كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن من كلام الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي...
سورة البقرة ( 2 ) : آية 4
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ( 4 )
حكم اليقين سكون النفس بالمتيقن أو حركتها إلى المتيقن ، وهو ما يكون الإنسان فيه على بصيرة أي شيء كان ، فإذا كان حكم المتيقن من النفس حكم الحاصل فذلك اليقين ، سواء حصل المتيقن أو لم يحصل في الوقت .
________________________________________________________________________________________________________
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
وهو الأظهر ، فإنه جاء هذا المدح للذين يؤمنون بالغيب ، وقد نقول إن المؤمن إذا عصى بكسب المال الحرام فله التصرف فيه ، والتصرف فيه رده إلى من غصبه ، أو إلى ذريته أو إلى بيت المال ، وإن لم يوجد شيء من هذا كله تصدق به عن صاحبه ، فتعمه هذه الآية ، وأتى بلفظ« يُنْفِقُونَ »من نفقت الدابة إذا هلكت ، وقد ورد في الصحيح فيمن آتاه اللّه مالا ، فسلّطه اللّه على هلكته في اللّه ، فهو يخرجه هكذا وهكذا ، وقوله« مِمَّا رَزَقْناهُمْ »ولم يقل ( من أموالهم ) فأضاف الرزق إليه لقوله( وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ )فهم فيما في أيديهم وكلاء للّه تعالى في التصريف فيه على حد ما شرعه الموكل ، كالسلطان على بيت المال ، فأجرهم في ذلك أجر الوكيل الموفي حق مرتبة الوكالة ، فلنفقته وإنفاقه وجهان ، وجه من حيث أنه المباشر بالعطاء ، ووجه أنه معط ما هو موكّل فيه ، ليس هو ماله ، من النافقاء وهو الجحر الذي له بابان ، قال تعالى( فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ )واختلف الناس في مسمى الرزق ، هل يسمى الحرام رزقا أم لا ؟
فمن جعله رزقا لمن هو بيده كان المدح بصفة الكرم ، ومن منع ذلك كان المدح أيضا بصفة الكرم ، والمدح بالوقوف عندما حد له رب المال .
قوله : ( 5 )« وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ »يقول : والذين يصدقون بما أنزل إليك ، وهو ما أوحي به إليه من القرآن ، وقوله( لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ )فرأيه شرع ، وأن اللّه أراه ذلك ، فالمؤمنون يؤمنون بذلك كله ، وقوله« ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ »يعني من الكتب والصحف والشرائع المنزلة ، ولا يلزم من الإيمان بالشيء العمل به ، إلا حتى يكون فيما أنزل العمل بما أنزل أو ببعض ما أنزل ، فالتصديق يعم .
قال تعالى( آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ، كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ )فآمنا بما أنزل من قبلنا من حيث ما أنزل على نبينا ، لا من حيث ما نقل إلينا ، وقد يدخل في هذه الآية من أسلم من أهل الكتب ، وهو قوله( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا )بما أخبركم به محمد صلّى اللّه عليه وسلم ،
ص 60
سورة البقرة ( 2 ) : آية 5
"أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ "( 5 )
عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ »أي على بيان وتوفيق حيث صدقوا ربهم فيما أخبرهم به مما هو غيب في حقهم« وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ »أي الناجون من عذاب اللّه الباقون في رحمة اللّه ، فإن الفلاح هو البقاء ، والآخرة هي دار البقاء .
سورة البقرة ( 2 ) : آية 6
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ( 6 )
كما آمنتم به من حيث أخبركم به موسى وعيسى ، قال تعالى« يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ »فالضمير يعود عليهم بأنه نبي مبعوث إليهم أيضا في كتبهم ، فمن إيمانهم بكتبهم إيمانهم به صلّى اللّه عليه وسلم ، وما من آية إلا ولنزولها سبب ، ولكن ليس المقصود معرفة السبب إلا إذا كان مقصورا على السبب ، فيتعين عند ذلك ذكر السبب ، وكون المنزل مقصورا عليه ، فلذلك لا نتعرض في هذا التفسير لأسباب النزول في أكثره .« وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ »من يقن الماء في الحفرة إذا استقر فيها ، فلما استقر الإيمان بالغيب وبما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة ، سماهم موقنين ، فأخبر عنهم بفعل الحال ، وإلى هنا انتهت جملة المبتدأ إذا كان« الَّذِينَ »مبتدأ ، وقوله« بِالْآخِرَةِ »لما قال« وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ »وذكر ما كان قبله ، قال« وَبِالْآخِرَةِ »وهو ما يكون بعد مما لم يكن ، وهو من وقته إلى قيام الساعة ، إلى دخول الجنة والنار ، إلى الخلود فيها ، إلى ما لا يتناهى ولا ينقطع ، مما وردت به الأخبار الإلهية ، قوله ( 6 )« أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ »أولاء حرف إشارة يشار به إلى المتقين ، لقوله« فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ »فهو قوله« أُولئِكَ »يعني المتقين على هدى من ربهم في توقيهم الداعي لهم إلى البحث عن طريق نجاتهم حتى يتبين ، فهم على هدى من ربهم في ذلك( أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ) *وهو الهدى ، والرب هنا بمعنى المصلح ، وهو الأوجه من سائر مدلولاته ، والمربي أيضا .
وقوله : « وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ »حرف إشارة يشار به أيضا إلى المتقين وإلى الذين يؤمنون ، سواء كان نعتا أو مبتدأ ، وفيه بشرى ونوع تقوية لمن يقول إن المجتهد مأجور وإن أخطأ ، وإن الاجتهاد في الأصول كما هو في الفروع ، والمفلحون : معناه الناجون من عذاب اللّه ، الباقون في دار كرامة اللّه .
قال تعالى : ( وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ )وفي هذه الآيات من أول السورة إلى هنا تكذيب لقول من قال لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى )فكذبهم في التحجير . قوله ( 7 )« إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا »
ص 61
لأنهم قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين فكأن اللّه حكى لنبيه صلّى اللّه عليه وسلم وعرفه بأن حالهم ما ذكروه عن نفوسهم ، فهذه ظلمة قد تكون ظلمة جهل ، وقد تكون ظلمة جحد لهوى قام بهم ، وهو أشد الظلم .
سورة البقرة ( 2 ) : آية 7
خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ( 7 )
« خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ »بخاتم الكفر فلا يدخله الإيمان مع علمهم به ،« وَعَلى سَمْعِهِمْ »أي ختم على سمع فهمهم فهم الجهلاء ، لا يعلمون ما أراد اللّه بما قاله« وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ »وعلى أبصار عقولهم غشاوة ، حيث نسبوا ما رأوه من الآيات إلى
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
الآية ، يقول : بكل ما تقدم ذكره ، الكافر هو الساتر للحق ، والساترون الحق على قسمين :
قسم يسترون الحق مع معرفتهم بأنه الحق ، فلا يتمكن أن يستروه عن نفوسهم ، بل يستروه عن الغير بما يوردونه من الشبه المضلة والتشكيكات الصارفة عن ظهوره ، وهو قوله تعالى( يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ ) *وقوله( وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ )فهؤلاء جاحدون ، والقسم الآخر هو الذي ستر الحق عن نفسه بما ظهر له من الشبه ، فقامت له سترا بينه وبين الحق ، فيسمى أيضا هذا كافرا لأنه ما وفّى النظر حقه في الأدلة ، فالأول معاند ، والثاني مفرّط ، قال اللّه لنبيه عليه السلام« سَواءٌ عَلَيْهِمْ »ولم يقل عليك« أَ أَنْذَرْتَهُمْ »يقول : خوفتهم وأعلمتهم بأسباب السعادة والشقاء« أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ »يقول : أو سكت عنهم« لا يُؤْمِنُونَ »يقول : لا يصدقون ، إما عنادا وجحدا ، وإما جهالة ، والأظهر هنا إرادة القسم الواحد وهم الجاهلون ، من أجل ما يأتي بعد من ذكر القلوب ، فالمعاند عالم ومصدق في الباطن ، غير مظهر لما هو به مصدق ، فإنه لا يقدر في نفسه أن ينكر علمه بالشيء ، ولا أن يجعله جهلا ، فهؤلاء أيضا هم الذين جعل اللّه جزاءهم عدم المغفرة في قوله تعالى( سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ )ولم يقل عليك فإنه ليس عليه صلّى اللّه عليه وسلم سواء ، وهم سواء دعاؤه إياهم أو سكوته عنهم ، ما يتغير عليهم الحال في نفوسهم ، وهذا يؤيد أن المراد بالذين كفروا هنا من جهل لا من عاند مع علمه( لا يُؤْمِنُونَ )
أي لا يصدقون بما أعلمتهم ، والتصديق حالة قلبية . قوله ( 8 )« خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ »الآية ، العالم بالشيء ما ختم على قلبه ، لكن الجاهل بالشيء مختوم على قلبه ، قوله« خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ »وما ذكر الطبع هنا ، بل ذكره في موضع آخر ، قال تعالى( أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ )والطبع النقش الذي يكون في الختم ، والختم هو القفل . فقال
ص 62
السحر [ طب ]
طب إذا استرخت الطبقة الصلبة التي في البصر حصل الضرر ، فالرخاوة غشاوة ،« وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ »العذاب إنما سماه اللّه بهذا الاسم إيثارا للمؤمن ، فإنه يستعذب ما يقوم بأعداء اللّه من الآلام ، فهو عذاب بالنظر إلى هؤلاء ، ومن وجه آخر سمي عذابا ما يقع به الآلام بشرى من اللّه لعباده ، أن الذي تتألمون به لا بد إذا شملتكم الرحمة أن تستعذبوه وأنتم في النار ، كما يستعذب المقرور حرارة النار والمحرور برودة الزمهرير ، ولهذا جمعت جهنم النار والزمهرير لاختلاف المزاج ، فما يقع به الألم لمزاج مخصوص يقع به النعيم في مزاج آخر يضاده ، فلا تتعطل الحكمة ، ويبقي اللّه على أهل جهنم الزمهرير على المحرورين والنار على المقرورين فينعمون في جهنم ، فهم على مزاج لو دخلوا به الجنة تعذبوا بها لاعتدالها ، فسمى العذاب عذابا لأن المآل إلى استعذابه لمن قام به بعد شمول الرحمة ، كما يستحلي الجرب من يحكه ، فإذا حكه من غير جرب أو حاجة من يبوسة تطرأ على بعض بدنه تألم لحكه .عناية ربي أدركت كل كائن * من الناس في ختم القلوب وفي الطبعومن أجل ذا لم يدخل الكبر قلبهم * على موجد الصنع الذي جل من صنعولولا وجود السمع في الناس ما اهتدوا * وليس سوى علم الشريعة والوضعفكم بين أهل النقل والعقل يا فتى * وهل تبلغ الألباب منزلة السمع
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
تعالى: ( أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها ) ،وقال هنا« خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ »أي الذين قالوا( قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ )هو منّا ، ثم قال« وَعَلى سَمْعِهِمْ »أي وختم على سمعهم حين قالوا( وَفِي آذانِنا وَقْرٌ )أي هو منّا ، وقال تعالى« وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ »لقولهم : ( وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ )أي هو منّا ثم قالوا: ( فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ )فقال اللّه :« وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ »وهو العمل الذي قالوه وطلبوه ، والختم الذي على السمع هو بينه وبين القلب ، لا بينه وبين الكلام ، فإنه سمع الكلام من الرسول بلا شك ، ولكن لجهله بما سمع أنه حق في نفس الأمر وعدم تصديقه ، كان عنده كمثل الصوت من الإنسان عند البهائم التي لا تعقل معناه ، وهو قوله تعالى : ( كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً ، صُمٌّ ، بُكْمٌ ، عُمْيٌ ، فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ )أن ذلك المصوّت به حق فيما يدعو إليه ، وكذلك قوله« وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ »وما جعله ختما ، أي حائل بينه وبين القلب أن يعلم القلب أن ذلك المبصر من المعجزات الموقوفة على إدراك البصر أنها حق ، مثل نبع الماء من بين أصابعه ، ورؤية الطعام القليل حين أشبع الكثير ، فإن العلم به لا يحصل إلا من جهة
ص 63
سورة البقرة ( 2 ) : آية 8
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ( 8 )
[ حول الناس ]
لم سمى اللّه تعالى البشر الناس ؟
- من باب الإشارة - الناس اسم فاعل من النسيان معرّف بالألف واللام لأنه نسي أن الحق سمعه وبصره وجميع قواه في حال كونه كله نورا ، فلما لم يتذكر الناسي هذه الحال وهو في نفسه عليها غافل عنها ، خاطبه الحق مذكرا له بهذا القرآن الذي تعبده بتلاوته ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب ما كانوا قد نسوه .
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
البصر فعاين ، فلو كان الغشاء بينه وبين المبصر ما صدق هذا القول ، فكان الغشاء بلا شك على البصر من جهة القلب ، فلا يبصر البصر القلب الذي يقبل ما جاء به ، بل جعله القلب من قبيل السحر والخيال ، فتعظيم العذاب هو العذاب من وجهين فصاعدا ، فلهم عذاب الجهل وعذاب التكذيب .
قال تعالى( فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ )فإنها أدركت بلا شك ( وإنما تعمى القلوب ) أعين البصائر وهو النظر في مقدمات الأدلة وترتيبها( الَّتِي فِي الصُّدُورِ )قد يكون من الرجوع عن الحق قال تعالى( يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ )لهم قوله : ( 9 )« وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ »الناس : اسم جنس لا واحد له من لفظه ، كقوم ومعشر ورهط ، وقد قيل في تصغيره نويس ، فلا أصل له في الهمز ، وقد تكلموا في اشتقاقه وقالوا إنه من النوس وهو الصوت ، وهذا كله لا فائدة فيه ، إذ قد علمنا لفظة الناس على من ينطلق ، فأقول :
وإن كان سبب نزولها قوم مخصوصون ، فلا حاجة لذكرهم بما بيّن اللّه من صفتهم ، فكل من قامت به تلك الصفة فهو المراد بالآية إلى يوم القيامة قال تعالى :« وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ »فلم يخبر تعالى أنهم قالوا : لا إله إلا اللّه ، ولا أنهم قالوا : اليوم الآخر حق ، وإنما أخبر عنهم أنهم قالوا« آمَنَّا بِاللَّهِ »فالمفهوم الأول التصديق بوجود اللّه ووجود اليوم الآخر ، فيتصور أن يكون هنا طائفتان ، ثم أخبر تعالى بنفي الإيمان عنهم فيما ادعوه ، قولا واعتقادا ، فقال« وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ »بوجود اللّه ، فيكون الإخبار عن المعطلة ، وهم على قسمين : معطلة من حيث الأصل ، ومعطلة بعد وجود ، فقوله« وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ »أي بمصدقين اعتقادا ، ولا ذكر أنهم تلفظوا به ، فتحقق نفي الإيمان عن قلوبهم ، وبقي الاحتمال في هل تلفظوا أم لا ؟ واليوم الآخر ، وأما الطائفة الأخرى ، فقد يكونون مؤمنين باللّه من حيث وجوده وإن كانوا مشركين ، ولا يؤمنون باليوم الآخر ولو كانوا موحدين من حيث الدليل ، فيكون الحق قد نفى بقوله تعالى :« وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ »يعني بما جئت به من الغيب عنا وباليوم الآخر ، والأظهر أنه أراد المثبتين وجوده
ص 64
سورة البقرة ( 2 ) : آية 9
يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ ( 9 )
« يُخادِعُونَ اللَّهَ »بجهلهم القائم بهم بأن اللّه لا يعلم« وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ »في خداعهم الذين آمنوا ، فإن من خادع المؤمن فما خدع إلا نفسه ، وأما من يخادع اللّه فهو جاهل باللّه حيث تخيل أنه يلبّس على الحق وأن اللّه لا يعلم كثيرا مما يعملون ، فهو من الخاسرين فإن اللّه هو خادعهم بخداعهم ، أي هو خداع اللّه بهم لكونهم اعتقدوا أنهم يخادعون اللّه ، فما يشعرون اليوم بأن اللّه يرد عليهم أعمالهم .
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
سبحانه سواء وحدوا أو أشركوا بقوله فيهم ( 10 )
« يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا »وهذا وأيضا قوله« وَالَّذِينَ آمَنُوا »يقوي ما ذهبنا إليه في تفسير نفي الإيمان أنه الإيمان بوجود اللّه ، فيكون« يُخادِعُونَ اللَّهَ »على دعواكم أن ثم إلها« وَالَّذِينَ آمَنُوا »يخادعون حقيقة فإنهم موجودون ، ولا يبعد جميع ما ذكرناه ، فإن هؤلاء الأصناف كلهم موجودون ، وقد دخلوا فيمن بعث إليهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، فإن رسالته عامة ، فينسحب الخطاب عليهم ، والخداع مأخوذ من المخدع ، فدخلوا فيه ليعصموا دماءهم وأموالهم لما رأوا دين اللّه ظاهرا ، فدل بقوله« يُخادِعُونَ اللَّهَ »على جهلهم باللّه ، وصورة الجهل ، إن كان يعلم ما تلفظوا به من كلمتي الشهادة فهو يعلم ما في نفوسهم من عدم التصديق بها ، وإن كان لا يعلم عدم تصديقهم فلا يعلم أيضا أنهم تلفظوا بالشهادة ، والأظهر أن مخادعتهم للّه على زعمكم أن ثم إلها ، فيبقى الخداع على الحقيقة للذين آمنوا ، الذين يخافون منهم أن يقتلوهم ، ولذلك قال« وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ »أي أمثالهم .
مثل قوله( فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ )ومثل قوله( كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ )يريد أمثالكم ، ويحتمل أن يريد بقوله« إِلَّا أَنْفُسَهُمْ »أن يكون الخداع راجعا عليهم ، قال اللّه تعالى( يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ ) ،أي خداعهم هو خداع اللّه بهم ، يؤيد ذلك قوله« وَما يَشْعُرُونَ »أي لا يتفطنون لذلك أنه من خداعنا بهم ، وأما قوله« يُخادِعُونَ اللَّهَ »ببنية المفاعلة لأن المخادعة فعل فاعلين ، وذلك أن من شرط الخداع أن لا يعلم به المخدوع ، واللّه بكل شيء عليم .
فقال تعالى( وَهُوَ خادِعُهُمْ )اسم فاعل من خدع ولم يقل مخادعهم ، فإنه يخدعهم حقيقة ، وهم لا يقدرون أن يخدعوه ، فلم تختلف القراءة في الأول واختلف في الثاني وهو قوله« وَما يَخْدَعُونَ »و« يُخادِعُونَ »فإن المفاعلة تصح منهم في جنسهم ، لكن العالم قد يصح أن ينخدع ، فهو منخدع ، بمعنى أن يظهر لهم أنه مخدوع ،
ص 65
سورة البقرة ( 2 ) : آية 10
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ ( 10 )
« فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ »شك مما جاءهم به رسولي ، وهذا المرض هو الشبه المضلة القادحة في الأدلة وفي الإيمان ، تحول بين العقل من العاقل وبين صحة الإيمان« فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً »شكا وحجابا« وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ »يوم القيامة ، وسمي ما يتألم به أهل الشقاء عذابا لأن السعداء يستعذبون آلام أهل الشقاء ، إيثارا لجناب الحق حيث أشركوا ، فلهم في أسباب الآلام نعيم ، فسمى الحق ذلك عذابا إيثارا لهم حين آثروه ، وقوله تعالى« أَلِيمٌ »اعلم أن قيام الألم ووجوده في نفس المتألم ، ما هو السبب المربوط به عادة ، كوجود الضرب بالسوط ، والحرق بالنار ، والجرح بالحديد ، وما أشبه ذلك من الآثار الحسية مما يكون عنها الآلام الحسية ، وكذلك ضياع المال ، والمصيبة في الأهل والولد ، والتوعد بالوعيد ، وجميع الأسباب الخارجة عنه الموجبة للآلام النفسية عادة ، إذا حصلت بهذا الشخص فتسمى هذه الأسباب عذابا ، وليس في الحقيقة عذابا ، وإنما العذاب هو وجود الألم عند هذه الأسباب ، لا عين الأسباب .
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
بعدم المؤاخذة في الحال ، فيتوهمون لحلمه أنهم خدوعه ، قوله ( 11 )« فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ »يقول في قلوبهم مرض الجهل باللّه ، فزادهم اللّه مرضا بإنزاله سور القرآن ، قال تعالى( فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ )كما قال في المؤمنين( زادَهُمْ هُدىً )و ( زادتهم إيمانا وهم يستبشرون ) وهؤلاء بذلك يتألمون ، والألم هو المرض عينه ، وهو أيضا قوله تعالى( وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ )
وما قال : باللّه ، أي انقبضت لما وجدت من ألم نسبة الوحدة للّه في الألوهية ، ومما يدل على جهلهم بالتوحيد ، قوله( أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ )فبعث الرسل للكفار زادهم مرضا ، لخطاب الوقت ، فزادهم ألما« وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ »أي موجع ، والألم هو العذاب نفسه ، وقد يطلق العذاب على سبب الألم ، كما أن النعيم إنما هو اللذة نفسها ، وقد يطلق على سببها المعهود ، وقوله تعالى« بِما كانُوا يَكْذِبُونَ »هذه باء السبب ، أي بسبب تكذيبهم ما جاء به محمد صلّى اللّه عليه وسلم من الخبر عنا ، فإن التكذيب متعلقه الخبر ، فهذا عذاب مخصوص من أجل صفة مخصوصة ، وما قال : ولهم عذاب أليم بمرضهم الأول والمزاد ، وجاء بلفظة العذاب ولم يكتف به حتى قال« أَلِيمٌ »وذلك
ص 66
سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 11 إلى 12
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ ( 11 ) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ ( 12 )
الشعور علم إجمالي قطعي أن ثم مشعورا به لكن لا يعلم ما هو ذلك المشعور به .
سورة البقرة ( 2 ) : آية 13
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ ( 13 )
السفيه : هو الضعيف الرأي ، يقولون إنهم ما آمنوا الا لضعف رأيهم وعقلهم فجاز
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
لأن العذاب فيه ضرب من اللذة ، ومنه في صفة الماء( عَذْبٌ فُراتٌ ) *ولما كان في إيلام الكفار باللّه ورسوله سرور المؤمنين قال( وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ )( وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ )سماه عذابا للعذوبة التي تحصل منه للمؤمن .
ومن قرأ « يكذبون » مخففا من الكذب في قوله( آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ )فهي زيادة مرض آخر ، والمرض الأول اعتقادهم التكذيب بقلوبهم ، فزادهم اللّه مرضا آخر نكرة ، وهو أن نطّقهم بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، ولكل جنس من المرضين عذاب مخصوص ، فلذلك وردت القراءتان معا ، أي أنهم مجازون على التكذيب بالنار التي تطلع على الأفئدة ، وعلى الكذب بالنار التي تتسلط على الجوارح .
قوله ( 12 )« وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ »الضمير في لهم يعود على الذين كفروا خاصة« قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ »في زعمهم ، قال تعالى( أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً )وقال تعالى وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ) *الذي هو قول اللّه« لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ »فلما كانوا على عمل هو فساد عند اللّه تعالى ، وصلاح في نظرهم ، اعتقدوا أن ما خالف عملهم من الأعمال المقابلة لها وترك أعمالهم هو الفساد ، فاعتقدوا أن المؤمنين على فساد لمخالفتهم ما هم عليه ، فقال تعالى في مقابلة هذا الاعتقاد وإن لم يجر له لفظ : ( 13 )« أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ »دل عليه المعنى« وَلكِنْ »استدراك« لا يَشْعُرُونَ »أي لا يفطنون لذلك ، فلم يكونوا معاندين ولا جاحدين ، بل هم جاهلون ، قوله ( 14 )« وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا . . . »الآية ، الضمير أيضا يعود على الذين كفروا
ص 67
ذلك عليهم لقول اللّه« أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ »أي الذين ضعفت آراؤهم ، فحال ذلك الضعف بينهم وبين الإيمان« وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ » .
سورة البقرة ( 2 ) : آية 14
(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ 14 )
كان المنافقون في زمان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يأتون إلى المؤمنين بوجه يظهرون أنهم معهم ، ويأتون إلى المشركين بوجه يظهرون به أنهم معهم ، ويقولون« إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ »وما أخذ اللّه المنافقين إلا بما زادوا به على صورة النفاق ، ولو أنهم بقوا على صورة النفاق من غير زيادة لسعدوا يقول تعالى :« وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا »لو قالوا ذلك حقيقة لسعدوا ،« وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ »لو قالوا ذلك وسكتوا ما أثر فيهم الذم الواقع ، وإنما زادوا« إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ »فشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كاذبين ، فما أخذوا إلا بما أقروا به ، يدلنا على ذلك ما أخبر اللّه به عن نفسه في مؤاخذته إياهم فقال :
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
خاصة ، فإن الآخرين قالوا( آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ )وإن كانوا كاذبين في مقالتهم تلك« كَما آمَنَ النَّاسُ »يعني المؤمنين« قالُوا أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ »السفه عدم الرشد ، والتصرف على ما لا تقتضيه الحكمة ، وضعف الرأي .
قال اللّه لهم مخبرا لنا« أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ » .يقول :
هم الضعفاء الرأي لا أنتم ، فعاد ما نسبوه للمؤمنين إليهم ، قال عليه السلام ( إنما هي أعمالكم ترد عليكم ) وجاء في الصحيح ( من قال لأخيه : كافر فقد باء به أحدهما ) أي بوصف الكفر ، إن كان كما قال فصح الوصف ، وإن لم يكن كما قال جاز ذلك على القائل لأنه من قال إن الإسلام كفر فقد كفر ، والسعيد من استبرأ لدينه ولا يكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ، والعلم واسع والوجوه كثيرة ، ثم قال« وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ »أنهم هم السفهاء ، فإن السفه عندهم ترك ما هم عليه ومخالفته .
قوله ( 15 )« وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا »إلى قوله« يَعْمَهُونَ » .الضمير في لقوا يعود على الناس الذين قالوا آمنا باللّه وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ، كانوا ويكونون إلى يوم القيامة من هذه صفتهم« إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا »أي صدقنا بالذي صدقتم به ليعصموا دماءهم وأموالهم( وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً )فهؤلاء سجدوا كرها ، وآمنوا
ص 68
سورة البقرة ( 2 ) : آية 15
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ ( 15 )
فأخبر اللّه تعالى أنه يستهزئ بهم بذلك الفعل الذي يفعلونه مع المؤمنين ، وهم لا يشعرون ، فهذا من مكر اللّه بهم ، فما أخذهم بقولهم« إِنَّا مَعَكُمْ »وإنما أخذهم بما زادوا به على النفاق وهو قولهم :« إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ »وما عرفك اللّه بالجزاء الذي جازى به المنافق إلا لتعلم من أين أخذ من أخذ ، حتى تكون أنت تجتنب موارد الهلاك« وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ »حيث تمادوا على غيهم بعد ما عرفوا من بيده الاقتدار ، وعدلوا عنه ، وعملوا
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
كرها ، لظهور أهل الإيمان بالسيف عليهم« وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ »إلى هنا بمعنى مع ، يقول : وإذا خلوا مع شياطينهم من الإنس الباقين على كفرهم ، أو خلا بعضهم مع بعض يقولون ذلك ، فإنهم كلهم شياطين قال تعالى( شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً )وهو قدحهم في أهل الإيمان من حيث إيمانهم ، وتزيين ما هم عليه من الباطل ، قال تعالى في اليهود والنصارى( بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ )أي ينصر بعضهم بعضا« قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ »أي على الذي أنتم عليه ، ما غيّرنا ولا بدلنا« إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ »بهم وتقيّة لما ينجر في ذلك إلينا من المصالح في أنفسنا وأموالنا وذرارينا ، يقولون : نسخر بهم ، فقال اللّه تعالى ( 16 )
« اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ »أي يسخر بهم ، وذلك على وجهين : الوجه الواحد أن استهزاءهم بالمؤمنين هو عين استهزاء اللّه تعالى بهم من حيث لا يشعرون ، ومنه( وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ )أن عين ما اعتقدوه أنه مكرهم هو مكري بهم ، ومن هذا الباب( إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ )وقوله تعالى( يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ ) ،والوجه الآخر ينقسم إلى وجهين : وجه يقتضيه العدل فيكون جزاء ، ووجه يقتضيه الاستهزاء ، جزاء أيضا في عمل واحد ، وذلك أنه إذا كان يوم القيامة وهو قوله تعالى( كَما تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ )فخلصه للاستقبال ، وهو يوم القيامة ، يحشر اللّه هذه الأمة وفيها منافقوها ، فإذا اتبعت كل أمة ما كانت تعبد ، ودخلت الأمم النار ، ونصب الصراط على جسر جهنم ، أتي بهؤلاء المنافقين الذين أظهروا الإيمان بألسنتهم ، وصلوا وصاموا وقاموا بفروع الشريعة في الصورة الظاهرة كما قام المؤمنون ، أتى بهم اللّه تعالى حتى [ انفهقت ] « * » لهم الجنة بما تحويه من الخير والسرور ، فتنعموا برؤيتها
( * ) [ . . . ] جاءت في الأصل وفي الفتوحات المكية في الباب الأخير ، باب الوصايا ، الوصية رقم 58 ( انفقهت ) والصواب ( انفهقت ) .
ص 69
لغيره مما نصبوه بأيديهم وأيدي من هو من جنسهم إلها ، وظهر لهم عجزه مما يزيد في شقاوتهم.
[ تنبيه في الذكر ]
-نبيه : إذا ذكرت فاعلم بلسان من تذكر ، وإذا تلوت فاعلم بلسان من تتلو ، وما تتلو ، وعمن تترجم .
مثال ذلك قوله تعالى :« وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا »إلى هنا قول اللّه« آمَنَّا »حكاية عن المنافقين« وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا »إلى هنا قول اللّه« إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ »حكاية فهكذا فلتعرف الأمور إذا وردت ، حتى يعلم قول اللّه من قول ما يحكيه لفظا أو معنى كل إنسان بما هو عليه ، فإن اللّه قد ترجم لنا قول أقوام مثل فرعون وغيره باللسان العربي والمعنى واحد ، فهذه الحكاية على المعنى .
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
وظنوا أنهم داخلوها ، فكانت تلك النظرة والفرح الذي قام لهم بالطمع بدخلوها جزاء لما جاءوا به من الأعمال الظاهرة ، ظاهرا بظاهر ، عدلا منه سبحانه ، فإذا طابق الجزاء أعمالهم وأخذوا حقهم ، وهم لا يعلمون أنهم يصرفون عنها .
ضرب اللّه بينهم وبين الجنة سورا باطنه الجنة ، وظاهره من قبله العذاب ، فيؤمر بهم إلى النار ، فهذا هو استهزاء اللّه بهم وسخرية اللّه بهم ، فجمع سبحانه في هذا الفعل الواحد بين العدل والاستهزاء ، كما جمعوا بين الإسلام والكفر ، وليس للمنافقين من النار إلا الدرك الأسفل ، وهي النار التي تطلع على الأفئدة ، قال تعالى( إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ )وليس لهم في أعلاها مكان إلا على قدر معاصيهم الظاهرة .
والكافر يتعذب في النار علوا وسفلا ، بخلاف المنافق ، وكلهم في جهنم جميعا ، وهذا من عدل اللّه ، فإنه ليس في الجنة موضع ولا في النار موضع إلا وله عمل يطلبه من فعل وترك ، إلا ما في الجنة من أمكنة الاختصاص ، وليس في النار ذلك ، ولهذا ما ورد في القرآن يختص بنقمته من يشاء ، وورد يختص برحمته من يشاء ، فالنار ينزل فيها بالأعمال ، والجنة ينزل فيها بالأعمال والاختصاص الإلهي .
ولذا قال ( سبقت رحمتي غضبي ) إلى الاختصاص ، واللّه واسع الرحمة كما قال ، ولم يقل ذلك في النقمة ، فتحقق ما ذكرناه ، ثم قال« وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ »يقول : يملي لهم مما هم فيه .
قال تعالى( إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً )( وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ )وقوله« فِي طُغْيانِهِمْ »أي في تغاليهم ، أي فيما ارتفعوا فيه من الضلالة في بواطنهم إذا كانوا مع المؤمنين ، وفي ظواهرهم إذا كانوا مع أشكالهم من شياطينهم ، من طغى الماء إذا ارتفع وزاد على حده( إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ )أي ارتفع ، وقوله تعالى« يَعْمَهُونَ »أي يحارون ، والعمة الحيرة والضلال ،
ص 70
سورة البقرة ( 2 ) : آية 4
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ( 4 )
حكم اليقين سكون النفس بالمتيقن أو حركتها إلى المتيقن ، وهو ما يكون الإنسان فيه على بصيرة أي شيء كان ، فإذا كان حكم المتيقن من النفس حكم الحاصل فذلك اليقين ، سواء حصل المتيقن أو لم يحصل في الوقت .
________________________________________________________________________________________________________
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
وهو الأظهر ، فإنه جاء هذا المدح للذين يؤمنون بالغيب ، وقد نقول إن المؤمن إذا عصى بكسب المال الحرام فله التصرف فيه ، والتصرف فيه رده إلى من غصبه ، أو إلى ذريته أو إلى بيت المال ، وإن لم يوجد شيء من هذا كله تصدق به عن صاحبه ، فتعمه هذه الآية ، وأتى بلفظ« يُنْفِقُونَ »من نفقت الدابة إذا هلكت ، وقد ورد في الصحيح فيمن آتاه اللّه مالا ، فسلّطه اللّه على هلكته في اللّه ، فهو يخرجه هكذا وهكذا ، وقوله« مِمَّا رَزَقْناهُمْ »ولم يقل ( من أموالهم ) فأضاف الرزق إليه لقوله( وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ )فهم فيما في أيديهم وكلاء للّه تعالى في التصريف فيه على حد ما شرعه الموكل ، كالسلطان على بيت المال ، فأجرهم في ذلك أجر الوكيل الموفي حق مرتبة الوكالة ، فلنفقته وإنفاقه وجهان ، وجه من حيث أنه المباشر بالعطاء ، ووجه أنه معط ما هو موكّل فيه ، ليس هو ماله ، من النافقاء وهو الجحر الذي له بابان ، قال تعالى( فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ )واختلف الناس في مسمى الرزق ، هل يسمى الحرام رزقا أم لا ؟
فمن جعله رزقا لمن هو بيده كان المدح بصفة الكرم ، ومن منع ذلك كان المدح أيضا بصفة الكرم ، والمدح بالوقوف عندما حد له رب المال .
قوله : ( 5 )« وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ »يقول : والذين يصدقون بما أنزل إليك ، وهو ما أوحي به إليه من القرآن ، وقوله( لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ )فرأيه شرع ، وأن اللّه أراه ذلك ، فالمؤمنون يؤمنون بذلك كله ، وقوله« ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ »يعني من الكتب والصحف والشرائع المنزلة ، ولا يلزم من الإيمان بالشيء العمل به ، إلا حتى يكون فيما أنزل العمل بما أنزل أو ببعض ما أنزل ، فالتصديق يعم .
قال تعالى( آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ، كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ )فآمنا بما أنزل من قبلنا من حيث ما أنزل على نبينا ، لا من حيث ما نقل إلينا ، وقد يدخل في هذه الآية من أسلم من أهل الكتب ، وهو قوله( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا )بما أخبركم به محمد صلّى اللّه عليه وسلم ،
ص 60
سورة البقرة ( 2 ) : آية 5
"أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ "( 5 )
عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ »أي على بيان وتوفيق حيث صدقوا ربهم فيما أخبرهم به مما هو غيب في حقهم« وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ »أي الناجون من عذاب اللّه الباقون في رحمة اللّه ، فإن الفلاح هو البقاء ، والآخرة هي دار البقاء .
سورة البقرة ( 2 ) : آية 6
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ( 6 )
كما آمنتم به من حيث أخبركم به موسى وعيسى ، قال تعالى« يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ »فالضمير يعود عليهم بأنه نبي مبعوث إليهم أيضا في كتبهم ، فمن إيمانهم بكتبهم إيمانهم به صلّى اللّه عليه وسلم ، وما من آية إلا ولنزولها سبب ، ولكن ليس المقصود معرفة السبب إلا إذا كان مقصورا على السبب ، فيتعين عند ذلك ذكر السبب ، وكون المنزل مقصورا عليه ، فلذلك لا نتعرض في هذا التفسير لأسباب النزول في أكثره .« وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ »من يقن الماء في الحفرة إذا استقر فيها ، فلما استقر الإيمان بالغيب وبما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة ، سماهم موقنين ، فأخبر عنهم بفعل الحال ، وإلى هنا انتهت جملة المبتدأ إذا كان« الَّذِينَ »مبتدأ ، وقوله« بِالْآخِرَةِ »لما قال« وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ »وذكر ما كان قبله ، قال« وَبِالْآخِرَةِ »وهو ما يكون بعد مما لم يكن ، وهو من وقته إلى قيام الساعة ، إلى دخول الجنة والنار ، إلى الخلود فيها ، إلى ما لا يتناهى ولا ينقطع ، مما وردت به الأخبار الإلهية ، قوله ( 6 )« أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ »أولاء حرف إشارة يشار به إلى المتقين ، لقوله« فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ »فهو قوله« أُولئِكَ »يعني المتقين على هدى من ربهم في توقيهم الداعي لهم إلى البحث عن طريق نجاتهم حتى يتبين ، فهم على هدى من ربهم في ذلك( أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ) *وهو الهدى ، والرب هنا بمعنى المصلح ، وهو الأوجه من سائر مدلولاته ، والمربي أيضا .
وقوله : « وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ »حرف إشارة يشار به أيضا إلى المتقين وإلى الذين يؤمنون ، سواء كان نعتا أو مبتدأ ، وفيه بشرى ونوع تقوية لمن يقول إن المجتهد مأجور وإن أخطأ ، وإن الاجتهاد في الأصول كما هو في الفروع ، والمفلحون : معناه الناجون من عذاب اللّه ، الباقون في دار كرامة اللّه .
قال تعالى : ( وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ )وفي هذه الآيات من أول السورة إلى هنا تكذيب لقول من قال لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى )فكذبهم في التحجير . قوله ( 7 )« إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا »
ص 61
لأنهم قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين فكأن اللّه حكى لنبيه صلّى اللّه عليه وسلم وعرفه بأن حالهم ما ذكروه عن نفوسهم ، فهذه ظلمة قد تكون ظلمة جهل ، وقد تكون ظلمة جحد لهوى قام بهم ، وهو أشد الظلم .
سورة البقرة ( 2 ) : آية 7
خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ( 7 )
« خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ »بخاتم الكفر فلا يدخله الإيمان مع علمهم به ،« وَعَلى سَمْعِهِمْ »أي ختم على سمع فهمهم فهم الجهلاء ، لا يعلمون ما أراد اللّه بما قاله« وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ »وعلى أبصار عقولهم غشاوة ، حيث نسبوا ما رأوه من الآيات إلى
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
الآية ، يقول : بكل ما تقدم ذكره ، الكافر هو الساتر للحق ، والساترون الحق على قسمين :
قسم يسترون الحق مع معرفتهم بأنه الحق ، فلا يتمكن أن يستروه عن نفوسهم ، بل يستروه عن الغير بما يوردونه من الشبه المضلة والتشكيكات الصارفة عن ظهوره ، وهو قوله تعالى( يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ ) *وقوله( وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ )فهؤلاء جاحدون ، والقسم الآخر هو الذي ستر الحق عن نفسه بما ظهر له من الشبه ، فقامت له سترا بينه وبين الحق ، فيسمى أيضا هذا كافرا لأنه ما وفّى النظر حقه في الأدلة ، فالأول معاند ، والثاني مفرّط ، قال اللّه لنبيه عليه السلام« سَواءٌ عَلَيْهِمْ »ولم يقل عليك« أَ أَنْذَرْتَهُمْ »يقول : خوفتهم وأعلمتهم بأسباب السعادة والشقاء« أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ »يقول : أو سكت عنهم« لا يُؤْمِنُونَ »يقول : لا يصدقون ، إما عنادا وجحدا ، وإما جهالة ، والأظهر هنا إرادة القسم الواحد وهم الجاهلون ، من أجل ما يأتي بعد من ذكر القلوب ، فالمعاند عالم ومصدق في الباطن ، غير مظهر لما هو به مصدق ، فإنه لا يقدر في نفسه أن ينكر علمه بالشيء ، ولا أن يجعله جهلا ، فهؤلاء أيضا هم الذين جعل اللّه جزاءهم عدم المغفرة في قوله تعالى( سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ )ولم يقل عليك فإنه ليس عليه صلّى اللّه عليه وسلم سواء ، وهم سواء دعاؤه إياهم أو سكوته عنهم ، ما يتغير عليهم الحال في نفوسهم ، وهذا يؤيد أن المراد بالذين كفروا هنا من جهل لا من عاند مع علمه( لا يُؤْمِنُونَ )
أي لا يصدقون بما أعلمتهم ، والتصديق حالة قلبية . قوله ( 8 )« خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ »الآية ، العالم بالشيء ما ختم على قلبه ، لكن الجاهل بالشيء مختوم على قلبه ، قوله« خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ »وما ذكر الطبع هنا ، بل ذكره في موضع آخر ، قال تعالى( أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ )والطبع النقش الذي يكون في الختم ، والختم هو القفل . فقال
ص 62
السحر [ طب ]
طب إذا استرخت الطبقة الصلبة التي في البصر حصل الضرر ، فالرخاوة غشاوة ،« وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ »العذاب إنما سماه اللّه بهذا الاسم إيثارا للمؤمن ، فإنه يستعذب ما يقوم بأعداء اللّه من الآلام ، فهو عذاب بالنظر إلى هؤلاء ، ومن وجه آخر سمي عذابا ما يقع به الآلام بشرى من اللّه لعباده ، أن الذي تتألمون به لا بد إذا شملتكم الرحمة أن تستعذبوه وأنتم في النار ، كما يستعذب المقرور حرارة النار والمحرور برودة الزمهرير ، ولهذا جمعت جهنم النار والزمهرير لاختلاف المزاج ، فما يقع به الألم لمزاج مخصوص يقع به النعيم في مزاج آخر يضاده ، فلا تتعطل الحكمة ، ويبقي اللّه على أهل جهنم الزمهرير على المحرورين والنار على المقرورين فينعمون في جهنم ، فهم على مزاج لو دخلوا به الجنة تعذبوا بها لاعتدالها ، فسمى العذاب عذابا لأن المآل إلى استعذابه لمن قام به بعد شمول الرحمة ، كما يستحلي الجرب من يحكه ، فإذا حكه من غير جرب أو حاجة من يبوسة تطرأ على بعض بدنه تألم لحكه .عناية ربي أدركت كل كائن * من الناس في ختم القلوب وفي الطبعومن أجل ذا لم يدخل الكبر قلبهم * على موجد الصنع الذي جل من صنعولولا وجود السمع في الناس ما اهتدوا * وليس سوى علم الشريعة والوضعفكم بين أهل النقل والعقل يا فتى * وهل تبلغ الألباب منزلة السمع
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
تعالى: ( أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها ) ،وقال هنا« خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ »أي الذين قالوا( قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ )هو منّا ، ثم قال« وَعَلى سَمْعِهِمْ »أي وختم على سمعهم حين قالوا( وَفِي آذانِنا وَقْرٌ )أي هو منّا ، وقال تعالى« وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ »لقولهم : ( وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ )أي هو منّا ثم قالوا: ( فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ )فقال اللّه :« وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ »وهو العمل الذي قالوه وطلبوه ، والختم الذي على السمع هو بينه وبين القلب ، لا بينه وبين الكلام ، فإنه سمع الكلام من الرسول بلا شك ، ولكن لجهله بما سمع أنه حق في نفس الأمر وعدم تصديقه ، كان عنده كمثل الصوت من الإنسان عند البهائم التي لا تعقل معناه ، وهو قوله تعالى : ( كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً ، صُمٌّ ، بُكْمٌ ، عُمْيٌ ، فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ )أن ذلك المصوّت به حق فيما يدعو إليه ، وكذلك قوله« وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ »وما جعله ختما ، أي حائل بينه وبين القلب أن يعلم القلب أن ذلك المبصر من المعجزات الموقوفة على إدراك البصر أنها حق ، مثل نبع الماء من بين أصابعه ، ورؤية الطعام القليل حين أشبع الكثير ، فإن العلم به لا يحصل إلا من جهة
ص 63
سورة البقرة ( 2 ) : آية 8
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ( 8 )
[ حول الناس ]
لم سمى اللّه تعالى البشر الناس ؟
- من باب الإشارة - الناس اسم فاعل من النسيان معرّف بالألف واللام لأنه نسي أن الحق سمعه وبصره وجميع قواه في حال كونه كله نورا ، فلما لم يتذكر الناسي هذه الحال وهو في نفسه عليها غافل عنها ، خاطبه الحق مذكرا له بهذا القرآن الذي تعبده بتلاوته ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب ما كانوا قد نسوه .
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
البصر فعاين ، فلو كان الغشاء بينه وبين المبصر ما صدق هذا القول ، فكان الغشاء بلا شك على البصر من جهة القلب ، فلا يبصر البصر القلب الذي يقبل ما جاء به ، بل جعله القلب من قبيل السحر والخيال ، فتعظيم العذاب هو العذاب من وجهين فصاعدا ، فلهم عذاب الجهل وعذاب التكذيب .
قال تعالى( فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ )فإنها أدركت بلا شك ( وإنما تعمى القلوب ) أعين البصائر وهو النظر في مقدمات الأدلة وترتيبها( الَّتِي فِي الصُّدُورِ )قد يكون من الرجوع عن الحق قال تعالى( يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ )لهم قوله : ( 9 )« وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ »الناس : اسم جنس لا واحد له من لفظه ، كقوم ومعشر ورهط ، وقد قيل في تصغيره نويس ، فلا أصل له في الهمز ، وقد تكلموا في اشتقاقه وقالوا إنه من النوس وهو الصوت ، وهذا كله لا فائدة فيه ، إذ قد علمنا لفظة الناس على من ينطلق ، فأقول :
وإن كان سبب نزولها قوم مخصوصون ، فلا حاجة لذكرهم بما بيّن اللّه من صفتهم ، فكل من قامت به تلك الصفة فهو المراد بالآية إلى يوم القيامة قال تعالى :« وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ »فلم يخبر تعالى أنهم قالوا : لا إله إلا اللّه ، ولا أنهم قالوا : اليوم الآخر حق ، وإنما أخبر عنهم أنهم قالوا« آمَنَّا بِاللَّهِ »فالمفهوم الأول التصديق بوجود اللّه ووجود اليوم الآخر ، فيتصور أن يكون هنا طائفتان ، ثم أخبر تعالى بنفي الإيمان عنهم فيما ادعوه ، قولا واعتقادا ، فقال« وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ »بوجود اللّه ، فيكون الإخبار عن المعطلة ، وهم على قسمين : معطلة من حيث الأصل ، ومعطلة بعد وجود ، فقوله« وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ »أي بمصدقين اعتقادا ، ولا ذكر أنهم تلفظوا به ، فتحقق نفي الإيمان عن قلوبهم ، وبقي الاحتمال في هل تلفظوا أم لا ؟ واليوم الآخر ، وأما الطائفة الأخرى ، فقد يكونون مؤمنين باللّه من حيث وجوده وإن كانوا مشركين ، ولا يؤمنون باليوم الآخر ولو كانوا موحدين من حيث الدليل ، فيكون الحق قد نفى بقوله تعالى :« وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ »يعني بما جئت به من الغيب عنا وباليوم الآخر ، والأظهر أنه أراد المثبتين وجوده
ص 64
سورة البقرة ( 2 ) : آية 9
يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ ( 9 )
« يُخادِعُونَ اللَّهَ »بجهلهم القائم بهم بأن اللّه لا يعلم« وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ »في خداعهم الذين آمنوا ، فإن من خادع المؤمن فما خدع إلا نفسه ، وأما من يخادع اللّه فهو جاهل باللّه حيث تخيل أنه يلبّس على الحق وأن اللّه لا يعلم كثيرا مما يعملون ، فهو من الخاسرين فإن اللّه هو خادعهم بخداعهم ، أي هو خداع اللّه بهم لكونهم اعتقدوا أنهم يخادعون اللّه ، فما يشعرون اليوم بأن اللّه يرد عليهم أعمالهم .
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
سبحانه سواء وحدوا أو أشركوا بقوله فيهم ( 10 )
« يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا »وهذا وأيضا قوله« وَالَّذِينَ آمَنُوا »يقوي ما ذهبنا إليه في تفسير نفي الإيمان أنه الإيمان بوجود اللّه ، فيكون« يُخادِعُونَ اللَّهَ »على دعواكم أن ثم إلها« وَالَّذِينَ آمَنُوا »يخادعون حقيقة فإنهم موجودون ، ولا يبعد جميع ما ذكرناه ، فإن هؤلاء الأصناف كلهم موجودون ، وقد دخلوا فيمن بعث إليهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، فإن رسالته عامة ، فينسحب الخطاب عليهم ، والخداع مأخوذ من المخدع ، فدخلوا فيه ليعصموا دماءهم وأموالهم لما رأوا دين اللّه ظاهرا ، فدل بقوله« يُخادِعُونَ اللَّهَ »على جهلهم باللّه ، وصورة الجهل ، إن كان يعلم ما تلفظوا به من كلمتي الشهادة فهو يعلم ما في نفوسهم من عدم التصديق بها ، وإن كان لا يعلم عدم تصديقهم فلا يعلم أيضا أنهم تلفظوا بالشهادة ، والأظهر أن مخادعتهم للّه على زعمكم أن ثم إلها ، فيبقى الخداع على الحقيقة للذين آمنوا ، الذين يخافون منهم أن يقتلوهم ، ولذلك قال« وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ »أي أمثالهم .
مثل قوله( فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ )ومثل قوله( كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ )يريد أمثالكم ، ويحتمل أن يريد بقوله« إِلَّا أَنْفُسَهُمْ »أن يكون الخداع راجعا عليهم ، قال اللّه تعالى( يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ ) ،أي خداعهم هو خداع اللّه بهم ، يؤيد ذلك قوله« وَما يَشْعُرُونَ »أي لا يتفطنون لذلك أنه من خداعنا بهم ، وأما قوله« يُخادِعُونَ اللَّهَ »ببنية المفاعلة لأن المخادعة فعل فاعلين ، وذلك أن من شرط الخداع أن لا يعلم به المخدوع ، واللّه بكل شيء عليم .
فقال تعالى( وَهُوَ خادِعُهُمْ )اسم فاعل من خدع ولم يقل مخادعهم ، فإنه يخدعهم حقيقة ، وهم لا يقدرون أن يخدعوه ، فلم تختلف القراءة في الأول واختلف في الثاني وهو قوله« وَما يَخْدَعُونَ »و« يُخادِعُونَ »فإن المفاعلة تصح منهم في جنسهم ، لكن العالم قد يصح أن ينخدع ، فهو منخدع ، بمعنى أن يظهر لهم أنه مخدوع ،
ص 65
سورة البقرة ( 2 ) : آية 10
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ ( 10 )
« فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ »شك مما جاءهم به رسولي ، وهذا المرض هو الشبه المضلة القادحة في الأدلة وفي الإيمان ، تحول بين العقل من العاقل وبين صحة الإيمان« فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً »شكا وحجابا« وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ »يوم القيامة ، وسمي ما يتألم به أهل الشقاء عذابا لأن السعداء يستعذبون آلام أهل الشقاء ، إيثارا لجناب الحق حيث أشركوا ، فلهم في أسباب الآلام نعيم ، فسمى الحق ذلك عذابا إيثارا لهم حين آثروه ، وقوله تعالى« أَلِيمٌ »اعلم أن قيام الألم ووجوده في نفس المتألم ، ما هو السبب المربوط به عادة ، كوجود الضرب بالسوط ، والحرق بالنار ، والجرح بالحديد ، وما أشبه ذلك من الآثار الحسية مما يكون عنها الآلام الحسية ، وكذلك ضياع المال ، والمصيبة في الأهل والولد ، والتوعد بالوعيد ، وجميع الأسباب الخارجة عنه الموجبة للآلام النفسية عادة ، إذا حصلت بهذا الشخص فتسمى هذه الأسباب عذابا ، وليس في الحقيقة عذابا ، وإنما العذاب هو وجود الألم عند هذه الأسباب ، لا عين الأسباب .
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
بعدم المؤاخذة في الحال ، فيتوهمون لحلمه أنهم خدوعه ، قوله ( 11 )« فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ »يقول في قلوبهم مرض الجهل باللّه ، فزادهم اللّه مرضا بإنزاله سور القرآن ، قال تعالى( فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ )كما قال في المؤمنين( زادَهُمْ هُدىً )و ( زادتهم إيمانا وهم يستبشرون ) وهؤلاء بذلك يتألمون ، والألم هو المرض عينه ، وهو أيضا قوله تعالى( وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ )
وما قال : باللّه ، أي انقبضت لما وجدت من ألم نسبة الوحدة للّه في الألوهية ، ومما يدل على جهلهم بالتوحيد ، قوله( أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ )فبعث الرسل للكفار زادهم مرضا ، لخطاب الوقت ، فزادهم ألما« وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ »أي موجع ، والألم هو العذاب نفسه ، وقد يطلق العذاب على سبب الألم ، كما أن النعيم إنما هو اللذة نفسها ، وقد يطلق على سببها المعهود ، وقوله تعالى« بِما كانُوا يَكْذِبُونَ »هذه باء السبب ، أي بسبب تكذيبهم ما جاء به محمد صلّى اللّه عليه وسلم من الخبر عنا ، فإن التكذيب متعلقه الخبر ، فهذا عذاب مخصوص من أجل صفة مخصوصة ، وما قال : ولهم عذاب أليم بمرضهم الأول والمزاد ، وجاء بلفظة العذاب ولم يكتف به حتى قال« أَلِيمٌ »وذلك
ص 66
سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 11 إلى 12
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ ( 11 ) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ ( 12 )
الشعور علم إجمالي قطعي أن ثم مشعورا به لكن لا يعلم ما هو ذلك المشعور به .
سورة البقرة ( 2 ) : آية 13
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ ( 13 )
السفيه : هو الضعيف الرأي ، يقولون إنهم ما آمنوا الا لضعف رأيهم وعقلهم فجاز
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
لأن العذاب فيه ضرب من اللذة ، ومنه في صفة الماء( عَذْبٌ فُراتٌ ) *ولما كان في إيلام الكفار باللّه ورسوله سرور المؤمنين قال( وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ )( وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ )سماه عذابا للعذوبة التي تحصل منه للمؤمن .
ومن قرأ « يكذبون » مخففا من الكذب في قوله( آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ )فهي زيادة مرض آخر ، والمرض الأول اعتقادهم التكذيب بقلوبهم ، فزادهم اللّه مرضا آخر نكرة ، وهو أن نطّقهم بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، ولكل جنس من المرضين عذاب مخصوص ، فلذلك وردت القراءتان معا ، أي أنهم مجازون على التكذيب بالنار التي تطلع على الأفئدة ، وعلى الكذب بالنار التي تتسلط على الجوارح .
قوله ( 12 )« وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ »الضمير في لهم يعود على الذين كفروا خاصة« قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ »في زعمهم ، قال تعالى( أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً )وقال تعالى وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ) *الذي هو قول اللّه« لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ »فلما كانوا على عمل هو فساد عند اللّه تعالى ، وصلاح في نظرهم ، اعتقدوا أن ما خالف عملهم من الأعمال المقابلة لها وترك أعمالهم هو الفساد ، فاعتقدوا أن المؤمنين على فساد لمخالفتهم ما هم عليه ، فقال تعالى في مقابلة هذا الاعتقاد وإن لم يجر له لفظ : ( 13 )« أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ »دل عليه المعنى« وَلكِنْ »استدراك« لا يَشْعُرُونَ »أي لا يفطنون لذلك ، فلم يكونوا معاندين ولا جاحدين ، بل هم جاهلون ، قوله ( 14 )« وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا . . . »الآية ، الضمير أيضا يعود على الذين كفروا
ص 67
ذلك عليهم لقول اللّه« أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ »أي الذين ضعفت آراؤهم ، فحال ذلك الضعف بينهم وبين الإيمان« وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ » .
سورة البقرة ( 2 ) : آية 14
(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ 14 )
كان المنافقون في زمان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يأتون إلى المؤمنين بوجه يظهرون أنهم معهم ، ويأتون إلى المشركين بوجه يظهرون به أنهم معهم ، ويقولون« إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ »وما أخذ اللّه المنافقين إلا بما زادوا به على صورة النفاق ، ولو أنهم بقوا على صورة النفاق من غير زيادة لسعدوا يقول تعالى :« وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا »لو قالوا ذلك حقيقة لسعدوا ،« وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ »لو قالوا ذلك وسكتوا ما أثر فيهم الذم الواقع ، وإنما زادوا« إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ »فشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كاذبين ، فما أخذوا إلا بما أقروا به ، يدلنا على ذلك ما أخبر اللّه به عن نفسه في مؤاخذته إياهم فقال :
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
خاصة ، فإن الآخرين قالوا( آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ )وإن كانوا كاذبين في مقالتهم تلك« كَما آمَنَ النَّاسُ »يعني المؤمنين« قالُوا أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ »السفه عدم الرشد ، والتصرف على ما لا تقتضيه الحكمة ، وضعف الرأي .
قال اللّه لهم مخبرا لنا« أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ » .يقول :
هم الضعفاء الرأي لا أنتم ، فعاد ما نسبوه للمؤمنين إليهم ، قال عليه السلام ( إنما هي أعمالكم ترد عليكم ) وجاء في الصحيح ( من قال لأخيه : كافر فقد باء به أحدهما ) أي بوصف الكفر ، إن كان كما قال فصح الوصف ، وإن لم يكن كما قال جاز ذلك على القائل لأنه من قال إن الإسلام كفر فقد كفر ، والسعيد من استبرأ لدينه ولا يكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ، والعلم واسع والوجوه كثيرة ، ثم قال« وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ »أنهم هم السفهاء ، فإن السفه عندهم ترك ما هم عليه ومخالفته .
قوله ( 15 )« وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا »إلى قوله« يَعْمَهُونَ » .الضمير في لقوا يعود على الناس الذين قالوا آمنا باللّه وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ، كانوا ويكونون إلى يوم القيامة من هذه صفتهم« إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا »أي صدقنا بالذي صدقتم به ليعصموا دماءهم وأموالهم( وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً )فهؤلاء سجدوا كرها ، وآمنوا
ص 68
سورة البقرة ( 2 ) : آية 15
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ ( 15 )
فأخبر اللّه تعالى أنه يستهزئ بهم بذلك الفعل الذي يفعلونه مع المؤمنين ، وهم لا يشعرون ، فهذا من مكر اللّه بهم ، فما أخذهم بقولهم« إِنَّا مَعَكُمْ »وإنما أخذهم بما زادوا به على النفاق وهو قولهم :« إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ »وما عرفك اللّه بالجزاء الذي جازى به المنافق إلا لتعلم من أين أخذ من أخذ ، حتى تكون أنت تجتنب موارد الهلاك« وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ »حيث تمادوا على غيهم بعد ما عرفوا من بيده الاقتدار ، وعدلوا عنه ، وعملوا
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
كرها ، لظهور أهل الإيمان بالسيف عليهم« وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ »إلى هنا بمعنى مع ، يقول : وإذا خلوا مع شياطينهم من الإنس الباقين على كفرهم ، أو خلا بعضهم مع بعض يقولون ذلك ، فإنهم كلهم شياطين قال تعالى( شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً )وهو قدحهم في أهل الإيمان من حيث إيمانهم ، وتزيين ما هم عليه من الباطل ، قال تعالى في اليهود والنصارى( بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ )أي ينصر بعضهم بعضا« قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ »أي على الذي أنتم عليه ، ما غيّرنا ولا بدلنا« إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ »بهم وتقيّة لما ينجر في ذلك إلينا من المصالح في أنفسنا وأموالنا وذرارينا ، يقولون : نسخر بهم ، فقال اللّه تعالى ( 16 )
« اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ »أي يسخر بهم ، وذلك على وجهين : الوجه الواحد أن استهزاءهم بالمؤمنين هو عين استهزاء اللّه تعالى بهم من حيث لا يشعرون ، ومنه( وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ )أن عين ما اعتقدوه أنه مكرهم هو مكري بهم ، ومن هذا الباب( إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ )وقوله تعالى( يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ ) ،والوجه الآخر ينقسم إلى وجهين : وجه يقتضيه العدل فيكون جزاء ، ووجه يقتضيه الاستهزاء ، جزاء أيضا في عمل واحد ، وذلك أنه إذا كان يوم القيامة وهو قوله تعالى( كَما تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ )فخلصه للاستقبال ، وهو يوم القيامة ، يحشر اللّه هذه الأمة وفيها منافقوها ، فإذا اتبعت كل أمة ما كانت تعبد ، ودخلت الأمم النار ، ونصب الصراط على جسر جهنم ، أتي بهؤلاء المنافقين الذين أظهروا الإيمان بألسنتهم ، وصلوا وصاموا وقاموا بفروع الشريعة في الصورة الظاهرة كما قام المؤمنون ، أتى بهم اللّه تعالى حتى [ انفهقت ] « * » لهم الجنة بما تحويه من الخير والسرور ، فتنعموا برؤيتها
( * ) [ . . . ] جاءت في الأصل وفي الفتوحات المكية في الباب الأخير ، باب الوصايا ، الوصية رقم 58 ( انفقهت ) والصواب ( انفهقت ) .
ص 69
لغيره مما نصبوه بأيديهم وأيدي من هو من جنسهم إلها ، وظهر لهم عجزه مما يزيد في شقاوتهم.
[ تنبيه في الذكر ]
-نبيه : إذا ذكرت فاعلم بلسان من تذكر ، وإذا تلوت فاعلم بلسان من تتلو ، وما تتلو ، وعمن تترجم .
مثال ذلك قوله تعالى :« وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا »إلى هنا قول اللّه« آمَنَّا »حكاية عن المنافقين« وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا »إلى هنا قول اللّه« إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ »حكاية فهكذا فلتعرف الأمور إذا وردت ، حتى يعلم قول اللّه من قول ما يحكيه لفظا أو معنى كل إنسان بما هو عليه ، فإن اللّه قد ترجم لنا قول أقوام مثل فرعون وغيره باللسان العربي والمعنى واحد ، فهذه الحكاية على المعنى .
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
وظنوا أنهم داخلوها ، فكانت تلك النظرة والفرح الذي قام لهم بالطمع بدخلوها جزاء لما جاءوا به من الأعمال الظاهرة ، ظاهرا بظاهر ، عدلا منه سبحانه ، فإذا طابق الجزاء أعمالهم وأخذوا حقهم ، وهم لا يعلمون أنهم يصرفون عنها .
ضرب اللّه بينهم وبين الجنة سورا باطنه الجنة ، وظاهره من قبله العذاب ، فيؤمر بهم إلى النار ، فهذا هو استهزاء اللّه بهم وسخرية اللّه بهم ، فجمع سبحانه في هذا الفعل الواحد بين العدل والاستهزاء ، كما جمعوا بين الإسلام والكفر ، وليس للمنافقين من النار إلا الدرك الأسفل ، وهي النار التي تطلع على الأفئدة ، قال تعالى( إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ )وليس لهم في أعلاها مكان إلا على قدر معاصيهم الظاهرة .
والكافر يتعذب في النار علوا وسفلا ، بخلاف المنافق ، وكلهم في جهنم جميعا ، وهذا من عدل اللّه ، فإنه ليس في الجنة موضع ولا في النار موضع إلا وله عمل يطلبه من فعل وترك ، إلا ما في الجنة من أمكنة الاختصاص ، وليس في النار ذلك ، ولهذا ما ورد في القرآن يختص بنقمته من يشاء ، وورد يختص برحمته من يشاء ، فالنار ينزل فيها بالأعمال ، والجنة ينزل فيها بالأعمال والاختصاص الإلهي .
ولذا قال ( سبقت رحمتي غضبي ) إلى الاختصاص ، واللّه واسع الرحمة كما قال ، ولم يقل ذلك في النقمة ، فتحقق ما ذكرناه ، ثم قال« وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ »يقول : يملي لهم مما هم فيه .
قال تعالى( إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً )( وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ )وقوله« فِي طُغْيانِهِمْ »أي في تغاليهم ، أي فيما ارتفعوا فيه من الضلالة في بواطنهم إذا كانوا مع المؤمنين ، وفي ظواهرهم إذا كانوا مع أشكالهم من شياطينهم ، من طغى الماء إذا ارتفع وزاد على حده( إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ )أي ارتفع ، وقوله تعالى« يَعْمَهُونَ »أي يحارون ، والعمة الحيرة والضلال ،
ص 70
25/11/2024, 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
25/11/2024, 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
25/11/2024, 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
25/11/2024, 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
25/11/2024, 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
25/11/2024, 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin