة شرع محمد صلّى اللّه عليه وسلم وإن كان مفقود العين من حيث لا يعلم ذلك ، فهو صلّى اللّه عليه وسلم الحاكم غيبا وشهادة ، فبنو آدم سوقة وملك لهذا السيد محمد صلّى اللّه عليه وسلم وهو المقصود فهو ملك وسيد على جميع بني آدم ، وجميع من تقدمه كان ملكا له وتبعا ، والحاكمون فيه نوّاب عنه .
والملك عبارة عما مهد اللّه من آدم إلى زمان محمد صلّى اللّه عليه وسلم من الترتيبات في هذه النشأة الإنسانية بما ظهر من الأحكام الإلهية فيها ، فكانوا خلفاء الخليفة السيد ، وأول موجود ظهر من الأجسام الإنسانية كان آدم عليه السلام ، فكان آدم عليه السلام أول خليفة ونائب عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، فقد ورد في الحديث
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
لا يتمكن لهم ذلك لعدم معرفتهم بأسمائهم ، فقد نقص من عموم ذلك الحمد ما ادعوه ، فقال« إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ »والثناء كلام ، والكلام إنما هو بالأسماء والمسميات ، وقولهم« وَنُقَدِّسُ لَكَ
ص 104
المروي أن اللّه يقول : ( لولاك يا محمد ما خلقت سماء ولا أرضا ، ولا جنة ولا نارا ) فكان آدم أول خليفة عنه ثم ولد واتصل النسل ، وعين في كل زمان خلفاء ، إلى أن وصل زمان نشأة الجسم الطاهر محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، فظهر مثل الشمس الباهرة ، فاندرج كل نور في نوره الساطع ، وغاب كل حكم في حكمه ، وانقادت جميع الشرائع إليه ، وظهرت سيادته التي كانت باطنة ، فإن الإنسان آخر موجود من أجناس العالم .
فإنه ما ثم إلا ستة أجناس وكل جنس تحته أنواع وتحت الأنواع أنواع :
فالجنس الأول الملك
والثاني الجان
والثالث المعدن
والرابع النبات
والخامس الحيوان ، وانتهى الملك واستوى
وكان الجنس السادس جنس الإنسان وهو الخليفة .
وإنما وجد آخرا ليكون إماما بالفعل حقيقة ، لا بالصلاحية والقوة ، فعند ما وجد عينه لم يوجد إلا واليا سلطانا ملحوظا ، فجعل الحق للرسول صلّى اللّه عليه وسلم نوابا ، حين تأخرت نشأة جسده ، فكان آدم عليه السلام أول نائب عنه صلّى اللّه عليه وسلم .
فقال تعالى :« وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً »يحتمل أن يكون المراد بالخلافة أن يخلف من كان قبله فيها لما فقد ، فإن اللّه لما نفخ في آدم من روحه ، وأمر الملائكة بالسجود له ، فوقعت ساجدة عن الأمر الإلهي بذلك ، فجعله قبلة للملائكة .
وذلك قوله تعالى : ( إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ ، فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ، فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ )ثم عرفهم بخلافته في الأرض فلم يعرفوا عمن هو خليفة ، فربما ظنوا أنه خليفة في عمارتها عمن سلف ، ويحتمل أن تكون الخلافة أي النيابة عن الحق في أرضه ، وعليه الكلام وكان المقصود بقوله خليفة أي نائب الحق الظاهر بصورته .
لقول الملائكة :« أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ »وهذا لا يقع إلا ممن له حكم ، ولا حكم إلا لمن له مرتبة التقدم وإنفاذ الأمر ، فخلقه على صورته قال صلّى اللّه عليه وسلم : إن اللّه خلق آدم على صورته ، ولما كان عالم الخلق والتركيب يقتضي الشر لذاته ، لهذا قال عالم الأمر - الذي هو الخير الذي لا شر فيه - حين رأى خلق الإنسان وتركيبه من الطبائع المتنافرة ، والتنافر هو عين التنازع ، والنزاع أمر مؤد إلى الفساد قالوا :« أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ »
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
يقولون ونقدس ذواتنا من أجلك ، فلا يقوم بنا جهل بك ، فيقال لهم : هل تعلمون أسماء هؤلاء ؟ فيقولون لا ، فيقال لهم : فلم لم تقدسوا ذواتكم من جهلكم بما ينسب إلينا من هذه
ص 105
فاعترضت الملائكة لنشأة آدم من الطبيعة ، لما تحمله الصورة من الأضداد ، ولا سيما وقد جعل آدم من العناصر ، فلم تشاهد الملائكة الأسماء الإلهية التي هي أحكام هذه الصورة ، وهي كون الحق سمعه وبصره وجميع قواه ، فلو شهدت ذلك ما اعترضت ، ولكنها اعترضت لما رأوا من تقابل طبائعه في نشأته ، فعلموا أن العجلة تسرع إليه ، وأن تقابل ما تركب منه جسده ينتج عنه نزاعا فيؤثر فسادا في الأرض وسفك دماء ، فقالت ما قالت ، من غير تعرض لمواقع الأحكام المشروعة.
وكذلك وقع مثل ما قالوه فإنهم رأوا الحق سبحانه يقول : ( وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ )
وقال :« وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ »فكرهوا ما كره اللّه ، وأحبوا ما أحب اللّه ، وجرى حكم اللّه في الخلق بما قدره العزيز العليم ، فما ظهر من عالم التركيب من الشرور فمن طبيعته التي ذكرتها الملائكة ، فإن الغالب على عالم الأرض سلطان الهوى ، وهو يورث الفساد ، فعلمت الملائكة ما يقع لعلمهم بالحقائق ، لأن المولد من الأضداد المتنافرة لا بد فيه من المنازعة ، ولا سيما المولد من الأركان ، وكذا وقع الأمر ، وإنما وقع الغلط عندهم في استعجالهم بهذا القول ، من قبل أن يعلموا حكمة اللّه في هذا الفعل ما هي ، وحملهم على ذلك الغيرة التي فطروا عليها في جناب اللّه . فما ذكرت الملائكة إلا مساوينا وما تعرضت للحسن من ذلك ، إلا لأن الملأ الأعلى تغلب عليه الغيرة على جناب اللّه أن يهتضم ، وعلمت من هذه النشأة العنصرية أنها لا بد أن تخالف ربها لما هي عليه من حقيقتها ، وذلك عندها بالذوق من ذاتها فإنها مخلوقة من عالم الطبيعة ، وإنما هي في نشأتنا أظهر ، فإن اعتراض الملائكة من حيث طبيعتهم وغيرتهم على الجناب الإلهي ، فبالذي وقع من الإنسان من الفساد وغيره مما يقتضيه عالم الطبع ، به بعينه وقع اعتراض الملائكة ، فرأوه في غيرهم ولم يروه في نفوسهم ، فإن الملائكة غلب عليها الطبع ، ولم ترد الخير إلا لنفسها ، وما وافقت الحق فيما أراد أن يظهره في الكون ، من جعل آدم خليفة في الأرض ، فعرفهم بذلك ، فلم يوافقوه ، لحكم الطبع في الطمع في أعلى المراتب ، وقامت لهم صورة الغيرة على جناب الحق ، والإيثار لعظمته ، وذهلوا عن تعظيمه ، إذ لو وقفوا مع ما ينبغي له من العظمة لوافقوه ؛ وما وافقوه ، وإن كانوا قصدوا الخير ، فقالوا :« وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
الأسماء ؟
فقالوا( سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا )فرجعوا إلى العجز وطلب العلم ، ولهذا
ص 106
وَنُقَدِّسُ لَكَ »تعني ذواتها وقولها :« لَكَ »أي من أجلك ، وكونهم ذوات مقدسة لذاتها أنها لم تلتفت قط إلى غير الاسم الإلهي الذي عنه تكونت ، فلم يطرأ عليها حجاب يحجبها عن إلهها ، فتتصف لذلك الحجاب بأنها غير مقدسة.
ولذلك قال تعالى في الملائكة : ( يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ )ولا يكون ذلك إلا من ذاته مقدسة بالشهود الدائم ، فقولها يعني نحن أولى من هذا ، فرجحوا نظرهم على علم اللّه في خلقه ، لذلك قال لهم :« إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ »فوصفهم بنفي العلم ، الذي علم الحق من هذا الخليفة مما لم يعلموا ، وأثنوا على أنفسهم ، فمسألتهم جمعت ذلك حيث أثنوا على أنفسهم ، وعدلوها ، وجرحوا غيرهم ، وما ردوا العلم في ذلك إلى اللّه ، وهذا يؤيد أن الملائكة تحت حكم الطبيعة ، وأن لها أثرا فيهم وفي ذلك نقول:
[ شعر في اعتراض الملائكة ]
فعجبت منهم كيف قال جميعهم .... بفساد والدنا وسفك دماء !
إذ كان يحجبهم بظلمة طينه .... عما حوته من سنا الأسماء
وبدا بنور ليس فيه غيره .... لكنهم فيه من الشهداء
أن كان والدنا محلا جامعا .... للأولياء معا وللأعداء
ورأى المويهة والنويرة جاءتا .... كرها بغير هوى وغير صفاء
فبنفس ما قامت به أضداده .... حكموا عليه بغلظة وبذاء
وأتى يقول أنا المسبح والذي .... ما زال يحمدكم صباح مساء
وأنا المقدس ذات نور جلالكم .... وأتوا في حق أبي بكل جفاء
لما رأوا جهة الشمال ولم يروا .... منه يمين القبضة البيضاء
ورأوا نفوسهم عبيدا خشعا .... ورأوه ربا طالب استيلاء
لحقيقة جمعت له أسماء من .... خص الحبيب بليلة الإسراء
ورأوا منازعة اللعين بجنده .... يرنو إليه بمقلة البغضاء
وبذات والدنا منافق ذاته .... حظ العصاة وشهوتا حواء
علموا بأن الحرب حتما واقع
سورة البقرة ( 2 ) : آية 30
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ ( 30 )
خلق الخليفة من العناصر
[ خلق الخليفة من العناصر ]
لما خلق اللّه الأفلاك والسماوات ، وأوحى في كل سماء أمرها ، ورتب فيها أنوارها وسرجها ، وعمرها بملائكته وحركها فتحركت ، وخلق الجان من النار ، والطير والدواب البرية والبحرية والحشرات ، وقدر في الأرض أقواتها من أجل المولدات ، فجعلها خزانة لأقواتهم ، واستوت المملكة وتهيأت ، ما عرف أحد من هؤلاء المخلوقات كلها من أي جنس يكون هذا الخليفة ؟ الذي مهد اللّه هذه المملكة لوجوده ، بترتيب اللّه الخلق بالإيجاد ، إلى أن انتهت النوبة والترتيب الإلهي إلى ظهور هذه النشأة الإنسانية الآدمية ، فلما وصل الوقت المعين في علمه لإيجاد هذا الخليفة ، أمر بعض ملائكته بأن يأتيه بقبضة من كل أجناس تربة الأرض ، فأتاه بها - في خبر طويل معلوم عند الناس - فأخذها سبحانه وخمرها بيديه في قوله « لما خلقت بيدي » فلما خمر الحق تعالى بيديه طينة آدم حتى تغير ريحها وهو المسنون ، وذلك الجزء الهوائي الذي في النشأة ، وكان الجزء الناري الذي أنشأه اللّه منه في قوله تعالى :« مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ »والجزء المائي هو الذي عجن به التراب فصار طينا ، فلما سوى نشأته جعل ظهره محلا للأشقياء والسعداء من ذريته ، فأودع فيه ما كان في قبضتيه ، فإنه سبحانه أخبر أن في قبضة يمينه السعداء ، وفي قبضة اليد الأخرى الأشقياء ، وكلتا يدي ربي يمين مباركة ، فقال : هؤلاء للجنة ،
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
اللّه من ذلك ، فمن وجوهه عندنا الابتلاء الذي نبهنا عليه ، ثم أردف هذه الآية بنعمة الاستخلاف وتعليم الأسماء والسجود لهذه النشأة الإنسانية ، فقال تعالى ( 31 )« وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ ».
ص 93
وبعمل أهل الجنة يعملون ، وهؤلاء إلى النار ، وبعمل أهل النار يعملون ، وأنشأ الحق هذه النشأة الإنسانية في أحسن تقويم ، ثم نفخ فيها من روحه المضاف إليه ، فحدث عند هذا النفخ فيه بسريانه في أجزائه الحياة وما يتبعها من كونه حيوانا ، وبذلك جمع اللّه في الإنسان الكامل بين الصورتين الطبيعيتين في نشأته ، فخلقه بجسم مظلم كثيف ، وبجسم لطيف محمول في هذا الجسم الكثيف سماه روحا له ، به كان حيوانا وهو البخار الخارج من تجويف القلب المنتشر في أجزاء البدن المعطي فيه النمو والإحساس ، ثم خصه بما يتميز به عن الحيوان بالقوة المصورة والعاقلة ، ثم أنشأه خلقا آخر وهو الإنسانية فجعله درّاكا بهذه القوى ، حيا عالما قادرا مريدا متكلما سميعا بصيرا على حد معلوم معتاد في اكتسابه ، وخصه دون العالم كله بالقوة المفكرة التي بها يدبر الأمور ويفصلها ، وليس لغيره من العالم ذلك فإنه على الصورة الإلهية ، ومن صورتها يدبر الأمر يفصل الآيات فتبارك اللّه أحسن الخالقين
- البحث الثاني :
[ ما هو الإنسان ؟ ]
ما هو الإنسان ؟
اعلم أن الناس اختلفوا في مسمى الإنسان ما هو ؟
فقالت طائفة : هو اللطيفة
وطائفة قالت : هو الجسم ، وطائفة قالت : هو المجموع وهو الأولى .
وقد وردت لفظة الإنسان على ما ذهبت إليه كل طائفة ، ثم اختلفنا في شرفه هل هو ذاتي ؟
أو هو بمرتبته نالها بعد ظهوره في عينه وتسويته كاملا في إنسانيته إما بالعلم وإما بالخلافة والإمامة ؟
فمن قال : إنه شريف لذاته ، نظر إلى خلق اللّه إياه بيديه ، ولم يجمع ذلك لغيره من المخلوقين ، وقال : إنه خلقه على صورته ، فهذه حجة من قال شرفه شرف ذاتي ، ومن خالف هذا القول قال : لو أنه شريف لذاته لكنا إذا رأينا ذاته علمنا شرفه ،
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
لما اقتضى عند اللّه خلقنا صلاحا في نفس الأمر ، قرن التعريف لمحمد صلّى اللّه عليه وسلم بالاسم الرب الذي هو المصلح ، وأضافه إلى محمد صلّى اللّه عليه وسلم اعتناء به أنه المقصود من هذه النشأة ، إذ كان سيد الناس يوم القيامة ، وأخفى في الدنيا ما يجب من تعظيمه لعلو منزلته ، كما أخفى ما يستحقه جل جلاله من تعظيم عباده إياه ، وأطلق الألسنة عليه بأن له صاحبة وولدا ، وما وقع به التعريف مما لا يليق به ، كذلك قيل فيه صلّى اللّه عليه وسلم إنه ساحر مجنون كذاب ، وغير ذلك ، فإذا كان يوم القيامة وظهر الحق سبحانه في عزته وكبريائه ، فذلّ كل موجود تحت عزته على الكشف ، وذهبت الدعاوى وتبرأ الذين اتّبعوا من الذين اتّبعوا ، ظهر أيضا في ذلك اليوم مقام محمد صلّى اللّه عليه وسلم وسيادته على الناس ، وافتقار
ص 94
والأمر ليس كذلك ، ولم يكن يتميز الإنسان الكبير الشريف بما يكون عليه من العلم والخلق على غيره من الأناسي ويجمعهما الحد الذاتي ، فدل أن شرف الإنسان بأمر عارض يسمى المنزلة أو المرتبة ، فالمنزلة هي الشريفة ، والشخص الموصوف بها نال الشرف بحكم التبعية ، كمرتبة الرسالة والنبوة والخلافة والسلطنة ، فما علم شرف الإنسان إلا بما أعطاه اللّه من العلم والخلافة ، فليس لمخلوق شرف من ذاته على غيره إلا بتشريف اللّه إياه . وأرفع المنازل عند اللّه أن يحفظ اللّه على عبده مشاهدة عبوديته دائما ، سواء خلع عليه من الخلع الربانية شيئا أو لم يخلع ، فهذه أشرف منزلة تعطى لعبد .
وهو قوله تعالى : ( وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي )وقوله سبحانه : ( سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ )فقرن معه تنزيهه ، فليس لصنعة شرف أعلى من إضافتها إلى صانعها ، ولهذا لم يكن لمخلوق شرف إلا بالوجه الخاص الذي له من الحق ، لا من جهة سببه المخلوق مثله ، وفي هذا الشرف يستوي أول موجود - وهو القلم أو العقل أو ما سميته - وأدنى الموجودات مرتبة ، فإن النسبة واحدة في الإيجاد ، والحقيقة واحدة في الجميع من الإمكان ، فآخر صورة ظهر فيها الإنسان الصورة الآدمية ، وليس وراءها صورة أنزل منها ، وبها يكون في النار من شقي لأنها نشأة تركيب تقبل الآلام والعلل ، وأما أهل السعادة فينشئون نشأة وتركيبا لا يقبل ألما ولا مرضا ولا خبثا ، ولهذا لا يهرم أهل الجنة ولا يتمخطون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يسقمون ولا يجوعون ولا يعطشون ، وأهل النار على النقيض منهم ، وهي نشأة الدنيا وتركيبها فهي أدنى صورة قبلها الإنسان وقد أتت عليه أزمنة ودهور قبل أن يظهر في هذه الصورة الآدمية ، وهو في الصورة التي له في كل مقام وحضرة من فلك وسماء وغير ذلك مما تمر عليه الأزمان والدهور ، ولم يكن قط في صورة من تلك الصور مذكورا بهذه الصورة الآدمية العنصرية ، ولهذا ما
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
الخلق إليه من سائر الأمم في فتح باب الشفاعة ، وبان فضله على سائر الأنبياء والرسل ، فعلم هنالك عظم منزلته عند ربه ، كما تظهر عزة كل مقرب عند سلطان عند ظهور سلطانه ودولته ، فأخبر سبحانه نبيه محمدا صلّى اللّه عليه وسلم بما كان بينه جل علاه وبين ملائكته في حق آدم صلّى اللّه عليه وسلم ، فمن جعل لفظة الملائكة بمعنى الرسل كان صفة ، فدخل فيهم إبليس ، ومن جعله اسما لهم من حيث نشأتهم وإن كانوا سموا به لاستتارهم ، لم يدخل إبليس في هذا الخطاب ، وقد يكون الخطاب عاما لهم ولغيرهم من المخلوقين في ذلك الوقت ، وخصوا الملائكة بالذكر اعتناء بهم وتهمما وتشريفا ، فيدخل إبليس
ص 95
ابتلاه قط في صورة من صوره في جميع العالم إلا في هذه الصورة الآدمية ، ولا عصى الإنسان قط خالقه إلا فيها ، ولا ادعى رتبة خالقه إلا فيها ولا مات إلا فيها ، ولهذا يقبل الموت أهل الكبائر في النار ، ثم يخرجون فيغمسون في نهر الحياة فيتركبون تركيبا لا يقبل الآلام ولا الأسقام ، فيدخلون بتلك الصورة الجنة
- البحث الثالث -
[ خلق الانسان الكامل ]
خلق آدم عليه السلام الإنسان الكامل الأول ، والخليفة الأول ، باليدين وعلى الصورة الإلهية : لما أراد اللّه بالإنسان الخلافة والإمامة بدأ بإيجاد العالم ، وهيأه وسواه وعدله ورتبه مملكة قائمة ، فلما استعد لقبول أن يكون مأموما أنشأ اللّه جسم الإنسان الطبيعي ونفخ فيه من الروح الإلهي ، فخلقه على صورته لأجل الاستخلاف ، فظهر بجسمه فكان المسمى آدم فجعله في الأرض خليفة ، وكان من أمره وحاله مع الملائكة ما ذكر اللّه في كتابه لنا ، وجعل الإمامة في بنيه إلى يوم القيامة ، فالإنسان الكامل هو المقصود الذي به عمرت الدنيا وقامت ، وإذا رحل عنها زالت الدنيا ، ومارت السماء ، وانتثرت النجوم ، وكورت الشمس ، وسيرت الجبال ، وعطلت العشار ، وسجرت البحار ، وذهبت الدار الدنيا بآخرها ، وانتقلت العمارة إلى الدار الآخرة ، بانتقال الإنسان ، فعمرت الجنة والنار ، وما بعد الدنيا من دار : إلا الجنة والنار .
واعلم أن اللّه جمع لنشأة جسد آدم بين يديه فقال « لما خلقت بيدي » فإنه لما أراد اللّه كمال هذه النشأة الإنسانية جمع لها بين يديه ، وأعطاها جميع حقائق العالم ، وتجلى لها في الأسماء كلها ، فحازت الصورة الإلهية ، والصورة الكونية ، وجعلها روحا للعالم وجعل أصناف العالم له كالأعضاء من الجسم للروح المدبرة له ، فلو فارق العالم هذا الإنسان مات العالم ، فالدار الدنيا جارحة من جوارح جسد العالم الذي الإنسان روحه ، فلما قابل الإنسان الحضرتين بذاته ( الحضرة الإلهية والحضرة الكونية ) صحت له الخلافة ، وتدبير العالم
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
في التعريف وإن لم يجر له ذكر ، وأما قوله تعالى« إِنِّي جاعِلٌ »أي خالق وناصب« فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً »فإن أراد في ذلك من يخلف من مضى في الأرض من الأمم قبلنا أو الملائكة ، وهو الأظهر ، فيدخل تحت هذه اللفظة آدم وذريته الكافر والمؤمن ، وإن أراد بالخلافة النيابة عنه في خلقه ، فتختص بذلك الرسل صلوات اللّه عليهم ، والوجهان صالحان لذلك« قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ »فلهذا تقوى عندنا وظهر أنا خلف من الملائكة في الأرض ، لأنهم لو فهموا من الحق في خطابه أن المراد غيرهم لما أجابوا بهذا الجواب ، هذا جواب
ص 96
وتفصيله ، فإذا لم يحز الإنسان رتبة الكمال فهو حيوان تشبه صورته صورة الإنسان .
فالإنسان الكامل من تممت له الصورة الإلهية ، ولا يكمل إلا بالمرتبة ، ومن نزل عنها فعنده من الصورة بقدر ما عنده ، ألا ترى الحيوان يسمع ويبصر ويدرك الروائح والطعوم والحار والبارد ولا يقال فيه إنسان ! بل هو حمار وفرس وطائر وغير ذلك ، فلو كملت فيه الصورة قيل فيه إنسان ، كذلك الإنسان لا يكمل فيزول عنه الاسم العام إلى الاسم الخاص فلا يسمى خليفة إلا بكمال الصورة الإلهية فيه ، إذ العالم لا ينظرون إلا إليها ، وهو الآخر بخلقه الطبيعي فإنه آخر المولدات فإن اللّه ما خلق أولا من هذا النوع إلا الكامل ، وهو آدم عليه السلام ، وهو لم يكن مبعوثا لأنه لم يكن مرسلا إلى أحد ، وإنما كان في الأرض لوجود عالم التركيب ، فهو مفتتح وجودنا ، فالإنسان الكامل ظاهره خلق ، وباطنه حق ، وما عدا هذا فهو الإنسان الحيواني ، ورتبة الإنسان الحيواني من الإنسان الكامل رتبة خلق النسناس من الإنسان الحيواني ، ثم أبان الحق عن مرتبة الكمال لهذا النوع ، فمن حازها منه فهو الإنسان الذي أريده ، ومن نزل عن تلك الرتبة فعنده من الإنسانية بحسب ما تبقى له ، وليس في الموجودات من وسع الحق سواه ، وما وسعه إلا بقبول الصورة ، فهو مجلى الحق فيرى الحق صورته في الإنسان الكامل ، ومعنى رؤية الحق صورته فيه هو : إطلاق جميع الأسماء الإلهية عليه . كما جاء في الخبر « فبهم تنصرون » واللّه الناصر « وبهم ترزقون » واللّه الرازق « وبهم ترحمون » واللّه الراحم ، فإنه سبحانه ما سمى نفسه باسم من الأسماء إلا وجعل للإنسان في التخلق بذلك الاسم حظا منه يظهر به في العالم على قدر ما يليق به ، وأنزله خليفة عنه في أرضه ، والخليفة معلوم أنه لا يظهر إلا بصفة من استخلفه ، فلا مخلوق أعظم رحمة من الإنسان الكامل الذي هو مجلى حقائق العالم ، فهو آخر نوع ظهر ، فأوليته حق وآخريته خلق ، فهو
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
على أنهم أجابوا من حيث ما فهموا ، وقد يكون الأمر في نفسه على ما فهموا وقد لا يكون ، وذلك أن كل كلام يحكيه الحق أو يخبر به أنه قول لأحد من خلقه ، لا يلزم منه أن يكون صحيحا مدلول ذلك القول ، ولا فاسدا ولا إصابة ولا خطأ ، وإنما تتبين صحته وفساده من دليل آخر سمعي أو عقلي ، والأظهر ما ذهبنا إليه في مفهومهم ، ولما أبصرت الملائكة نشأة الإنسان مركبة من طبائع متنافرة ، دلهم ذلك على أنه في جبلة هذا المخلوق المنازعة في جنسه ومع غير جنسه ،
ص 97
الأول من حيث الصورة الإلهية ، والآخر من حيث الصورة الكونية ، والظاهر بالصورتين والباطن عن الصورة الكونية بما عنده من الصورة الإلهية ، وقد ظهر حكم هذا في عدم علم الملائكة بمنزلته مع كون اللّه قد قال لهم : إنه خليفة ، فكيف بهم لو لم يقل لهم ذلك ؟ فلم يكن ذلك إلا لبطونه عن الملائكة ، وهم من العالم الأعلى العالم بما في الآخرة وبعض الأولى ، فإنهم لو علموا ما يكون في الأولى ما جهلوا رتبة آدم عليه السلام مع التعريف الإلهي لهم بقوله :« إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً »وما عرفه من العالم إلا اللوح والقلم وهم العالون ، ولا يتمكن لهم إنكاره والقلم قد سطره واللوح قد حواه ، فإن القلم لما سطره سطر رتبته وما يكون منه ، واللوح قد علم علم ذوق ما خطه القلم فيه . أما الملائكة فلم تر من آدم إلا صورته الطبيعية الجسمية المظلمة العنصرية الكثيفة ، لذلك قالت ما قالت ، وكان آدم عند العالم من الملائكة فمن دونهم مجهول الباطن ، فحكموا عليه بالفساد ، أي بالإفساد من ظاهر نشأته لمّا رأوها قامت من طبائع مختلفة متضادة متنافرة ، فعلموا أنه لا بد أن يظهر أثر هذه الأصول على من هو على هذه النشأة ، فلو علموا باطنه وهو حقيقة ما خلقه اللّه عليه من الصورة حيث قال صلّى اللّه عليه وسلم : « إن اللّه خلق آدم على صورته » لعلمت الملائكة ما جهلته من آدم ، فلما أعلمهم اللّه بكمال الصورة فيه وأمرهم بالسجود له سارعوا بالسجود ، ولا سيما وقد ظهر لهم بالفعل في تعليمه الأسماء إياهم ، ولو لم يعلمهم وقال لهم اللّه إني أعطيته الصورة والسورة لأخذوها إيمانا وعاملوه بما عاملوه به لأمر اللّه ، فلولا أن اللّه تعالى جمع لآدم في خلقه بين يديه فحاز الصورتين وإلا كان من جملة الحيوان الذي يمشي على رجليه ، وإنا وإن حزنا بخلقنا الصورة الربانية فنحن بحكم الأصل عبيد عبودية لا حرية فيها ، فما نحن سادة ولا أرباب ، قال صلّى اللّه عليه وسلم : كمل من الرجال كثيرون ولم يكمل من النساء إلا آسية
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
ويدخل في هذا الجان والإنس ، وإنما لم يذكروا ذلك وإن كانوا من طبائع متنافرة غير أنهم غلب عليهم عنصر النار كما غلب علينا عنصر التراب ، فهم أشد منازعة منا للحركة السريعة التي في لهب النار والسكون الذي في التراب ، فكل منازعة تقع منا فمن غلبة طبيعة النار في ذلك الوقت ، وهو الغضب والحمية ، وهو المرة الصفراء ، لكن الجان لما لم يقل لهم الحق إنهم يخلفونكم في الأرض لم يقولوا شيئا ، وإنما القول في الجان بالمنازعة أولى لما ذكرناه ف« قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها
ص 98
امرأة فرعون ، ومريم ابنة عمران . فلكون الإنسان الكامل على الصورة الكاملة صحت له الخلافة والنيابة عن اللّه تعالى في العالم ، فبالإنسانية والخلافة صحت له الصورة على الكمال ، وما كل إنسان خليفة ، فإن الإنسان الحيوان ليس بخليفة عندنا ، وليس المخصوص بها أيضا الذكورية فقط ، فكلامنا في صورة الكامل من الرجال والنساء ، فإن الإنسانية تجمع الذكر والأنثى ، والذكورية والأنوثة إنما هما عارضان ليستا من حقائق الإنسانية لمشاركة الحيوانات كلها في ذلك ، وقد شهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بالكمال للنساء كما شهد به للرجال فقال في الصحيح : كمل من الرجال كثيرون ، وكملت من النساء مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون . فالكمل هم الخلائف ، فإن اللّه قد اعتنى بالإنسان دون العالم غاية العناية ما لم يعتن بمخلوق بكونه جعله خليفة ، وأعطاه الكمال بعلم الأسماء ، وخلقه على الصورة الإلهية ، وأكمل من الصورة الإلهية ما يمكن أن يكون في الوجود . فالإنسان الكامل مثل ، ضد ، خلاف ، فهو مثل من حيث الصورة الإلهية ، ضد من حيث أنه لا يصح أن يكون في حال كونه عبدا ربا لمن هو له عبد ، خلاف من حيث أن الحق سمعه وبصره وقواه فأثبته وأثبت نفسه ، والإنسان الكامل الظاهر بالصورة الإلهية لم يعطه اللّه هذا الكمال إلا ليكون بدلا من الحق ، ولهذا سماه خليفة ، وما بعده من أمثاله خلفاء له ، فالأول وحده هو خليفة الحق ، وما ظهر عنه من أمثاله في عالم الأجسام فهم خلفاء هذا الخليفة وبدل منه في كل أمر يصح أن يكون له . واعلم أن المراتب كلها إلهية بالأصالة ، وظهرت أحكامها في الكون ، وأعلى رتبة إلهية ظهرت في الإنسان الكامل ، فأعلى الرتب رتبة الغنى عن كل شيء ، وتلك الرتبة لا تنبغي إلا للّه من حيث ذاته ، وأعلى الرتب في العالم الغنى بكل شيء وإن
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
وَيَسْفِكُ الدِّماءَ »فإن أرادوا بالفساد إزالة ترتيب بعض ما نظم اللّه عليه بعض العالم مما لهم تسلط عليه وقوة ، ويسفك الدماء فيهم وفيما يذبحونه من الحيوانات ويقتلونها ، فغيرة منهم على جناب الحق ، لأن له في كل ترتيب تسبيح مخصوص ، فإذا فسد ذلك النظام ذهب عين تلك الصورة فزال ذلك التسبيح والتقديس بزوال المسبح والمقدس ، فقالوا حقا وغيرة وإيثارا لجناب الحق ، وهو الظن بهم ، وإن أرادوا بالفساد وسفك الدماء غير ما تشرع لهم ، فينتهكون حرمة الحق المشروع ، ويتعدون حدوده ، ويخالفون أمره ، فيريدون المخالفين من بني آدم ، وسبب وجود الذرية وجود الأب الأول الذي هو الأصل ، وإنما لم يتعرضوا له ولكن يتضمنه الكلام ،
ص 99
شئت قلت : الفقر إلى كل شيء ، وتلك رتبة الإنسان الكامل ، فإن كل شيء خلق له ومن أجله وسخر له ، لما علم اللّه من حاجته إليه ، فليس له غنى عنه ، ولذلك استخدم اللّه له العالم كله ، فما من حقيقة صورية في العالم الأعلى والأسفل إلا وهي ناظرة إليه نظر كمال ، أمينة على سر أودعها اللّه إياه لتوصله إليه . -
[ حكم الصورة الإلهية ]
حكم الصورة الإلهية التي خلق عليها الإنسان : إن العالم وإن كان على صورة الحق فما كان العالم على الكمال في صورة الحق حتى وجد الإنسان فيه ، فبه كمل العالم ، فالإنسان الأول بالمرتبة الآخر بالوجود ، والإنسان من حيث رتبته أقدم من حيث جسميته ، فالعالم بالإنسان على صورة الحق ، والإنسان دون العالم على صورة الحق ، والعالم دون الإنسان ليس على الكمال في صورة الحق ، ولذلك لما خلق اللّه الإنسان الكامل وخلفاءه من الأناسي على أكمل صورة ، وما ثم كمال إلا صورته تعالى ، أخبر أن آدم خلقه على صورته ليشهد فيعرف من طريق الشهود ، فأبطن في صورته الظاهرة أسماءه سبحانه التي خلع عليه حقائقها ، ووصفه بجميع ما وصف به نفسه ، ونفى عنه المثلية فلا يماثل وهو قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ )من العالم ، أي ليس مثل مثله شيء من العالم ، ولم يكن مثلا إلا بالصورة ، لهذا كان الخليفة على صورة من استخلفه ، فالنسبة الجامعة بين الحق والخلق ، هي الصورة التي خلق عليها الإنسان ، ولما كان للصورة حكم ، ومن ظهر في صورة كان له حكمها ، من هنا تعرف مرتبة الإنسان الكامل الذي خلقه على صورته ، ولتلك الصور حكم فتتبع الحكم الصورة ، فلم يدّع الألوهية لنفسه أحد من خلق اللّه إلا الإنسان الذي ظهر بأحكام الأسماء والنيابة ، ومن سواه ادعيت فيه وما ادعاها ، قال فرعون: ( أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى )وما في الخلق من يملك سوى الإنسان ، وما سوى الإنسان من ملك وغيره لا يملك شيئا ، يقول اللّه تعالى في إثبات الملك للإنسان( أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ )وما ثم موجود ما يقرّ له بالعبودية إلا الإنسان فيقال هذا عبد فلان ، ولهذا شرع اللّه له العتق ورغّبه فيه وجعل له ولاء المعتق إذا مات من غير وارث ، كما أن الورث للّه من عباده قال تعالى : ( إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها )وما ثم موجود
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
وإن كان القصد بإنزال المطر في طلب العباد له سقي زراعاتهم ، فيتخرب بيت العجوز الضعيفة بذلك المطر ، قالت عائشة ( يا رسول اللّه أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال نعم إذا كثر الخبث بالمدينة ، فيعم الهلاك الصالح والطالح ويمتازون في القيامة )( وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ )ثم قالوا عن
ص 100
يقبل التسمية بجميع الأسماء الإلهية إلا الإنسان ، وقد ندب إلى التخلق بها ولهذا أعطي الخلافة والنيابة وعلم الأسماء كلها ، وكان آخر نشأة في العالم جامعة لحقائق العالم ، مما اختص اللّه بها ملكه كله وصورته ، ولما كان للإنسان الكامل هذا المنصب العالي ، كان العين المقصودة من العالم وحده ، وظهر هذا الكمال في آدم عليه السلام في قوله تعالى : ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها )
[ الخليفة واحد ]
الخليفة واحد :جمع الأنام على إمام واحد * عين الدليل على الإله الواحدقال اللّه عزّ وجل : ( وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ )وقال تعالى : ( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا )وقال سبحانه : ( إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً )وقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما وقال صلّى اللّه عليه وسلم :
[ الخلفاء من قريش ]
والتقريش التقبض والاجتماع ، كذلك الإمام إن لم يكن متصفا بأخلاق من استخلفه جامعا لها مما يحتاج من استخلف عليهم وإلا فلا تصح خلافته ، فهو الواحد المجموع
[ تتابع الخلفاء في الأرض ]
تتابع الخلفاء في الأرض : اعلم أن اللّه تعالى لما شاء أن يجعل في أرضه خلفاء على من يعمرها من الإنس والجان وجميع الحيوانات ، وقدمهم ورشحهم للإمامة دون غيرهم من جنسهم جعل بينه وبينهم سفيرا وهو الروح الأمين ، وسخر لهم ما في السماوات من ملك وكوكب سابح في فلك ، وما في الأرض وما بينهما من الخلق جميعا منه ، وأباح لهم جميع ما في الأرض أن يتصرفوا فيه ، وأيد هؤلاء الخلفاء بالآيات البينات ليعلم المرسلون إليهم أن هؤلاء خلفاء اللّه عليهم ، ومكنهم من الحكم في رعيتهم بالأسماء الإلهية على وجه يسمى التعلق ، وشرع لهم في نفوسهم شرائع ، وحد لهم حدودا ، ورسم لهم مراسم ، يقفون عندها يختصون بها ، لا يجوز لأحد من رعاياهم أن يتخذوها لأنفسهم شرائع ، ولا يقتدون بهم فيها ، ثم نصب لهم شرائع يعملون بها هم ورعيتهم وكتب لهم كتبا بذلك نزلت بها السفراء عليهم ، ليسمعوها رعيتهم فيعلموا حدود ما أنزل اللّه الذي استخلف عليهم فيقفوا عندها ، ويعملوا بها سرا وجهرا ، فمنها ما كتبه
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
نفوسهم تحدثا وثناء على اللّه بما أنعم عليهم ، فقالوا« وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ »أي من أجلك« قالَ »اللّه تعالى« إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ »من قولكم فيكم وفيمن يخلفكم ، وذلك أن قولهم« نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ »فأضاف وأخر التعريف ، ولم يقولوا بالحمد الذي لك ، فالمفهوم منه تعميم
ص 101
بيده تعالى وهو التوراة ، ومنها ما نزل به الروح الأمين عليهم من الكتاب المكنون الذي نزل من اللّه من عرشه المنقول من الدفتر الأعظم ، وهو الإمام المبين فهو معه على عرشه ، ونقل منه في اللوح المحفوظ قدر ما يقع به التصريف في الدنيا إلى يوم القيامة ، ويتضمن ما في العالم من حركة وسكون ، واجتماع وافتراق ، ورزق وأجل وعمل ، ثم أنزل ذلك كله في كتاب مكنون إلى السماء الدنيا ، وجعله بأيدي سفرة ، كرام بررة ، مطهرين أرواح قدس ، صحفا مكرمة ، مرفوعة مطهرة فيها توقيعات إلهية بما وعد اللّه المؤمنين باللّه وملائكته وكتبه ورسله وما جاءت به رسله من اليوم الآخر والبعث الآخر وما يكون في ذلك اليوم من حكم اللّه في خلقه ، وتولى اللّه ذلك كله بنفسه على صورة الحق الذي بعث به رسله ، ليصدقهم عند عبيده ، فعلا بحكمه ذلك فيهم ، كما صدقهم في حال احتجابه بما أيدهم به من الآيات ، فآمن من آمن ، وكفر من كفر ، ثم إنه أنزل في الكتب والصحف على ألسنة الخلفاء صلوات اللّه عليهم وسلامة من الوعيد والتهديد ، وأخذ من كفر باللّه ونافق أو آمن ببعض وكفر ببعض مما أنزله اللّه ، وجحد وأشرك ، وكذب وظلم ، واعتدى وأساء ، وخالف وعصى ، وأعرض وفسق ، وتولى وأدبر ، وأخبر في التوقيع أنه من كان بهذه المثابة وقامت به هذه الصفات في الحياة الدنيا أو بعضها ثم تاب إلى اللّه منها ، ومات على توبة من ذلك كله ، فإنه يلقى ربه وهو راض عنه ، فإن فسح له وأنسأ اللّه في أجله بعد توبته فعمل عملا صالحا بدّل اللّه سيئاته حسنات ، وغفر له جميع ما كان وقع منه قبل ذلك ، ولم يؤاخذه بشيء منه ، وما زالت التوقيعات الإلهية تنزل من اللّه على خلفائه بما يعدهم اللّه به من آمن باللّه ورسله من الخير ، وما توعد به لمن كفر به من الشر ، مدة إقامة ذلك الخليفة المنزل عليه وهو الرسول إلى حين موته ، فمن زمان خلافته إلى انتهاء مدة عمره لا تزال التوقيعات الإلهية تنزل عليه ، فإذا مات واستخلف من شاء بوحي من اللّه له في ذلك ، أو ترك الأمر شورى بين أصحابه ، فيولون من يجمعون عليه ، إلى أن يبعث اللّه من عنده رسولا ، فيقيم فيهم خليفة آخر ، إلا إذا كان خاتم الخلفاء فإن اللّه يقيم نوابا عنه ، فيكونون خلفاء الخليفة من عند اللّه ، لا أنهم
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
الحمد الذي يليق باللّه ، فإن التنكير أعم ، أي أبين في العموم من الألف واللام ، وإن كان يقتضي استغراق أجناس الثناء ، فيقتضي أيضا التعريف والعهد ، فلا يختص بأحد الوجهين إلا بدليل ، ومن جملة ما يثنى عليه سبحانه به معرفة أسماء الثناء ، فإن الثناء لا يقع إلا بعد معرفة الأسماء
ص 102
في منزلة الرسل خلفاء من عند اللّه ، وهم الأقطاب وأمراء المؤمنين إلى يوم القيامة ، فمن هؤلاء النواب من يكشف اللّه عنه الغطاء فيكون من أهل العين والشهود ، فيدعو إلى اللّه على بصيرة ، كما دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، ولولا أن الزمان اقتضى أن لا يكون مشرع بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لكان هؤلاء مشرعين ، وإن لم يأتوا إلا بشرع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، فإنهم كانوا يكونون فيه كما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في شرع من قبله إذا حكم به في أمته ، فهو بمنزلة الأول الذي كان قبله ، لا خليفة عنه في ذلك وإن قرره ، فلما منع اللّه ذلك في هذه الأمة ، علمنا أنهم خلفاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وإن دعوا إلى اللّه على بصيرة ، كما دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، كما ورد في القرآن العزيز عنه في قوله :« أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي »فالعبد إذا أقيم في خروجه من حضرة الحق إلى الخلق بطريق التحكم فيهم من حيث لا يشعرون ، وقد يشعرون في حق بعض الأشخاص من هذا النوع كالرسل عليهم السلام ، الذين جعلهم اللّه خلائف في الأرض ، يبلغون إليهم حكم اللّه فيهم ، وأخفى ذلك في الورثة فهم خلفاء من حيث لا يشعر بهم ، ولا يتمكن لهذا الخليفة المشعور به وغير المشعور به أن يقوم في الخلافة إلا بعد أن يحصل معاني حروف أوائل السور سور القرآن المعجمة .
مثل « ألف لام ميم » وغيرها الواردة في أوائل بعض سور القرآن ، فإذا أوقفه اللّه على حقائقها ومعانيها تعينت له الخلافة ، وكان أهلا للنيابة ، هذا في علمه بظاهر هذه الحروف ، وأما علمه بباطنها فعلى تلك المدرجة يرجع إلى الحق فيها ، فيقف على أسرارها ومعانيها من الاسم الباطن إلى أن يصل إلى غايتها ، فيحجب الحق ظهوره بطريق الخدمة في نفس الأمر ، فيرى مع هذا القرب الإلهي خلقا بلاحق ، كما يرى العامة بعضهم بعضا ، ولا يكون في الزمان إلا واحدا يسمى الغوث والقطب ، وهو الذي ينفرد الحق ويخلو به دون خلقه ، فإذا فارق هيكله المنور انفرد بشخص آخر لا ينفرد بشخصين في زمان واحد ، وذلك العبد عين اللّه في كل زمان ، لا ينظر الحق في زمانه إلا إليه.
[ لم كان الخليفة في الأرض ؟ ]
لم كان الخليفة في الأرض ؟
: لما كان الاختصاص الإلهي الكامل في الجمع بين السعادة والصورة ، كان الكمال للمؤمن بالخلافة في المكان الذي من شأنه أن يظهر فيه كمال الصورة ، من نفوذ الاقتدار عند الإغضاب ، وليست الجنة بمحل لهذه الصفة
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
فإنها تدل على المسميات ، سواء كانوا حاضرين أو غير حاضرين ، فإن كانوا حاضرين فيغني الثناء بالإشارة ، وإن كانوا غير حاضرين ولا علم لهم بأسماء من غاب ويريدون الثناء على اللّه بهم ،
ص 103
فليست بدار خلافة بل هي دار ولاية ، ونشأة الدنيا على مزاج يقبل الغضب ولهذا قال :« إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً »ولم يقل في العالم - الوجه الثاني في قوله تعالى« إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً »ورد في الخبر أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال :
[ أنا سيد ولد آدم ولا فخر ] وفي صحيح مسلم
[ أنا سيد الناس يوم القيامة ] فثبتت له السيادة والشرف على أبناء جنسه من البشر ،
وقال عليه السلام : « كنت نبيا وآدم بين الماء والطين » يريد على علم بذلك ، فأخبره اللّه تعالى بمرتبته وهو روح قبل إيجاده الأجسام الإنسانية ، كما أخذ الميثاق على بني آدم قبل إيجاد أجسامهم ، فكانت الأنبياء في العالم نوابه صلّى اللّه عليه وسلم ، من آدم إلى آخر الرسل عليهم السلام .
وقد أبان صلّى اللّه عليه وسلم عن هذا المقام بأمور : منها قوله صلّى اللّه عليه وسلم « واللّه لو كان موسى حيا ما وسعه إلا أن يتبعني » .
وقوله في نزول عيسى ابن مريم في آخر الزمان إنه يؤمنا بسنة نبينا عليه السلام ، ولو كان محمد صلّى اللّه عليه وسلم قد بعث في زمان آدم لكانت الأنبياء وجميع الناس تحت شريعته إلى يوم القيامة حسا ، ولهذا لم يبعث عامة إلا هو خاصة ، فهو الملك والسيد وكل رسول سواه بعث إلى قوم مخصوصين ، فمن زمان آدم عليه السلام إلى زمان بعث محمد صلّى اللّه عليه وسلم إلى يوم القيامة ملكه ، وتقدمه في الآخرة على جميع الرسل وسيادته فمنصوص على ذلك في الصحيح عنه ، فروحانيته صلّى اللّه عليه وسلم موجودة وروحانية كل نبي ورسول ، فكان الإمداد يأتي إليهم من تلك الروح الطاهرة بما يظهرون به من الشرائع والعلوم في زمان وجودهم رسلا ، فنسب كل شرع إلى من بعث به ، وهو في الحقيقة شرع محمد صلّى اللّه عليه وسلم وإن كان مفقود العين من حيث لا يعلم ذلك ، فهو صلّى اللّه عليه وسلم الحاكم غيبا وشهادة ، فبنو آدم سوقة وملك لهذا السيد محمد صلّى اللّه عليه وسلم وهو المقصود فهو ملك وسيد على جميع بني آدم ، وجميع من تقدمه كان ملكا له وتبعا ، والحاكمون فيه نوّاب عنه .
والملك عبارة عما مهد اللّه من آدم إلى زمان محمد صلّى اللّه عليه وسلم من الترتيبات في هذه النشأة الإنسانية بما ظهر من الأحكام الإلهية فيها ، فكانوا خلفاء الخليفة السيد ، وأول موجود ظهر من الأجسام الإنسانية كان آدم عليه السلام ، فكان آدم عليه السلام أول خليفة ونائب عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، فقد ورد في الحديث
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
لا يتمكن لهم ذلك لعدم معرفتهم بأسمائهم ، فقد نقص من عموم ذلك الحمد ما ادعوه ، فقال« إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ »والثناء كلام ، والكلام إنما هو بالأسماء والمسميات ، وقولهم« وَنُقَدِّسُ لَكَ
ص 104
المروي أن اللّه يقول : ( لولاك يا محمد ما خلقت سماء ولا أرضا ، ولا جنة ولا نارا ) فكان آدم أول خليفة عنه ثم ولد واتصل النسل ، وعين في كل زمان خلفاء ، إلى أن وصل زمان نشأة الجسم الطاهر محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، فظهر مثل الشمس الباهرة ، فاندرج كل نور في نوره الساطع ، وغاب كل حكم في حكمه ، وانقادت جميع الشرائع إليه ، وظهرت سيادته التي كانت باطنة ، فإن الإنسان آخر موجود من أجناس العالم .
فإنه ما ثم إلا ستة أجناس وكل جنس تحته أنواع وتحت الأنواع أنواع :
فالجنس الأول الملك
والثاني الجان
والثالث المعدن
والرابع النبات
والخامس الحيوان ، وانتهى الملك واستوى
وكان الجنس السادس جنس الإنسان وهو الخليفة .
وإنما وجد آخرا ليكون إماما بالفعل حقيقة ، لا بالصلاحية والقوة ، فعند ما وجد عينه لم يوجد إلا واليا سلطانا ملحوظا ، فجعل الحق للرسول صلّى اللّه عليه وسلم نوابا ، حين تأخرت نشأة جسده ، فكان آدم عليه السلام أول نائب عنه صلّى اللّه عليه وسلم .
فقال تعالى :« وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً »يحتمل أن يكون المراد بالخلافة أن يخلف من كان قبله فيها لما فقد ، فإن اللّه لما نفخ في آدم من روحه ، وأمر الملائكة بالسجود له ، فوقعت ساجدة عن الأمر الإلهي بذلك ، فجعله قبلة للملائكة .
وذلك قوله تعالى : ( إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ ، فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ، فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ )ثم عرفهم بخلافته في الأرض فلم يعرفوا عمن هو خليفة ، فربما ظنوا أنه خليفة في عمارتها عمن سلف ، ويحتمل أن تكون الخلافة أي النيابة عن الحق في أرضه ، وعليه الكلام وكان المقصود بقوله خليفة أي نائب الحق الظاهر بصورته .
لقول الملائكة :« أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ »وهذا لا يقع إلا ممن له حكم ، ولا حكم إلا لمن له مرتبة التقدم وإنفاذ الأمر ، فخلقه على صورته قال صلّى اللّه عليه وسلم : إن اللّه خلق آدم على صورته ، ولما كان عالم الخلق والتركيب يقتضي الشر لذاته ، لهذا قال عالم الأمر - الذي هو الخير الذي لا شر فيه - حين رأى خلق الإنسان وتركيبه من الطبائع المتنافرة ، والتنافر هو عين التنازع ، والنزاع أمر مؤد إلى الفساد قالوا :« أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ »
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
يقولون ونقدس ذواتنا من أجلك ، فلا يقوم بنا جهل بك ، فيقال لهم : هل تعلمون أسماء هؤلاء ؟ فيقولون لا ، فيقال لهم : فلم لم تقدسوا ذواتكم من جهلكم بما ينسب إلينا من هذه
ص 105
فاعترضت الملائكة لنشأة آدم من الطبيعة ، لما تحمله الصورة من الأضداد ، ولا سيما وقد جعل آدم من العناصر ، فلم تشاهد الملائكة الأسماء الإلهية التي هي أحكام هذه الصورة ، وهي كون الحق سمعه وبصره وجميع قواه ، فلو شهدت ذلك ما اعترضت ، ولكنها اعترضت لما رأوا من تقابل طبائعه في نشأته ، فعلموا أن العجلة تسرع إليه ، وأن تقابل ما تركب منه جسده ينتج عنه نزاعا فيؤثر فسادا في الأرض وسفك دماء ، فقالت ما قالت ، من غير تعرض لمواقع الأحكام المشروعة.
وكذلك وقع مثل ما قالوه فإنهم رأوا الحق سبحانه يقول : ( وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ )
وقال :« وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ »فكرهوا ما كره اللّه ، وأحبوا ما أحب اللّه ، وجرى حكم اللّه في الخلق بما قدره العزيز العليم ، فما ظهر من عالم التركيب من الشرور فمن طبيعته التي ذكرتها الملائكة ، فإن الغالب على عالم الأرض سلطان الهوى ، وهو يورث الفساد ، فعلمت الملائكة ما يقع لعلمهم بالحقائق ، لأن المولد من الأضداد المتنافرة لا بد فيه من المنازعة ، ولا سيما المولد من الأركان ، وكذا وقع الأمر ، وإنما وقع الغلط عندهم في استعجالهم بهذا القول ، من قبل أن يعلموا حكمة اللّه في هذا الفعل ما هي ، وحملهم على ذلك الغيرة التي فطروا عليها في جناب اللّه . فما ذكرت الملائكة إلا مساوينا وما تعرضت للحسن من ذلك ، إلا لأن الملأ الأعلى تغلب عليه الغيرة على جناب اللّه أن يهتضم ، وعلمت من هذه النشأة العنصرية أنها لا بد أن تخالف ربها لما هي عليه من حقيقتها ، وذلك عندها بالذوق من ذاتها فإنها مخلوقة من عالم الطبيعة ، وإنما هي في نشأتنا أظهر ، فإن اعتراض الملائكة من حيث طبيعتهم وغيرتهم على الجناب الإلهي ، فبالذي وقع من الإنسان من الفساد وغيره مما يقتضيه عالم الطبع ، به بعينه وقع اعتراض الملائكة ، فرأوه في غيرهم ولم يروه في نفوسهم ، فإن الملائكة غلب عليها الطبع ، ولم ترد الخير إلا لنفسها ، وما وافقت الحق فيما أراد أن يظهره في الكون ، من جعل آدم خليفة في الأرض ، فعرفهم بذلك ، فلم يوافقوه ، لحكم الطبع في الطمع في أعلى المراتب ، وقامت لهم صورة الغيرة على جناب الحق ، والإيثار لعظمته ، وذهلوا عن تعظيمه ، إذ لو وقفوا مع ما ينبغي له من العظمة لوافقوه ؛ وما وافقوه ، وإن كانوا قصدوا الخير ، فقالوا :« وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
الأسماء ؟
فقالوا( سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا )فرجعوا إلى العجز وطلب العلم ، ولهذا
ص 106
وَنُقَدِّسُ لَكَ »تعني ذواتها وقولها :« لَكَ »أي من أجلك ، وكونهم ذوات مقدسة لذاتها أنها لم تلتفت قط إلى غير الاسم الإلهي الذي عنه تكونت ، فلم يطرأ عليها حجاب يحجبها عن إلهها ، فتتصف لذلك الحجاب بأنها غير مقدسة.
ولذلك قال تعالى في الملائكة : ( يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ )ولا يكون ذلك إلا من ذاته مقدسة بالشهود الدائم ، فقولها يعني نحن أولى من هذا ، فرجحوا نظرهم على علم اللّه في خلقه ، لذلك قال لهم :« إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ »فوصفهم بنفي العلم ، الذي علم الحق من هذا الخليفة مما لم يعلموا ، وأثنوا على أنفسهم ، فمسألتهم جمعت ذلك حيث أثنوا على أنفسهم ، وعدلوها ، وجرحوا غيرهم ، وما ردوا العلم في ذلك إلى اللّه ، وهذا يؤيد أن الملائكة تحت حكم الطبيعة ، وأن لها أثرا فيهم وفي ذلك نقول:
[ شعر في اعتراض الملائكة ]
فعجبت منهم كيف قال جميعهم .... بفساد والدنا وسفك دماء !
إذ كان يحجبهم بظلمة طينه .... عما حوته من سنا الأسماء
وبدا بنور ليس فيه غيره .... لكنهم فيه من الشهداء
أن كان والدنا محلا جامعا .... للأولياء معا وللأعداء
ورأى المويهة والنويرة جاءتا .... كرها بغير هوى وغير صفاء
فبنفس ما قامت به أضداده .... حكموا عليه بغلظة وبذاء
وأتى يقول أنا المسبح والذي .... ما زال يحمدكم صباح مساء
وأنا المقدس ذات نور جلالكم .... وأتوا في حق أبي بكل جفاء
لما رأوا جهة الشمال ولم يروا .... منه يمين القبضة البيضاء
ورأوا نفوسهم عبيدا خشعا .... ورأوه ربا طالب استيلاء
لحقيقة جمعت له أسماء من .... خص الحبيب بليلة الإسراء
ورأوا منازعة اللعين بجنده .... يرنو إليه بمقلة البغضاء
وبذات والدنا منافق ذاته .... حظ العصاة وشهوتا حواء
علموا بأن الحرب حتما واقع
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin